.....................................
.....................................
.....................................
    و كانت أصعب اللحظات تلك التى سمعت فيها باب السطوح الخشبى العتيق يحدث صريرا مرعبا ، ثم يمرق من فتحته الضيقة طفل سمبوخسى ( مكلبظ )،  أخذ يدير رأسه فى كل الاتجاهات .. ثم توجه نحو مخبئى مباشرة ، ونظر نحوى بعينين منتصرتين ووجه أحمر منتفخ قائلا:

-  ظبتك يا عمو .. اطلع اطلع .. دا أونكل على قالب عليك الدنيا !!

    لم يكن أمامى سوى تصورين لا ثالث لهما .. اما أن أقتل الطفل السمبوخسى الذى يشبه كرة كبيرة حمراء .. و اما أن ألقى فى جوفه بشىء يأكله .

     استبعدت التصور الأول كونى لا أستطيع قتل نملة .. و توجهت الى التصور الثانى مباشرة ، فسحبت جنيها من جيبى و لوحت به أمام وجهه الكلبوظة ، قائلا فى
لكنة وسواسية :
- ايه رأيك ؟! .. تروح تجيب لك اتنين شيبسى و تقرمشهم و تعمل نفسك ما شفتنيش .. و للا أنزل معاك و يا دار ما دخلك شر ؟!

فى لمح البصر كان صاحبنا الصغير قد خطف الجنيه  من يدى و جرى منصرفا و هو يسرسع :

-  أنا ماشفتكش يا عمو ..خليك مستخبى !!

بمجرد انصراف السيارات حاملة رهطا من آل السمبوخسى و ما تيسر من الأصدقاء و الجيران ، هبطت كما صعدت فى هدوء و ثبات .. و عند اقترابى من الدور الثانى
لمحنى الطفل السمبوخسى بينما كان ( يقرمش ) الشيبسى ، فقال بصوت  متواطىء:

-  تعالى ما تخافش .. كل الرجالة مشيوا .. مافيش غير الستات ... بيتزوئوا !!

     بدا اليوم و كأنه لا ينتهى .. و بدا شارعنا متألقا فى أبهى زينة عرفها عبر تاريخه المديد ، بعد أن رسم شباب متخصصون ( اسفلت ) الشارع بكامله بنشارة الخشب الملونة  فى أشكال ( سيمترية ) جذابة وطفولية ، فخطوا نجوما و شموسا و دوائر ومثلثات متداخلة ، حتى نجمة داوود السداسية أخذت موقعا مركزيا أمام المسرح الذى تم اعداده  منذ الظهيرة.

    و قد انتابتنى بهجة داخلية غامضة .. ربما يكمن سرها فى متابعتى من الشرفة لفروع المصابيح الملونة التى تضىء و تنطفىء بسرعات آلية و متفاوتة ، و التى علقت بكثافة  و تنسيق محكم بطول الشارع العريض ،  و قد تدلت لمبات  صغيرة مكونة  تعريشة) نورانية على شكل عناقيد من العنب لها بريق أخاذ يثير شعشعة و غشاوة بريئة و طاغية  فأخذت أحدق فى أطيافها متناسيا  حيلى المهدود  و متعجبا من تحول شارع  أغا  الى كرنفال من الألوان و الأضواء و الصخب بفضل أنوسة السمبوخسى !! ، أنوسة التى تشبه دبا قطبيا عملاقا يقف على قدميه الخلفيتين  غير أنها مستأنسة وعاطفية و على قدر كبير من السذاجة التى ترقى الى مرتبة ( الهطل ) ، و لذا فقد كانت صيدا سهلا لشباب الحى العاطل و المفلس ، اذ يكفي غمزة أو ابتسامة أو معاكسة تليفونية ، لتقع أنوسة فى الحب مباشرة ، و تبادر بأداء فروض العشق و الطاعة لكل ما يحلم به العاشق الولهان ، و فى اعتقادى أن قلبها كان عملاقا مثل جسمها و لديه القدرة على استضافة عاشق جديد كل شهر  و هو ما كان يؤثر مباشرة على ميزانية الأسرة السمبوخسية ، فنصف الفاكهة التى يحملها الأستاذ على الى بيته  كانت تنتهى الى فم آخر العشاق  و الذى يتلقفها من أسفل البلكون ، بل ان أحدهم كان جريئا و واضحا فى حبه  للدرجة التى دفعته الى طلب حقه  ناشف  ، فكان يمر تحت شرفتها  فى ستر الظلام ، ، لتلقى اليه أنوسة بثمن علبة السجائر ( البوكس ) بعد أن تلفها فى قطعة صغيرة من ( الفويل ) مقابل قبلة هوائية من النوع الذى يطرقع على باطن الكف و ينفخ فى الهواء .

الثامنة