فارسُ الكلمـةِ الأصيلة
القاهـــرة ــ بشير عيـّـاد
لم يكنْ من السهلِ على أمّ كُلثوم وهيَ تقطعُ العقدَ الأخيرَ في مشوارِها الفنّي الذي التهمَ نصفَ قرنٍ من الزمان ، أنْ تضمَّ في صفحاتِ كتابها أيَّ شاعرٍ لمجرّدِ ملءِ الفراغِ أو إكمالِ الخطواتِ المتبقيّة ، فقد كانت ذوّاقةً إلى أبعدِ مدى ، وكانت ناقدةً قاسيةً إلى الحدِّ الذي لا يُطاق ، ولذلكَ كانت المفاجأةُ الكبرى التي هزَّتِ الوسطَ الفنيَّ والإعلاميَّ في اليومِ الأوّلِ من شهرِ ديسمبرَ عامَ 1960 عندما تناقلت الصحفُ خبرَ الحفلِ الذي ستُحيِيهِ أمّ كلثوم في المساءِ ، وأنها ستغني أغنيةً جديدةً من كلماتِ الشاعرِ الشاب عبدالوهَّاب محمّد !
في ذلكَ الوقتِ لم يكن المستمعونَ يعرفونَ عن هذا القادمِ المتحفـِّز إلا أغنيةَ ( ما تحبّنيش بالشكل دا ) التي غنّتها فايزة أحمد قبلَ أكثرَ من عام ، وكانَ الشاعرُ قبلَها يكتبُ أعمالا هامشيةً في البرنامجِ الفكاهي ( ساعة لقلبك ) ، ومن خلالهِ اقتربَ من الموسيقارِ الناشئِ بليغ حمدي الذي سيصبحُ أهمَّ رفقاءِ مشوارِ الصعود ، وشاءَ القدرُ أنْ يُقدّما معًا أغنية ( ما تحبّنيش بالشكل دا ) التي لقيتْ نجاحًا منقطعَ النظير ، ولكن ليسَ إلى الدرجةِ التي يتخيّلُ فيها أكبرُ المتفائلينَ أنَّ لقاءَهما القادمَ معًا سيكونُ على صوتِ أمّ كلثوم .
كانَ الشاعرُ الشاب وصديقُهُ الملحنُ الذي يصغُرُهُ بعامين يُعدّانِ أغنية ( حبّ أيه ؟ ) ولا يُدركانِ مَنْ سيغَنّيها ، قيلَ محرّم فؤاد ، وقيلَ ثريّا حلمي ، وقيلَ إبراهيم خالد ( ابن شقيقِ أمّ كُلثوم ) ، ولكنَّ القدرَ كانَ يخبّئُ صُدفةً لا تخطرُ على بالٍ ، إذ قامَ الفنان محمد فوزي بترتيبِ سهرةٍ يُفاجَأ فيها بليغ حمدي أنه أمامَ أمّ كلثوم ، وكانَ ذلك في منزلِ الدكتور زكي سويدان ، وبعدَ التعارفِ ظلَّ بليغ مرتبكًا إلى أنْ طلبتْ منهُ أمّ كُلثوم أنْ يُغنّي شيئًا من أعمالِهِ ، فأسمعها جزءًا من ( حبّ أيه ) ، وهوجالسٌ على الأرض ، فظلَّتْ تطالبُهُ بالإعادةِ إلى أنْ فاجأتِ الحضورَ ونزلت لتجلسَ إلى جوارِهِ وتردِّدَ معَهُ ، ثم دعتْهُ إلى أنْ يزورَها صباحَ الغدِ في منزلها ـ الذي كان ـ على نيلِ الزمالك.
ذهب بليغ وكلُّ تفكيرِهِ أنها ستُوصيهِ خيرًا بابنِ شقيقِها الذي يريدُ أن يغنّي ، لكنّهُ فوجئَ بها تطالبُهُ بأنْ يغنِّي ( حبّ أيه ) ، ثمَّ تغنّي معَهُ ، ثم تسألَهُ عن المؤلّفِ فيقولَ لها صديقي عبدالوهَّاب محمّد مؤلف أغنية ( ما تحبنيش بالشكل دا ) ، فسألته : أين هو ؟ قال : يعملُ بأحدِ فروعِ شركة ( شِل ) للبترولِ بكوبري القُبَّة ، فطلبتْ منهُ أن يستدعيَهُ بالتليفون ، لكنَّ الشاعرَ ظنَّ أنَّ صديقَهُ يمازِحُهُ ، فطالبهُ بالكَفِّ عن هذا الأسلوب ، وأدركتْ أمُّ كلثوم أنَّ عبدالوهَّاب لا يصدِّق ، فتناولت التليفونَ آمرةً : ( صباح الخير يا إبني .. اركب أي تاكسي وتعال البيت فورا ) ، وفي سرعةِ البرقِ كانَ عِندَها بملابسِهِ البسيطةِ التى تفوحُ منها رائحةُ البترول ، رائحةُ العملِ الشريف ، فلاحظت أنّهُ خجولٌ وضئيلُ الجسمِ مثل صديقِه ، فقالت له : ( انت شاعر هايل ، كنت فاكراك كبير .. انت عندك كام سنة ؟ ، قال : 25 سنة ، فردّت على الفور : دا سنّك والا تأبيدة ؟؟ فضحك ثم قال : بصراحة عندي 28 سنة )!! وعندما اطمأنّ إليها بدأ يتجاوبُ معها ، فطالبتْهُ بأنْ يُسمعَها بقيّةَ الأغنية ، فأسمعها ، ووسطَ حالةٍ من الصمتِ دوّى صوتها : ( أنا ح ابدأ بيكم الموسم الجديد ) وطالبتهما بألا يبوحا بالسرّ ، فأخفياه عن أقربِ الأقربين ، ولم يعلمْ أحدٌ بالخبرِ إلا من الصُّحفِ يومَ الحفل !
(( الخطوبة ،، العروس الشابّة خديجة النّصيري ))
منذ ذلكَ التاريخِ انطلقَ اسمُ عبدالوهَّاب محمّد كعطرٍ ممطرٍ في سماءِ الفنِّ الراقي الأصيل ، وأصبحَ أهمَّ جُلساءِ أمّ كُلثوم ـ بعد رامي ـ إذ وجدتْهُ ملمّا بتاريخِ الشعرِ العربي ، والتقى ذوقاهما في منطقةِ الشعرِ العبّاسي التي كانت أمّ كُلثوم مفتونةً بها وتحفظُ أمهاتِ أشعارِها ، ولم ينجُ الشاعرُ من الغَيرةِ والحسدِ فادّعى أحدُ الشعراءِ أنَّ عبدالوهَّاب محمّد سرقَ منهُ ( حبّ أيه ) ، ولكنّهُ فشلَ في إثباتِ ذلك ، فما كانَ من أمّ كُلثوم إلا أنْ تدعمَ شاعرَها الجديدَ دعمًا أكبرَ بأنْ تغني من كلماتِهِ أغنيتينِ جديدتينِ معًا لأوّلِ مرّة ، وهما ( ح اسيبك للزمن ) ( وهي اللحن العاطفي الوحيد لعبدالوهّاب محمّد ورياض السنباطي ) ، و( ظلمنا الحب ) ( ألحان بليغ ) ، وهذا الحقُّ كانَ مقصورًا فقط على شاعرها المزمن ومعلمها الأكبرِ والأهمِّ أحمد رامي ( أستاذ الجميع )
كانَ الشاعرُ قد بدأ رحلتَهُ بكتابةِ الفُصحى ، ولم يتخيلْ أنْ يتجِهَ إلى العامية ، فهو ابنُ أحدِ رجالِ الأزهر ، وبيتُهم عبارةٌ عن مكتبةٍ كبرى ( يعيشونَ فيها ) ، وكانت مهمتُهُ أن يقرأَ لأبيهِ الكفيف ، كما أنّ كلَّ أصدقاءِ الأبِ من العلماءِ والمشايخ ، وحديثُهم العادي لا يدورُ إلا بالفصحى . كان الشاعرُ يريدُ أن يكونَ موسيقيًّا ، لكنهُ لا يجرؤُ على التصريحِ بذلكَ في بيتهِم المحافظِ الذي لا يمكنُ أن يقبلَ بأنْ يحملَ أحدُ الأبناءِ آلةً موسيقيةً ويمشي بها في الشارع !! لكنهم فرحوا بنبوغِهِ الشعريِّ وهو ابنُ التاسعةِ من العمر ، وشاءَ القدرُ أن يرحلَ الأبُ فجأةً ، ولا يستطيعُ الشاعرُ إكمالَ تعليمِه ، فيبحث عن عملٍ بشهادةِ الثانويةِ العامةِ ليعولَ أسرتَهُ التي فقدت الأب .

(( كانَ مُغْرَمًا بالأجهزةِ الصوتيّة ))
جاءَ عبدالوهّاب محمد من الفُصحى إلى العامية ، ووصلَ إلى الزّجلِ في أبسطِ حالاتِه ، وانطلقَ من منصّةِ أمّ كلثوم ليُغطّي كلّ الأصواتِ الجميلةِ التي كانت حولها وفيما بعدَها عدا عبدالحليم حافظ الذي كان صديقًا للشاعر ، لكنّ عبدالحليم حاولَ استعراضَ عضلاتِهِ في أوّلِ لقاءٍ فني بينهُما وظلّ يعدّلُ ويبدّلُ ، فقال لهُ الشاعرُ : ( أمُّ كلثوم لم تفعلْ ذلك ، وأنا أعتذرُ ولن أكملَ فلن ننفعَ معًا ) وكانت الأغنيةُ مع بليغ أيضا وعنوانها " حبيبة صديقي " ( 1963 ) ولم يغنها أحدٌ إلى الآن ، وتوقفت أغنية أخرى كانت مع كمال الطويل وهي ( حبّك هادي ) التي غنتها لطيفة ـ بعد ثلاثين عاما ـ بألحان زياد الطويل ، مع تغييرِ بعضِ الكلماتِ وضميرِ المُخاطَبِ من المؤنثِ إلى المذكّر.
كتبَ عبدالوهَّاب محمد لعشراتِ الأصواتِ ( الكبرى ) وتعاملَ مع كبارِ الملحنينَ بدءًا من رياض السنباطي وعبدالوهاب وصولا إلى آخرِ موجةٍ من أبناءِ الفنِّ الأصيل ، واشتهر عبدالوهَّاب محمّد بأنه ( متعهدُ النجاح ) فمعظمُ الأصواتِ كانت تبدأُ مشوارَها بكلماتِهِ ، كما اشتهرَ ـ وهو الأوّل ـ بأنّهُ يكتبُ لكلِّ الأصواتِ العربيّة ا
(( الشاعرُ والسيّدة زوجته مع الفنانة وردة ، في ليلة زفافها إلى بليغ حمدي ))
الوافدةِ إلى القاهرةِ وفي مقدمتها وردة وصولا إلى لطيفة التي غنت له مائة وعشرين أغنية ، ولديها عددٌ كبيرٌ لم يرَ النورَ بعد ، فوقَ ذلك كان بارعًا في كتابةِ أغنياتِ المسلسلاتِ الإذاعيّةِ والتليفزيونيةِ والاستعراضاتِ المسرحيّةِ ( آخرها ريّا وسكينة ومع بليغ أيضا ) وبعدَ أن كتبَ لأمّ كُلثوم تسعَ أغنيات ، شاءَ القدرُ أنْ تكونَ العاشرةُ هي آخرُ أغنيةٍ في مشوارِ أمّ كلثوم ، ويلتقي فيها ـ بعدَ عشرةِ أعوامٍ منْ " ظلمنا الحبّ " ـ برفيقِ العمرِ بليغ حمدي وهي أغنية ( حكم علينا الهوى ) التي لم تستطعْ غناءَها في حفلٍ عام ، وسجلتها بالإذاعةِ وطُرحت على اسطواناتٍ في منتصفِ أبريل 1973 م ، وكما بدأ بالفصحى تركَ عددًا من القصائدِ المغناة خصوصًا في الأعمالِ الدينيةِ ، وحتى الآنَ لم تظهرْ إلى النورِ قصيدتُهُ ( آهِ لو تدري بحالي ) التي لحنها السنباطي لفيروز قبل رحيله ( 1981 ) ولحّنَ معها قصيدتينِ رائعتينِ من شعرِ جوزف حرب هما ( بيني وبينك ) ، ( أمشي إليك ) ولا أحد يدري متى ستفرِجُ فيروز عن الألحانِ الثلاثة!
وُلد عبدالوهَّاب محمّد في السابعِ من نوفمبر 1930 م ، وعرفَ المرضُ طريقَهُ إليهِ لحظةَ إبلاغهِ نبأَ رحيلِ أمّ كُلثوم ، زرعت الصدمةُ جذورَ الشللِ في الجانبِ الأيمنِ من جسدِه ، ثم جاءَ رحيلُ عبدالحليم فالسنباطي ليعمّق الجرح ، ومع نهايات الثمانينياتِ بدأ الشاعرُ رحلاتِ العلاجِ بالخارج ، ومع أوائلِ العامِ 1996 حاصرتْهُ الآلامُ من كلِّ جانبٍ فأُدخلَ المستشفى بجوارِ منزلهِ بحيِّ الدقِّي ، وعادَ إلى المنزلِ يومَ الأربعاء ( العاشر من يناير 1996 ) ، ولكنها كانت الزيارةَ الخاطفةَ الأخيرةَ إذ عادَ إلى غرفةِ العنايةِ المركزةِ يومَ السبتِ التالي ، وبعدَ شروقِ شمسِ الاثنين ، الخامس عشر من يناير 1996 ، فاضت رُوحُهُ إلى بارئِها ، تاركةً أصداءَها في ذكرياتِنا في عشراتِ الأغنياتِ الشجيّة .
ــــ
مقالٌ قديمٌ لي
عن جريدةِ ( العَرَب ) القطريّة .