لم يصدق الناس أعينهم وهم يطالعون فى الصفحة الأولى من صحف الصباح خبر التحقيق مع سكرتير المحامى الشهير فى تهمة التلاعب فى أوراق المتقاضين وتعمد إتلاف محتوياتها
،لم يكن الخبر ذاته مبعث الدهشة ، ما أدهشهم أنها كانت مشكلتهم جميعا التى فاجأتهم صباح ذلك اليوم العجيب , وكل منهم يظن أنها مشكلته وحده , لم يقع فى خلد أحد ولا تصور أن المصيبة عمت أرجاء البلاد وأن البلوى طالتهم جميعا ،فى دور الكتب والمكتبات والمطابع وبيوت المال ودار المحفوظات ،وبدأ كل واحد يبوح بما كان يخشى أن يتفوه به تجنبا لمواضع التهم االتى يمكن أن تلقى عليه جزافا وإيثارا للسلامه ...
البداية كانت فى مكتب المحامى الشهير عندما طلب من سكرتيره أن يأتيه بملف القضية الكبيرة التى شغلت الرأى العام على مدار العام , فتح الملف ليراجعه قبل أن يتوجه للمحكمه ،وقعت عيناه على أول صفحة فيه , لم يصدق ما يراه, ما هذا ؟؟؟ وضع نظارته وتناول أخرى من على مكتبه ،أخذت يمناه تقلب الأوراق بينما اليسرى فى شغل بالبايب فى فمه , كان بصره يتقلب بين الأوراق تارة وسكرتيره أخرى ,ألقى البايب فى حدة وعلامات الغضب والدهشة تملأ وجهه .........
.... إيه اللى انا شايفه ده يا أستاذ ؟!! دى كارثه ...
... خير يا افندم ،فيه إيه ...
.... شوف بنفسك ...
قالها محتدا وهو يقذف بالملف فى وجهه
تمالك نفسه وبدأ يقلب صفحاته وهو فى ذهول لا يكاد يصدق ما يراه ،كانت تلك أول مرة يفتحه بعد أن راجعه قبل يومين كلمة كلمه ،واطمأن لسلامة الأوراق وتمامه ثم وضعه فى مكانه فى أرشيف قضايا النقض ...
رأى الكلمات متداخله فى بعض السطور , وشاهد بعض الحروف وقد اختفت تماما من كل الكلمات , منها حرفا الألف واللام فى أوائل الكلمات وحرف الواو وجميع حروف العطف ونون الجماعه وكل أفعال الماضى وظرف الزمان والمكان وحروف الهمزة الإستفهامية وبعض من حروف الياء والسين والنون ..
كل من قرأ الخبر إكتشف أنه لم يكن وحده صاحب المشكله ،منهم من رآها فى أوراق العملة ومنهم من اكتشفها فى بطاقة هويته أو بطاقة الإئتمان أو الكارنيهات ومنهم من لاحظها فى ملفات الأرشيف وأضابيره ،عمت البلوى البلاد والعباد ,حتى أن الصحف التى صدرت فى ذلك اليوم لم تخل من تلك الأعاجيب والغرائب, صدرت بعض صفحاتها وفيها مساحات بيضاء ،كانت تزداد يوما بعد يوم ،مع اختفاء حروف وأفعال أخرى منها أفعال المضارع ،حتى أنه لم يتبق من حروف الهجاء إلا أقل من ثلثها بقليل ...
لم تعد للعملات الورقية والمعدنية أية قيمة مع اختفاء أرقامها رقما بعد الآخر بعد اختفاء حروفها ولم يبق فى النهاية منها إلا الأصفار
التلاميذ هجروا مدارسهم بعد أن صارت كتبهم مجرد صفحات بيضاء , كان أكثرها وأولها إصابة بتلك البلوى كتب التاريخ والجغرافيا والأحياء والطبيعه واللغه .....
لم يعد الناس يحملون بطاقات هويتهم بعد أن صارت لا تحمل أية بيانات سوى الصورة وبصمة اليد وخاتم النسر ,حتى الصور صارت باهتة وزال لمعانها وبدأت الظلمة تأخذ طريقها إليها شيئا فشيئا ....
أغلقت البنوك أبوابها وأعلنت إفلاسها وعاد الناس يتعاملون فيما بينهم بنظام المقايضة كما كان يفعل أجدادهم الأقدمين ..
كان المشهد الأخير فى تلك المأساه فى حجرة عم أيوب صالح وهو متكئ على أريكته وحده واضعا المذياع الصغير تحت أذنه يتابع آخر الأخبار التى لم يكن فيها إلا الأحداث المتلاحقة التى كانت تحمل فى كل خبر اختفاء حرف آخر ومعها بلاغات الناس وأحاديثهم وتعليقاتهم , كانت أذنه على المذياع بينما يراقب حفيده بعينيه وأثر ابتسامة على وجهه ،كان نائما على كراسته يواصل فى دأب كتابة الواجب الذى كلفه به ..........
.... شوف يا جدى انا كتبت إيه ، أسمع لك أليف باء تاء.. فين بأه باكو الشوكلاته ......
إتسعت ابتسامته وهو يمد يديه محتضنا حفيده بعد أن أطفأ المذياع قبل أن يلقى به جانبا .....