الحزن كتجارب ذاتية والخوف الخفي من المجهول بالتأكيد حاضرين ، ولكنهما ليسا وحدهما يا صاحبي. الصورة ربما تكون أكثر اكتمالا في وجود موروثنا المجتمعي الذي دائما ما ينزع إلى الحزن الغامض ، ثم تلك النزعة الرومانسية التي دائما ما تشدنا وتعمل عملها كلما اعترانا منها قبس.
طار النسيم بالشوق لما كلمتك
لمس النسيم توبي بهمس غنيوتك
أظن على ما أذكر أن هذا مجدي نجيب ، كلما مر بخاطري هذا المقطع احترت .. ترى في أي فضاء كانت روحه تحلق حين كتب هذا وفوق أي بحار كانت تطفو!!!!!
أتراها كانت قريبة من بحار ناجي وهو يبوح
كأن قلوبنا خلقت لأمر .. فمذ أبصرن من نهوى نسينا
شغلن عن الحياة ونمن عنها .. وبتن بمن نحب موكلينا
فإن ملئت عروق من دماء .. فإنا قد ملأناها حنينا
مع تحياتي
محمود
__________________ علموا قلب الحجر يوصف معارك الانتصار
علموه يبقى سفير الدهر ليهم بالفخار
كان نهار الدنيا مطلعش وهنا عز النهار
....
نعم .. هو موروثنا التراثي الضارب بجذوره فى التاريخ .. ربما منذ الفراعنة ..
، و لا تستطيع خارطة مشاعرنا منه فكاكا ، موروثنا الذى لا يزال يتجلى فى صعيد مصر ..
نعم هو مجدى نجيب .. الذى طوع ( النسيم ) لشاعريته الفذة فى المقطع ( طار النسيم ) .. و ما النسيم هنا سوى حالة التجلى التى اعترت الحبيبة ،
لامسها النسيم ( اشراقة الروح ) بأنامله الحنونة ، احتواها فى حالة ونس و طمأنينة فى ليل ( ما عاد له دليل ) و فضاء ( ناعس ) ، تاركا ً إياها كعصفور صغير و حده فى غابة بأكملها ، فهى صورة ( كونية ) توحى بالوحدة و الوحشة ، و الافتقاد الى رفيق ( وَنـَس ..)
و الحبيب ( الرمز )هنا ، بمثابة حُضن الطمأنينة ، والملجأ من الوحدة و الافتقاد و الخوف ..
و تلك الأغنية العميقة ليست مجرد رجل و امرأة .. بقدر ما هى إنسانٌ ( ذات ) مقابل الوجود ..
الذات الضئيلة المستضعفة المتسائِلة .. مقابل تجليات كونية و قدرية غامضة و رائعة و طاغية فى آن .. وحده الحبيب ( الرمز ) أو الوَنـَس هو الذى يعيد صياغة رؤية الأشياء !
أما الجملة ( غاب القمر يا بن عمى يللا روحنى ) فهى جملة شعرية فلكلورية ضاربة فى عمق التراث ، كانت تغنيها جداتنا
فمجدى إمتحى تلك النفحة القديمة ، و شكل من إيحاءاتها تلك الأغنية التى لا تدرى أنت ولا عصفورطاير و لا أنا فى أى فضاء كانت تحلق ..
فقط نجتهد فى تفسير أبعاد هذا الفضاء ، و فقط نستمتع بهذا التحليق الغامض و نحيا على تجلياته ..
هذا عمل عبقرى شعرا و موسيقى و اداءا ً .. إنه الموجى يا سيدى ،
لامس أطراف هذا الفضاء .. فقط لامسه .. فأبدع ..
و مجدى نجيب جدير بالتأمل .. فهو ( حدوتة كبيرة ) ، حالة فنية خالصة ، حين يفرغ من الكتابة ، يرسم ..، نعم .. فهو فنان تشكيلى ، لا تقل تجلياته فى الرسم عن الإبداع الشعرى ..
هوَ هوَ مجدى نجيب .. منذ ديوانه الأول ( صهد الشتا ) مرورا بالوصايا ، و مقاطع من أغنية الرصاص ..
تأمله مثلا فى ( باعتب عليكى ) أصدق أغنية ( وطنية ) فى واقع مصر المعاصر ! .. لا طبل و لا زمر .. صدق ناضح من الكلمات ، و توصيف مذهل للحالة ( المصرية ) الراهنة ..
و أذكر له مقطع ، بمثابة إطلالة على خياله المتفرد :
عنقود كلام زى الجرس فوق الطريق
دندن بصوته البرتقانى للقمر
صهلل بروح مليون فرس
سواح بيلضم فى الغنا
طاير فى قلب الريح بيقطف م الندى
و يحش قلب الخوف و يرمى ع الجبين
ضِلي أنا
ضِلي اللى فارش مسطبة
و عيال بتنده للنسيم
هل كل البشر مرتبطين بتراثهم إلى حد الشجن.. أم أن تلك المسألة خصوصية مصرية.. أم هي خصوصية لنا نحن عشاق هذا التراث والفن الأصيل؟
لا اعرف الإجابة على وجه التحديد.
أما مجدي نجيب فهو من الشعراء الذين استشعروا هذا الشجن في التراث، واستطاعوا أن يتعاملوا معه بالأخذ والإضافة.. فليست أغنية "غاب القمر" فقط التي استنبط فيها التراث، واستطاع أن يتعامل معه بكل تلك الرقة والعذوبة.. ولكن فعلها أيضا في العديد من الأغاني والأشعار الأخرى.. ومن أبرزها أيضا "يا عزيز عيني" و"قولوا لعين الشمس" والإثنين لشادية، الأولى لحنها محمد الموجي، والاخيرة هي بالطبع للرائع بليغ حمدي.. وقد استقاها أيضا مجدي نجيب من التراث الشعبي.. ولهذه الأغنية قصة وطنية رائعة.. حيث غناها الناس حزنا على البطل والمناضل الوطني إبراهيم ناصف الورداني الذي خلص مصر من رئيس وزرائها الخائن بطرس غالي باشا في 20 فبراير عام 1910، والذي عرف بعمالته للإنجليز والخديوى.. وبطرس كان رئيس محكمة دنشواي الشهيرة.. وقد اغتاله الورداني كأول اغتيال سياسي في تاريخ مصر الحديثة.. وهو بالمناسبة جد آل بطرس غالي الموجودين حاليا (يوسف وبطرس).. وعندما حكم على الورداني بالإعدام، غنى له الناس تلك الأغنية يوم تنفيذ الحكم في صباح يوم صيفي حار كان يوافق 28 يونيو من نفس العام، وقد فوجئ الإنجليز وأعوانهم بأن المصريين يغنون في صباح هذا اليوم تلك الأغنية الحزينة.. (قولوا لعين الشمس ما تحماشي.. لاحسن غزال البر صابح ماشي.. قولوا لعين الشمس).. وكان الورداني آنذاك شابا لم يتجاوز عمره 24 سنة، وهو خريج كلية الصيدلة من سويسرا، ودرس الكيمياء في بريطانيا، وكان عضوا في الحزب الوطني الذي أسسه مصطفى كامل.
ويبقى ايضا أن نشير إلى بعض عيون ما كتب مجدي نجيب من أغاني رائعة منها "العيون الكواحل" "ياهلالا غاب عنا واحتجب" لفايزة أحمد.. وهي أيضا لم تبعد كثيرا عن التراث لأنه أراد لها أن ترتدي ثوب الموشحات.