مسلة حمورابي و حقوق الحيوان
هذا هو الموضوع الفرعي او ربما الثانوي الذي لم يطرق سابقاً و لم يثير انتباه الباحثين من قبل . ربما هناك من يتسائل قائلاً (لماذا) او ما لنا وحقوق الحيوان في عالمٍ فيه حقوق الإنسان غير مصانة و خاصة في بلد حمورابي حيث تلك الحقوق مسلوبة منذ عشرات السنين و تشهد تدهوراً يوماً بعد يوم. الصدفة هي التي قادتني الى تناول الموضوع ، وانا قبل هذا وذاك وكما قلت سابقاً لست مختصاً لا بالقوانين ولا بحقوق الإنسان او الحيوان. و الحكاية مشوقة سأوجزها لكم و ان كانت طريقة سردي للموضوع ليست أكاديمية صرفة و يتخللها الذكريات.
في نهاية الثمانينات و أوائل التسعينات من القرن الماضي ، و على أثر حملات ضغوط من منظمات حقوق الحيوان ، قررت السلطات الرسمية في فرنسا إلزام الباحث من طبيب او طبيب بيطري او صيدلي إجراء دبلومه ( صغيرة ) خاصة عن التجارب الحيوانية قبل السماح لهم باستخدام الحيوانات في بحوثهم ، و الغرض من ذلك هو التخفيف من العدد الكبير من الحيوانات المستخدمة في التجارب العلمية.
سجلت في تلك الحلقة الدراسية للعام الدراسي 1991-1992 ، وكان المسئول عنها أستاذ و طبيب متقاعد و عضو بارز في الدفاع عن حقوق الحيوان و كان مولعاً بالتأريخ. اخترت لي موضوعاً بعيداً بعض الشيء عن اختصاصي يتعلق بتصلب الشرايين و اختيار الموديل المناسب من الحيوانات و الزروعات الخلوية في ذلك. وكان في ذهني هو ان قرناً كاملاً من البحوث الطبية استخدم فيه عشرات الألوف من الحيوانات المختبرية و كذلك الدواجن و الماشية والقرود لم تؤدي الى معرفة السبب الحقيقي لتصلب الشرايين و كل ما نعرفه و الى الآن هو فرضيات و أسباب عديدة تمهد للإصابة بالمرض. قررت ان أضع بضعة سطور في مقدمة الدراسة كنبذه تاريخية عن حقوق الحيوان فوجدت ان المصادر الغربية تبدأ من القرون الوسطى. تذكرت قوانين حمورابي وقررت ان اذهب الى مركز جورج بومبيدو الثقافي عسى ان أجد ضالتي هناك. عثرت على كتاب قيم كتبه باحث فرنسي عام 1938 و فيه ترجمة كاملة لقوانين حمورابي . و كانت فرحتي كبيرة عندما تأكد لي ان توقعي كان في محله. وجدت في هذا الشأن مواد عديدة في شريعة حمورابي ومنها ما يدل على تفوق ساحق على عصرنا آنذاك ( نهاية القرن العشرين) و حتى عصرنا الحالي.
لقد ضمت قوانين حمورابي عدة مواد تتعلق بحماية الحيوان (ابقار ، حمير ، اغنام و ماعز ) وكذلك طريقة التعامل معها و استخدامها ، علماً بان لتلك الحيوانات و خاصة الماشية أهمية كبرى لأنها كانت تستخدم لأغراض الزراعة.
من أهم المواد المتعلقة بحماية الحيوان :
-المادة رقم (225) وهي تتعلق بمهنة الطبيب البيطري (طبيب الحيوان):
"إذا أجرى الطبيب البيطري عملية جراحية و تسبب في موت الحيوان فعليه ان يدفع خمس ثمن الحيوان" .
المقصود بكلمة "تسبب" هو التقصير او الإهمال او التعمد. اما الغرامة المحددة في المادة المذكورة فهي اكثر بكثير من المبلغ الذي يمكن للطبيب البيطري ان يستلمه في حالة شفاء الحيوان. سأعود لاحقاً الى هذه المادة التي تعتبر من قانون العقوبات وهذا يعتبر طفرة في التطور و التفوق مقارنة مع القوانين الأكثر تطوراً في عصرنا الحديث و في اكثر البلدان الغربية تطوراً.
-المادة (245) تتعلق بموت البقر بسبب الإهمال :
"إذا أجر احدهم ثور او بقرة و تسبب في موته بسبب الإهمال أو الضرب بقرة ببقرة على المؤجر تعويض صاحب الحيوان ببقرة أخرى"
يمكننا التصور بأن المؤجر قد أهمل متعمداً علاج الحيوان مما أدى إلى إصابته بمرض مميت أو بسبب عدم مراقبة و متابعة حالة الحيوان او بسبب تعرض الحيوان إلى اعتداء مميت من قبل حيوان آخر. على المؤجر في هذه الحالة ان يتدارك خطأه و يستبدل الحيوان الميت بحيوان حي مماثل.
-المادة رقم (249) تتعلق بالموت العرضي أو المفاجئ :
"إذا اجر رجلاً بقرة و ماتت (فجأة) بإرادة الرب فعلى المؤجر ان يُقْسِمْ بالإله و يطلق سراحه". و لكن إذا مات الحيوان بسبب مرض مزمن و كان هناك شهود بان المؤجر قد قدم العلاج اللازم فان القَسَمْ في هذه الحالة غير ضروري لإبعاد المسؤولية عن المؤجر ( في ذلك الزمن لا تجرى عملية التشريح لتحديد أسباب الوفاة).
-المادتين (266) و (267) تتعلق بموضوع قطعان الماشية في الحظائر:
في حالة حوادث الوفيات للماشية في الحظيرة او أثناء الرعي فان المشرع قد ميز بين حالتين. الحالة الأولى تشمل الموت بسبب لا يمكن تجنبه مثل قتل الحيوان من قبل اسد "فالراعي" معفى من العقاب. الحالة الثانية تشمل الموت بسبب عدم اهتمام "الراعي" الذي أدى إهماله الى إصابة الحيوانات بالمرض الأبيض اي "الوكيميا" ، في هذه الحالة فان العامل او "الراعي" هو الذي سبب الضرر الناتج عن المرض بسبب ذلك الإهمال و عليه ان يعوض صاحب القطيع . المشرع يلقي المسؤولية على الراعي الذي كان عليه ان يأخذ الحيطة و المحاذير اللازمة لمنع انتشار المرض مثل إجراء العزل. على "الراعي" في هذه الحالة معالجة الحيوانات المريضة او يعوض عنها في حالة الموت.
اذا كان المشرع قد تناول حالة المرض المعدي ( المرض الأبيض) فلأن الأوبئة في التجمعات الحيوانية تعلن و تكتشف بسهولة و مسؤولية العامل الذي يشرف على تلك الحيوانات تكون أكثر وضوحاً عندما يكون القطيع في الحظيرة.
اكتفي بهذا القدر من المواد التي تتعلق بحماية الحيوان علماً بان شريعة حمورابي تحوي على مواد عديدة أخرى تتعلق بحقوق الحيوان و مالكه.
و اكرر هنا هو ان الحيوانات (الماشية و الحمير) في عصر حمورابي كانت تستخدم لأغراض الزراعة و هي بذلك تكتسب أهمية قصوى لحياة الإنسان و المجتمع ، و المشرع آنذاك كان يأخذ في الحسبان هذه الأشياء فأصدر تلك التشريعات التي تضمن الحفاظ على تلك الثروة الحيوانية و تحاسب من يسيء معاملتها او يفرط في استخدامها و إنهاكها بالعمل أو من يقسو عليها و يسبب لها الأذى.
و كما تلاحظون فان شريعة حمورابي التي صدرت قبل حوالي أربعة ألاف سنة تتضمن و بوضوح مواد عقوبات مثل المادة (225) على سبيل المثال و هذا يثير الإعجاب لأنها متقدمة على عصرنا الحالي.
ففي عام 1978أصدر اليونسكو في فرنسا أول إعلان لحقوق الحيوان و لم يتضمن أي مادة عقوبات لأنه كان مجرد إعلان و ليس بقانون.
في عام 1989صدرت مراجعة للإعلان من المنظمة العالمية لحقوق الحيوان و نشر رسمياً عام 1990. المادة الاخيرة لهذا الاعلان توصي بالدفاع عن حقوق الحيوان بقوانين اسوة بقوانين حقوق الانسان.
في عام 1994بدأت تظهر اول مادة عقوبات في فرنسا وتقول في نصها المعدل و المنشور في الجريدة الرسمية في باريس عام 2000 تحت عنوان "الخدمات الخطرة او الأعمال ذات الطابع القاسي نحو الحيوان":
المادة 653 R: يعاقب من يسيء معاملة الحيوان أو يهمل او يفتقد القيام بإجراءات السلامة له و المقررة بالقانون بغرامة تقدر ما بين 38 و 450 يورو. وقد صدرت بعد ذلك عدة قوانين في هذا الاتجاه .
عندما تأكد لي أن المواد القانونية التي عثرت عليها في قوانين حمورابي تفي بالغرض و انها قد تخلق حالة من الإثارة و الإعجاب ، بل هي ثورة في عالم المصادر التي لديهم و أبعدها يعود الى العصور الوسطى ، قررت ان أدرج في دراستي تمهيداً من صفحتين يسبق المقدمة يحوي أهم تلك المواد و تفسيرها . كما قررت ان اضع المادة 225 من قانون حمورابي في اللغتين المسمارية و الفرنسية في صفحة خاصة تسبق التمهيد ، علماً ان هذه الصفحة و كذلك التمهيد ليسا من صلب دراستي عن "تصلب الشرايين". وعندما انتهيت من طبع الدراسة وكنت متهيئاً لإعطاء النسخ المطلوبة للجنة التحكيم . في ذلك الوقت حدثت (ان لم تخني الذاكرة) غارات على بغداد أدت الى قتل مدنيين ومنهم على ما أظن صحفية او رسامة عراقية من عائلة العطار كانت متواجدة في المنصور فشعرت بالخجل من نفسي ان اكتب عن حقوق الحيوان و التجارب الحيوانية (حتى وان كانت من ثلاث صفحات ) في حين ان حقوق المواطن العراقي غير مصانة لا من داخل البلد و لا من خارجه. فقررت ان أدرج أيضا هذا الإهداء في بداية الدراسة و ليكن ما يكون :
"اهدي هذه الدراسة إلى أبناء عراق اليوم ضحايا التجارب البشرية"
سلمت النسخ المطلوبة إلى مسئول الحلقة الدراسية الذي بدوره قد تصفحها بحضوري و أبدا إعجابه بهذه الصفحات الثلاثة ربما أكثر من محتويات البحث نفسه. وهذه حقيقة اذكرها دون خجل بل و افتخر بها (البحث الأساسي حول تصلب الشرايين كان بالنسبة لي شكلياً لغرض الحصول على موافقة الجهات الرسمية الروتينية على إجراء التجارب على الحيوان). أبدى الرجل تعاطفاً معي بعد ان عرف أنني من مواليد العراق . سألني كذلك عن النتائج المترتبة عن هذه الحرب على الحيوانات فتبادر فوراً الى ذهني حقول دواجن محافظة الانبار و الفلوجة التي اعرفها جيداً و أعدادها الهائلة فقلت له ان مجرد انقطاع التيار الكهربائي لمدة 24 ساعة قد يؤدي الى هلاك عشرات او مئات الآلاف من الفروج. بعد ذلك قدمت عرضاً لبحثي امام لجنة التحكيم و بدأته ب "سلايد" يظهر المادة التجريمية رقم 225 من شريعة حمورابي والتي تعاقب الطبيب البيطري في حالة تسببه عمداً او تقصيراً وفاة الحيوان اثر إجراء عملية جراحيه له. وتحت المادة يبدو اسم حمورابي ملك بابل و تأريخ (1755 قبل الميلاد) ، و تحت تلك المادة أدرجت نصاً من إعلان حقوق الحيوان الصادر من اليونسكو لعام 1978
وتوجهت بالكلام الى اللجنة قائلاً اترك لكم الحكم أيها السادة فيما اذا كان الإعلان العالمي لحقوق الحيوان (اي أوربا و الغرب) أكثر تطوراً من قانون حمورابي ام انه متخلفاً عن هذا القانون. قلت هذا لأني كنت واثقاً من ان أعضاء اللجة أدركت ان قانون حمورابي عن حقوق الحيوان هو اكثر تفوقاً لأنه كان في نفس الوقت قانون عقوبات ، و لم يكن في ذلك الوقت (1992 ) اي نص عقوبات في القانون الفرنسي بشأن حقوق الحيوان.
بعد انتهاء الدراسة بأسبوعين او ثلاثة فوجئت باستلام دعوة لحضور حفلة مسائية خاصة تقام من قبل المسئولين عن منظمات حقوق الحيوان فقبلتها على أمل الالتقاء بزملاء الدراسة . ذهبت الى الحفل و فوجئت بأنني المدعو الوحيد . و ما بين الفرحة من هذا التكريم و الإحراج في ان اكون وحيداً مع هذه النخبة التي اجهلها من المدعوين و جلهم من كبار السن و الأغنياء الذين يتبرعون الى منظمات حقوق الحيوان و بسخاء ، استقبلني مسئول الحلقة الدراسية و قدمني الى الحضور على أنني الشخص الذي زودهم بمصدر حمورابي عن حقوق الحيوان فتجمع حولي قسم منهم يسألني عن شريعة حمورابي و النصوص الأخرى المتعلقة بحقوق الحيوان : الموضوع الذي يشغلهم ربما أكثر من حقوق الإنسان. خرجت من الحفل قبل انتهائه لأتنفس الصعداء.
افتخر ان تكون ثلاثة صفحات عن حمورابي أثارت إعجابهم و خلقت تلك الضجة ، و بقيت لعدة سنوات أزود بعض المهتمين بتلك الصفحات من حين الى حين.
هذه يا إخوتي الأعزاء قصتي عن قوانين الملك العادل حمورابي . لنا آثار أصيلة و حضارة عريقة أكثر مما نتصور همشت و تهمش من قبلنا أولا ومن قبل الآخرين ثانياً.
نعمان
1CRUVEILHEIR,P. : Commentaire du code d’Hammourabi. Librairie Evnest Lerous, Paris, 1938
2-SEUX, M.J. : Lois de l’Ancien Orient .CERF, 1986
3-SHEIL V. : Loi de Hammourabi. ERNEST LEROUX,Paris, 1904
4-EDOUARD CUQ, M. : Le Nouveaux Fragments du Code de Hammourabi. C.KLINCKSIECK Libraire, Paris 1918