« صُرّة » تونس و نبض ثقافتها الشعبية
رمضانيات السحر بباب سويقة..الحلفاوين
باب سويقة هو أحد أشهر الأحياء الشعبية لمدينة تونس نسبة إلى اسم أحد أبوابها. بني سنة 1861م، ويقع بين باب الخضراء وباب سعدون، قرب حي الحلفاوين.
جاءت تسمية باب سويقة من تصغير لكلمة ساقية. وتوجد فيه العديد من المعالم التاريخية وأهمها على الإطلاق زاوية سيدي محرز وجامع باي محمد وجامع الزرارعية. كما يوجد به المقر العام لأعرق الأندية التونسية الترجي الرياضي التونسي.
* مركز سياسي وثقافي
عرف هذا الحي خلال الفترة الاستعمارية بانخراطه في حركة النضال الوطني، وشهد العديد من المظاهرات الشعبية الصاخبة، خاصة وقد كانت توجد به مكاتب العديد من زعماء الحركة الوطنية أيامها.. وهو إلى جانب هذا مقر أشهر مقهى ثقافي تونسي على الإطلاق ونعني «قهوة جماعة تحت السور» الذي أنجب فطاحلة الفن والثقافة التونسية سنوات الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي كعبد الرزاق كراباكا وعبد العزيز العروي ونانا شافية وغيرهم..
كما يشهد باب سويقة من ناحة أخرى في شهر رمضان احتفالات ومواكب عديدة، حيث توجد فيه العديد من قاعات السهرات الليلية أو ما يسمى «الكافي شانطة» منها صالة الفتح وغيرها..
كما كانت ولازالت تقام فيه ملاه للأطفال خلال شهر رمضان بما يضفي على الأجواء الاحتفالية فيه رونقا خاصا.
* الحلفاوين: الموقع
تقع هذه البطحاء (الساحة) وسط الربض الشمالي المعروف باسم ربط باب سويقة الحلفاوين، وقد أحدث هذا الربض في أوائل القرن الحادي عشر تقريبا عندما ضاقت مدينة تونس (الجزء المركزي) عن سكانها، فتم الالتجاء إلى تعمير الربضين الشمالي والجنوبي بغاية بناء مساكن ومنشآت حضرية، وخلافا لما هو موجود داخل المدينة من قلة الساحات العمومية وضيقها (مثل بطحاء رمضان باي.. بطحاء القصر) فقد تمت المحافظة على الساحات الكبرى (مثل ساحة رحبة الغنم وساحة المركاض بالربض الجنوبي ورحبة سيدي الجبالي وسيدي شيحة وساحة الحلفاوين وساحة القلالين بالربض الشمالي).
* أصل التسمية
تستمد بطحاء الحلفاوين اسمها من باعة الحلفاء الذين كانوا وإلى بداية القرن التاسع عشر ينتصبون لبيع الحلفاء بها وهذه المادة الأولية كانت تحول في مجموعة من الدكاكين إلى منتجات صالحة للاستعمال اليومي مثل الشوامي والقفاف والحبال وغيرها، وقد ظهر بعد ذلك أي حوالي القرن الخامس عشر سوق غير بعيد عن هذه البطحاء يعرف بسوق التبانين وهو كما يدل عليه اسمه خاص ببيع التبن الذي يستعمل لحشو البرادع المصنوعة من الحلفاء والخاصة بالدواب ولا يزال المسجد الواقع في مدخل نهج باب سعدون يحمل اسم مسجد البرادعيّة.
* التاريخ
أخذت هذه البطحاء قيمة معتبرة خاصة في الفترة الحسينية، إذ أن الكثير من أعيان الدولة إنتصبوا بها، من ذلك الوزير أبو المحاسن يوسف خوجة صاحب الطابع الذي أحدث في البطحاء إلى جانب جامعه الحافل البديع والمدرستين الملحقتين به والميضاء والحمام والفندق سوقا وعلوّا خاصّا بسكناه، كما بنى الوزير ابن عياد قصرا غير بعيد من هذه البطحاء (مدرسة نهج الزاوية البكرية) بينما يحتل قصر الوزير الأكبر مصطفى خزندار وزوجته الأميرة كلثوم بنت مصطفى باشا باي مكانا متميزا من البطحاء (قصر المسرح اليوم)، وقد أضفى ذلك قيمة جديدة على الحلفاوين لما لهؤلاء من مكانة ووجاهة في الدولة.
* ثراء إجتماعي فريد
أمّا النّسيج الإجتماعي للحلفاوين فقد كان بدوره متنوّعا بفضل روح التّسامح الّتي كانت ترفرف على مختلف شرائحه. ففي حمّام الرّميمي أقام الأندلسيّون وفي باب الخضراء
أقامت الجالية الإيطاليّة كما وجدت الجالية المالطيّة خلف «البيقة» وأقليّة من الغجر من لاجئي الحرب الأهليّة الإسبانيّة.
هذا وضمّت الحلفاوين أبناء تونس في مختلف الجهات الّذين جاؤوا في البداية للتعلّم أو للرّزق ثمّ إستقرّوا فيها.
وهذا ما جعل لبطحاء الحلفاوين دورا متميزا في الذاكرة الشعبية التونسية، ولأهميتها ستلقب البطحاء بصُرّة البلاد وستكون أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين مسرحا لفنون الفرجة الحيّة، إذ إتخذ منها ممارسو الألعاب البهلوانية مركزا لهم (أولاد بن موسى من المغرب الأقصى) كما إشتهرت بها عدة مقاهي شعبية مثل قهوة الغرابة وقهوة الحاج عابد وقهوة العنق وقهوة سيدي عمارة وقهوة بن سلامة وقهوة الأخلفي، وقد إشتهرت هذه الأماكن بالفداوي الّذي كان يروي الحكايا والخرافات والسّير الشعبية.
* مهد الثّقافة الشّعبيّة
ولكلّ من شهد هذا المكان خلال تلك الفترة ذكريات لا تنسى ورائحة تعبق بسحر شهر رمضان ورونق لياليه وسهراته الفنيّة المكوّنة للوحة فنيّة مشكّلة من كلّ أنواع الفنون الحيّة التّرفيهيّة والموجّهة لكافة الطّبقات والأعمار، حيث مرّ من الحلفاوين مسرح الظلّ (الكاركوز) ومسرح الدّمى (إسماعيل باشا) وصندوق عجب ثمّ السّينما. ولعلّ أبرز ما يميّز هذا المزيج الفنّي في ليالي رمضان، (الكافي شانطة) مقاهي الغناء والرّقص فضلا على سهرات الإنشاد الدّيني بأصوات الخوجات العذبة وبمشاركة شخصيّات فنيّة فذّة وطريفة من طينة السيّد شطّا وأمين حسنين.
فكانت بذلك أنهج الحلفاوين إلى بطحاء باب سويقة مسرحا لأجيال من الفنانين والفنّانات كان الغناء لديهم رسالة لتثبيت الهويّة التّونسيّة كفتحية خيري وشافية رشدي، كما احتضنت بدايات العديد من الأصوات التونسية على غرار سيدي علي الرياحي وصليحة و لهادي الجويني وكذلك إبن الحلفاوين الألمعيّ الفنّان الفكاهي صالح الخميسي. ولا يمكن بحال أن ننسى نهج القنطرة العريق، نهج الأجواق الموسيقيّة المتكوّنة من فنّانين مكفوفين.
وتتميز بطحاء الحلفاوين بجملة من الوجوه التي أثرت في تاريخها المعاصر مثل المرحومين سيدي علي بن الخوجة إمام جامع صاحب الطابع والحاج الفتني أمين الحمامجية وأولاد الجيّد حمّودة معالي والدكتور أحمد بن ميلاد وأحمد بن فريجة وعائلة التمار وعائلة زبير والهادي التركي والمنجي سليم وغيرهم كثير من القياديين والشّخصيّات الطّريفة من جماعة تحت السّور.
ولا ننسى أيضا في هذا الخصوص مطابع الصّحف في بداية نشأتها، حيث كانت مقرّاتها في المربّع المتّقد حيويّة والمعروف بالمربّع باب سويقة، فأعلام الصّحافة الهزليّة التّونسيّة كانوا هناك كمحمد بن فضيلة صاحب جريدة «الوطن» والصحفييين بيرم التّونسي وحسين الجزيري .
دنـيـا الـعـرب . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . الجمعة 28-08-2009