" وكان دور الأم تجهيزالاكل مع أذان الظهر وحمله على رأسها على الصينيه الالمونيوم الكبيره بعد أن تضعلفافة من القش يسمونها الحوايه على رأسها , وفى يدها الاخرى تحمل قلة الماء الباردبينما يجر طرفجلبابها إبنها الصغير من الخلفذاهبا معها إلى القاعه ",
هذا المقطع التصويري ، يتعاملُ مع حاسّةِ " البَصَر " عند القاريء ، و هي لقطة غاية في الإبداع ، و تـُحَقق " الأُلفة " التي تحدثتُ عنها آنِفاً ، و تـُجَسِّدُ الرؤية التي تثري خيال المتلقي ، و تستعيرُ من الفن التشكيلي بعض عناصِرِه ،،
و نلاحظ مفردات التجسيد ، و تـَوَزُّعِها على مشهدِ " الأمّ "
المُتـَحَرِّك :
( الصينية الألومنيوم / الحَواية المصنوعة من القش / القـُلـّة / طرف جلبابها المشدودُ بكفِّ ابنِها الصغير ) ...
ـ هناك عنصرٌ " من الأهميةِ بمكان " ، و هو : الرموز " المشتركة " بينَ الكاتب و القاريء ،،
و مثلاً ،، حين يُسَمّى التـُّرَبي ب " أبو العينين " ، فإن إدراك ، ثم وجدان القاريء" المُستقبـِل الأساسي و المستهدَف " ، يقبلانِ بالإسم و يألفانه ، فالإسم هنا " دالـَّة إحالة لِما يُسَمّى بالوَعىّ الجَمْعي" ، و " أبو العينين " لسببٍ أو آخـَر ، يُوحِي بذاتٍ لها علاقة ٌ " ما " بالعقيدة أو المشيَخة ،،
ثم لنتأمل هذا الرمز :
" كانوا فى سن الصبايصنعون عرائس من الطين يضعونها فى فاخورة النار حتى تنضج "
هذا الرمز " عرائس الطين " ، واضح الدلالة ، و يشير دون مواربةٍ ، إلى الحلم الذي يعتري " نسيم و وردة " ، و إلى بزوغِ " علاقةِ حُبٍ " بسيطة و نقيّة بينهما ،،
و بدونِ أن أُحَمِّلَ الرمزَ ، أكثرَ مما يحتمِل ، فإنَ " خِبرةَ القاريء التلقائيّة " ، تحيلـُهُ إلى " الإنسان الذي خـُلِقَ مِن سُلالةٍ من طين ،، و الطينُ خليطٌ مِن ترابٍ و ماء ،،
ـ يجدرُ ملاحظة " التناقض " المُوحي ، و المُفارقةِ " الدالـَّة " بين القاعة ، التي تبدو بين المقابرِ كمقبرة " هنا ، يُلقي الموتُ بظلالِهِ " ، و بين ما يحدث داخل القاعةِ مِن " خـَلق " للطين ! و نـُمُوٍ لنبتةِ الحُب بين نسيم و وردة ، و صَخب الحياة " على بؤسِها " الذي يعتري الأولاد ، بحضور الطعام الذي تحمله الأم .. إنها " مُفارقة " بين الموت و الحياة ، تجعلُ لِبـِنْيَةِ الحبكةِ الدراميّةِ ، بُعداً فلسفياً و تأمُلِيّاً ..
هذه مُفارقة ٌ " مِفصَلِيّة " نـَشَأَت داخل العَمَل ، و كانت أبعد ما تكون عن " القـَصّدِيّة "
ـ عنصر النجاح الأبرز في القصة القصيرة ، يكمنُ في " الأُلفةِ " التي تنشأُ بين القاريءِ و العَمَل ،، و لو أشرنا إلى " عظماء " كُتـَّاب القصة القصيرة ، فسنجد أن نجاحَهم ، هو نجاحُ القدرةِ على
إشاعةِ و بسطِ تلك الأُلفةِ في المُتـَلقـِّي ،، و قوامها : الصِّدقُ الفني ، و المضمون الإنساني ، و الصياغة المُحكمة ، و جميعها عناصِرٌ تـُحَفـِّزُ تلك الأُلفة َ أو ذلك الإنصهار ،، و قصتنا هذه ، نجحت في هذا العنصر بامتياز
ـ القصة القصيرة عموماً تشبه البرق الخاطف ، و تتركُ انطباعاً أقوى و أكثر امتداداً من زمن الحَدث نفسه ، فالقصة القصيرة " لطبيعتها الكثيفةِ و لغتِها الشديدةِ الإختزال و الدلالة " ، أصعَب " في آليات عناصرها " من الرواية ..
و القصة التي بين أيدينا ، " في نصفِها الثاني " لم تسلم مما يعتري طبيعة الكتابة الروائيّة ،، فبدا الإسهابُ في بعض لقطاتِها ، و ترهلت " قماشة " الحَكيّ ، و تـَمَهَّدَ فيها لأحداثٍ قابلةٍ للتشعَّبِ و التأسيسِ عليها ،، فبدا الأمرُ كمن يضعُ أساساً لبرجٍ عال ، ثم يكتفي ببناء طابقٍ أو طابقين ، و خاصة منذ زواج نسيم بوردة ،،
كما انطوى العَمَلُ في " أُحادِيّةِ " وردة ، و بدأ " المكانُ و الفخار و الشخوص " في التلاشي ، لصالح " وَردة " و معاناتِها بعد حَملِها " للمسئوليّةِ و الجَنين " ..
ـ هذه القصّة ، تحتملُ أن يُفرَدَ لها صفحاتٌ طويلة ٌ من الرؤى و التحليل ،، و تمنيتُ أن أتناوَلَ مقاطعها و أحداثها المُتنامِيةِ بالتحليل الوافي ، و ربما لي عودة فيما بعد "
ـ للقصةِ القصيرة كَفـنٍ من فنون الأدب ، مكوناتها المتعددة ،، و أودُ أن أشيرَ إلى أن العَمَلَ " حين يكونُ ثـَرِيّاً " ، فإن الناقِدَ يتناولُ مُكَوِّناً واحِداً مِن مُكوناتِه " السَّرد / الشخوص / الحَدَث / الحِوار ـ إن وُجـِد ـ / المكان / الزمان / الحَبكة / الرموز و الدلالات إلخ "،
و لا يتناول الناقدُ كل المُكوِّنات ، إلا في حال عَمَل دِراسة وافية ، و ربما امتدَ الأمرُ إلى تأليف عشرات الكتب النقدية ، لتتناوَلَ قصة قصيرة واحدة ! " كما حدثَ مثلاً مع ـ المِعطـَف ـ لجوجول "
ـ هناك بعض الإتجاهات النقدية ، تربِطُ بين خبرة الكاتب ، و ما يُكتب ،، و أخرى تقطعُ العلاقة بين ذات المؤلف و إبداعاتِه ،، و تطرف البعض في تسميتِها ، فسميت " موت المؤلف " ،
و للتوضيح ، فالاتجاه الأول مثلاً ، يستطيع أن يربط بين الواقع المُعاش ، و الأحداث و المكابدات التي لاقاها بيرم التونسي ، و بين كلِّ حرفٍ كتبَه شِعراً .. أو بين عاهةِ أبى العلاء المعري " العَمى " ، و منحَى قصائده المتشائِمةِ و العَدَميّة ، أو بين كبرياءِ و اعتزاز المتنبي بعبقريته ، و صياغة قصائِده ،، و لستُ هُنا في مَعرِضِ تطبيق واحدةٍ من الإتجاهَيُنِ على هذا العمل " الحياة بين زوايا الصَمت " ،، و لكنني اندهشتُ لخبرة الكاتبةِ في طبيعة عمل الفواخرية ، و مراحل تحضير الطين و تخميره .. إلخ
ـ يبدو أن هذه القصة ، قد اقتبسها أحدهم كامِلة ً " منذ ثلاثة أيّامٍ فقط " و عَرَضها في أحد المنتديات ، ناسِباً إيّاها لنفسِه " بعد نشرِها هنا في المنتدى " ، و هو أمرٌ ـ و إن كان غير أخلاقي ، و سَبَق أن حَدَثَ مع غيري و معي مثله ، إلا أنه يؤكدُ على أن العَمَل جذبَ البعض ، لدرجةِ التجرؤِ على نقلِهِ بحذافيره
ـ و أخيراً ،، فالتقدم الملحوظ المُدهِش للقاصّة " أختنا الفاضلة مدام ناهد " ، بمثابة قفزةٍ واسعةٍ في فضاءِ الإبداع ، و العَمَلُ كادَ يتم شروطه الإبداعية كاملة ً ، و لا نكاد نلحظ أخطاء ً لغوية تستحق الاستيقاف ،،