الفنان أحمد القلعي -عود - من تونس 5 أكتوبر 1936- 12 أكتوبر 2008

[عثمان دلباني]

أحمد القلعي هو أخر حبة في عنقود والده-عمنا علالة القلعي - من زوجته الأولى رحمهم الله أجمعين -
وبعيدا عن أجواء العزاء سأروي لكم بعض الأحداث والطرائف التي حصلت في فترة رفقتنا - وهي بالطبع مرحلة من مسيرته الفنية أردت تخليدها ها هنا -
أحمد هو أحد أساتذتي في تعلم العزف على العود - ولكني أخذت عنه بطريق السمع والبصر لأنه يتضايق من تعليم أي كان في ذلك الوقت لمرض به ولضيق وقته -
جاءني يوما وهو حزين ليخبرني بأنه نسي عوده في سيارة أجرة ولا يدري بماذا سيتمرن مع فرقة المنار التي كان يديرها أخوه رضا رحمة الله عليه أو فرقة الإذاعة التونسية الوطنية - فدعوته لمصاحبتي إلى بيتي- وهناك سلمته عودي ونسخة من مفتاح البيت ليرجع العود متى يفرغ من تمارينه -
وكانت تلك فرصة ذهبية لقضاء أمسيات طرب معه صحبة زمرة من الأحباب وزملاء الدراسة إذ أنه لا يرجع العود إلا في العشية حينما نكون مجتمعين لمراجعة ما درسناه خلال الأيام الفارطة-
وشرابه المفضل عندما يشرع في العزف والغناء هو الشاي الأحمر مخلوطا بالبندق لا يستلذه إلا من يد ابن بلدي وزميلي في الدراسة الذي كنا نقطن معا بنفس البيت -
وكان لا يغني لغير محمد عبد الوهاب أو لعبد الحليم حافظ أحيانا - ولكنه يتابع بعزفه أي غناء من أي كان لأنه يسمع اللحن مرة واحدة فيستوعبه استيعابا تاما بأدق جزئياته - وهذا ما جعله يكتفي ويستغني عن دراسة الترقيم الموسيقي( النوتة الموسيقية ).
وهو لا يعزف إلا على عود ذي الخمسة أوتار- لإظهار مهارته وسرعة تنقله إلى جواب جواب مقام الجهاركاه -
ودوما ما يقول لي:سوف يأتي يوم تحسبني فيه أعزف على قيتار لا على عود .
وللإفادة فإن محمد القصبجي عازف العود في فرقة أم كلثوم كان يعزف على أربعة أنواع من الأعواد منها ما هو بستة أوتار ومنها ما هو بسبعة......

بقلم امحمد شعبان

[جرامافون]

ما احلي ذكريات شيخنا الجليل والجميل
العظيم
امحمد شعبان
وما احلي كرم استاذنا عثمان دلباني
المعطاء الذي فضل نشر هذه الذكريات والمعلومات
الهامة عن احد كبار الفنانيين في الوطن العربي
وهو كرم كبير وحب للزملاء الكرام
(معلهش يا استاذ عثمان ارجو الا اكون قد قاطعت هذا الموضوع القيم ولكن اردت ان اكتب ما يجيش به صدري)
ولك كل الحق طبعا في حذفها
لكن هذه تحية واجبة لشيخنا الجليل ولك اخي الكريم

[عثمان دلباني]

توجهت يوما لمقابلته بمقهى الإذاعة فوجدته منهمكا في قراءة عديد الصفحات من الترقيم الموسيقي-فاستغربت الأمر واستفسرته عن السبب فأفادني بأن الدكتور- صالح المهدي- مدير المعهد الموسيقي الأعلى الوحيد بتونس وقتها - دعاه قبل مدة وعرض عليه في إلحاح أن ينكبٌ ويثابر على تعلم الترقيم الموسيقي قصد المشاركة في اجتياز امتحان أخر السنة بالمعهد ويتحصل على شهادته العليا حتى يتمكن من الالتحاق به ضمن سلك المدرسين. وفعلا تحقق له ذلك وباشر في العام الموالي عمله هناك أستاذا يدرٌس آلة العود. وهذه الشهادة لا يتحصل عليها إلا من قضٌى بنجاح ثلاث سنوات بالمعهد الرشيدي ثم بعدها سنتين بالمعهد الأعلى للموسيقى-
ولا شك عندي أن الدكتور قام بهذه البادرة ليسدٌ الفراغ الكبير الحاصل بالمعهد - واعترافا لأحمد أيضا بكفاءته العالية - وحنانا من لدنه حتى لا يتركه يرتزق من الهامش- وهو عمل خيّر مشكور-
وعن بداية تعلمه العزف على آلة العود حكى لي أحمد أنها انطلقت وعمره سبع سنوات - وأن والده - عمنا علالة - والذي عرفته عن قرب حينها بحكم عمله في مصنع للحرير مقابل دكان المرحوم - عبد العزيز الجميل - الذي كان يصنع ويصلح مختلف الآلات الوترية وفي نفس الوقت يعلم مبادئ العزف والغناء بأسلوب رعواني وليس بالأسلوب العلمي الذي يرتكز أساسا على الترقيم الموسيقي - وبهذا تتلمذت عليه وتتلمذت عليه أجيال متعاقبة تخرج منهم العديدون من أشهر العازفين يتقدمهم عازف العود الأشهر الأستاذ العظيم المرحوم - علي السريتي -
وأضاف أحمد أن والده الذي هو عازف كمان كان حريصا على تعليم أبنائه العزف حتى أصبح منزله يضم فرقة كاملة تتكوٌن من عازف قانون وعازف ناي وعازف الكمان الشهير- رضا القلعي - وآخرهم أحمد عازف العود -
ويتابع أحمد بأن أسلوب والده في تعليمهم كان صارما جدا : إذ أنه يسلم أحدهم أسطوانة عليها تسجيل ما ولا يمهله أكثر من أسبوع ليعرضها عليه بآلته مطابقة للأصل وإلا فالويل له إن أخفق-

بقلم امحمد شعبان

[عثمان دلباني]

ذات صباح التقيت أحمد بدكان عزوز الجميل - كعادتنا كل يوم أحد - وفجأة دخل علينا المرحوم علي السريتي وقد جاء بعوده لإصلاحه بنفسه.إثر عملية الإصلاح اقترح على أحمد أن يعزفا معا كل على عود - لونغا تركية - واللونغا عموما سريعة العزف لا يقدر عليها إلا ذوو المهارات العالية.
وأثناء ذلك العزف المزدوج امتلأ الدكان بالزوار الذين صفقوا لهما طويلا . ولاحظ - سيدي علي- أن أحمد قد تفوٌق عليه ببعض تصرفات بارعة لفتت أنظار الحاضرين. فاقترح عليه عزف لونغا أخرى.ولكن هذه المرة أحمد على العود وسيدي علي على الكمان. فاندهشت لبراعته في العزف على هذه الآلة أيضا وكذلك الحاضرون الذين أمطروهما بالشكر والقبل. وبلغ بأحدهم-وهو شيخ- أن صاح فينا:والله يا جماعة طول عمري ما حضرت جلسة ممتعة وعجيبة كهذه.ولنا أن نفتخر ونعتزٌ بأن في تونس مثل هذين العملاقين . فادعوا لهما بكل الخير.
بعد هنيهة خرج سيدي علي وتبعه أحمد وقد أشار لي أن ألتحق به.وفي الأثناء أسرٌ إليٌ بأنه سيرافق سيدي علي إلى نزل- سان جورج - لاستقبال فرقة تركية مدعوٌة بغرض التوأمة مع إحدى الفرق التونسية وألحٌ عليٌ بالمصاحبة.ولكني غافلته وانسحبت بسبب أني غير مدعوٌ رسميا لهذا.

بقلم امحمد شعبان

[عثمان دلباني]

ومن الغد توجهت إليه بالمنزل الذي يقيم فيه مع والده وزوجته الثانية غير أمه. فهو الوحيد الذي ظلٌ بهذا المنزل لأنه عازب وله نوبات مرض يخشى عليه أبوه
منها كثيرا.
وبعد الغداء اقترحت عليه معزوفة معينة. فأنزل العود من فوق خزانة بالبيت وأراني كيف رخف أوتاره الخمسة. وأعلمني بأنه أقسم ألاٌ يعزف بالمرة على أي عود لمدة ثلاثة أيام. ثم أردف قائلا : أنت يا امحمد تعرف من أنا مع العود.ولكني بالأمس رأيت وسمعت العجب من عوٌاد الفرقة التركية الذي دوٌخني دوخة شعرت بعدها أني لا أساوي شيئا أمام العمالقة.وسوف لن أكفٌ عن الإكثار من التمارين الشاقة لأصبح قادرا على اللحاق به.
ومن الطرائف أو العجائب المعاكسة للحادثة السابقة أن صديقا له دعاه مرة لمرافقته إلى سهرة خاصة ببيت أحد من عليٌة القوم بتونس العاصمة. وهناك وجد عازف العود الشهير- فريد غصن - الذي كان وقتها قائد فرقة لوردكاش. ومن جملة ما قدٌم في هذه السهرة معزوفته الشهيرة آنذاك " رمبا فريد غصن"
وبعد أن أتمٌها همس إليه أحد الحاضرين بأن ذلك الطفل الجالس قبالته هو عازف عود ممتاز. فدعاه إليه وسلمه عوده ورغب منه أن يعزف عليه ما يشاء فلم يكن من أحمد إلا أن أعاد نفس المعزوفة -رمبا فريد غصن- ولكن بإضافات بديعة من التصرفات أذهلت فريد غصن قبل الآخرين.فاحتضنه وشكره كثيرا وطلب منه أن يلتقيه من الغد بدكان المرحوم" البشير الرصايصي" طابع الأسطوانات الوحيد بتونس في تلك الفترة. وهناك أمضى له عقدا بإهدائه جميع حقوقه لتلك المعزوفة.

بقلم امحمد شعبان

[عثمان دلباني]

سألته مرة عن أول ظهور له أمام الجمهور.فأجابني بأن ذلك حدث وعمره 12 سنة حين صاحب المطربة التونسية الشهيرة" فتحية خيري" ضمن فرقة المنار بقيادة أخيه رضا القلعي على ما أذكر.
أنا تعرفت عليه عام 1954 حينما كان عمره 19 سنة.وجدته صدفة يحتسي القهوة بمقهى وسط العاصمة تونس رفقة زميلي بالدراسة "حميٌد زين العابدين"والذي هو بدوره عازف عود وكمان رقيق. فقدٌمه إلي وأنا وقتها في عامي الأول من تعلٌمي العزف على آلة العود. فتشبثت به ولم نفترق من يومها إلا عندما تمٌ تعييني مدرسا بالجنوب التونسي عام 1956.
ولكني أثناء العطل كنت أزور العاصمة خصيصا للاتصال به. وعامها اشتريت أول مسجل ودعوته إلى قعدة خاصة في بيت زميل لي بالعاصمة: فكان أحمد يعزف ما أقترح عليه وأنا أهتم بالتسجيل والزميل يسقينا الشاي الأحمر بالبندق.
وإني إلى الآن لا أزال أحتفظ بكل تلك التساجيل كاملة وهي الوحيدة من مئات التساجيل التي اندثرت.أو محوتها لضآلة قيمتها.
هذا ما عدا ما سجلته له في جلسات أخرى خاصة رفعت منها فقط معزوفة" فكروني" لمحمد عبد الوهاب بهذا المنتدى.
لكن حتى العطل لم نعد نلتقي فيها بالأخص لما تزوجت وتزوج هو بعدي فتعاظمت مشاغلنا من بداية الستينات حتى أصبحنا لا نتقابل إلا صدفة وفي جلسة قصيرة أو وقفة عابرة.

بقلم امحمد شعبان

[عثمان دلباني]

وفي نفس السنة:1956 اتصلت بأبيه يوما للموافقة على سفر أحمد لقضاء يومين في ضيافتي ببلدي الذي يبعد عن العاصمة70كيلو.فلم يمانع وقال لي: أقسم بالله العظيم أني لم أسلٌمه بيد أحد قبلك وأعرف أنه عندك بمثابة الأخ . ولكن لإعلامك فإن طبيبه الخاص حرٌم عليه السهر وتعاطي الكحوليات. وإني لا أسمح له بالسهر إلا ليلة واحدة في السنة بمناسبة إحياء ذكرى ميلاد الرئيس الحبيب بورقيبة.فكن حريصا على صحته والسلام.
في يومها هاتفت صديقنا"حميٌد زين العابدين" الذي عرٌفني به كما أسلفت. والذي هو عازف عود وكمان أيضا وطلبت منه أن يحلٌ عندي ومعه كمانه لمناسبة سعيدة وها هو أحمد في صحبتي.
وفي اليوم الثاني من هذه الزيارة دعانا صهري لبستانه حيث قضينا عشية ممتعة تحت ظلال أشجار الزهر والليمون.صحبة ثلة من الأحباب والأقارب. وأثناء الزهو والطرب شهدنا من أحمد وحميٌد العجب:فقد عزفا معا -السماعي-المشهور للمرحوم إبراهيم العريان على عود واحد. فأحمد يحرٌك الريشة وحميٌد الأوتار. ثم أعادا السماعي ثانية حميٌد يحرك الريشة وأحمد يحرك الأوتار. والغريب أن التوافق بينهما كان بديعا للغاية.ولو سمعناهما فقط لحسبناهما عازفا واحدا.
هذه يا إخواني بعض ذكرياتي مع الفنان أحمد القلعي سردتها بهذه المناسبة الأليمة لأنها مرحلة من مراحل مسيرته الفنية الهامة لا يعرفها إلا القليلون ممن عاشروه وعاشرهم بمحبة خالصة.
رحم الله هذا الفنان الطيب الكريم الأصيل وأغدق عليه من رحمته وغفرانه.ورزقنا جميعا الصبر والسلوان بفقدانه. إنه سميع مجيب.
والحمد لله رب العالمين.وإنا لله وإنا إليه راجعون.

بقلم امحمد شعبان