حوار مع عبده داغر من صحيفة «الشرق الأوسط»
في رمضان الماضي كرمته جامعةجنيف ومنحته دبلومة فخرية. وحين كرمه مهرجان الموسيقى العربية بالقاهرة في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي رفض التكريم برغم أنه يعد الأب الروحي للمهرجان. وحالياًيستعد عازف الكمان العالمي عبده داغر للسفر إلى الولايات المتحدة الأميركية، حيثيتم تكريمه هناك ضمن احتفالية بموسيقاه، كما يكرمه مهرجان للموسيقى العربية يقام فيفاس بالمغرب في شهر مايو (أيار) المقبل. في هذا الحوار الذي أجرته «الشرق الأوسط»: مع عبده داغر، في منزلهالبسيط بحي حدائق القبة بالقاهرة، تحدث بصراحة عن «جراح» الموسيقى العربية، والعللوالأمراض التي تعتريها.. قال داغر وهو يتحسس أنامله الذهبية على أوتار الكمان: «أناابن الحارة المصرية، تخرجت في مدرسة القرآن الكريم، ومثل أسلافي العظام تعلمت منهمحاسن الصوت ومخارج الإيقاع، وجمال الموسيقى. وأضاف داغر بشجن: «بلدي بتوجعني، ومنالعيب أن أحظى بكل هذا التكريم من العالم، ولا ألقى فيه التكريم اللائق».. تملأموسيقى داغر المكان، وتحوله إلى عباءة صوفية، تشعر في ظلالها بالسمو والبهجة،وبحالة من «الفضفضة» الحميمة بينه وبين آلته، وكأنهما صديقان، يتجدد بينهما ود وعشققديم. كان الموعد بعد صلاة العشاء، انتظرته حتى فرغ من صلاته التي يحرص على أدائهافي المسجد. وفي البداية سألته:
* قبلت تكريم جامعة جنيف لك ورفضت تكريم بلدك، لماذا؟
- لأن بلدي «بتوجعني»،التكريم جاء متأخراً جداً، كيف لا تتم دعوتي إلى مهرجان الموسيقى العربية فيالأعوام السابقة رغم أني الأب الروحي لهذا المهرجان؟ وعندما يأتي ضيوف من الخارجيتساءلون: لماذا لم يشارك عبده داغر في مهرجان للموسيقى العربية؟ هذا كلام سمعتهبأذني كثيراً، هم مثل القاتل الذي يمشي في جنازة القتيل وأنا أرفض تكريم المتظاهرينبما ليس في قلوبهم، لم أشارك في مهرجان الموسيقى إلا أيام رئاسة ناصر الأنصاريللأوبرا الذي أصر وأمر بمشاركتي على كُره منهم. أما تكريم الخارج لي فهو عزائي لظلمالمسؤولين عن الثقافة داخل وطني».
(نهض داغر وأتى بكتب بالإنجليزية والفرنسية والألمانية أصدرتها جامعاتبالخارج عنه مثل جامعة فرجينيا وغيرها. في أحد الكتب المكتوبة باللغة الألمانيةوتدرّسه إحدى الجامعات تتجاور صورته مع صور عبد الوهاب والسنباطي والموجي، وفيالصفحة المقابلة تحتل صورة أم كلثوم الصفحة بأكملها).
* يقول البعض إنك رفضتالتكريم «للشوشرة» على نجاح المهرجان!
- بالعكس أنا يهمني نجاح المهرجان فهو نجاح لي شخصياً، أنا من فكرت فيفرقة الموسيقى العربية أيام الوزير ثروت عكاشة، وكان يشرف عليها بنفسه، ثم بعد ذلككنت مع عبد الحليم نويرة الذي كان يستشيرني في كل صغيرة وكبيرة، أنا أول من يخصهالمهرجان، لذا أحزن كثيراً عندما أسمع النشاز الذي يقدم أثناء المهرجان، خصوصاً منمصر، فلا يصح أن نقدم نشازاً أمام الفرق الأخرى في مهرجان نحن مسؤولون عنه.
* وما سبب هذا النشاز؟
- السرعة وعدم الإتقان،فالمهم التجميع وسلق البيض، لابد من أن تأخذ البروفات حقها ووقتها، وهذا أقل ماتستحقه مصر. وأتصور أن القائمين علي المهرجان يكرهون الموسيقى العربية أصلا، فعندماتخرج موسيقانا أمام العالم نشازاً، إذن نحن جهلاء.
* أعرف أن لك تمثالا في حديقة الخالدين بألمانيا، بجوارتماثيل لبتهوفن وموتسارت وباخ وهندل، ما حكاية التمثال؟
ـ أول جريدة أوروبية كتبتعني قالت «موسيقار من أمة القرآن تتلبسه أرواح الموسيقيين العظام».. الغربيون رغمكل شيء يقدرون العمل الجيد وهذا هو المقياس عندهم، لكن في مصر الموضوع مصالح وشلل،وكلما جئت لعمل شيء لنهضة الموسيقى في مصر تتم محاربتي. المؤسف أن الموسيقيينالمتخرجين من عندي عندما يذهبون للأوبرا «ينشّزون» لأن القائد ليس عنده أذنموسيقية. تصوري أن المكان الوحيد (معهد الموسيقى العربية) الذي كان الموسيقيونيتنفسون فيه تم غلقه وتحويله إلى متحف ولا يجد الموسيقيون غير المقهى.
* لماذا رفضت التكريم فيأميركا هذا العام ثم رجعت وقبلته؟
- رفضت بسبب جورج بوش وما تفعله إدارته من قتل للمسلمين وتخريب العالم،لكن بعدما قالوا لي إنه لن يكون موجوداً وقتها، قبلت. (أثناء الحوار طرق أحد الزوارالباب، وكان فرنسياً وقال إنه تلميذ عبده داغر وجاء خصيصاً من أجله ثم أثنى عليهوهنا ألحّ سؤال:
* هلالأذن الغربية تستطيع سماع الموسيقى الشرقية؟
- قال داغر: الموسيقى في كل الكرة الأرضية لغة واحدة تتكونمن سبعة أحرف، والغرب يفهمون قيمة العزف الجيد أكثر منا بكثير. سأحكي لكِ عن موقفيوضح ذلك، آخر مرة كنت فيها بسويسرا وكنت مدعوّاً من الجامعة هناك، كنت أعزف فيالشقة التي كنت أقيم بها فسمع العزف أحد الجيران وكان قسيساً، فطرق بابي وشكرنيكثيراً علي عزفي وأهداني «كمان» نادراً وأثرياً يساوي ثروة وهو لا يعرفني ولا أعرفهلمجرد أنه أعجب بالعزف.
* هل صحيح أن العازف العالمي الألماني «إيهودي منون» جاء خصيصاً لك في القاهرة بعد أنسمع عزفك. ما الحكاية؟
- أشرف عصام سوليست الرق المعروف تولى الإجابة قائلا: جاء أحد المخرجين الألمان لعملفيلم عن عبده داغر، كيف يعزف وطريقة عيشه عموماً، وشارك به في مسابقة للأفلامالتسجيلية هناك، وشاهد الفيلم المستشار هيلموت كول وصديقه المقرب العازف إيهوديمنون، فقال إيهودي لابد أن أسمع داغر «لايف» وجاء له خصيصاً.
* من يطربك من المطربينالمصريين الآن؟
- تحفظداغر وقال «لن أذكر أسماء، لكن هناك الكثير من الأصوات الجميلة، لكن ينقصهم التدريبوالمعرفة والثقافة الموسيقية، لابد أن يتعلموا علم الأصوات وكيف تقال النغمة وسلمهاالموسيقي.. ولابد أن يعرف المطربون أن الموسيقى ثلاثة أرباع العمل، ولو كان الصوتجميلا، حتى الصوت الضعيف «تشيله» الموسيقى الجيدة هي المحرك لكل شيء في الأغنية. عبد الحليم حافظ ضُرب بالطماطم لأن فرقته كانت ضعيفة، لكن عندما تنبه وضع أفضلموسيقيين في فرقته، وهذا الكلام قلته له عندما كان عندنا في طنطا يعمل مدرس أناشيدوجاء ليصلح أحد الأوتار لعوده، ولم يكن هناك مكان لتصليح الآلات إلا محل والدي وكانالمكان مجلساً للموسيقى مثلما هو الآن، فقال عبد الحليم: ممكن أجلس معكم وغنى أغنيةلمحمد قنديل «يا رايحين الغورية» فقلت له صوتك جميل، لكن لابد من أن تحوطك فرقةقوية، فاهتم بعد ذلك جداً بمستوى العازفين وصنع نجاحه الجميل. وللأسف لا يوجد فيمصر مكان لتعليم الموسيقى والغناء للهواة، كلها محاولات فردية بمقابل مادي لا يقدرعليه الكثيرون، لذا أنا أفتح بيتي لكل محب لتعلم الموسيقى والغناء بلا بمقابلوبالمجان. لذلك يبارك لي ربنا دائماً، فلولا العطاء الدائم ما استطعت أن أمسكبالكمان حتى الآن، كل ذلك لأجل عيون بلدي.
* برأيك كيف يتم تثقيف الناس موسيقياً وتعويدهم علىالموسيقى الجيدة؟
- الإذاعة والتلفزيون اختفى دورهما والبرامج الموسيقية القديمة هي ما نسمعها حتىالآن، ولا يوجد جديد، هذه مهمة المسؤولين في المقام الأول. ثم لابد من تخصيص ركن فيإذاعات الوطن العربي لمقرئي القرآن القدماء فهؤلاء مدارس. ولا بد من رجوع دورالمدرسة والجامعة والمصنع والشركة، كان زمان لكل منهم فرقة تجوِّد وتحسِّن، كل هذااختفى الآن.
* بمناسبةطنطا لماذا خرج الكثيرون من طنطا: محمد فوزي، هدى سلطان، الشيخ النقشبندي، عبدهداغر، وغيرهم؟
- عبدهالحمولي كان من طنطا وكذلك عبد الحي حلمي وابنه، وأحد هذه الأسباب أن جدي فتح محلاومعهداً لتعليم الموسيقى، كان ذلك حوالي عام 1870 تقريباً وكان جدي يلعب العود،وأتى بوالد أحمد الحفناوي وزوّجه لإحدى قريباتنا، ومحمد فوزي كان جارنا.. لكنعموماً طنطا كانت مشهورة بالفنانين، لذا ذاع ونجح معهد جدي ومن بعده والدي. وجدي هومن أتى بالشيخ أبو العلا لأم كلثوم، وكان هذا المكان يقصده أيضاً الفنانون من بلادبجوار طنطا، فرياض السنباطي كان يأتي من بلد جوارنا اسمها «سنباط» لذلك سمّيالسنباطي، فهذا ليس اسمه بل لقبه. الشيخ مصطفى إسماعيل من جوار طنطا، الشيخ الحصريمن طنطا، كذلك الشيخ عبد الفتاح الشعشاعي، وهو ابن خالة والدي..
__________________
لا يحصي فضلك ناثر أو كاتب * * * عددا ولا الشعراء يا غوث الندى