قصيدة « كُفّي المَلاَمَ وعلّليني »
للشاعر الكويتي : فهد صالح العسكر
(1917 - 1951م )
اتهم بالزندقة والإلحاد والكفر
لم يكن يعطف عليه سوى أمه
وقد أصيب بالعمى
ومات وحيداً في حجرة صغيرة في سوق واقف
تبرأ منه الأهل والأصحاب وأحرقوا قصائده
___________
يبدأ بالتوسل إلى أمه ألا تعاقبه وتلومه:
كُفّي الملامَ وعلّليني
فالشك أوْدى باليَقينِ
وتناهبَتْ كَبدي الشُّجُونُ
فمنْ مُجيري مِنْ شُجوني؟
وأمَضَّني الدَّاءُ العَيَاءٌ
فمنْ مُغيثي؟ مَنْ مُعيني؟
أينَ التي خُلقَتْ لِتَهْواني
وبَاتَتْ تجْتويني؟
أُماهُ قدْ غلبَ الأسى
كُفِّي المَلامَ وعَلِّليني
اللّهُ يا أماهُ، في
ترَفَّقي، لا تَعْذُليني
أَرْهقْتِ رُوحي بالعِتابِ
فَأَمْسِكيهِ أوْ ذَريني
أنا شاعِرٌ، أنا بائِسٌ
أنا مُسْتَهامٌ، فاعْذُريني
أنا من حَنيني في جَحيمٍ
آه مِنْ حَرّ الحَنين
أنا تائِهٌ في غَيْهَبِ
شَبحُ الرَّدى فيهِ قريني
ضاقَتْ بي الدُّنْيا دَعِيني
أَنْدُبٌ الماضي، دَعيني
وأنا السَّجينُ بِعُقْرِ داري
فاسْمَعِي شَكْوى السَّجينِ
بِهُزالِ جِسْمي باصْفراري
بالتَّجَعّدِ بالغُضُونِ
يقول يعاتب الوطن عتاباً مفرطاً بالحزن والأسى:
وَطَني وَمَا أقسى الحَياةَ
بِهِ عَلى الحُرِّ الأمِينِ
وأَلذُّ بينَ رُبُوعِهِ
مِنْ عيشَتِي كَأْسُ المنونِ
قَدْ كُنْتَ فِرْدَوْسَ الدَّخيلِ
وَجَنّةَ النَذْلِ الخَئونِ
لَهفي على الأحْرار فيك
وَهْم بأعْماقِ السُّجون
ودُمُوعُهُمْ مُهَجٌ وأَكْبادٌ
تَرَقْرقُ في العُيونِ
ما راعَ مِثْلُ اللَّيْثِ يُؤْسَر
وابْنُ آوي في العَرينِ
والبُلْبُلُ الغرّيدُ يَهْوي
والغُرابُ على الغُصُونِ
وطني وأَدْتُ بكَ الشَّبابَ
وكُلَّ ما مَلَكَتْ يميني
وقَبَرْتُ فيك مَواهِبي
واسْتَنْزَفَتْ غُلَلي شُؤوني
ودَفَنْتُ شتَّى الذِّكْرياتِ
بِغَوْرِ خافِقِيَ الطَّعِينِ
وكسَرتُ كأْسِيَ بعدَما
ذابَتْ بأَحْشائي لُحُوني
وسَكَبْتُها شِعْراً رَثَيتُ
به مُنى الروح الحَزينِ
وَطَوَيْتُها صُحُفاً ضنَنْتُ بِها
وَمَا أنا بالضَّنينِ
ورَجِعْتُ صِفْرَ الكَفِّ منْظوياً على سرٍ دفينِ
فَلأنت يا وطني المدينُ
ومَا هزارُك بالمدينِ
+++++++++++++
وطَني، وَمَا سَاءَتْ بِغيْرِ بَنِيكَ
يا وطني ظُنُوني
أنا لمْ أجدْ فيهمْ خَديناً
آهٍ مَن لي بالخدينِ
وَا ضَيْعةَ الأملِ الشّريدِ
وخَيْبَةَ القَلْبِ الحَنونِ
رَقَصُوا على نَوحي وإعْوالي
وأَطْرَبَهمْ أنِيني
وتَحَاملُوا ظُلْماً
وعُدْواناً عَليَّ وأَرْهَقوني
فَعرفْتُهُمْ، وَنَبَذْتُهُمْ
لكنَّهُمْ لم يَعْرِفُوني
وهُناكَ مِنْهُمْ مَعْشَرٌ
أُفٍّ لَهُمْ، كَمْ ضَايَقُوني
هذا رَماني بالشُّذُوذِ
وذا رَماني بالجنونِ
وهناكَ مِنْهم مَن رَماني
بالخَلاعَةِ والمٌجونِ
وتَطاوَلَ المُتَعصّبون
وما كَفَرْتُ، وكَفّروني
وأَنا الأبِيُّ النَّفْسِ
ذُو الوِجْدانِ والشَّرَفِ المَصُونِ
اللّهُ يَشْهَدُ لي ومَا
أنا بالذَّلِيلِ المُسْتَكِينِ
لا درَّ درَّهُمُ فَلوْ
حُزْتُ النُّضارَ لألَّهُوني
أوْ بِعْتُ وِجْداني بأسْواقِ
النِّفاقِ لأَكْرَمٌوني
أوْ رُحْتُ أَحْرِقُ في الدَّواوِينِ
البُخورَ لأَنْصَفُوني
فَعَرِفْتُ ذَنْبي، أنّ كَبْشي
ليسَ بالكَبْشِ السَّمِينِ
يا قَوْمُ كُفّوا، دينُكُمْ
لَكُمُ، وَلي يَا قَوْمُ ديني
وهنا يتوجه إلى (ليلى) الرمز الشعري لمن يحب:
ليْلايَ، يا حُلْمَ الفُؤادِ الحُلْوَ
يا دُنيا الفُنونِ
يا ربَّةَ الشَّرَفِ الرفيعِ البِكْرِ
والخُلُقِ الرَّصينِ
يا خمْرَةَ القَلْبِ الشَّجٍِي
وحُجَّةَ العَقْلِ الرَّزينِ
صُنْتُ العُهُودَ وَلَمْ أحِدْ
عَنْها، فيا ليلايَ صُوني
عُودي لِقَيْسِكِ وشَاطِريهِ
الحبَّ بالدَّمْعِ السَّخِينِ
عُودي إليه، واسْمَعِي
نَجْوَاهُ في ظِلِّ السُّكونِ
فَهُوَ الذي لِهَواكِ ضَحّى
بالرَّخِيصِ وبالثّمِينِ
ليلى تعالي زَوِّديني
قَبْل المَماتِ وَوَدِّعيني
ليْلايَ لا تَتَمنَعِي
رُحْماكِ بي لا تخْذُليني
لَيْلَى، تعالي واسْمَعي
وَحيَ الضَّمِيرِ وحَدِّثيني
ودَعِي العِتَابَ إذا الْتَقَيْنا
أوْ فَفي رِفْقٍ وَلينِ
لِمَ لا وعُمْرُ فتَاكِ أطْوَلُ
مِنْهُ عُمرُ اليَاسَمينِ
للَّه آلامي وأوْصابي
إذا لَمْ تُسْعِفيني
هَيْمَانَ كالمَجْنُونِ أخْبِطُ
في الظَّلام فَأخْرجيني
مَتَعَثِّراً نَهْبَ الوَسَاوِسِ
والمَخَاوِفِ والظّنونِ
حَفَّتْ بي الأشْبَاحُ صارِخَةً
بربِّكِ أنْقذيني
واشْفي غَليلي وابْعثي
مَيْتَ اليقين ودلّليني
ليْلى إذا حُمَّ الرَّحِيلُ
وغَصَّ قَيْسُكِ بالأنينِ
وَرَأَيْتِ أحْلامَ الصِّبا
والحُبِّ صَرْعى في جُفُوني
ولَفَظْتُ روحِي، فاطْبَعِي
قُبَلَ الوَداعِ على جَبيني
وإذا مََشَوْا بِجَنازَتي
بِبَنَاتِ فِكْري شَيِّعيني
وإذا دُفِنْتُ فَبَللي
بالدَّمْعِ قَبْري، واذْكُرِيني
في هذه القصيدة نسمع صرخة من صرخات فهد في الشكوى وهو يبدأ فيها الكلام إلى أمه لأنها كانت تلومه مع اللوام على تعديه على المجتمع وتقاليده رغم أنها كانت هي الوحيدة التي تعطف عليه عطفاً شديداً كما ذكرنا في المقدمة وكانت الوحيدة التي تعطف عليه هذا العطف وخاصة بعدما أصيب بالعمى، وفي هذه القصيدة نرى صورة واضحة لحالته النفسية وتعبه الروحي وما كان يعانيه يحز في نفسه من تبرؤ أبناء وطنه منه ومضايقتهم له وفيها أيضا يشفق على الأحرار منهم المتألمين بصمت مما يقاسونه من غربة في وطنهم الذي أصبح وطناً للدخلاء والأجانب الوافدين من الخارج لمضايقة المواطنين في لقمة العيش بالتزلف والنفاق والسرقة والنصب ليبتلعوا خيرات هذا البلد.
ثم يذكر الذين اتهموه بالكفر والمجون ويختم قصيدته بآهات حارقة تنطلق من صميم روحه الممزقة.