ديبلوماسي سعودي ينقذ أم كلثوم وعبد الوهاب
سمير غريب
المصدر: جريدة الحياة - بتصرف- 23/07/08
يعود الفضل الأول في تجميع الوثائق إلى صديقي الفنان التشكيلي الكويتي جعفر إصلاح الذي يهوى جمع الوثائق والصور، فقد أمدني بكثير منها بغرض عرضها وتحليلها والتعليق عليها في كتاب يلقي ضوءاً جديداً على تاريخ مصر الثقافي في النصف الأول من القرن العشرين، وان كان من بينها وثائق قليلة من النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
أضفت الى وثائق جعفر وثائق أخرى - أقل - تجمعت لدي وأطلقت على الكتاب الذي لم ينشر بعد عنوان: «قبس من روح مصر» لأنه احتوى على وشائج متنوعة من تاريخها الحي في مساحة زمنية من أهم المساحات عبر تاريخها، حين حاولت مصر الخروج من الظلمات إلى النور
الوثائق الجديدة التي لم تنشر من قبل تتناول أحداثاً وشخصيات مصرية مشهورة في مجالات مختلفة. يجمع بينها أنها كانت مؤثرة في المجتمع المصري. تفاوتت مجالات تأثيرها من العقل إلى القلب. وتفاوت حب الناس لها تبعاً لما فعلت فيهم.
هنا لا نصدر أحكاماً. بل نساعد القراء على الاقتراب منهم، ومعرفة جوانب في شخصياتهم، ومعرفة حقيقة كل منهم، وربما الحكم عليهم.
هناك بالطبع أجيال شابة لم تعاصر أحداث وشخصيات تلك الوثائق، وهناك أيضاً شباب لا يعرفون شيئاً عن بعض من هذه الشخصيات. افترضت أنني أقدم الكتاب للأجيال الجديدة أساساً، وبالتالي فهو سياحة متنوعة في تاريخ مصر المعاصرة
اخترت العودة إلى الكتابة في جريدة «الحياة» - بعد انقطاع ثماني سنوات تقريباً - ببعض من فصول الكتاب قبل نشره، وفضلت أن تنشر نصوص الوثائق كما كتبها أصحابها بأخطائهم النحوية والإملائية، فتلك الأخطاء جزء أيضاً من شخصية كتابها
موقف الثورة فى بدايتها مع أم كلثوم وعبد الوهاب
من يعرف اليوم أن حكومة ثورة 23 تموز (يوليو) 1952 في مصر كانت ستصادر في عامها الأول أموال محمد عبد الوهاب وأم كلثوم، وتحدد إقامتهما؟ وأن الذي أنقذهما من ذلك المصير هو الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود مؤسس المملكة العربية السعودية
أعتقد أن لا أحد يعرف اليوم السر الذي نكشف عنه هنا للمرة الأولى. فالمعروف هو العكس: أن عبد الوهاب غنى ولحن عشرات الأغاني للثورة، كما غنت أم كلثوم للثورة كثيراً. وبعد هزيمة مصر في حزيران (يونيو) 1967 في الحرب مع إسرائيل، أقامت أم كلثوم حفلات في دول عدة خصصت دخلها للمجهود الحربي. وأن حكومة الثورة كرمت أم كلثوم وعبد الوهاب..
وكان زعيم الثورة جمال عبدالناصر يحضر حفلات أم كلثوم ومعه كل أو أغلب أعضاء مجلس قيادة الثورة. وهناك تسجيلات في الاذاعة والتلفزيون المصريين لمثل هذه الحفلات ما زالت تبثها الإذاعة المصرية على موجة إذاعة أم كلثوم.
وقد حصلت أم كلثوم على جائزة الدولة التقديرية - عندما كانت للجائزة قيمة - عام 1968، مثلما حصل عبد الوهاب عليها عام 1971، كما حصل على قلادة النيل في العام التالي وهي أرفع القلادات المصرية، وسلمها له خليفة عبدالناصر الرئيس السابق أنور السادات الذي منحه أيضاً رتبة لواء
لكن، يبدو أن كل ذلك الحب المتبادل بين أم كلثوم وعبد الوهاب وحكومة الثورة حدث بعد العام الأول للثورة، وبعد أن تدخل سعودي باشارة من الملك عبدالعزيز الذي نجح في إنقاذ العلاقة. فالوثيقة التي بين أيدينا والمؤرخة في 4 حزيران 1953 تكشف عن أن مجلس قيادة ثورة يوليو في مصر كان يعد لقرار بمصادرة أموال أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وتحديد إقامتهما
رسالة الى محمد نجيب
الوثيقة عبارة عن رسالة كتبها محمد الطبيشى على ورق رسمي للسفارة السعودية في مصر بخط يده، من دون ذكر لتسمية منصبه في السفارة السفير أم القائم بالأعمال؟
المهم ان محمد الطبيشي كتب الرسالة المقصودة إلى اللواء محمد نجيب الذي أعلن أنه قائد الثورة في بدايتها، وعين أول رئيس للجمهورية المصرية، ثم انقلبت عليه الثورة وسجنته في بيته في المرج بعد اتهامه بالانقلاب على الثورة حتى مات.
كانت سفارة السعودية في ذلك الوقت تسمى «وكالة المملكة العربية السعودية بمصر». وكتب الطبيشي هذه الرسالة بتكليف غير رسمي من الملك عبد العزيز شخصياً للتدخل لمصلحة عبدالوهاب وأم كلثوم.
ويبدو من الرسالة أن الطبيشي قابل الرئيس السابق محمد نجيب أو حدثه شخصياً في قرار مجلس قيادة الثورة المزمع قبل يومين من كتابة الرسالة. وأنه كتبها لأن محمد نجيب قال له أنه يريد أن يعرف الموضوع كله
توضح الرسالة أن الثورة كانت تريد مصادرة أموال أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب وتحديد إقامتهما لأنهما - على حد نص الرسالة - «كانا مقربين من العهد البائد»، أي عهد الملك فاروق. وأن «الأستاذ عبد الوهاب له غنوة خاصة للملك ويطلق عليها اسم الفن، وأن السيدة أم كلثوم لها غنوة باسم (حبيبي يسعد أوقاته) وهي أيضاً خاصة للملك السابق، وأنهما يدينان بالولاء له إلى الآن أي إلى وقت كتابة الرسالة بعد قرابة عام من قيام الثورة
حرص الطبيشي في رسالته على أن لا يتدخل في أي قرار يكون في مصلحة الأمة، ولكنه يبدي رأياً ومشورة. ورأى المسؤول السعودي - وربما كان ذلك أيضاً رأي الملك عبد العزيز - أن تصرف الثورة ضد عبد الوهاب وأم كلثوم سيكون له أثر بالغ القوة على الشعوب العربية والمصرية خاصة، ويعطي انطباعاً سيئاً جداً عن الثورة وأهدافها المقدسة
تكشف الرسالة أن عبد الوهاب وأم كلثوم حضراً بنفسيهما الى المسؤول السعودي وقالا له: هل كان لدينا أو لغيرنا اتخاذ قرار حر في ذلك الوقت. لقد كان يفرض علينا الأمر فرضاً وإلا كنا نستطيع أن نرفض
يكتب الطبيشى ...ولا أعلم مدى صحة كلامهما، لكنني اشك فيه، فلقد كانت في مصر الملكية صحافة حرة ونشر حر للكتب والمؤلفات. وصلت هذه الحرية إلى سب الملك علناً، والى نشر كتب جنسية، وأخرى عن الإلحاد وغير ذلك. فلا أتخيل أن نظام الملك فاروق الضعيف كان يمكن أن يفرض شيئاً على قامتين مثل أم كلثوم وعبد الوهاب وصلت شهرتهما إلى كل الشعوب العربية إلى درجة رأى فيها المسؤول السعودي أن الإساءة إلى الفنانين سيكون لها وقع «بــالغ القوة». كما كتب الطبيشى بخط يده:
لكن الأمر عندي هو أن الفنانين - مثل كثير غيرهما من الفنانين - لم يكن لهما رأي ولا موقف سياسي، ولم يكن يهمهما أن تسود في مصر الملكية أو أن تحل محلها جمهورية. كان يهمهما أولاً الشهرة والمجد. كانت الرعاية الملكية وسيلة من وسائل الشهرة والمجد، كما كانت وسيلة للثروة، بدليل أنهما أقرا للسفير السعودي أنهما حصلا على هدايا ذهبية ومجوهرات من الملك.
مثلما كانت الرعاية الرئاسية الثورية بعد ذلك استمراراً للوسيلة ذاتها، مع الفارق أنهما لم يحصلا من الثورة على مجوهرات، ولكن على أوسمة ورتب مثل رتبة اللواء العسكرية التي حصل عليها محمد عبد الوهاب!. ولم يكن الفنانان يتوقعان حدوث ثورة يوليو ونجاحها. ولكن، بعدما قامت، غنيا للثورة ولعبدالناصر حتى مات عام 1970
ام كلثوم الملكية
علاقة أم كلثوم بالعهد الملكي لم تقتصر على أغنيتها للملك فاروق في الحفلة التي أحيتها في النادي الأهلي ليلة عيد الفطر 17 أيلول (سبتمبر) 1944، التي حضرها الملك فاروق حيث انعم على أم كلثوم بنيشان - وسام - الكمال. ففي وصلتها الثانية غنت أغنيتها الشهيرة «يا ليلة العيد» التي أصبحت لازمة كل عيد. دخل الملك فاروق إلى الحفلة أثناء الأغنية فغيرت من كلماتها لتذكر اسم فاروق: «يا نيلنا ميتك سكر وزرعك في الغيطان نوّر.. يعيش فاروق ويتهنى ونحي له ليالي العيد .. كما غنت للملك فاروق في أغنية «حبيبي يسعد أوقاته في الحفلة ذاتها وفيها «الليلة عيد ع الدنيا سعيد.. عز وتمجيد لك يا مليكي»..
وبعد انتهائها من الغناء استدعاها الملك ليصافحها فقبلت يديه، وأبلغها أحمد حسنين باشا رئيس الديوان الملكي بالإنعام عليها بنيشان الكمال من الدرجة الثالثة.
فهرع الصحافي مصطفى أمين إلى الميكروفون ليذيع نبأ منحها الوسام، فتقدمت أم كلثوم إلى الميكروفون وشكرت الملك على هذا الإنعام. ليس ذلك فقط، بل ذهبت في اليوم التالي، صباح أول أيام عيد الفطر، على رأس وفد من نقابة الموسيقيين بصفتها كانت النقيب، إلى القصر الملكي في عابدين لشكر الملك على إنعامه السامي
بعد 23 يوليو 1952 حذف اسم فاروق من الأغنيتين، لكن هذه القصة تلقي ضوءاً على علاقة أم كلثوم بكل من الملك فاروق ومصطفى أمين.
حذف اسم الملك أخف كثيراً مما فعلت الإذاعة المصرية عقب ثورة يوليو بأغنية أخرى لأم كلثوم اسمها «مبروك لسموك وسموه» غنتها في فرح الأميرة فوزية وشاه إيران، فقد تخلصت منها الإذاعة ضمن مجموعة كبيرة من التسجيلات النادرة منها خطب الملك فاروق وزعماء مصر السياسيين قبل الثورة. وباعها أحدهم في وكالة البلح، وهي سوق شعبية في القاهرة للسلع المستخدمة، كما ذكر ذلك الإذاعي وجدي الحكيم في حديث إلى صحيفة «المصري اليوم» بتاريخ 28/3/2008
عبد الوهاب الملكى
أما محمد عبد الوهاب فقد تربى في بيت أمير الشعراء احمد شوقي الذي عمل في حاشية القصر الخديوي ثم الملكي في مصر، واشتهر عبد الوهاب قبل الثورة بلقب مطرب الملوك والأمراء، لذا كان من الطبيعي أن يغني للملك أغنية الفن التي أشار إليها الطبيشي في رسالته، وهي من تأليف صالح جودت وجاء فيها: «الفن مين انصفه غير كلمة من مولاه. والفن مين شرفه غير الفاروق ورعاه».
كما غنى عبد الوهاب قصيدة في منتصف الأربعينيات من القرن الماضي بعنوان «أنزلت آية الهدى». لبشارة الخورى أيضاً منعت من الإذاعة في عهد الملك نفسه. ويقال أنها منعت بسبب آخر بيت فيها: «إن فاروق من هواك وطينك». وهناك رأي آخر بأنها منعت بسبب البيت الثاني الذي يخاطب فيه الملك فاروق قائلاً: فإذا الشرق كله طور سينك
وبالطبع منعت القصيدة نهائياً بعد قيام الثورة
انقلابهما على الملك فاروق
كان التمهيد «لانقلابهما على الملك» بعدما قلبته الثورة أن ذهبا إلى المسؤول السعودي ولم يكتفيا بالكلام، بل كتب كل منهما رسالة بخط يده يقر فيها بأنه «إننا الآن قلباً وقالباً مع الثورة المباركة، ونحن على استعداد للتنازل عن جميع الهدايا الذهبية والمجوهرات التي أخذناها في ذلك العهد وذلك عن طيب خاطر، وعلى استعداد للتبرع ليس بأعمال ولكن بالدم في سبيل الوطن ونجاح الثورة
هكذا يمكن القول أن الفنانين اشتريا أنفسهما من الثورة من طريق السفير السعودي الذي نجحت مهمته بالتأكيد بدليل انقلاب العلاقة بين عبد الوهاب وأم كلثوم والثورة إلى علاقة حب بيد ان هذا لا ينفي إطلاقاً عبقرية كل منهما، وحلاوة ما أبدعاه للثورة في ما بعد
أم كلثوم والسفارة السعودية
لماذا اهتم الملك عبد العزيز بإنقاذ أم كلثوم وعبد الوهاب من مصير مؤلم لهما كانت ستوقعه بهما حكومة ثورة يوليو؟
بالطبع، لسبب عام يكمن في شهرتهما وموهبتهما وعطائهما الفني العربي الشديد التميز. لكن، يبدو أن هناك سبباً خاصاً مع ذلك. إذ كانت أم كلثوم مقربة من السفارة - وكان يطلق عليها الوكالة أو المفوضية - السعودية في القاهرة في ذلك الوقت، فلقد اعتادت تلقي الدعوات من السفارة، مثل الدعوة الموجهة إليها من «فوزان السابق»، ولم يذكر منصبه عليها، الى العشاء يوم السبت 6/4/1953 بدار المفوضية.
واستمرت علاقة أم كلثوم بشخصيات سعودية بعد ذلك، منها صداقتها مع الأمير الشاعر عبد الله الفيصل آل سعود ابن الملك فيصل وحفيد الملك عبد العزيز، الذي توفي في 8 أيار (مايو) 2007 عن خمسة وثمانين عاما. غنت أم كلثوم من كلماته قصيدتين: «ثورة الشك» عام 1962 و من أجل عينيكعام 1971 وهما من تلحين رياض السنباطي.
وبين الوثائق رسالة نادرة بخط يد الأمير الشاعر أرخها بالتاريخ الهجري «25/1/1393» ويقابل عام 1973 ميلادي، كتبها رداً على رسالة كانت قد بعثت بها إليه أم كلثوم وهي «منحرفة المزاج» ومنحرفة الصحة .