لم يشعر سعيد عمارة بما حدث .. وجد أنه يندفع فى طريقه إلى حقل صلاح الروبي .. تدفقت فى عروقه دماء حارة ، حتى غيرت سمرته الداكنة .. وتزداد أنفاسه التهاباً .. ويمور صدره بغيظ مكتوم ، يريد أن ينفجر .. وتتسع خطاه وتسرع .. وتغوص أقدامه فى الأرض اللينة .
وفجأة .. وقف فى سكون .. راح يلتقط أنفاسه المتلاحقة ، ثم عاود السير مرة أخرى .. وهو يشق الظلام فى سرعة .
الحقول تمتد إلى مسافات شاسعة .. تغطيها النباتات الخضراء .. وكان سعيد عمارة يحب هذا المنظر الرائع الجمال .. ورغم ذلك ، يشتعل فى وجدانه لهيب يحرق ويدمر .. قال فى تصميم ، وهو يسدد بصره إلى الأمام :هبت نسمات باردة هزت أوراق النبات .. وبدأت النجوم فى السماء كأنها بارقات أمل تومض .. وسعيد عمارة يقترب من الهدف الذي يسعى إليه .. ها هي شجرة الصفصاف .. وها هو حقل صلاح الروبي .. بضعة قراريط زرعت بالطماطم ، ومن حولها أقيم سياج من أشجار البامية .
شمر سعيد عمارة عن ساعديه ، ثم أزاح فروع شجرة الصفصاف وهو يخطو إلى داخل الحقل .. أمسكت أصابعه بأول شجرة من شجيرات الطماطم .. جذبها فى غيظ ، فانتزعها من جذورها .. وسارت خطواته على الخط المستقيم .. ويداه تنتزعان شجيرات الطماطم من مكانها .. وخشخشة الأوراق والأغصان تختلط بنقيق الضفادع من الترعة القريبة .. ومن فمه تساقطت الكلمات :
ومن تجاويف داخله ، أطلت ذكريات .. راح يستعيد ما حدث مع صلاح الروبي .. يومها جاء ولده ياسين .. وقف إلى جوار باب الدار ، واتجه ببصره إلى أمه ودموعه تتسابق على وجنتيه .. وقال فى صوت متحشرج :
نظرت إليه أمه نظرة جانبية .. تنهدت وثبتت بصرها فى الأواني التي تقوم بدعكها .. بينما ازداد بكاء ياسين .
في تلك الأثناء ، كان هو جالساً في ركن الدار .. ممسكاً بمغزله الصوف ، ويحاول الانتهاء من طاقية يصنعها لأحد زبائنه من أهالي القرية .. وعندما نحر ولده نفسه من البكاء ، كما تقول أمه دائماً .. أعتدل مغتاظاً ، بعد أن ضايقه البكاء .. وتمتم مزمجراً وهو يحملق في وجهه :
لكن ياسين لم ينكتم .. بل راح يروى ما حدث من خلال دموعه المتساقطة .. وبصوت مخنوق من البكاء :
زغلول ضربني في وشى .
زغلول مين ..؟
ابن صلاح الروبي .
نهض سعيد عمارة واتجه إلى ولده ياسين .. أمسكه من ذراعه في خشونة .. انحنى عليه وقال منفعلاً وناثراً لعابه في وجهه :
ليه تلعب وياه ..؟
الكرة بتاعته .
طيب انجر اخفي من وشى .
راح ياسين يقلب النظر بين الأم وبين الأب .. ثم أدار لهما ظهره وهرول إلى الداخل .. في تلك الأثناء كانت الأم قد انتهت من غسل الأواني .. وألقت بالماء من طست الغسيل أمام الدار .. ثم نظرت إلى زوجها وزعقت بصوت حاد :
زمجر سعيد عمارة .. دارت في رأسه أشياء وأشياء .. استعاد ما حدث بينه وبين صلاح الروبي .. تذكر تلك الطاقية الصوف التي باعها له ، ولم يقبض ثمنها إلى الآن .. فاندفع إلى الخارج ....
تنبهت الزوجة إلى خروج زوجها ، فحاولت أن توقفه .. ولكنه كان قد ترك عتبة الدار .. وانطلق مندفعاً إلى الأمام .. فاتحاً عينيه على سعتيهما .. واتجه بسرعة إلى مقهى القرية ، حيث يجلس صلاح الروبي .
شعر سعيد عمارة بكتفيه يكادا ينخلعان .. ولم يبق في يديه قوة تحركهما .. رغم ذلك فهو لا يكف عن نزع شجيرات الطماطم .. والحقد الطاغي الذي يشعر به يسرى في كيانه منذ ذلك اليوم الذي ... الذي ... وعادت الأحداث تطفو من جديد ........
لقد وقف في وسط المقهى ، وقلبه يدق دقاً عنيفاً .. ألقى التحية في حده .. رد أكثر الجالسين .. لم يجلس ، ولم يزعق طالباً الشاي الثقيل .. لكنه تحرك حتى وقف في مواجهة صلاح الروبي .. وصاح :
اعتدل صلاح الروبي في جلسته .. قطب جبينه وهو يرمقه في استغراب .. ثم قال في هدوء :
لم يقتنع سعيد عمارة بهذه النتيجة التي وصل إليها .. خاصة وأن الجالسين لم يهتموا بالأمر .. غير أن بعضهم علق ببعض الكلمات :
لم يجد أمامه بد من التراجع .. فالتفت عائداً .. ولكنه لم يستطع الانصراف قبل أن يلقى بكلمة ترضى غروره .. وتنزل برداً وسلاماً على قلبه المفعم بالغيظ .. فقال فى شيء من الضيق :
وعلى الفور ، تحرك صلاح الروبي .. هب واقفاً .. فاهتزت الدكة التي كان يجلس عليها .. وصاح بصوت جهوري صارخ :
والله ما حد قليل الذوق غيرك يا سعيد يا أبن بهية .
بقولك عيالك ناقصين رباية يا صلاح يا أبن رسمية .
عيالي رباية بشوات وبهوات .
والله العظيم أقطع رقبتك .
والله العظيم أفتح كرشك .
وكان ما حدث بعد ذلك ، سريعاً ومباغتاً .. ارتفعت عصا صلاح الروبي ، ولفت فى الهواء .. وهوت على رأس سعيد عمارة .. الذي وقع على الأرض والدماء تنزف منه .
هبت نسمات مفعمة برائحة الزرع .. وشعر سعيد عمارة برأسه يدور ويدور .. وذراعيه قد هدهما الألم مع آخر شجيرة طماطم ألقى بها على الأرض .. ثم تأوه بصوت مسموع ، وهو يأخذ طريقه عائداً إلى داره .. وفى هدوء انسل إلى الداخل ، ثم جلس منهكاً .. ومن بين أسنانه همس بغيظ :
*****
انتبه سعيد عمارة على صوت زوجته تتحدث إليه :
أصر نبيل جمعه على أخذه معه إلى دار صلاح الروبي .. فقال وقد لعبت الفئران فى صدره :
ليه ..؟
أصالحك عليه يا راجل .
يا شيخ سيبك منه .
علشان خاطري .
فى الطريق إلى دار صلاح الروبي .. كان يريد أن يمتع عينيه بمرأى الرجل وقد هدته مصيبة فقد محصوله .. ولكنه وجده جالساً أمام داره فى سكينة وخلو بال .. قال سعيد عمارة وهو يخفى توجسه :
أجاب الروبي وهو يقف مصافحاً ومرحباً :
قال نبيل جمعه :
قال صلاح الروبي بتأثر :
قال سعيد ، وهو ينظر إلى صلاح الروبي بترقب وقلق :
انطلق صلاح الروبي فى ضحكة طويلة متصلة .. حتى سعل بشدة وهو يغمغم بين الحين والحين :
وعندما هدأ .. قال وهو يتنفس فى عمق :
سكت صلاح الروبي قليلاً .. ثم استطرد قائلاً :
*****