كيف تطورت الآلة الإشبيلية والطرب الغرناطي في المهاجرات الأندلسية المغرب
الدكتور عبد العزيز بنعبد الله
عضو أكاديمية المملكة السعودية -الرباط
أحاول في مبحثي هذا الكشف عن بعض مجالي الفن الموسيقي كما فعلت في خصوص الفن المعماري، وهما مظهران لحضارة المغرب التي أفردت لها منذ الأربعينيات العديد من الدراسات باللغتين العربية والفرنسية. فهو بحث تاريخي لا يزعم التقصي والاستيفاء للتنظيرات والتسطيرات المعمارية ولا للألحان والأوزان الموسيقية، وإنما هو استجابة عفوية زاوجت دواعي السوق ومازجت بواعث الذوق دون أن تتجاوز حدود الطوق، وكلاهما جزء من "موسوعة رباط الفتح" المرتقبة النشر.
والواقع أن الذي أقحمني في هذا المجال، وإن كنت فيه مزجى البضاعة بمعزل عن أعالي بحوره، هو والدي العلامة الشيخ عبد الواحد بنعبد الله الذي ضم للضلاعة في العلوم الإسلامية الإمامة في فن الموسيقى؛ فكان له وثيق الصلة بأربابه أمثال المطيري والجعيدي والبريهي والحاج محمد التازي والفنانين الطيب بلكاهية والسبيع والوكيلي ورئيس الجوق الغرناطي أحمد بناني وكثيرين غيرهم.
وإذا كانت الموسيقى قد تقلص نشاطها في العدوتين (الرباط وسلا) وتطوان، بينما ازدهرت بفاس في عهد بني مرين، فما ذلك إلا لكون العاصمة الإدريسية كانت في مأمن من هجمات الإيبيريين الإسبان والبرتغاليين الذين كانوا يغيرون على سواحل المغرب في كل من البحر المتوسط والمحيط حيث احتلوا جيوبا ولم يستطيعوا السطو على مارتيل ومصب أبي رقراق، لأن سكان المنطقتين من المهاجرين الأندلسيين والأصلاء كان قد شغلهم الاستعداد الموصول لحماية هذا القطاع عن كل ما سواه.
وقد انطلقت مزاهر الآلة الإشبيلية والطرب الغرناطي معا في رباط الفتح منذ انبثاق الدولة العلوية، خاصة المولى محمد بن عبد الله الذي اتخذ من المدينة حاضرة سلطانية على غرار فاس ومراكش ومكناس الإسماعيلية. فأقام قصره العامر بأكدال. وتابع نجله المولى سليمان عمران الحاضرة الموحدية ببناء "قصر القبيبات" أو "دار البحر"، وأصبح منذ ذاك لمنطقة أبي رقراق مكانة ديبلوماسية بعد أن صار قناصلة الدول الأوربية يقدمون أوراق اعتمادهم بها للمولى عبد الرحمان الذي أقام الأبراج والدور الجميلة وسط جنان وحدائق غناء زرعت خارج السور العلوي الذي اتسعت بوجوده رحاب المدينة حيث امتد من البحر جنوبا للالتقاء بالسور الموحدي المحاذي للقصر الملكي. وبقدر ما عزز المولى سليمان أبراج الدفاع عن "رباط الفتح" ببطاريات تحمي الساحل من جهة "دار البحر"، واكب حركة ازدهار الفن الموسيقي فصنف رسالتين اثنتين هما:
1- "إمتاع الأسماع بتحرير ما التبس من حكم السماع"، نسخة بمكتبة دبلن، جيستر بيتي في لاهاي رقم 4132، (م=118-81).
2- "تقييد في حكم الغناء"، الخزانة الحسنية بالرباط، 4864 و6430).
وقد بادر المولى محمد بن عبد الرحمن بعد استكمال بناء قصره الجديد، وهو البلاط الحالي في المشور السعيد. فأقام حفلا رائعا دعا له المسمعين المطربين من العدوتين (الرباط وسلا). وقد انضاف إلى هذا الفن السمعي الرائع فن الخطاطة (Calligraphie) في شخص الأديب الشريف مولاي أحمد الرفاعي القسطالي الرباطي([1]) الذي اتخذه المولى سليمان مربيا لأولاده بالرباط وعينه واليا على فاس ونال الحظوة نفسها من خلفه المولى عبد الرحمن. وبذلك ازدهر في رباط الفتح فنان اثنان من أبرز الفنون السمعية البصرية (arts audio-visuels).
ولعل اضطلاع كل من السلطانين العالمين المولى سليمان والمولى عبد الرحمن([2]) بتركيز الفن الموسيقي برباط الفتح قد فسح المجال لظهور علماء أفذاذ برعوا في هذا الفن، وفي طليعتهم العلامة الشاعر قاضي العدوتين أحمد بن أحمد الحكمي الذي تفرد في وقته بالفنون الأدبية كالموسيقى؛ علاوة على ضلاعته في الأصول والفقه. وعده سبطه شيخ الجماعة إبراهيم بن محمد التادلي من العارفين المبرزين في هذا المجال ("الاغتباط"، ص.33). وقد صنف عالم صوفي هو الشيخ فتح الله بن أبي بكر بناني كتابه المطبوع بالرباط "تسمية الأتباع ببعض ما يتعلق بحكم الطرب والسماع".
على أن الشيخ العلامة إبراهيم بن محمد بن عبد القادر التادلي الرباطي قد أوغل في تحقيق وتدقيق بعض معالم هذا الفن حيث ألف كتابا في "الصيكا" سماه "أغاني السيقا ومغاني الموسيقى" أو "الارتقا إلى علم الموسيقى" (نسخة بالخزانة العامة بالرباط 1821د /109 [66 ورقة]). وعلى هذا المنوال النموذجي سار العلامة علي بن محمد بن عبد الواحد الزجلي في كتابه "أغاني الصيكا"، وهي ألحان مازلنا نستمع إليها في جميع أنحاء البلاد الإسبانية على نسقها العربي الأصيل نفسه. وقد ذكر الصفاقسي في كتابه "قانون الأصفياء" أن السيكاه أصله عربي بالصاد، ثم نقل إلى العجم فبدلوا الصيكة. استخرجه صيكة بن تميم العراقي، ثم نقل إلى أهل فارس (مجلة "الأقلام العراقية"، ج4، السنة الأولى، 1384هـ/1964م).
وقد تبنى علماء كل من فاس ورباط الفتح هذا الفن، فأطلقوا على ما اخترع من طبوعه كلمة "مدرج". وهي من مصطلحات علم الحديث النبوي الشريف كما يقول شاعر المحدثين الحافظ العراقي:
ومدرج الحديث ما ألحق في أوله أو وسط أو طرف