الكحلاوي.. مداح الرسول ( 2 )
بقلم الصحفية : سارة الحلواني
الأغاني الشعبية بالنوتة الموسيقية
كما كان لنشأة الكحلاوي في أحد الأحياء الشعبية العريقة أثر كبير عليه فبدأ لونًا غنائيًّا شعبيًّا، ولم تكن الأغنية الشعبية معروفة وقتها بشكلها الحالي فكان الفنان الشعبي يرتدي الجلباب ويحمل الربابة، ويتغنى في المقاهي والموالد والجلسات القروية يسرد السير والملاحم، أما الكحلاوي فغنى الأغاني الشعبية بنوتة موسيقية وبمصاحبة فرقة موسيقية كاملة لأول مرة في تاريخ الغناء الشعبي، كما جعل الأغنية الشعبية تنافس الأغنية العاطفية التي كان يؤديها كبار الفنانين في ذلك الوقت أمثال عبد الوهاب وأم كلثوم، وسرعان ما تبعه عدد من المريدين وهم كارم محمود، ومحمد قنديل، وشفيق جلال، وسعاد محمد، وحورية حسن، ومحمد العزبي، وعبد العزيز محمود.. وغيرهم
الاعتكاف للأغاني الدينية
وكانت مرحلته الأخيرة بالغناء الديني التي مثلت حوالي نصف إنتاجه الفني، فقد لحّن أكثر من 600 لحن ديني من مجمل إنتاجه الذي قارب 1200 لحن، ولم تكن الأغنية الدينية تعرف بمفهومها الحالي؛ إذ اقتصرت في ذلك الوقت على التواشيح الدينية، ولكنه وضع أسسها وأصبحت الأغنية الدينية تغنى بنوتة موسيقية وفرقة كاملة وقد تلون في غنائه بين الإنشاد والغناء والسير والملاحم والأوبريتات، فقد قدم "سيرة سيدنا محمد" صلى الله عليه وسلم و"سيرة السيد المسيح" و"قصة حياة سيدنا إبراهيم الخليل". ولمع الكحلاوى في الغناء الديني ولاقت أغانيه حفاوة عند جمهوره وأصبحت تذاع في كل المناسبات الدينية،
ومن أشهر أغانيه (لاجل النبي).
لم يكن الكحلاوي يغني غناء دينيًّا فحسب ولكنه عاشه وأحسه، ودخل بمرحلة الغناء الديني مرحلة الورع والزهد في حياته بعد أن ندم على الوقت الذي قضاه بعيدًا عن الله وبعيدًا عن حب رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، فكان يعتكف في مسجده بالإمام الشافعي أسبوعًا أو ما يزيد يقرأ القرآن ويصوم، ثم يخرج بعدها متشبعًا بروح الإيمان وبلحن جديد أيضًا، فكان الفن بالنسبة له دعوة وطريقة أخرى من طرق الدعوة والحض على الفضيلة من خلال الكلمة المغناة.
وقد رفض الكحلاوي رحمه الله التغني لأي مخلوق إلا لسيد الخلق أجمعين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فلم يغنّ لملك ولا رئيس مثلما فعل كل المطربين. وتروى عنه واقعة رفضه الغناء للزعيم جمال عبد الناصر رغم طلبه شخصيًّا، وأنه قال: لن أمدح أحدا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان حلمه الكبير هو إنشاء مسرح إسلامي، وتكوين فرقة للإنشاد الديني على مسرح البالون وهو الحلم الذي يعمل على تحقيقه ابنه الفنان أحمد الكحلاوي
الدعوة بالأغنية
ولم يكن الكحلاوي يؤمن بفكرة الفن للفن، بل كان يرى أن الفن لا بد أن يساير الأحداث والمواقف الإنسانية؛ لذا فحين بدأت حرب 48 وهجرة اليهود وأحدقت المخاطر بفلسطين كان أول من نادى بالوحدة وأنشد العديد من الأغاني الوطنية باللهجة العربية البدوية، ومن هذه الأغاني "على المجد هيا يا رجال"، "وين يا عرب"، "خلي السيف يجول" و"كريم جواد" و"يا أمة الإسلام"، وغيرها... فنراه يشحذ الهمم قائلاً:
يا أمة التوحيد من كل فج بعيد
هبوا بعزم شديد و رجعوا اللى كان
يا أمة العربان
و فى انتصارات أكتوبر سنة 1973 غنى :
على نورك قمنا و عدينا يا رسول الله
من بدرى كتايب حوالينا كبروا لله
و هنا نلاحظ انه يستدعى روح سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم حتى فى اغانيه الوطنية
صوت العرب تفتتح وتغلق بألحانه
وكما اقتحم الكحلاوي مجال الغناء والتمثيل وكرة القدم فلم يكن غريبًا أن يقتحم الإذاعة التي دخلها مع بدايتها في 1934، وكان اللحن الافتتاحي لإذاعة صوت العرب هو لحن محمد الكحلاوي وكذلك اللحن الختامي وهو لحن فيلم "أحكام العرب"، كما كانت تذاع أغنيته "يا أمة الإسلام يا أمة القرآن" على مدار اليوم، وكان المطرب الوحيد الذي خصصت له الإذاعة نصف ساعة يوميًّا.
وكان هذا الفنان الشامل ودودًا معطاء محبًّا للخير يهتم بمن هم خلف الكواليس فاهتم بالموسيقيين وأولاهم اعتناء خاصًّا، فكان يحرص على مشاركتهم أفراحهم وأتراحهم وهذا دعاهم إلى اختياره نقيبًا للموسيقيين في عام 1945، ولكنه تخلى بعد ذلك عن المنصب للموسيقار محمد عبد الوهاب، وقضى بذلك على المشاكل والصراعات بداخل النقابة في ذلك الوقت.
ومما يذكر في هذا الصدد أن الكحلاوي كان رائدًا من رواد التلحين في عصره، فقد لحن لكل مطربي عصره، كما لحّن جميع ألحانه ما عدا لحنًا واحدًا لحنه له صديقه الشيخ زكريا أحمد، والطريف أنه أعاد تلحينه لنفسه مرة أخرى وهو لحن (خلي السيف يجول)!
وقد حصل الكحلاوي على شيء من التكريم -الذي لا يتناسب مع إبداعه وإضافاته للفن- فقد حصل على جائزة التمثيل عن دوره في فيلم "الزلة الكبرى"، وجائزة الملك محمد الخامس، وحصل في عام 1967 على وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى، ثم حصل على جائزة الدولة التقديرية، هذا بالإضافة إلى العديد من الأوسمة والنياشين، ويسعى ابنه الفنان أحمد الكحلاوي حاليًا لإنشاء متحف لأبيه يضم أوسمته وملابسه وصوره النادرة التي سيضمها المتحف الذي سيقام بجوار مسجده بمنطقة الإمام.