الموروث الغنائي الليبي غنيٌّ ، و هذا مما لا شك فيه أبداً ، و هنالك من الفنّانين الليبيين من ينهل و يحاول الاستفادة بالاستزادة منه على الدّوام ، و هذا شيءٌ حسنٌ مما لا شك فيه أيضاً ، لكن الفنّان المبدع بتصوري ، هو من يُضيفُ إلى هذا الإرث أعمالاً من صُنعه و فنِّه ، أي بقصد ، أن يُقدِّم العمل الذي يحبُّه المُستمِع ، فيظلُّ محفوظاً في ذاكرته إلى فترات مديدات ، حتى يتعتق من دون أنْ يبلى ، و يتحول إلى إرثٍ جديدٍ ، يُضافُ مع مرور الزمن إلى روائع التراث الأول ، فمسألة إحياء التراث الغنائي ، لا تتوقف على التذكير به ، و لا بتهذيبه فقط ، لا بل على ريِّه بروافدٍ أخرى ،فهو كما معين ماء ما ، لا ينبغي أنْ ننهلَ منه فحسب ، و إنما يتعينُ علينا تغذيته بمصادر جديدةٍ ، فمهما كان التراث الغنائي لدينا رائعاً ، فإنه و لا بُدّ تنقصه بعض الأمور من مضامين و ألوان فنية ، الذي يجب على فناني اليوم و كل يوم ، استكمال ما يعوزه ، و ذلك بإبداعاتهم الخاصة ، لأنّ حتى التراث الذي نحوزه الآن ، هو حصيلة تراكم جهود عدة أجيال قديمة ، أثرته بما عندها في عصور غابرة و متلاحقة ، حتى وصل إلينا بهذا الكم و الكيف ، اللذين هو عليهما تواً ، فكل عصر جاد فنانوه بما تعلموه و تأثروا به من أفانين ، استحدثت على الغناء في ذلك العصر ، فهذا التراث أُشبهه مرةً أخرى و من جديد ، بمعين الماء العذب ، الذي قد يفتقد بعض العناصر و الأملاح الداخلة في التركيب و الخواص الطبيعية له ، و هنا يأتي دور الفنَّان المُبدِع ، ليضيف إلى ما هو متوافر و موجود فيه من أنماط فنية ، الألوان الغنائية الحديثة في أسلوبها و موسيقاها ، فالتراث في أيِّ مكان من خارطة العالم ، ليس كما يعتقده البعض من المعنيين به ، من حيث كونه منغلقاً على نفسه ، و لا يقبل زيادة كل ما هو جديد إليه ، و هذه مغالطة كبرى ، ذلك أنّ ، في الأغنية المصرية الحديثة ، أثبتت التجربة خطأً و لغطاً كبيرين في هذا القول ، فالأغاني التي قدَّمتها السيدة " أم كلثوم " مثل أغنية ( غنيلي شوي ) و ( على بلد المحبوب ) و أغنية ( أمنت بالله ) للفنانة اللبنانية " لور دكاش " أصبحت من الموروث الغنائي هناك ، و كذلك الأعمال التي لحنها و أدّاها الموسيقار الراحل " فريد الأطرش " باللهجة المصرية ، كأغنية ( زينة ) و ( نورا ) و ( دقوا المزاهر ) و ( الفلاحة ) و غيرها الكثيرات ، ثم في مرحلة أخرى من تاريخه الفني ، ما قدَّمه للمستمع من أغنيات ، جاءت باللهجة الشامية الدارجة ، مثل ( لكتب ع أوراق الشجر ) و ( فوق غصنك يا لمونة ) و ( بيع الجمل ) و هذا هو السر وراء خلود هؤلاء الفنانين و أعمالهم ، حتى بعد مماتهم ، فأيُّ معين يبقى دائماً قابلاً لأية قطرة ماء ، لتتسرب إلى جوفه ، مهما كان قراره سحيقاً ، و إن يكُن تحت سطح الأرض بمئات الأمتار ، كي تتجدد الحياة فيه ، و من ثم تتدفق مياهه إلى أعلى ، لينهل منه من أراد أنْ ينهل ، و إلا فسوف ينضب ، و هذا ما أدركته ثلة من الفنانين الليبيين ، شعراء كانوا أو ملحنين أو مغنين ، فمضوا على هذا البناء ، عندما عرفوا كيف يحافظون على ما يحتويه هذا التراث ، بإغداقهم عليه بكل ما هو جميل من الغناء ، في الوقت الذي اكتفى فيه نفرٌ من الفنَّانين ، بالسقاية منه و كفى ، ربما لتصوره ، بأنّ ما ورثه من فنٍّ قديمٍ ، هو متكاملُ الألوان ، و مكتملُ الرؤى و الأبعاد ، و لا ينقصه شيئاً ، حتى يقوم بإضافته إلى مكوناته ، على غرار ما قام به المطرب السوري الكبير " صباح فخري " حيث اكتفى طوال مسيرته الفنية ، بغناء التراث العربي السوري أو الشامي برمته ، فهو في ذلك ، كان محقاً لأبعد درجة ، لأنني أري فيما أرى ، أنّ هذا التراث ، أمثلُ و أغنى تراثٍ غنائي عربي ، لكونه يختزن في جرابه طبوع الغناء العربي كلها ، فقد أنشد هذا المطرب ، من بين قلة قليلة من فناني هذا العصر ، نماذج الغناء جميعها ، من دون أنْ يغفل لوناً غنائياً واحداً ، ما جعله لا يُقْدِم على تقديم أعمالاً جديدة تُحسب في رصيده الفنِّي الخاص ، لكنه أدّى كل أطياف هذا الموروث ، بدءاً من ( العتابا ) و انتهاءً بـ ( الميجنا ) مروراً بالقصيدة المُغناة و القدود الحلبية و فنّ الطقطوقة ، و ما إلى ذلك من أنواع هذا الإرث الغنائي العربي المتداول في تلك المنطقة العربية ( الشام ) و عربياً بصفة عامة .
لكن الفنان الليبي سيظلُّ ملزماً و مسؤولاً دائماً ، أمام المستمع الليبي و العربي أيضاً ، على العمل و المثابرة من أجل دراسة هذا الإرث الغنائي الذي يحوزه ، ليعرف بعد ذلك ما يفتقد تراثه ، و من ثم يعمل جاهداً على أنْ يسكبَ على هذا المعين الغنائي الذي لديه شيئاً غنائياً من لدنه ، و أن يسبك القوالب الموسيقية و الغنائية الجديدة ، حتى يكتمل نقش فسيفساء هذا ( الفلكلور ) .
فمثلاً كان الموروث الغنائي الليبي ، يفتقر إلى وقت قريب إلى القصيدة العاطفية المُغناة ، حتى أدرك بعضٌ من فناني هذا الوقت ، هذه الحقيقة ، و حاول إغناء الغناء الليبي الحديث ، بهذا العنصر الغنائي المفتقد و المنشود ، لينضم مستقبلاً إلى الموروث الأول ، و هذا ما انتهجه الملحن المثقف موسيقياً " علي ماهر " و عمل عليه ، من خلال عدة قصائد غنائية أعطاها لأصوات ليبية و عربية ، منها مثالاً لا حصراً : " محمود كريّم " و " ميادة الحناوي " و " عبد الهادي بالخياط " و هلم جرا ، مستعيناً بكلمات عدة شعراء و أدباء محليين ، و معروفين على الصعيد العربي ، كشاعر الشباب " علي صدقي عبد القادر " و " علي فهمي خشيم " و غيرهما من شعراء روَاد آخرين ، فالقصائد الغنائية التي لحنها هذا الملحن ، ستكون عاجلاً أو آجلاً ، من التراث الغنائي الليبي ، لأنّ الموروث القديم ، كان يفتقد مثل هذه الأعمال ، لذا ستملأ الحيز الذي سيحويها في جراب ذلك المعين السابق ، و مثل هذا النهج ، سبقه إليه الفنان الملحن و المجدّد الموسيقي " إبراهيم أشرف " الذي أضاف هو الآخر أعمالاً غنائية رائعة إلى التراث الغنائي ، الذي وصل إلى جيله من الفنانين ، أراها هي أيضاً ستصبح مع مرور الوقت ، تراثاً ليبياً و عربياً نفخر به ، مثل أغنية ( يا بيت العيلة ) و أغانيه للأطفال ، و أغنيات أخرى ، يضيق المجال لتعدادها عبر هذا المقال ، و ما دُمنا في ذكر لفظة ( البيت ) فهناك نغماً شجياً ، نظمه المؤلف الغنائي " فرج المذبل " تغنى فيه بحب الوطن ، عنوانه ( يا بلادي ) قام بتلحينه و أدائه ، الفنان الشاب " أحمد فكرون " في سنة 1979 _ مؤلفٌ من مطلع و بيتين ، لا أكثر و لا أقل من ذلك ، قدرَ بشاعريته ، أنْ يبني للأسرة بيتاً واحد ، يُظلل كل أفرادها ، و أيُّ بيت هو ؟ إنه بيتٌ شعريٌّ يختزل فيه معاني كثيرة ، إذ يقول مُخاطِباً بلاده بأسلوبٍ بلاغيٍّ ( الاستعارة ) :
في عيونك أنتي .. شفت بويا و أمي وحبيبتي
طفلي بكره و ضحكة بنتي .. و تراب اجدودي الغوالي
يا بلادي حبك موالي .. عليك و الله .. ما يغلى غالي
فهذا العمل منذ صدوره و إلى الآن ،ما يزال يحتفظ ببريقه ، و يحيطه الإعجاب محلياً و عربياً ، و تحفُّه اهتمامات الهواة الجُدد ، و ذلك يتبدى جلياً في تقديمه في عدة مناسبات فنية و وطنية كذلك ، الأمر الذي سيجعله هو الآخر ، يُضافُ إلى المخزون الغنائي المحلي و العربي .
لكن هذا البيت ، تمّ تكراره في عمل غنائي ثانٍ ، بصوت الفنان " عطية محسن " عنوانه ( بلدي يا فرحة أيامي ) .
ماذا تبقى لنا في هذا المقال لنقوله ، غير تحفيز الفنانين و ندبهم إلى دراسة الموروث الغنائي الليبي جيداً ، لمعرفة ما يعوزه ، فيقوموا باستكماله ، فهذه حقيقة لا يجوز التملص منها ، و قد بيّنت لهم ، كيف كانت الأغنية الليبية ، تفتقر إلى وقت ليس ببعيد إلى القصيدة العاطفية المُغناة حتى قام الفنان الملحن " علي ماهر " و الملحن الرائد في هذا المجال " يوسف العالم " باستحداثها على الأغنية الليبية .
بنغازي في : 23 / 3 / 2008
منشور في صحيفة العرب اللندنية