فيلمون وهبي - الياس سحاب 2

[عبد القادر رشيد مسلماني]

فيلمـون وهبــي الأب الشرعي للأغنية اللبنانية
الياس سحاب/مجلة دبي الثقافية/العدد: 69
ومن بين هؤلاء الرواد، معاصري فيلمون وهبي، الفنانون سامي الصيداوي ونقولا المني في مجال الأغنية الشعبية، وخالد أبو النصر في مجال الأغنية الكلاسيكية، ذلك أن الأغنية اللبنانية، كانت قبل ذلك عبارة عن ألحان بدائية، توضع على كلمات مكتوبة باللهجة المصرية، لهجة الغناء العربي السائد في ذلك الوقت، إلى أن جاء عهد الاستقلال في أواخر العام 1943، فقام المرحوم رياض الصلح، بصفته رئيساً للوزراء ووزيراً للإعلام (مسؤولاً عن الإذاعة اللبنانية)، باتخاذ قرار تاريخي، يفرض على ملحني أغنيات الإذاعة اللبنانية اختيار أشعار أغنياتهم بالعامية اللبنانية لا المصرية. وقد استحق فيلمون وهبي أكثر من غيره من هؤلاء الرواد الأوائل، لقب الأب الشرعي للأغنية اللبنانية، باعتباره أكثرهم غزارة، ليس في البدايات فقط، بل وفي العصر الثاني لنهضة الغناء اللبناني في النصف الثاني من القرن العشرين، وحيث تعهد التلحين بغزارة لأهم الأصوات، التي قامت على أكتافها تلك النهضة الثانية للأغنية اللبنانية: نجاح سلام، صباح، فيروز، ووديع الصافي، نصري شمس الدين.
يروي لي فيلمون وهبي في لقاءاتنا المتكررة، التي كان بعضها يجري في منزله في ضاحية كفرشيما، التي استقر فيها الموسيقار حليم الرومي بعد هجرته من فلسطين، وولد فيها الفنانان فيلمون وهبي وملحم بركات، يروي لي أن لقاءه الأول مع الأخوين رحباني كان في مجال التمثيل الإذاعي، لا التلحين. حين اكتشف فيه عاصي ومنصور رحباني مواهبه الكوميدية الفذة، في أثناء إعدادهما لسلسلة تمثيلياتهما الإذاعية الفكاهية: روكز حطّب، وروكز تزوج، إلى آخر السلسلة، فأسندا إليه شخصية «سبع» الشهيرة، التي لازمته طوال حياته.
في تلك الأثناء، قال لي فيلمون وهبي، كنت أنصرف لتلحين الأغنيات الشعبية لنجاح سلام وصباح، فلحنت للأولى مثلاً أغنيتها الشهيرة «برهوم حاكيني»، التي طلب الأستاذ محمد عبد الوهاب تسجيلها على اسطوانات شركته «كايروفون». أما لصباح فقد لحنت لها مجموعة كبيرة من أشهر أغنياتها اللبنانية في عقدي الخمسينيات والستينيات، مثل (عالعصفورية وقلتلو بحبك بالسر ويا أمي طل ويا طير الطاير قلو، ودخل عيونك حاكينا)، وسواها كثير.
في هذه الأثناء، كان الأخوان رحباني يتهيآن لإطلاق مسرحياتهما الغنائية السنوية، فتنبها إلى أن ألحان فيلمون وهبي لصباح بالذات، تلاقي رواجاً جماهيرياً منقطع النظير، فأخذا يعهدان إليه في وقت مبكر بلحن واحد يضعه لفيروز في كل مسرحية. وبديهي أن ذلك اللحن كان يلاقي رواجاً شعبياً يسر الأخوين رحباني من جهة، لكنه يثير غيرتهما الفنية من جهة ثانية، لأن تلك الألحان كانت تتحول إلى أشهر أغنيات فيروز، وأكثرها رواجاً شعبياً، مثل (يا كرم العلالي، وجايبلي سلام، وليلية بترجع يا ليل، وفايق يا هوى، ويا دارة دوري فينا، ومن عز النوم، وعلى جسر اللوزية، وأنا خوفي من عتم الليل) وغيرها.
وكان فيلمون وهبي ينفجر ضاحكاً، وهو يروي قصة إحدى هذه الأغنيات «يا دارة دوري فينا»، فقد حدث كالمعتاد بعد انتهاء العرض الأول للمسرحية، التي تغني فيها فيروز أغنية «يا دارة دوري فينا»، أن انتقل الأخوان رحباني مع الأصدقاء المقربين للاحتفال بالحدث في منزلهما. وما أن شاهد الفنان عاصي الرحباني والدته (وكانت عائدة من حضور المسرحية) حتى بادرها بالسؤال: أيها كانت أغنيتك المفضلة في المسرحية؟ فأجابته بكل عفوية وبراءة: تقبرني «يا دارة دوري فينا»، اعتقاداً منها أنها من ألحان ابنها عاصي، فتغيرت ملامح وجه عاصي وقال لأمه معاتباً: لكن هذه من ألحان فيلمون وهبي يا أمي. مثل هذه المصادفات الفنية كان الأخوان رحباني (وخصوصاً عاصي) شديدي الحساسية إزاءها، لذلك كانا يصران على استمرار التعاون مع فيلمون وهبي في كل مسرحية جديدة لفيروز، لكنهما كانا يصران بالدرجة نفسها، على أن لا يكون لفيلمون أكثر من لحن واحد في المسرحية الواحدة.
وقد كنت طوال حياتي الصحافية شاهداً على هذه الوقائع، خصوصاً أني كنت لا أفوّت حضور العرض الأول لأية مسرحية غنائية جديدة للأخوين رحباني، التي كانت تعرض في الغالب في قاعة قصر البيكاديللي، أفخم صالات العرض في بيروت (لكنها الآن مقفلة)، حيث كنت ألاحظ أن الجمهور الذي تغص به القاعة، كان عند انتهاء اللحن الوحيد لفيلمون وهبي بصوت المطربة الكبيرة فيروز، ينفجر بتصفيق طويل. كأن تياراً كهربائياً قد مسه.
لكني كنت ألاحظ أيضاً أنه برغم تعاون فيلمون وهبي مع أكبر الأصوات اللبنانية، فإنه عندما يلحن لفيروز بالذات يبدو كأنه يبذل جهداً خاصاً في اللحن. ولما عرضت هذا الإحساس على فيلمون وهبي قال لي: الحقيقة أنني لا أبذل أي جهد خاص في أي لحن من ألحاني، فهي تأتيني كلها بسهولة شديدة، لكن يبدو أن المستوى الخاص للشعر الغنائي للأخوين رحباني، وتقديري الخاص لصوت فيروز، يدفعاني إلى مزيد من الإبداع.
لكن فيلمون وهبي لم يمنعه شيء عن الانصراف الكلي للتلحين لفيروز، سواء في فترة تربعها على عرش المؤسسة الرحبانية، أو بعد أن انفصلت عن المؤسسة إثر مرض زوجها عاصي ثم رحيله. بل إن شهية فيلمون وهبي قد تفتحت أكثر بعد انفصال فيروز عن المؤسسة الرحبانية، فلحن لها اسطوانتين حملت الأولى اسم «دهب أيلول» والثانية اسم «بليل وشتي»، كما لحن لها بعد ذلك اسطوانة ثالثة، وقد تجاوز عدد أغنيات هذه الدفعة الأخيرة من ألحان فيلمون لفيروز (من أشعار جوزيف حرب) بعد انفصالها عن المؤسسة الرحبانية فقط الخمسة عشر لحناً. كانت مصدر سعادة وفخر فني لفيلمون وهبي، كما كان يؤكد لي، لم يزعجه في الموضوع سوى اعتقاد كثير من الناس من عشاق هذه الأغنيات، أنها من ألحان الأخوين رحباني مثل معظم أغنيات فيروز.
كانت قراءة الشعر الغنائي تحرك في فيلمون وهبي، كما كان يؤكد لي، شهيته على التلحين، وخاصة الوزن الموسيقي للشعر، ثم معانيه وصوره الفنية بعد ذلك.
وقد أكد لي فيلمون وهبي أنه أحياناً كان يتفجر بلحن الأغنية فور قراءة شعرها. كما حدث في أغنية فيروز «عالطاحونة شفتك عالطاحونة»، التي ما أن فرغ عاصي الرحباني من قراة شعرها الغنائي، حتى أخذ منه فيلمون وهبي الورقة وراح يعيد قراءة الشعر ولكن بلحنه النهائي الذي غنته فيروز بعد ذلك.
وقد أكد لي فيلمون وهبي أنه أحياناً يتكاسل عن تسجيل أحد ألحانه الجديدة، فإذا أمسك بكلام الأغنية مرة ثانية أدرك أنه نسي اللحن الذي وضعه لهذا الكلام، فيعمد إلى تلحينه مرة ثانية. أما أغنية فيروز الشهيرة «يا دارة دوري فينا» فقد أكد لي فيلمون وهبي أنه ما أن عاد بكلام الأغنية إلى البيت، حتى أمسك بالعود، فإذا باللحن يتدفق بكامله دفعة واحدة.
ومن شدة خضوع فيلمون وهبي في عملية التلحين لأوامر غريزية، وليس لأوامر عقلية، فإنه كان يتدفق بالألحان كنبع الماء الصافي، يبقى منها ما يبقى، ويضيع ما يضيع.
حتى إنه أخبرني ذات يوم أنه وضع لحنين لأغنية «من عز النوم بتسرقني»، التي أنشدتها فيروز في مسرحية «لولو». ولما سألته عن السبب، قال لي إنه عندما ذهب لتسليم اللحن الأول لعاصي الرحباني وتحفيظه لفيروز أدرك أنه نسي اللحن، فأعاد تلحينه على مقام راست، كما غنتها فيروز. ثم أمسك بالعود وأسمعني اللحن الأول، بعد أن تذكره، وكان على مقام الحجاز، فإذا به لحن شعبي رائع، فقلت له: طبعاً ستستخدم هذا اللحن المنسي في أغنية ثانية. فقهقه ضاحكاً وقال لي: أبداً (وشوح بيديه في الهواء) ربنا بيبعت غيره كثير.
غير أن فيلمون وهبي الذي أثرى الأغنية اللبنانية برصيد لم يسبقه إليه أحد، كان إلى جانب ذلك يتمتع بروح ساخرة لاذعة، حتى أنه كان في فترة الحرب الأهلية اللبنانية يضع كلاماً وألحاناً لأغنيات سياسية انتقاديه، يسخر فيها من كل زعماء الطبقة السياسية الحاكمة، بأسمائهم الصريحة، في تسجيلات لم تطبع رسمياً، لكن تسجيلاتها السرية ظلت حتى اليوم متداولة بين هواة هذا اللون. ولكن بعد أن كلفته مواقفه الوطنية الجريئة والصريحة والعلنية، تهجيراً من قريته كفرشيما، حيث ظل مشرداً في أكثر من ناحية لبنانية، حتى وفاته.
غير أن أغنيات السخرية السياسية الممنوعة، التي أكثر فيلمون وهبي من كتابتها وتلحينها، لم تمنعه من أن يطرق لوناً آخر من أغنيات السخرية الاجتماعية بل السخرية العاطفية، المسجلة على اسطوانات رسمية، ومنها على سبيل المثال أغنيتان للمطرب الكبير وديع الصافي: (حلوة وكذابة، وبترحلك مشوار). وهذه الثانية افتتن بها أهلنا في الخليج، ابتداء من الكويت، حيث تم تحويلها بمصاحبة الإيقاع الخليجي الشهير إلى أغنية ذائعة الصيت، في كل بلدان الخليج العربي.
ولا أنسى يوم راح يتردد فيلمون وهبي إلى منزلي، في أكثر من زيارة مفاجأة، مصطحباً في كل مرة ولداً من أولاده، وهو يريد سماع لحنه لفيروز «ليلية بترجع ياليل» كما نفذه سليم سحاب مع جوقة منشدي ومنشدات فرقة بيروت، في العام 1982، حيث كان فيلمون وهبي معجباً أشد الإعجاب بهذا التنفيذ الجديد للحنه، كما استمع إليه من الفرقة في حفلة حية في قاعة البيكاديللي.
وقد تذكرت وأنا أنتزع من ذاكرتي شذرات عن لقاءاتي المطولة مع فيلمون وهبي، كيف جلس مع شقيقي سليم طالباً منه أن يدون له بالنونة الموسيقية، أغنيات فيروز لأسطوانة «دهب أيلول» (قاد سليم الاوركسترا بعد ذلك في أثناء تسجيل الأسطوانة)، وقد كنت ثالث هذه الجلسة الفنية، فإذا بسليم عندما ينكب على جملة موسيقية لتدوينها على الورق، يرى فيلمون وهبي يتحول إلى عوده ليعزف جملة لحنية جديدة، ولما طلب إليه التمهل في التلحين قال له: لا، ليست هذه بقية اللحن الذي تدونه، أني أقوم بتلحين أغنية أخرى، ريثما تنتهي من التدوين.
هكذا عاش فيلمون وهبي، متدفقاً كالنبع الغزير، مؤسساً للأغنية اللبنانية في أربعينيات القرن العشرين، ورائداً أول وأغزر من روادها فيما تلا ذلك من عقود، تتدفق منه الألحان كما تتدفق المياه العذبة من شلال هادر، مقترنة بأعمق جذور ما خلفه لنا أجدادنا من أساليب الغناء الشعبي في المشرق العربي.