رد: الفنان عبدالباسط البدري
انقل لكم الان مقالة لاستاذ عزالدين عبدالكريم من كبار مذيعي الاذاعة الليبية و كان زميلا للفنان عبدالباسط البدري في فترة ما:
عرفت الفنان عبدالباسط البدري منذ خطواتي الإذاعية الأولى ، فقد جمع مهنياً تخصصات عديدة حيث بدأ كمهندس صوت مع بدايات الإذاعة ، لكنه انتقل الى فن التصوير ، وفي هذه الوظيفة عرفته ، بحكم أن بداياتي التلفزيونية كانت في مجال التصوير كذلك ، كان واحداً من العمالقة في المجال ... ورغم أن من تولى تدريبي كان أستاذي محمود السليني ، إلا أنه لم يبخل علىّ بمفاتيح التميز والتي لا يمكن أن تُدون في مناهج ولا تُعلَم في مدارس ، كانت الكاميرات حينها معقدة وبدائية قياساً بزمننا الحاضر ... لكن ... ما لا يعرفه الكثيرون أنه قد تلقى تدريباته في فن التصوير بمحطة ( Rai ) الإيطالية ، وإذا أخذنا بالاعتبار استثنائية إيطاليا في الفن البصري عموماً ، رسماً وتصويراً ، فإننا سنتوقف أمام اللقب الذي أُطلق على الفنان عبدالباسط البدري هناك ...... كان الإيطاليون يلقبونه بـ ( العين السحرية ) لما أنتجه من التقاط غريب واستثنائي للمنظور الذي يلتقي الجميع لتصويره ، كان التقاطه للقطة أو تكوينه لـ (الكادر) مختلفاً حتى عن أرباب الفن البصري .... وهذا قاده فيما بعد الى الإخراج التلفزيوني مع بدايات التلفزيون الليبي خاصة برامج شهر رمضان .....
لكن الأمر الشبه مخفي والذي تبقى معرفته محصورة بين القليلين ، أنه كان من أفضل الملحنين الليبيين وأضيف هنا رأيي الخاص بأنه كان من الأفضل على ( الإطلاق )... ورغم أنني لست متخصصاً موسيقياً ، لكنني أدعي بأن ذوقي الموسيقي يمكن أن يمنح لرأيي حق الإصغاء ... وأقول :
لقد فوجئت بأن جل ما شدني من أغاني ليبية هي من تلحينه ، وحينها آليت للمسألة شيئاً من الإهتمام ، درجة أنني ذات يوم أسريت اليه برغبتي في أن أدرس علاقته بالموسيقي لما شابها من تغطية وخجل ومواراة ، لكنه وكالعادة ، ابتسم و ذهب بي بعيدا الى نواحي أخرى .... وطحنت الحياة كلينا وذهب كل الى حال سبيله .... فلو راجعنا أعمال الفنان نوري كمال من " نار يا حبيبي نار " و " ذوقي الشوق " وغيرها سنجد أن عبدالباسط البدري هو الملحن ، لو عرجنا على عبداللطيف حويل فإن الأغنية التي عاشت معي طويلاً كانت من ألحانه وهي بعنوان " ليه يا زمان ... والفتني بحنينه " حتى أنه عندما علقت معي الأغنية مردداً اياها ، وأعربت له ان أغنيته هذه من أجمل ما لحن طيلة حياته ، كان يرحمه الله عبدالباسط يرد علىَّ مشاكساً ، هامساً بقوله : ( في الأمر فيلم ) .... ومن لا يذكر " خطم حفني شيع عيونه فيَّ " لمحمود الشريف ، ومن منا لا يعرف أغنية " وعيوني سهارة " التي غناها الفنان سلام قدري وكتب كلماتها علي السني .... وغيرها كثير ....
ألحانه خرجت من الحدود الليبية الى مصر وتغنى ثلاثي المرح بأغنية " يالعنب ويا لعنب " ... لا يمكنني حصر أعماله وأتمنى أن يساعدني الزملاء بتعدادها .... لكن لي مع ألحانه قصة طريفة ... فرغم أنه مخرج فذ وفنان بعين سحرية كما سموه الإيطاليون ، إلا أنه ذات يوم في أواخر الثمانينات ، طلب مني أن اخرج له عمل غناه الفنان " علي الشول " وهو معروف كممثل أكثر من مطرب ، وسمعت الأغنية وأثارتني الى حد كبير ، لكنها كانت عبارة عن قنبلة موقوته واعلان حرب صريح ، لا يمكن لهذا الإعلان أن يصمد طويلاً وسيأتي على كل من له علاقة .... وعدت اليه وقلت مستغرباً : أحقاً تريد مني أن أخرج العمل ، فأجاب : لم لا ... ألم تعجبك ؟؟؟ وحينها نصحته قائلاً : (..أنا لن أخرجها وأرجوك أن لا تصورها ، دعها في إطارها المسموع فقط ، لأن تصويرها سيقضي عليها ...) ومع ذلك حرصت على أن أذيعها في برامجي المباشرة في أوقات محددة واستعملتها كإسقاط لقضايا سياسية محددة أخرى ، وبعد أسابيع قليلة تم منعها وسحبت من المكتبة مع أمر شديد اللهجة .....
كانت الأغنية هذه ( يدير الله طريق ) وحقيقة كانت رائعة بكل المقاييس ومن مكامن القوة فيها أن " علي الشول " هو من غناها ... ويقول مطلعها على ما أذكر : يدير الله طريق ..ندير اللي يرضيك .... وتمر أيام الضيق ... يا غالية ...
لقد كانت رسالة للبلاد في عهد يعرفه الجميع .... وهكذا كان يعمل الفنانون والشعراء .....على عكس ما يفهمه جيل هذا الزمن من كون أن الصمت خيم على عطاءات الرواد والمبدعين ... وما أسهل الظلم خاصة عندما يتشح بالجهل للتاريخ والأشخاص ....
أتصور أنه لو قُدر للموسيقى الليبية أن تؤرخ يوماً ، فإننا سنجد عبدالباسط البدري يتربع على مساحة كبيرة من فترة عنفوانها وتميزها .... و يمكن قول الكثير عنه وفي نواحي فنية وشخصية كثيرة ...لكنني أترك للأساتذة الزملاء إكمال التأريخ ...ولو أنني أود ملاحظة أن هذا الفنان المبدع غلب حضوره كشخصية تلفزيونية عن شخصيتة الموسيقية ، وكم هو مؤلم عندما نعرف أنه عاش حقبة من حياته بدون سكن بين الفنادق ، كان أجنحة الشاطئ واحداً منها ..
يتقبله الله بواسع رحمته ... وشكرا عبدالباسط فقد تركت ما يميزنا موسيقياً ... و قد رسمت خطوطاً جميلة لوطن مهموم ... فجعلت من المهموم قيمة وعلامة فارقة في مجال الفن .... شكراً لك أيها الأستاذ ........
عزالدين عبدالكريم
__________________
لو تؤمريني فوق نسمة انطير*** ونجيبلك حزمة نجوم تنير
تضوي طريق الحب للانسان***يا ليبيا و تزرع ترابك خير
أبوعاصم
|