بسم الله الرحمن الرحيم
نشأ نسيم فى أسرة تعمل بصناعة الأوانى الفخاريه فى مكان يطلقون عليه إسم "القاعه", وهى مهنة ورثها أبوه عن أجداده وحرفتهم التى لا يعرفون غيرها, يعمل بها الاب والأم والاولاد جميعا , لم يكن غيرهم فى البداية يعمل فى تلك المهنه وعلى مر الأيام وزيادة الطلب على منتجاتهم ظهرت قاعات أخرى لآخرين فى نفس المكان الواقع على أطراف القريه فى طريق المقابر والاراضى الزراعيه بعيدا عن العمران وبيوت الفلاحين ومع الزحف العمرانى للقريه وزحف المبانى تبدل الحال وأصبحت القاعات تحيطها المقابر من كل جانب حتى أنها تبدو لمن يراها انها مقبره منهم لولا ارتفاع مدخنتها والتى ترتفع أمتارا الى أعلى , واعتاد اصحاب القاعات أن يتناولو غذائهم وهم يسندون ظهورهم على جدران القبور والاحواش يمدون أرجلهم طلبا للراحه مع شرب كوب من الشاى , وأحيانا أخرى كان منهم من ينام على مصطبة إحدى المقابرعندما يستبد به التعب , وألف أصحاب القاعات هذا الوضع الغريب وتلك الحياه بين الأموات وتآلف معهم أهالى القريه واعتادوا وجودهم وسط مقابرهم , ودائما ما كانوا ينادون على من يمر فى طريقهم من زوار الموتى أو أى عابر سبيل ليأكل معهم أو ليشرب الشاى
............. بسم الله يا جماعه .. اتفضلوا ... خير ربنا كتير .....
وكان لعم ابو العينين "التربى" النصيب الأكبر من تلك النداءات بحكم وجوده معظم ساعات النهار وأحيانا فى الليل فى المقابر ليقوم بعمله فى دفن الموتى وقراءة آيات من القرآن ترحما عليهم ....
وصناعة الفخار من الصناعات الشاقه ولها مراحل كثيره تبدأ بتخمير الطين أياماثم تقطيعه وتشكيله على النحو الذى يريدونهمن طواجن أو قلل أو أزيار أو برامق إلى ما هنالك من انواع الفخاريات , ثم يضعوه تحت أشعة الشمس أياما ليجفإلى أن يأتى اليوم الشاق والأهم , وفيه يقوم الأب مع صلاة الفجر ليرص المصنوعات فى فاخورة النار حيث يصطف الاولاد ومن يأتى معهم من أبناء وبنات الجيران وقوفا كل واحد يقذف للاخر قطعة منها حتى تصل للاب الذى يجلس القرفصاء أمام فوهة الفاخورة الساخنه ويقوم برصها فيها , ويظلأثناء ذلك يقذف بنشارة الخشب بمهارة فى النار حتى يتم حرقها وتحويلها الى فخار أحمر طوبى , وكان يصيبه من لفحات نيرانها ولهيبها النصيب الاكبر خصوصا فى أيام الصيف وهو يرتدى قطعه قماش يربطها حول وسطه تصل إلى ركبتيه فى زي أشبه بما كان يرتديه المصريون القدماء , بينما تنبعث الأدخنة السوداء الخانقة من حوله , وهو رغم ذلك البؤس سعيد بعمله لا يشكو ولا يتململ......
وكان دور الأم تجهيز الاكل مع أذان الظهر وحمله على رأسها على الصينيه الالمونيوم الكبيره بعد أن تضع لفافة من القش يسمونها الحوايه على رأسها , وفى يدها الاخرى تحمل قلة الماء البارد بينما يجر طرف جلبابها إبنها الصغير من الخلف ذاهبا معها إلى القاعه , كانت ككل نساء الريف لها مهارة ومقدرة على التحكم فى وضع الصينيه على رأسها مثبته بالحوايه دون أن تقع منها أو تهتز والقله فى يدها وهى تمشى فى خطوات رشيقة تتحرك يمينا وشمالا فى دلال دون حاجة لأن تمسك الصينيه بيدها , ثم تنطلق من منزلها لتوصيل الوجبه السريعه (التصبيره) لزوجها وأولادها بالقاعه, وما إن يروها وهى تهل بطلعتها عليهم بالصينيه من بعيد حتى يتصايحون ويهللون وقد غلبهم الجوع والعطش , ثم يلتفون حول طعام لا يزيد على صحن من المش فيه قطع متناثرة من جبن قديم وحبات من الطماطم والبصل أو الفول الأخضر وإن تيسر الحال تأتيهم بأقراص الطعميه الساخنه مع أرغفة الخبز الفلاحى ويأكلون وهم يتجاذبون حديثا صاخبا لا يخلو من بعض المناوشات , وكثيرا ما كان نسيم ينادى على ورده بنت صاحب القاعه المجاوره لتأكل معهم ويخصها بقرص طعميه يعطيه لها خفية (من تحت لتحت) ..
وفى آخر اليوم الذى كان دائما ينتهى قرب صلاة المغرب تعود أسر كل القاعاتلمنازلهم يستحمون ويبدلون ملابسهم ويلتفون حول الطبليه لأكل الوجبه الرئيسيه الساخنهالتى كانت فى أغلب الأحوال من السمك المشوي والأرز والبصل , وأحيانا أخرى من محشىالكرنب والباذنجان أو من شوربة العدس فى أيام الشتاء البارده , وبعد العشاء يخرج الاب أبو نسيم حيث المقهى ليشرب الشاى ويقابل زبائنه من تجار الجمله ليتفق معهم على بيع البضاعه ويعود إلى داره ليرتمى على فراشه وقد هده التعب مبكرا حيث العمل مبكرا ...
فى هذا المكان ولد نسيم وشب وترعرع ليعمل بنفس الحرفه بعد أن حفظ بعض أجزاء من القرآن وتعلم مبادئ القراءة والكتابه "فك الخط" فى أحد كتاتيب القريه, أما ورده فكانت فتاة بضه بالغة الجمال والنضاره , لون بشرتها من لون سنابل القمح عندما تنضج وعيونها ذات لون عسلى , وكان يزيدها حسنا اللحظات التى يبدو عليها خجل بنات الريف .. وفى هذا الجو الذى يقضى فيه نسيم طول يومه انشغل قلبه بورده بنت صاحب القاعه المجاوره
كانوا فى سن الصبا يصنعون عرائس من الطين يضعونها فى فاخورة النار حتى تنضج وتصير تمثالا من الفخار الأحمر , وكثيرا ما كانت تختبئ من نسيم وراء إحدى المقابر وهو يبحث عنها وفى خطوات هادئه ونفس مكتوم ومن خلف المقبرة الاخرى يمسك يدها على حين غرة منها لتنطلق ضحكاتهما , وكثيرا كذلك ما كانا يختبئان وراء سور حوش من الأحواش ويرسمون القلوب التى تخترقها سهام الحب ويحفرون حروف أسمائهم على جدران المقابر .. وكان نسيم ينتهز فرصة وجود ورده معهم أثناء عملهم ويداعبها وهى تصطف معهم للمساعده, أحيانا كان يناولها قطعة الطين فى مكان أبعد من متناول يدها ليسمع منها كلمات اللوم وهى تصرخ فى وجهه بينما هو يضحك منها وهى تتصنع الغضب , حتى عند مجرى الماء وهما يغسلان أيديهم وأرجلهم من الطين , يظل نسيم يقذفها بالمياه ويضرب بقدميه فى مجرى الماء ليتناثر على ملابسها وهى تصرخ فيه وتجرى من أمامه لتعود إليه كى تضربه على كتفه, كل ذلك على مرأى ومسمع من الجميع وكلهم يعرفون مدى إعجاب نسيم بورده , وكان يوم السعد لحبهما حين تأتى جنازه حيث كانا ينتهزان فرصة انشغال الناس بالعزاء ودفن الميت مستغلين ذلك فى انصرافهم وراء أى حوش يتسامرون ويعبر كلاهما للأخر عن حبه .. وهم يكتمون ضحكاتهم حتى لا تصل الى مسمع المعزيين من خلال سكون المكان ورهبته
وكبرت ورده وبدأ خطابها يتحركون وعلى نسيم أن يتحرك هو الآخر قبل أن تفلت من يده , وذات يوم بعد صلاة العصر وعلى مصطبة إحدى المقابر جلس أبو نسيم مع أبو ورده يحتسيان الشاى , وفى هذا اللقاء طلب منه يد ابنته ورده لنسيم فلم يمانع وفى نفس اليوم ليلا تمت قراءة الفاتحه فى منزل ورده وانطلقت الزغاريد , ولم تمض غير بضعة شهور حتى تزوجت ورده من نسيم وتصاهرت القاعتان ..
إنتقلت ورده إلى منزل عائلته ليكون أول قرار له أن تبقى بالمنزل لمساعدة والدته فى أعمال المنزل وإعداد الطعام , واستمرت أم نسيم تذهب بصينية الغداء وقت الظهيره الى القاعه , وفى إحدى المرات وهى ذاهبة بالطعام وعلى الجسر المؤدى للمكان ولضيق الجسر صدمتها عربه كارو يجرها حمار ضامر متجها بحمولته من البرسيم إلى القريه , فإذا بها تقع وتنكسرساقها التى وضعها الطبيب فى الجبس وأمر أن تبقى كذلك شهران دون حركه , وأسقط فى يد نسيم , لم يكن هناك بد من تولى ورده مسئولية حمل صينية الاكل وقت الظهيره إلى القاعه , ومع الأيام زادت معاناتها من حملها للصينيه بعد أن تقدمت شهور حملها وبدأ الجنين يتحرك فى أحشائها , لكنها كانت مضطرة إلى هذا العمل اليومى الشاق ذهابا وعوده بخلاف خدمة حماتها بالمنزل واستقبال زوارها...
وذات مره وهى ذاهبة بالغذاء تمشى فى خطوات متثاقلة والعرق يسيل على جبهتها ووجهها , وقبل أن تصل إلى القاعه , صرخت صرخة عاليه وارتمت على الارض وهى تصرخ من شدة الألم , هرع إليها كل النسوه اللائى تصادف وجودهن لزيارة موتاهم وغيرهن من قاعات الفواخير المجاوره , أدركن أن ورده جاءها المخاض وتعالت أصوات البعض ...... ولاده .. ولاده .. ورده بتولد يا ناس .. إلحقونا يا عالم .....
حملوها إلى حيث حوش فسيح لأحد المقابر بعد أن غطوا أرضه بالقش, وسارع عم ابو العينين فى الحال بخلع الشال الصوف من على كتفيه ووضعه فوق القش , وقامت احدى السيدات من زوار المقابر بعملية استقبال المولود , بينما كل الناس واقفون خارج الحوش منهم من يدعو الله ومنهم من يجهز العربيه الكارو ذات الحمار الضامر لتستعد لنقل ورده بالمولود كل ذلك و ونسيم يغدو ويروح حائرا قلقا وهو لايدرى ماذا يفعل , وأخيرا إنطلقت صرخات المولود التى امتزجت بضحكات الفرح والتعليقات المرحه ..
وسرعان ما اتت العربه الكارور ذات الحمار الضامر الذى يدل حاله على حال أهل القاعه وسرعان ما فرشوها بالقش وفوقها بطانيه رثه وحملوا ورده عليها مع مولودها أخذت العربه الكارو تشق طريقها الى حيث منزل ورده داخل القريه والجميع من حولها ممسكين بها مسندين أيديهم عليها وهم يتداعبون ويطلقون النكات بينما أم ابراهيم تتغامز بالكلام قائلة ......... أمال فين حماتها .. سيباها ليه تشيل الاكل للأنفار .. هى مش برضه بكريه ؟!.. وسرعان ما ترد عليها نفيسه قائلة ....... يا شيخه حرام عليكى هو أنتى متعرفيش إن ام نسيم مكسوره ورجلها فى الجبس ونايمه فى الدار , يا عينى على حالها , والبت ورده يا كبد امها لسه طريه شايله عنها الحمل كله حتى خدمتها من كافة شئ ....
ونسيم يسير خلف العربه لاحول له ولاقوه متثاقلا بالحمل الجديد الذى سوف يقع على عاتقه , سارت الكارو فى خطى بطيئة إلى حيث القريه لتقابل من على المصرف جنازه ميت تدخل المقابر للدفن .. إضطرت الكارو لأن تميل على جانب الجسر فيما يعرف "بالهدد" لتفسح الطريق للجنازه كى تمر ..
وتعالى صراخ وعويل أهل الميت مع بكاء وصراخ المولود القادم للحياه واختلطت الصرخات على الميت مع صرخات المولود الجديد .. لتمتزج الأصوات مابين صراخ على مودع للحياه وصراخ قادم للحياه .. والكل فى نفس واحد ... لا اله الا الله محمد رسول الله .. رفع أبو نسيم رأسه إلى السماء بينما يده تشير إلى الأرض وهو يقول ............. حكمتك يا رب ... مخلوقين من الطين ... وراجعين له ...
__________________
إذا أنا لم أعط المكارم حقها
فلا عزني خال ولا ضمني أب