تعلم إدارة سماعي، الأعضاء أن كل الملفات والمواد المنقولة من مواقع خارجية أو مواقع تخزين للكتب أو المتواجدة بكثرة على شبكة الإنترنت ... سيتم حذفها دون إعلام لصاحب الموضوع ... نرجو الإلتزام ... وشكرا
سار محمد تيمور مع صديقه، كانا يتحدثان في أمور عديدة، هكذا هما، يخرجان إلى الشارع ، يتحدثان في الفن بكل أنواعه ، فإذا بهما يسيران ساعات كاملة . واجههما محل عام،بابه مغطى بستارة من الخرز الملون، وعلى واجهته صورة لامرأة تغني - مرسومة بطريقة ساذجة –
دخلا ذلك المحل ليرتاحا من السير الطويل، وفجأة ظهرت هذه الفتاة، كانت طويلة ، جسدها يميل للامتلاء ، في وجهها ملاحة ظاهرة. لم يكن القصد من الجلسة متابعة ما يقدم من أغاني ورقص. ظنا أنهما سيكملان حديثيهما ، لكن الفتاة شدتهما إليها خاصة محمد تيمور الذي كف عن الحديث والاستماع إلى صاحبه ؛ ونظر إليها . قال محمد لصديقه:
- ما رأيك ؟
- حرام أن تعمل في محلات رخيصة كهذه .
دارت الفتاة بعد ذلك وسط الموجودين ؛ تمد " طارا " ، فيضع الموجودون فيه بعض القروش. جسدها كان يحتك بأجساد الناس. وضع محمد شلنا بأكمله في طارها ، وطلب مقابلتها ، جاءته بعد أن انتهى عملها في المحل . جلست بينه وبين صديقه ، سألها :
- ما الذي يدفعك لعمل مثل هذا ؟
ضحكت وقالت: الحاجة .
وتكرر حضور محمد تيمور إلى ذلك المحل، ينتظرها حتى تنتهي " نمرتها " ، يصيح بها :
- طماطم، طماطم ، فاطمة .
وتصيح من فوق المسرح: سأحضر يا أستاذ تيمور .
يسيران معا ، يقول:
- سنتناول العشاء الليلة لدى حاتي مشهور بروض الفرج.
يتابعها وهي تأكل مبتسما، تقول وفمها ممتلأ بالطعام :
- أنت – يا أستاذ – من أسرة كبيرة وغنية ، فما الذي يشدك إلى فتاة فقيرة مثلي؟
- أحسست وأنت تغنين أمامي بأن داخلك طاقات كثيرة في حاجة لمن يخرجها.
ضحكت طويلا ، حتى شدها محمد تيمور من ملابسها: ما الذي يضحكك هكذا؟!
- حديثك – هذا – يذكرني بالذين يخرجون العفاريت من أجساد الملبوسين .
وضحك محمد أيضا: رأيتهم يا فاطمة ؟
- إنهم كثيرون في حينا .
عادا إلى الشارع بعد أن تناولا العشاء، قال:
- سنذهب إلى بعض الأصدقاء؛ لأعرفك بهم .
- مغنون مثلي؟
- لا، لا ، كل واحد منهم أستاذ في مجاله .
كانت سعيدة ، محمد تيمور منذ أن عرفها وهو يعطف عليها ، تتناول العشاء على حسابه معظم الليالي ، ويشتري لها الشيكولاتة دائما، قال:
- الذي يحدث في المحل الذي تعملين فيه، ليس فنا، إنه نوع من التسول، الفن أسمى من هذا بكثير .
- ستعود ثانية إلى كلماتك غير المفهومة؟!
وصلا إلى قهوة " الراديو" بشارع عماد الدين، تشبثت بيده جزعة :
- أستاذ محمد ؛ إنني لم أتعود الجلوس في أماكن راقية كهذه.
فصاح بها:
- ادخلي اسمعي الكلام .
سار ناحية مجموعة من الرجال يجلسون في ركن القهوة، وهي تتابعه متعثرة في مشيتها ، تكاد تكبو على وجهها من شدة الخجل، صاح:
- السلام عليكم ، تعالي يا فاطمة ، اقتربي.
قال أمين صدقي :
- من فاطمة هذه ؟
- إنها ، اقتربي يا فاطمة ، مالك مذعورة هكذا ؟!
قالت وهي تتوارى خلف ظهره:
- إنني مرعوبة من هؤلاء.
- ما الذي يخيفك ؟
أشارت إلى عزيز عيد :
- هذا الرجل شكله غريب .
- إنه الأستاذ عزيز عيد ، أستاذنا جميعا .
وصاح أمين ساخرا:
- اقتربي يا ابنتي ، إنه لا يعض .
ومد عزيز يده لها:
- اقتربي يا ابنتي ، أهلا بك ، اجلسي.
- شكرا لك .
قدم محمد تيمور لها مقعدا :
- بطاطا بها روح الفنانة الطموح، واعتقد أنه بقليل من الجهد سيمكنك أن تصقل هذه الدرة الثمينة؛ تجعلها نجمة مشهورة .
حدثها عزيز ليزيل عنها أثر الرهبة والارتباك :
- أنت فنانة ؟
- أنا ؟!
قال محمد تيمور :
- الغريب أنها تتحدث معي بعشرة ألسن ، لكنها الآن مرتبكة ولا تجد كلمة تقولها .
قال أمين : أصل الأستاذ عزيز عيد شكله يعني .....
- ماله شكلي يا أمين ؟
قال محمد تيمور : شكلك يشبه العظماء .
قال أمين صدقي :
- هو يشبه نابليون, لينين ، صدقوني ، به شبه كبير من لينين .
سألها عزيز :
- تمثلين يا عروسة ؟
- أغني .
- ولماذا لا تمثلين ؟
- أملي أن أؤلف مثلما يؤلف محمد تيمور .
- تعرفين القراءة والكتابة ؟
- وهل التأليف محتاج لهذا ، المهم الأفكار .
وضحك الجميع، قال عزيز :
- لابد أن تتعلمي القراءة والكتابة ، هذا مهم في كل مهنة وفي كل فن .
قال محمد تيمور سعيدا لتجاوبها مع عزيز عيد:
- ما رأيك يا أستاذ ؟
- أرى شعاع الفن في عينيها .
قال أمين صدقي :
- هذه فرصتك ، جاءتك خامة جيدة وأنت تجيد صقل المواهب وتهذيبها .
قال عزيز في أسى:
- فعلت هذا مع الكثيرين والكثيرات .
قالت فاطمة :
- ستقدمني لمحل أكبر لأغني فيه .
قال عزيز : شكرا لك يا محمد تيمور، جئت بها في الوقت المناسب، فأنا أفكر منذ مدة طويلة في عرض مسرحية " القرية الحمراء "
- أعرف ، ولكن التمويل غير موجود .
- من حظ هذه الفتاة الجميلة ، جاء التمويل هذا الصباح .
قال أمين :
- الخير على قدوم الواردين .
وقالت فاطمة في أسى : أرجوكم ، أنا لا افهم شيئا مما تحكون .
قال عزيز : ستمثلين يا عروسة ، ستقومين بدور " عين أبوها "
قال محمد تيمور : أحك لها موضوع الرواية لكي تفهم .
***
كانت الآم قلقة على ابنتها ، هي تعود كل ليلة قبل هذا الوقت بساعتين تقريبا .نظرت من الشرفة ، ثم من الباب ، كل شبح يأتي من بعيد؛ تظنه هي ، حتى يقترب فتتأكد من أنه امرأة أو رجل آخر . حتى ملت وضاقت ، وعندما دخلت فاطمة الشقة صاحت فيها غاضبة : ما الذي أخرك .
- قابلته يا أمي ، قابلته.
كانت تتحدث وكأنها تتحرك فوق خشبة المسرح، تحرك يديها وساقيها وجسدها كله ، ترقص .
- ماذا يا – روح أمك – من هذا الذي قابلتيه ؟!
- عزيز عيد ، أبو المسرح المصري .
- قلت لك ألف مرة إياك والخمر .
أمسكت ذراعي أمها : صدقيني ، أنا لا يمكن أن أتذوقها، أنا لست سكرانة، ما أقوله هو الحق . قابلت عزيز عيد ، وقال أنه سيجعل مني ممثلة مسرح كبيرة .
أشاحت الأم بذراعها غاضبة : بلا مسرح بلا غيره، احمدي ربنا على ما تأخذينه من صاحب المحل الذي تعملين فيه .
كانت مرتبكة يوم العرض ،حقيقة هي مثلت دورها باقتدار في البروفات ، لكن أمام كل هؤلاء المشاهدين ؛ الأمر يختلف .
وقف محمد تيمور بجوار خشبة المسرح يشجعها:
- لا تخافي يا فاطمة ، استمري ، لا تخافي .
وتهمس هي له : إنني خائفة .
وأمين صدقي يصيح بها : تشجعي يا فاطمة .
وصاح عزيز عيد وهو يرتدي الملابس الريفية : يا سماء أرعدي .
وخرج صوت فاطمة مشروخا ومتقطعا أول الأمر:أرجوك يا عمدة،أرجوك يا عمدة .
- اقتربي يا فتاة ، اقتربي مني .
- أنا فتاة مسكينة .
وازداد صوته علوا: اقتربي يا بنت .
وبكت فاطمة، اندمجت في الدور: أرجوك ، إنني خائفة من عينيك .
- اقتربي .
ونظرت فاطمة إلى الجمهور وصاحت :أرجوكم ، أحموني من هذا الرجل .
ووقفت أم فاطمة وسط المشاهدين تصيح:
- جننت يا رجل ، تطارد فتاة صغيرة في سن بناتك ؟!
ضحك المشاهدون ووقف بعضهم من شدة التأثر، وأسرع أمين صدقي إلى محمد تيمور : الحق هذه المرأة قبل أن تفسد كل شيء .
وسأل عزيز عيد فاطمة : من هذه ؟
قالت بنفس نبرة التمثيل وبصوت مرتفع سمعه كل المشاهدين :
- إنها أمي ، أمي .
كانت مندمجة في الدور ؛ فلم تستطع الخروج منها ، فزاد هذا الصالة ضحكا وسخرية مما يحدث ، واقترب عزيز من حافة المسرح وصاح بالأم :
- اهدئي يا سيدتي ، إننا نمثل، ما ترينه الآن تمثيلا وليس حقيقة .
وقالت فاطمة بعد أن استعادت نفسها : اهدئي يا أمي ولا تخافي، إننا نمثل .
وجلست المرأة وجلس المشاهدون واستمر العرض.
المخرج المسرحي عزيز عيد
تسير فاطمة وعزيز عيد في شوارع القاهرة النائمة يضحكان ، اشتريا العشاء بكل ما يملكان ، ولم يجدا أجرة التاكسي أو عربة حنطور ،مر الوقت دون أن يحسا ، قال: ها أنت قد أصبحت ممثلة عظيمة، ستعيدين مجد فاطمة اليوسف .
- الفضل لك يا أستاذ .
- أتذكرين يوم أن جاء بك محمد تيمور إلى قهوة الراديو ؟
- كنت مرتعدة وخائفة ، كما أنا مرتعدة من لقاء أمي الليلة ,
ضحكا طويلا ، كانا سعيدين من نجاح الرواية التي يعرضانها ، رغم أن ما تبقى من نقود المشاهدين لم يكف لركوب تاكسي للعودة ، قالت :
- أنت تعرف أمي جيدا .
- أعرفها .
- أتذكر ذلك اليوم ؟
- لا أنساه أبدا ، وقفت وسط المسرح وصاحت معنفة ولائمة وسابة ، ظنت ليلتها أنني أريد بك شرا .
- هي الآن تطمئن علىّ؛ عندما أكون معك ، تقول: " عزيز في سن والدك ، وسيحافظ عليك "
- أنت جوهرة وأحس بأنني سأصنع بك نهضة مسرحية كاملة .
- كما أحس بأن أمي لن تفوت هذه الليلة على خير .
- لا تخافي، بيتك في الشارع المقبل، سأذهب أنا إلى بيتي ، ونتقابل في الغد.
تشبثت في ملابسه : لا يا أستاذ، ستأتي معي لتطمئن أمي وتعرف أني كنت معك .
وسارا معا، لكن لم يضحكا، ولم يتحدثا . عندما دخلت باب البيت صاح هو:
- ها نحن قد وصلنا البيت، تصبحين على خير .
وجاء صوت الأم من نافذتها صائحة :
- لا، تعال يا أستاذ لنتحدث ، أأتمنك على ابنتي فتجئني بها عند الفجر ؟!
ارتعدت فاطمة وقالت:
- قلت لك من الأول يا أستاذ عزيز .
صعد الدرجات وهو يتحدث ، المرأة تنزل إليه ؛ خشية أن يهرب منها ، قال:
- يا سيدتي، لقد جئنا من المسرح سيرا على الأقدام .
- طبعا، لابد أن تأتيا سائرين على الأقدام ، فمن أين تأتيان بالنقود لتركبا سيارة أو عربة حنطور ؟!
- أرجوك يا سيدتي، ففاطمة في رعايتي .
صاحت الأم غاضبة :
- أية رعاية هذه التي تجعلك تسير بها في الشوارع فجرا .
قالت فاطمة :
- الأستاذ عزيز يعاملني وكأنني أبنته أو أخته الصغيرة .
قالت الأم باكية :
- بصراحة، لن أرتاح إلا إذ تزوجت وأصبحت في عصمة رجل يكون مسئولا عنك .
قال عزيز في خوف وارتباك : سيدتي ، هل يمكن أن أتزوجها؟
صاحت الأم في دهشة : ها.........
وقالت فاطمة دون أن تحس : تتزوجني ؟!
أراد عزيز أن يسرع ، ينزل الدرجات المتبقية ويهرب، لكنه أكمل في خوف :
- شكلي ليس كما يجب، وأكبر منك في السن بكثير ، لكن.......
- لكن أنت فنان عظيم وأنا أتعلم منك .
أما الأم فقالت : هذا هو الحل، تتزوجها وتكون مسئولا عنها لأرتاح من قلقي كل ليلة . ما رأيك يا فاطمة ؟
-- إنه يوم المنى أن أعيش مع أستاذي عزيز عيد في بيت واحد .
على خيرة الله ، في الغد نعقد القران .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــ
نشرت بمجلة الكواكب العدد 2548 في 30 مايو 2000