ان حالي في هواها عجب

[هشام سعيدي]

القدس العربي 19 ابريل 2012

'إن حالي في هواها عجب'
عناية جابر

2012-04-19

لا أمّل سماع: 'إن حالي في هواها عجب' تغنيها أم كلثوم، وكان كتبها أحمد رامي ولحنّها محمد القصبجي. أيّ عجب ! تُغني أم كلثوم وفيها الصوت مستوفياً نضجهُ، ممتلئاً روعة تّامة في طبقاته العليا والدنيا، يُظهرّها ذلك الثراء الأسطوري مُعترياً النغمات المديدة والترجيعات الطويلة.
أيّ عجب! تُغني أم كلثوم في مدّ وترجيع مُذهل. أيّ عجب! ذلك الهوى، تحتشد له حنجرتها، متنقلة من قمة، متأهبة الى قمة،ذاهبة من قمة الى قمم أخرى في نشيد مذهول هو نفسه من افتتانه بنفسه.
محمد القصبجي لم يكن مُلحناً مُجدّداً فحسب، والموسيقي الأول في العالم العربي، بل كان عاشقاً 'للسيدة' يسهر على راحتها، ويُدير فرقتها الموسيقية وهو في مكانه بين أفراد تختها، ويشاركها في نقابة الموسيقيين، وفي لجنة الإستماع في الإذاعة، وفي اللجنة الموسيقية العليا، وفي لجنة الموسيقى في المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب، وبإختصار كان المعلم المتيّم بتلميذته، وكان أن قادها الى الشهرة والنجاح عاملاً بحنّو على تهذيب صوتها الريفي العظيم.
صحيح أن لحنه الخالد لأغنية: 'إن كنت أسامح وانسى الأسيّة' كان اللبنة الأولى في البناء الضخم المسمى أم كلثوم، وجواز مرورها الى ما يُشبه التقديس عند جمهورها وتعلّق الأسماع بها وعشق القلوب لها، سوى 'ان حالي في هواها عجب' تثير بي شخصياً لدى سماعها، ورعاً وهلعاً في آن، وتنتابني حال تقرب السماع الصوفي إن صحّ التعبير، وأغيب معها تماماً عن الزمان والمكان.
مع هذه الأغنية لا أعود أسمع صوت أم كلثوم كمغنية، بل يُخيّل لي أن القصبجي نفسه من يُغّني هواه الموجع لها. في 'إن حالي ..' يهجم صوت أم كلثوم الى سمعك، بالأحرى يهطل هطولاً ومن سماء عالية، يُزيّنهُ ذلك الجهل المطبق بالغرام من أحسن بالغناء سوى الجاهل بلوعة ما يُغنّي لكن أم كلثوم لم تكن بأية حال جاهلة عن معنى كلمات الأغنية (بالأحرى القصيدة) التي كتبها مُغرم آخر أقلّ غراماً بها هو أحمد رامي، ولا باللحن المُعجز الذي وضعه القصبجي أكثر عشاقها غراماً بها. والسيدة ما أن أدركت فتنة ما تُغني وعظمته، وانه يُحتمل أن يرفعها ويُعلي في شهرتها الى السماوات السبع، حتى تلبّست من حنكتها، حال غناء في أعلى ذروة من ذرى العشق- هي التي لم تحب رجلا يوماً، ولم تذرف دمعة، ولم تعرف ما هو الحب ـ وبدأت من خيال ثري سافر معه صوتها في أنفاق وطلع الى السحاب العالية وركب غيمات ملتوية ولم يهب ممرات خطرة في هدف إلتقاط الفرصة الثمينة التي وفرّتها هذه الأغنية.
محمد القصبجي، عميقاً في ذلك الجيب السريّ حيث يختفي قلبه العاشق، كان يشعر بأنها تُغني لغير أسباب اللحن الذي وضعهُ، وفي افتراق المآرب عنه. القصبجي كان يعرف بأنهُ استُغّل. بكيفية ما، كان مغبوناً حقاً وكان الجميع (بحسب قلبه) يستغلونه من أجل شيء وكشيء. أول من استغّلهُ كانت السيدة المعشوقة التي اختّطت مشروعها الخاص على حسابه وحساب ريادته اللحنية. جعلته وجعلت من ألحانه الفذّة موضوع أحلامها بالشهرة، كمكافأة طبيعية على صوتها العظيم . كل ما كانت تفعلهُ كان يبدو لأجله مع ذلك لاشيء مما يريده القصبجي فعلاً كان جزءا منه. كان عاشقاً، ولم تكن عاشقة، وانتهى بأن أصبح مُساقاً، أبعد عن التقدير، وانتهت حياته مُبعداً عن تختها الموسيقي، متحسراً على ملازمتها كظل.
أكثر من: 'رقّ الحبيب' و' ان كنت أسامح' العلامتين المُضيئتين في النغم، بدت: 'إن حالي في هواها عجب' أكثر صراخاً ابداعياً، وفيها ذلك العشق الواضح ( في اللحن أكثر ممّا هو في الكلام وهذه نقطة تُحسب للقصبجي أكثر منها لرامي) وقد وضع القصبجي نفسه، إرادياً وتائقاً، في خدمة صوت أم كلثوم، قضية قلبه وفنه وروحه التي لم تؤمّن له يوماً ما يتعدى رعب السكين البارد المسلط على مصيره.
كان القصبجي يُلّطف حاجات قلبه أمام الست، لأنه يعرف أن شخصها ان غضب يستدعي الخوف، وكان يحسد رامي (الذي عشقها بدوره) على عدم خوفه منها، رغم حقيقة أنها لم تُشكّل تهديداً لأحدهما، بل هي احتاجت وبشدّة انتباههما وعبقريتهما. سوى أنها شكوك القصبجي العاشق، الموسوس الذي بقي يعيش حبهُ وفنهُ على حاّفة قاطعة. الأكثر أن عشقه للست، احتاج الى حافة قاطعة، دفعته الى مزيد العطاء والخلق الفنيّ. مع رامي شريكه في العشق، أمكن للقصبجي أن ينظر قدماً للعطاء، والخوف معاً.
من يسمع: 'إن حالي ..' يسمع لحناً مريراً. طعم العشق القويّ . يعزف القصبجي على عوده من دون رفة جفن . قلبه في الداخل يرّف، يرتعد هلعاً. صوت أم كلثوم في هذه الأغنية يكافح للتمسك بالجُمل اللحنية، حائرة من سخونة تُلهب حنجرتها.
من جهتي قضيت ليلة أمس أستمع للقصبجي في أكثر من عمل، وحين نظرت من النافذة كان الليل ذهب، فيما بقيت نكهة الألحان في صدري. أية أم كلثوم ذات حظ عظيم.

[MUNIR MUNIRG]

مقال قيم.... شكرآ د. هشام سعيدي
وبعد إذنك ألأغنيه ليستمتع الجميع بقمتين أداء أم كلثوم وألحان القصبجي.
وهذه ألأغنيه هي من أوائل ألحانه إن لم تكن أولى ألحانه للست حسب حديث للقصبجي في برنامج تاكسي السهره.