مقالات عن الفنان يوسف عمر
كتب قارئ المقام العراقي الأستاذ حسين إسماعيل الأعظمي في عام 1993 بمناسبة الذكرى السابعة لوفاة يوسف عمر الدراسة التحليلية القيمة التالية التي نشرت في جريدة الثورة وبعد ذلك في كتاب ( المقام العراقي إلى أين ؟؟ ) لكاتبه الأستاذ الأعظمي :
يوسف عمر الرجل الذي كرس حياته الغنائية في أداء المقام العراقي ، بل كرس كل حياته منذ أن نشأ بالاهتمام بالغناء المقامي ذي الروح والتعبير البغدادي ، حيث غنى معظم المقامات كبيرها وصغيرها وقد أجاد ونجح في جميعها على وجه التقريب ، وأداها بنضوج فطري ترافقها خبرة طويلة في الممارسة ، إضافة إلى الموهبة التي يتمتع بها.
إن المقامات التي غناها يوسف عمر تكشف النقاب عن إمكانية مؤثرة في الجماهير ، وقد امتاز يوسف بطريقة أداء وأسلوب غنائي تعليمي واضح المعالم ودراسي ، جاء بالفطرة دون قصد منه. أي إن طريقته الغنائية السهل الممتنع كما يقال في الأدب .. ولعل هذه الميزة التي انفرد بها يوسف من أهم أسباب نجاحاته في الأداء وبناء مجده الذي لم يكن يوسف قد حسب له حساباً بالمرة.
وبهذه السهولة الأدائية فقد كان يوسف قريباً لأبسط المستمعين ثقافة ، وقد كنت شخصياً أستعين بالكثير من تسجيلاته خلال تدريسي للمقام العراقي في معهد الدراسات الموسيقية ، باعتبارها نموذجاً غنائياً واضح المكونات في نفس الوقت ، وقد اعتمد يوسف في أسلوبه هذا على تبيان عناصر المقام وأجزائه في تسلسل واضح وجيد في معظم الأحيان ، والسامع يستطيع من أول وهلة أن يتتبع سير أو تشخيص محتويات المقام الذي يسمعه بصوت يوسف عمر. بذلك فقد حصل يوسف على مستمعين من كافة المستويات بمزيد من المتعة ويمكن تقارب هذا القول في أساليب بعض المشاهير المؤدين الذين حازوا على جزء من صفة السهولة الأدائية الذين يبدو حماس الجماهير لهم حماساً صادقاً.
إن هذا الوصف الصريح للأداء المقامي البغدادي ، هو من مميزات المقام العراقي كلون تراثي غنائي شامخ بين الألوان الغنائية العربية ، وهناك كثير من المتعة والقناعة التي يستطيع فيها يوسف عمر أن يعطيها بتعبيراته العاطفية ذات الجاذبية التي يستمتع بها المستمع.
ويمكن أن يكون هناك اعتراض في أن كل هذا يحدث على الصعيد المحلي ، ولكن رغم أن هذا الاعتراض فيه بعض من صحة القول ، إلا أنه يمكن أن نقول بأن المقام العراقي من خلال مؤديه المشاهير قد تمكن بنجاح مطرد من وضع كيانه الأدائي ضمن خارطة الغناء العربي المنتشرة هنا وهناك من مناطقنا العربية بل وحتى خارجها.
قد يتسائل جمهور المقام العراقي عن إمكانية ظهور يوسف عمر كمؤدٍ للمقامات بدون القبانجي..!؟ أو هل ظهر نجم يوسف عمر بأفول نجم محمد القبانجي ..!؟ إني أشك في هذا .. إن أساليب التذكير المبنية في داخل أداء كل منهما توضح لنا الميزة الفارقة بينهما من خلال أدائهما للمقام وما يسمعه السامع ، ذلك على الرغم من أن كثيراً من فن يوسف وصفاته الأدائية وطريقته التي بنى عليها أداءه للمقام ، كان قد استقاها من أستاذه محمد القبانجي ، إلا أن يوسف ليس بسارق أفكار أو أساليب وطرق غيره ، ليس بسبب أسلوبه الأدائي المستقى .. وإنما لأن السامع يشعر أنه يسمع شيئاً يختلف عما يسمعه في مقامات محمد القبانجي .. على الرغم من وجود كثير من أوجه التشابه في بناء المسار اللحني وتطبيق الأصول المقامية بينهما ، إلا إننا نلاحظ هناك أسباباً أخرى لنجاح يوسف عمر في أدائه ، منها .. فارق الزمن .. فالقبانجي برز في العقود الأولى للقرن العشرين ، أما يوسف فإنه ظهر بعد منتصف هذا القرن .. ولا شك أن هذا الفارق الزمني في العصر الحديث يعتبر فارقاً زمنياً كبيراً ، للتطور السريع المستمر في الزيادة الحاصل لشتى مجالات الحياة. .. فالتعبير عن روح عصر كل منهما يختلف بطبيعة الحال ، مع إضافة أن القبانجي أرستقراطي الطبع في حضوره الأدائي بينما يوسف شعبي الطبع في حضوره الأدائي .. ولعل هذه البساطة في أداء يوسف عمر جعلته أيضاً ، قريباً إلى أسماع الجماهير بشكل ملفت للنظر ..
ومن خلال هذه الميزة التي يتمتع بها يوسف عمر في أدائه الذي أطلقنا عليه صفة الشعبية .. فإنه يعتبر أقرب المؤدين قاطبة من التعبير الأدائي للروح البغدادية ... وأخيراً فإن كلا من القبانجي وتلميذه يوسف عمر يتمتعان ببراعة احترافية جيدة ..
ومن ناحية أخرى فقد امتاز يوسف عمر كما ذكرنا آنفاً بالروح المعبرة عن البيئة البغدادية في كل أدائه ، وكذلك تميز بنقله للأصول والشروط المقامية من حيث مساراتها اللحنية وتعبيراتها من السابقين إلى اللاحقين بكل أمانة وإتقان ، ولم ينقص منها شيئاً وكذلك لم يضف إليها جديداً سوى أنه عبر عنها بأسلوب جمالي فذ استمع إليه الناس المعاصرون ... وقد كان امتلاكه ( للبحة ) الجميلة التي تأتي ضمن الترديدات المتكسرة في الأداء وتسمى أيضاً ( البنتاية ) أثراً جميلاً خلال أدائه خاصة في الأبوذيات التي تعلمها من الملا نوري النجار هي الأخرى ميزة له ... وامتاز يوسف عمر بحفظه المثير للقصائد والزهيريات والأبوذيات والأغاني الكثيرة ، على الرغم من كونه لم يتعد المرحلة الابتدائية في الدراسة ...
وكذلك امتاز صوته بمساحته الكبيرة التي تتسع لمدى لحني لأكثر من أوكتافين أحياناً فإن صوته متكامل بالنسبة للمساحات التي يحتاجها أداء المقام العراقي وهي بلا شك مساحات واسعة جداً. فنوع صوته هو ( التنور).
وبالرغم من كل هذه الميزات الإيجابية في صوت يوسف عمر ، فإننا لو تطرقنا بالحديث عن صوته كخامة صوتية فإننا سنكتشف أنه يحوي على بعض الثغرات والرضوض عند الأداء ، ومن المؤكد أن يوسف عمر كان يدرك هذه الناحية في صوته حسياً ، وظلت محاولاته في معالجتها عن طريق الخبرة فقط ، ولذلك نستطيع أن نلاحظ هذه العيوب في بعض مقاماته مثلاً تكون نهايات المقاطع غير متقنة أو أن صوته أحياناً يرتفع وينخفض نسبياً داخل الطبقة المغناة دون أن يدرك ذلك ، وإضافة إلى ان أحاسيس فنان مثل يوسف لا بد أن تكون متقنة لذلك كان جمال صوته وتعبيراته المقامية الأصيلىة تعويضاً رائعاً لهذه العيوب التي يثير بها الجمهور ليخلو مع خيالاته وعواطفه ..
أما من حيث الأداء فقد كان يوسف في كثير من مقاماته ، كثير التفصيلات والإسهاب ، لا يختزل منها شيئاً ، حتى تتكرر جملة ما عدة مرات ، وكذلك يسمح للعازف عندما يحاوره بآلته الموسيقية وقتاً أكثر مما يجب على حساب ترابط العلاقات الغنائية والموسيقية مع بعضها لصياغة عمل مقامي كوحدة متكاملة ، وخطورة هذا المنحى في الغناء يكمن في احتمال الوقوع في شرك الضعف والركاكة ومن ثم تجزئة الجمل اللحنية في وحدات متفرقة ضمن عملية البناء الفني لغناء المقام ، ولكن والحق يقال أن يوسف عمر رغم مغامراته هذه فقد نجا من هذا الشرك في كثير من الأحيان ، وقد استطاع بخبرته ومقدرته وتجربته الأدائية أن ينتشل أداءه المسهب من الضعف ، وأقرب مثال على ذلك هو أداؤه لمقام النوى الذي أصاب به نجاحاً كبيراً رغم الإسهاب والتكرار في لحن أبيات القصيدة ، وبالتالي فقد أحرز العون من لدن الجماهير المحبة للمقام ، فكان يوسف عمر منذ بداياته ولم يزل يغني مقام النوى الذي أداه بأقصى إمكانياته التعبيرية وموهبته وخبرته الأدائية بقصيدة ابن المعصومي :
أما الصبوحُ فإنه فرضُ ... فعلامَ يكْحُلُ جفنَكَ الغَمضُ
هذا الصباحُ بدتْ بشائره ... ولخيلهِ في ليلهِ ركضُ
يسقيكهما من كفِّهِ رشأٌ ... لدنُ القوام مهفهفٌ بضُّ
والكأسُ إذ تهوي به يده ... نجمٌ بجنحِ اللَيلِ منقضُّ
فانهضْ إلى صهباء صافيةٍ ... قد كادَ يشربُ بعضها البعض
والليلُ قدْ شابتْ ذوائبُه ... وعِذارُه بالفجرِ مبيض
سِيّانِ خمرتُه وريقتُه ... كلتاهما عنبية محض
باتَ الندامى لا حَراك بِهم ... إلا كما يترك النبض
مهلاً فليسَ على الفتى دنسٌ ... في الحبِ ما لمْ يُدنَسِ العِرْضُ
شرح بعض الكلمات الواردة في المقالة من قبل الأستاذ حسين إسماعيل الأعظمي :
-أرستقراطي : مفهوم اجتماعي أدبي وطبقي تمتاز به الموسيقى الكلاسيكية
- شعبي : لا نعني جماعة اجتماعية معينة ، بل يشترك المجتمع بكل فئاته وطبقاته بشكل من أشكال التذوق الموسيقي وبدرجات متفاوتة.
- التنور : الصوت الذي يلي الباص ضمن الأصوات وتمتاز معظم الأصوات الرجالية به وخاصة مؤدي المقامات العراقية حيث يتسع لكل أبعادها.
اتقدم بخالص شكري وامتناني الى الأستاذ الفاضل حسين إسماعيل الأعظمي الذي منحني ثقته ووافق على نشر هذه المقالة القيمة مساهمة منه في هذه الأحتفالية. نرجو منه ورغم مشاغله (يصل امستردام في يوم 21 ويقيم حفلين في امستردام واوترخت يومي 23 و 24 من هذا الشهر) التواصل والمشاركة معنا بما لديه من ملاحظات او معلومات او ذكريات عن الفنان يوسف عمر.
نعمان
صورة الأستاذ حسين الأعظمي : من كتابه الأخير "المقام العراقي بين طريقتين - دراسة موسيقية لفترة الصراع خلال القرن العشرين"