اليكم هذا المقال الذي كتبه صادق الصائغ ابن اخت الفنان عزيز علي عام 1996:
بعد أسابيع من وفاته تسلمت من قريبة لي مظروفاً فيه صورة لعزيز علي . كان واضحاً أنها من الصور الأخيرة ، إن لم تكن آخر صورة له. مثل هذه الصور تدفع الواحد الى التمعن . وأول ما يخطر بالبال انها صورة وداع أو تلويحة مشوبة بحس غريزي باحتمالات موت قادم ، ورغم انها ملونة ومرتَشة وملتقطة في ستوديو خاص . وحسب معرفتي به فانه لم يهتم بالصور ، لكنه هنا ، مقاداً بغريزة شائخة يجلس على كرسي ، وبجانبه ابنته (مي) واقفة ،وهي وأختاها آخر ما تبقى له من عائلة كبيرة . فأبناء وبنات أخيه الذين تُركوا برعايته ، بعد موت الأب ، تفرقوا بمصائر متباينة ، بعضهم توفي ، والبعض قتل ،والآخر استشهد ، ومن تبقى فرّ الى المنافي . أما ابنتاه الأخريان سوزان وايفون ، فتزوجتا وأنجبتا ، في حين استشهد عمر ، وكان في الثامنة عشرة في الحرب العراقية الايرانية ، حين انفجرت الحافلة التي أقلته بصاروخ أثناء عودته في اجازة . وكان الابن البكر ،علي، قد مات هو الآخر ، وعمره سنتان . ولست أستطيع محو هيئة عزيز علي ، يقطع دربونة (عكَد) النصارى الضيقة حاملاً بين ذراعيه ملاكه الصغير لينقله بالتاكسي الى مثواه الأخير.
انه وجه طفل ، رغم الضغون .
غمغمت وأنا أحدق في الصورة .بعض الطاعنين يراوغون الموت ، بشرتهم تنكمش ، وعيونهم تضيق ، وجمجمتهم تتقلص ، وشعرهم يشيب حتى آخره ، لكنهم يكمنون دائماً في ضحكة طفل , ولو تحدثوا لزاد اعتقادك بعبثية المفارقة . هلي مكر خالي اذن بضحكته هذه ، أم انها فلسفته الموسومة بالتحدي حتى وهو على عتبة الموت ؟
تذكرت إلماحتين :الأولى لسيدة تشيكية تأملته يوم كان في براغ والتفتت إليّ قائلة :
"ابتسامته ساحرة .من أين له مثل هذه الأسنان ؟ "
والثانية قول للروائي التشيكي ميلان كوندرا : "اوه الضحك .الضحك هو العيش بعمق لا نظير له ."
وأعتقد أن هذا ما أحسته المرأة التشيكية في عزيز علي ولم تستطيع التعبير عنه بدقة ، وهو أيضاً المضمون الذي يملأ مخيلتي كلما استذكرته.
وفي المشهد :الزمن يقصف والأطفال يولدون ويموتون وابتسامة عزيز علي هي :إنها تعيد الى الحياة شيئاً ظرورياً ،شيئاً لا تعثر عليه حتى في الوجوه المتفائلة. انها بتركيز أكبر :متحدية وعميقة وتهتز لحساسية العصر .لذا ،فان لا ينتكس عزيز علي هو انتصار شخصي لي ،انتصار للعائلة ،لمخيلتي الشعرية وللزمن العراقي ككل.
متى أحسست بوجوده لأول مرة ؟
كان يوماً ربيعياً على ما أذكر ،وكنت أنا في رحلة طفولة أو حلم . أمي سحبتني من يدي وقالت :
-سنذهب لنرى خالك في السجن .
هكذا وجدت نفسي الى جانبه نجلس على بطانية فُرشت في باحة السجن ،وحولنا أناس يروحون ويجيئون وكأنهم في "كَسْلَه" .كانت أمي مشبوحة تسأله عن المصير وهو يلهو بصماغي الحليق درجة الصفر ،مطلقاً في حناياي نزوة الضحك الكبيرة .وأنا من ناحيتي كنت سعيداً لأن صماغي وأذنيّ الكبيرتين كانوا ،من ناحية ،مادة الضحك ،ومن ناحية ثانية ،غطاءً لاطفاء وسواس الوالدة .ولقد كان هذا المزاج هو "نوتة"عزيز علي الموسيقية وهو نعمته الكبرى في قراءة الأحداث والنوازل .وأنا كنت منحازاً له ضد أمي .أما الألم فقد كان راكداً في القاع ،وكلما تقدم بي العمر زادت معرفتي بمساحته ،وزاد اعتقادي بأنه الطاقة الأقوى التي أنارت طريقنا جميعاً.
أنا واثق أن في ضحكته أصلاً من الألم العميق لم يكن يريه لأحد. وكلما أدرت شريط "أمان أمان" و "بغداد" – وهما من أوائل اطلاقاته الغنائية في 1939 – أمسك بي ذلك الوجع الداكن . ولو تمعنا فيهما مجدداً لوجدنا أنفسنا قريبين من قلبه ،وعدا الألم فانهما ظل جمالي أزرق ،فيهما يتبدى السبك الموسيقي لرهافة الغزيرة :
يا هل العرب / كل شي انكَلب / شفنا العجب /
بس يا زمن / شفنا المحن / غازي اندفن /
دنطينا حكَنا / وتجفى شرنا / مشكل أمرنا
وبفضلهما نتوصل الى فجائعية أوزان موسيقية يندر وجودها في الألحان المشابهة . "أمان أمان" كانت عن مقتل الملك غازي ، وهو كما نعرف – ما أقل ما نعرف عنه – مغدور على يد الانكليز ، متمرد ومُساق بضرامات الشباب. ويبدو لي انهم قطعوا نفس العراقيين عندما أعدوا له ذلك الكمين الفاجع. ان تجربتنا في الحزن معروفة ، أغلبها بكائيات يائسة ومبتذلة ،يستوي في ذلك اللحن والكلام. لذا ، ففي هذا السياق تبدو "أمان أمان" رفعة تتعدى قصر النظر الموسيقي السائد في المجالين. انها جنائزية جليلة يُسلخ فيها الجسد ، لكن الروح تبقى معاندة ومتحدية حد القَسَم المغلض ، ويتم التعبير عن هذا بالموسيقى باعتبارها أداته الأساسية ، أداته الستراتيجية. هذا التأليف يجعل من عزيز علي أحد أرقى صعدات الموسيقى العراقية ، وبرأي ، وبصرف النظر عن المناسبة ، فان "أمان أمان" تجدر باعادة نظر اوركسترالي. فمساحة الحانها واسعة ومتعددة وضرباتها تصل الى القلب العراقي ، محيلةً أساه الى سمو ومغيرة يأسه الى ارادة عادلة.
انني أبحث في ذاكرتي عن عزيز علي الحقيقي فأرى الذكرى تتحول الى دوائر مائية. ويبدو لي في بعض الأحيان انه شخصية فانتازية تثير خيالي الطفولي. ولأني مسكون بشيطان التساؤل فقد كان همّي أن أراه كما يراه الآخرون ، ولا كما ينقله الوصف الخارجي لي. لقد كان وضعه الأخّاذ يملأني بالدهشة وتأتي النتيجة بلا شيء ، فأزعم أنني لم أره وبأن ما مضى هومجرد اضاءات غامضة مضت بسرعة.
ها اني التقط احدى الومضات : عزيز علي يحمل طفله الميت "علي" ، يقطع أفياء عقد النصارى في الصيف ووراءه جمع من النسوة ، بينهم أفراد العائلة وبعض المارة وأطفال ووجوه مستطلعة أخرى. بعدئذ يصعد عزيز علي درجات عقد النصارى ويدلف الى سيارة تاكسي.
وأين كنت أنا ؟ في حلم غامض بلاشك. وليتني أستطيع تحرير خيالي من بدلته البيضاء. لقد كان هذا الرجل مشعاً ضمن مساحة رؤياي ، مرة يأتيني على شكل موجة وأخرى على شكل قامة فارعة ، وأنا بقصر نظري حائر ومشدوه.
لكن لماذا أروي هذا ؟ لأقول انه يحضر من الفنتازيا الى الواقع بشكل حاد ، بشكل قامة فارعة كما قلت. لقد كانت قدرته على التعامل مع الفواجع مشهودة ، فهذا الرجل تعوّدها كأداء يومي يمر من الألم الى البهجة وبالعكس. وأظن انه لم تمضي فترة طويلة على ذلك الحادث الحزين حتى ظهر في خيالي ببدلته المشعة البيضاء على قاعة سينما غازي في الباب الشرجي ليغني أغانيه السياسية أمام جمهوره المشغوف فكأن لم يحصل في داخله سوى تبدّل فصول ، وسوى ان الجرح تحول الى غناء. أما انا فقد كنت محشوراً في طفولتي ، روحي تبكي فرحاً ، وفي داخلي رغبة مكبوتة هي أن أدور على مقاعد الجالسين لأخبرهم ، واحداً واحداً ، أن من يرونه على المنصة هو خالي .. خالي عزيز علي !
لقد كانت تلك هي حفلته الأولى والأخيرة على مسرح مفتوح ، اذ لم أرَ أو أسمع بأنه فعل ذلك من قبل أو من بعد. كان يكره أن يوصف بأنه مغنٍ. وقد زاد نفوره بعد أن أشير اليه كمطرب في واحد من الأفلام المصرية-العراقية الملفقة. اسم الفيلم "ابن الشرق" قام ببطولته حقي الشبلي ومديحة يسري ، وظهر فيه بأدوار ثانوية فخري الزبيدي وعراقيون آخرون لا أذكرهم. وحسب تقاليد أفلام ذلك الزمن حُشر حضيري أبو عزيز في أغنية ترفيهية ، وظهر عزيز علي هو الآخر ليغني واحدة من أسوأ أغانيه ، كلماتها تقول : "ياعمامي ياخوالي / صارت الدنيا تحلالي." !
منذ وقت مبكر وأنا اسمع منه ، في مناسبة وأخرى ، انه ليس مغنياً بالمعنى الشائع للغناء ،وانه لا يحب ان يوصف بهذا الوصف الذي ليس له. اذاً ماذا هو ؟ وهل يتضمن الانكار احتقاراً لفن الغناء الذي يجري في دمه وقال انه "أسلوب رقيق للسمو الروحي" ؟ واضح أنه كان دقيقاً مع نفسه. فالطاقة التي فيه هي طاقة مركبة لها ، اذا اُطلقت ، مفعول التأسيس. وهو علانية ، مؤسس ، مسكون بفن جديد سينضج على يديه ، فن بعيد عن الابتذال والدنس اليومي وغباء الآلآت الآدمية.
في محاولة لرفع الالتباس توصل الى المونولوج – المنولوجست. لكن هنا معضلة اخرى ، أليس هذا هو التهريج بعينه ، أهو علي الدبو في بغداد ، أو شكوكو في مصر أو غيرهما هنا وهناك ؟
لقد دفعته ثقافة لغوية مشهودة الى البحث في القواميس الأجنبية : يقول في مقدمة دفتر أغانيه : "مونو- لوج" مصطلح يوناني لاتيني مركب من كلمتين : "مونو" تعني "واحد- فرد" و "لوج – لوجوس" تعني الكلام ، وتركيبهما مع بعضهما يعني "المقال الفردي – الخطاب" .
غير أن مضيّه في البحث عن التباس آخر كان غير ذي بال ، فما ورد في بال أحد أن يصنّف عزيز علي في خانة لا تسعه ، فاتساعه الحقيقي هو اتساع الشارع وايقاعه المجهول الاسم ، هو ايقاع الحياة العراقية بأعمق أشكالها حيوية ودفقاً. وليس يهم قطعاً ان ينشغل عزيز علي في البحث عن أوصاف لا تعني أحداً. فالأهم قطعاً انه أول عربي يستصلح أرضاً جديدة وينتج فناً سياسياً يتطابق والحياة المعاصرة ويترك أبلغ الأثر في حياة العراقيين. أما فيما يتعلق بموقفه من الغناء فقد كان مستثاراً بالرتابة ، والضحالة ، والحشرجة والتخلف والندب والنواح الخ ، وكان يردد قولاً محرفاً "اسمعني موسيقى شعب انبيك بمدى حضارته ، بل وحتى بموقعه الجغرافي" .
وفي رأي فان طلعاته في التلفزيون يهاجم فيها "الغناء المائع الشاذ" والمقام العراقي بصيغته الجامدة كانت محببة وذكية ، لكنها ليست دقيقة بما يكفي لان تسمو الى موقع الاختصاص. وهو لحسن الحظ ، انسحب تاركاً للزمن الادلاء بدلوه ، وكان واضحاً ان مارآه طيشاً كان تعبيراً عن انحطاط شمل الحياة العراقية ككل. ولعله أحسَ ان رومانتيكته النقدية تخنق طبيعته الأكثر حيوية ، فلماذا يهتم بأغاني الأربعة فلوس ، وهو ببشاشة فنّه الضاحكة يستطيع تحريك الحياة ؟
كانت بغداد ، حتى نهاية الخمسينات ، تزدهر على سجيتها ، في الرصافة وفي امتداد شارع أبو نواس اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً. الطبقة المتوسطة كانت تقاوم تسلط العادات ، وتحاول طرد الضجر والرتابة في الأندية والبارات والملاهي الليلية ، حيث تتمرد الأحزاب بطرق جارحة وتظهر الراقصات والمغنيات بأزياء بغايا وبالعكس. وفي الليل تظهر اختلالات المدينة بشكل سافر ، ويظهر الجمهور المشاغب بمظهر المستمع الأمين لفن الغناء. ومن لواحق هذه الألعاب أن تعلق صور الراقصات والمغنيات على ابواب الأندية والملاهي على انهن فنانات ، أما في الداخل فالأسرار تنبجس بدون قناع. ومن هناك يجري تسريب بعضهن الى دار الاذاعة التي كانت ، بالنسبة الى ذلك الزمن ، القمر الصناعي الوحيد الذي يبث تقاليد الغناء الى أقاصي البلاد. ولم يكن عزيز علي الا أخلاقياً فيما يتعلق بثقافة الغناء البغدادي الذي يبدو ان صياغاته وتشكيلاته كانت تجري هناك. فمن منطقة البؤس هذه ، حيث تجري عمليات العرض والتأجير تولدت أسواق عامة للأغاني ، لكن الى جانبها ، وربما من كمّها العددي ظهر النوع الثاني ، ذلك الذي قدمته المجموعة اليهودية ، وزكية جورج على الخصوص ، بالاضافة الى شوارد الفولكلور والصياغات التي تتشكل على يد أهل الله ، بالصدفة أو بالغواية أو بفعل مواهب بدائية ، لقد كان عزيز علي يحب هولاء ويستسلم لألحانهم كما لو كانت من قلبه.
أذكر انه غنى أغنية "تاذيني" في السفارة العراقية في براغ عام 1962 أمام وفد عسكري زار البلد برئاسة وصفي طاهر ، وكان عزيز علي يعمل دبلوماسياً في السفارة ، ولشد ما تمنى عليه قاسم حسن ، السفير آنذاك ان يغني واحدة من أغانيه ، لكنه ، ولسبب ما لم يفعل ، وبدلاً من ذلك فاجأ الحاضرين بأغنيته المفضلة : "تاذيني" لزكية جورج. كان شيئاً غريباً أن تتحول معاني الأغنية البسيطة ، بأدائه وعلى فمه وبدون موسيقى ، الى كلمات لؤلؤية ، فكأنك تسمعها لأول مرة. والسبب في رأي هو ان عزيز علي لم يكن يغني فحسب بل كان يشعر ويشرح ويتهدج. وهذا ، في رأي أيضاً ، هو الاضافة التي تنسب لما أسميه بالغناء التعبيري.
سألته بعد انفضاض المدعوين لماذا غنى تلك الأغنية فقال : لست أعرف. لكني شعرت بحزن جارف ، فالبلد يحتدم والدنيا تكفهر والمستقبل يتوعد ببدء الصدام المدوي. لقد أحسست بعمق الجرح فما وجدت غير تلك الأغنية على لساني . وكان احساسي عميقاً بأنها ستوحدنا في تلك اللحظة.
لقد كان مصيباً في تعرفه على دفين تلك الأغنية. والأغرب انه كان بمخيلته المرهفة يحول هذه الأغنية الى رمز وطني. وهو بتلقائية وبحنجرة تعرف الألم حول مخيلة الحاضرين معه ، دافعاً اياهم في غير الوجهة التقليدية التي يعرفها الناس عن تلك الأغنية.
عند منطقة الوادي في كربلاء ، وقريباً من بيت المتصرف كان بيت عزيز علي. وكان هذا ، بالنسبة لي أنا الطفل الذي يأتي في العطلة الصيفية من بغداد الى كربلاء بمثابة عالم ما قبل الهبوط الى الجنة. البيت بناء شرقي تقليدي مؤلف من باحة وحديقة وغرف ذات أعمدة خشبية ومكامن لأعشاش السنونو وسرداب خالد موصول بباب الجنة ، وهواء بارد ، وظلمة ظهيرة ساحرة وأحلام تورق لتهبط بالروح الى مهاوي النوم وغفو الطفولة. في هذا المكان كان عزيز علي يحرث مكامنه. أعني في الباحة ذات الطابوق الفرشي المرشوش. عند العصر يحضر عبد الوهاب أيضاً ، كل صور أفلامة وبطلاته معلقة على الحيطان : "رصاصة في القلب" مع راقية ابراهيم "يحيا الحب" مع ليلى مراد ، "لست ملاكاً" مع نور الهدى ، كذا مع رجاء عبدو الخ. أما هو فيجلس على التخت وبيده العود. خلال أسبوع يتوجب أن يولد هنا مخلوق كامل يتألف من كلمات ولحن وأداء ، خلال أسبوع يتوجب عليه الذهاب الى بغداد لاجراء التمرينات مع الكورس والعازفين ثم اطلاق الحركة الأخيرة أمام المايكروفون ببث حي. هل يحصل هذا في بلد آخر ؟ وهل يعتبر ضغط الزمن آفة أم ضمانة للخصوبة المكثفة ؟ هل يذكر الناس حرقة الترقب والاثارة التي تشتعل في عيونهم عندما تعلن ساعة اذاعة بغداد السابعة عصر كل أربعاء ؟ هل يتذكرون كيف الشوارع تخلو والحركة تهدأ ، والكل نساءً ورجالاً وشيوخاً ، لصق الراديو ، الى ان ينبجس صوته ليفرض الصمت المتلهف في العيون والأحداق ، وليتسلّط على الوطن الكبير بهبوبه المجنح ؟
نعم على ذلك التخت كنت أرقبه ، العب في الباحة وهو يعزف ويدندن ، يكتب ويشطب ويعيد التصحيح ، الى ان تفلت منه صرخته الشهيرة : "ابن الكلب !" ثم يقبل عند ذاك نحوي فيحملني بين يديه ، أو يدور بي في الباحة ممسكاً بيدي ، أو يقذفني في الفضاء ، فأهبط ، غاصاً ، الى ذراعيه. أما "ابن الكلب" فهو المعادل ل "وجدتها" يقولها لي ، ويطلقها في وجهي ، بعد استعصاء لحن أو بيت. وهو في تعبيره الأثير هذا يمنحني أقصى حبه لأنه آنذاك كان بلا ذرية وكنت أنا عنده الأحب ، أو على الأقل ثلثاي منه وعليه ، كما يقول المثل الشعبي.
يوماً ما ، قلت له ، وكان يشرح لزائريه معنى المنلوج مصراً على انه "منشد" لا مغنياً :
-الناس يا خالي لا تهتم بفروقات الألقاب ، فما الضير في أن تكون مغنياً أو ملقياً أو منشداً أو مونولوجست ؟ أنت يا خالي عالم خاص. أنت تهز البلد ، فما لك مشغول بما لا يقنع أحدا ؟
-شوف الابن الكلب. دائماً أقول :لو تكسر عظمه يطلع شيوعي !
-هناك يا خالي غناء تعبيري لا يأبه بالتطريب ، وأنت ضمن ندرة ، منهم أرمسترونغ مثلاً ، لست تطريبياً. صوتك طيف عريض يغطي مساحة حياة كاملة. وامتيازك أن أي انسان يستطيع أن يغنيك بمشاعره دون أن يحتاج الى صوت جميل.
كان هو يستمع بذكاء يمنعه من أن ينخدع بشيء. وعندما يتمنع عن المداخلة يلجأ الى جملته الأثيرة.
نفس "ابن الكلب" تلك يهش بها ويبش من الباب عندما يزورني في المواقف. في العام 1956 أيام العدوان الثلاثي على مصر وقف وراء القضبان في باحة موقف الدوريين وأطل على مجموعة الموقوفين المحشورين في مساحة ضيقة. هم بدورهم ما صدقوا أنهم أمام عزيز علي المتظاهر بأنه غير معني بغير ابن أخته وبأن السجن لم يكن يوماً ما مسقط رأسه. غير أنه ، هو المعمّد بالضحك ، أطل من قناعه ليخاطب الجميع :
كانت جملته تلك فسحة للتنفس ، ولم تمض دقائق حتى شاع الاسترخاء المعاتب وتتالت ضحكات رنانة ومؤنسة :
-مع ذلك فستلتهمكم الكبرياء.
-اعلموا يا جماعة. هنا لا تنبت شيوعية. في أحسن الأحوال ينبت هنا زعرور !
-لا أحب ابن الكلب هذا لأنه يسبب لي مشاكل كثيرة ، كما لا أحب شيوعيتكم ، مع ذلك "فما العمل" كما يقول المعلم لينين اذا كنت أنا احب الأصالة ؟
يجب الرجوع إلى أخلاقيته التي تكره التناقض ، وفي أخلاقياته طرح الصراع على أرض مكشوفة ، ولقد تسبب رفضه لأن يحشر ضمن الطائفة اشكالات اضافية حتى بين المقربيين اليه ، خاصة وانه يترجم تحدياته الى سلوك يومي. فأسماء أبنائه مثلاً تدرجت كالتالي : علي , عمر ، ايفون ، سوزان ، مي . أي تجمع لحبال الروح العراقية في وحدة تتجاوز الطائفة والعشيرة والدين والعصبيات الأخرى ، وتبدو اليوم وكأنها رد على ما يعصف بالعراق من رياح تتقصد فصله عن جذوره وتقطعه الى أوصال. حتى أنا عجبت لما سمى اسم ابنه الثاني عمر ، وقد عبرت ، بتردد ، لزوجته نورية عن حيرة كظيمة ، فكأني نسيت انها هي الأخرى يهودية أسلمت بعد الزواج. وأذكر انه ، بعد ان نقلت له حيرتي ، خرج من السرداب بالبجاما ليقرص اذني قائلاً :
-عليك أن تقرأ كثيراً لتعرف من هو عمر. لقد كانت تلك نقلتي الى رحاب معرفية أخرى ، وعرفت بعد تنقيب في المكتبات ، كيف يفسر الدين الواحد بعدة السنة غريبة وشاذة وجاهلة ، وكيف يتوجب النظر الى الاصالات بدون أية شروط مسبقة. والآن أنا أعرف أنه من أجل خاصيته تلك ولكونه يحمل وجه المفكر الذي يهبط ويصعد في مجرى زمنه الحقيقي ، فقد تعين عليه ان يدفع ثمن ماضيه وحاضره. لقد وجدت وأنا أراجع مقاطع الزمن اننا تشردنا لأسباب متشابهة. كلانا ذاق طعم الاعتقال وتهافت السياسة ، لكنه هو وحده الذي واجه الموت ، وهو من قضى أكثر من تسع سنين من مجموع خمسة عشرة وراء القضبان ، وهو وحده التقى بوجه موت مجاني. فلا أحد يرى ولا أحد يسمع أو يسأل ، فالجميع في جبهة وطنية وأنت وحدك في اتجاه آخر. أفليس عجيباً أن يختصر كل تراث عزيز علي ، كل حضوره الأصيل ، كل فضائه الممتد على سقف العراق ، بزنزانة ؟ أي مجد اُبقي لسارق النار ، وأي عراق غريب هذا الذي تحول على يد صدام حسين الى سجن له.
يمكن لمن يعرف كيف يقرأ عزيز علي جيداً أن يتوصل الى ان منظومة أفكاره قلبت العراق صفحة صفحة ، اذ لا تفصيل أو سياق تاريخي حبك بهذه المهارة وعولج بمعرفة صادقة للبلاد وبنبض انساني يمهد لعصر التعدديات والجماعات الانسانية العريقة. لكنه ، كأي متحرر مُنوِّر وممتنع أكل من داخله في زمن الجبهة الوطنية ، أكله تخلف العشيرة والمؤسسة والدولة وبالتالي سحق صوته مع صوت الجمهور بصرير الآلة الصدامية.
لقد زرته في سجن أبي غريب بعد أن حكم عليه بخمسة عشر عاماً. لم تدم المحاكمة أكثر من خمس دقائق ، ذكر فيها الاسم والعنوان وأشياء روتينية أخرى ، ثم صدر الحكم الذي أُعد مسبقاً. كنت أفكر وانا أعبر ممرات السجن الشاسع وأمعائي تكاد تفرغ ما فيها من شدة الألم ، كيف ستفكر هذه الروح بما أعطت وما أخذت ؟ كيف وهي التي حرثت الأرض وقلبتها من أجل الزراعة ؟ أكانت اذن حمقاء عندما نابت عن شعب كامل ؟ هل يمكن أن تتفكك المعاني الى هذا الحد فتصبح مضحكة من شدة فجائعيتها ومن شدة استعصائها على التصديق ؟
عندما التقينا تعثرت التمتمات وامحت الجمل وغاب عن ذهني ما يمكن ان يقال. رفعت بصري مرات ، ثم غضضت الطرف مرات أخرى ثم سكت لكي لا أتخبط في الحديث عن لا شيء.
هو ، بنبرة ما تزال تحمل في طياتها شيئاً من البشاشة القديمة تساءل :
-هل ستكتب هذا في الجريدة ؟
لا شك انه يسخر مني. أية كتابة ، وأية جريدة ، في "الف باء" التي كنت أعمل فيها موظفاً أم في "طريق الشعب" التي كنت فيها محرراً ، وكانت مورطة في طيرانها عن آفاق التحالف ، بعيداً عن فحيح الواقع وعبثيته ؟
كنت في داخلي أعرف أن لا شيء يجدي. لقد تُرك عزيز علي لعزلة لها ألف موت ، وفي غياب الجرأة ، وغياب الحيلة ، وغياب حساسية الاحتجاج ، يمكن أن يحدث أي شيء ، يمكن ان تتحول المعاني آنذاك الى حروف ساكنة لا تعني أحداً ولا يحتاج اليها أحد.
للحق لاشيء يدحر ضحكته الحكيمة ، ضحكته المبطنة الذكية.كان يعرف طبعاً ان الجبهة مسخرة وان أحداً لا يستطيع شيئاً ، وان عليه ، كالسابق ، ان يواجه مصيره لوحده ، أو أن يكتب ، لصدام ، كما فعل ويفعل الآخرون.
وهو في السجن اُخبر بموت زوجته نورية بالسرطان ، وكان قبل موتها بأيام طلب من ادارة السجن أن تسمح له بالقاء نظرة وداع أخيرة ، لكن طلبه رفض. وبعدها استشهد ابنه عمر.
هنا في المنفى أسمع عنه حكايات كثيرة ، أمٍّ عجوز لأولاد خمسة قالت لي : شريط عزيز علي انتقل معي الى أربعة منافي باعتباره جزءاً من الضرورات القليلة التي آخذها معي أينما ارتحلت. طبيب قال أن أغانيه تقلب الزمن ، فكأن ما قاله بالأمس عنى به اللحظة التي نعيشها الآن. آخر قال ان له موهبة اجتياز الأزمان دون عائق.
مجلة الثقافة الجديدة ، العدد 266 ، عام 1996
اتقدم بجزيل الشكر لرئيس وهيئة تحرير مجلة الثقافة الجديدة العراقية للسماح لي باعادة نشر المقال.