في أوائل عام 1963م و انا اتجول بين فتارين ورفوف باعة الكتب في سور الأزبكية صادفتني مجموعة هائلة من الكتب القديمة ، صادرة عن هيئة الآثار المصرية منذ أوائل القرن فبادرت بشرائها على الفور ونفد مالدي من نقود ؛ فعدت مترجلا من العتبة إلى الجيزة و ظللت أقلب أوراق تلك الكتب بين الفينة والفينة ، ولم اكن أدرك أهميتها و إنما ادركت ندرتها ذلك أن عيني لم تقع على مثيلتها لدى قدامى " الكتبية " الذين أرتاد محالهم . من بين هذه الكتب تعرفت على كتاب شائق وهام هو كتاب الأغاني الشعبية في صعيد مصر ، للمسيو جاستون ماسبيرو. ولكن حال بيني وبين متعة التعرف عبى الكتاب بشكل جيد أن أغلب صفحاته كتبت باللغة الفرنسية التي لا اجيدها، كتب ماسبيرو تعليقاته وشروحه و مقدماته و مداخلاته باللغة الفرنسية ، أما نصوص الأغاني فقد كتبها بالحروف العربية ، و باللهجة الصعيدية. و قدم لها ترجمة بالفرنسية بالإضافة لكاتبتها باللاتينية ..مكث الكتاب فوق رفوف المكتبة و كنت أقرا النصوص فأجد بها بعض الفجوات والثغرات و أيقنت أنه لا سبيل لسد النقص والعجز سوى ترجمة الأجزاء الفرنسية. بعد سنوات قرات مقالا للصديق الناقد ( سيد خميسي ) في مجلة الهلال ، تلتها دراسة للصديق الدكتور ( أحمد مرسي )يتحدثان عن أهمية الكتاب و ضرورة الإستفادة من نشره وتعميمه ؛ ساعتها أدركت أنني على حق و أعدت قراءته قراءة متأنية فشعرت - مثلما قرر صاحبا المقالين - أن المكتبة المصرية والعربية في أمس الحاجة إلى هذه النوعية الجادة من الكتب ؛ إنه غاية في الندرة ، يتحدث عن المنبع الرئيسي لتشكيل وجدان الأمة ؛ هو ( الأغنيـــة )، و الأغنية الشعبية على وجه الخصوص : تسايردورة الحياة منذ مولد الإنسان حتى وفاته ، تصور فرحة الحياة باستقبال المولود الجديد وتبتهج بالمحافظة على النوع البشري عند الفرح في الأعراس و تحزن لافتقاد الأهل والأصدقاء والخلان ، وتقدم الإعانة على مواجهة العمل في التسميد والغرس والحصاد و في التشييد والبناء وتصاحب العواطف الدينية في الحج و الموالد و حلقات الذكر الصوفية ، تزاوج بين ميراث التراثين القبطي و الإسلامي دون حدود أو فواصل ، يتم كل ذلك في توازن نفسي واجتماعي قلما تجود به القرائح . تقدم الفلاح المصري موضحة ارتباطه بأرضه و التصاقه بها ؛ فهو يرى في الأرض ( الحبيبة ) التي تتأوه تحت ضربات الفأس فينحني عليها بحنو المحبوب ..إلخ . وهكذا تمثل الأغنية سيرة حياة الإنسان على مدار التاريخ الشعبي .
** وهنا أكتفي بهذا الجزء من المقدمة التي كتبها الفنان محمود الهندي .