195 هجـريـه .. فـى مدرسـة العـراق
@ أمضى الشافعى حوالى تسعة أعوام بعد عودته من العراق أول مرة قابعا فى أحضان مكة والبيت الحرام لا يتحرك منها قبل أن يرجع سيرته الأولى متنقلا بين البلدان والأقطار طولا وعرضا . إما باحثا فى دروب العلم وسراديبه عن أسراره , أو منقبا فى باطنه عن كنوزه ودرره أو ناشرا لما تجمع لديه وصار فى حوزته من أفكار وآراء على طلاب علمه فى مكة والقاصدين إليه من بلدان الدنيا . أتاح له مقامه الطويل فى مكة بعيدا عن ضجيج العراق وصخبها وما تموج به من أراء وأفكار متابينة وفرق شتى , وما هيأته له من مناخ هادئ ملائم أن يتأمل فى روية وأناة ويستنبط القواعد التى أسس على متنها أصول مذهبـه الكبير ..
عكف على القرآن زمنا يدرس أحكامه وطرق دلالاتها , ليتعرف على ناسخها ومنسوخها وخصائصها , ناظرا فى جميع ما توافر عنده من سنة رسول الله "صلى الله عليه وسلم" ليعرف مكانها من الشريعة وطرق الإستدلال بها ومقامها من القرآن الكريم . ثم كيف يستخرج الأحكام إذا لم يجد نصا فى قرآن أو سنة . وبدأ فى وضع الضوابط والحدود لمن أراد أن يجتهد فى حكم حتى لا يتعدى الثوابت النصية ويأمن من الشطط والزلل أو يقع فى المحذور ..
هذه القضية الأساسية وما تبعها من فروع وروافد جعلته يستقر طوال هذه السنوات وأن يطول به المقام فى مكان واحد تاركا إلى حين هوايته وشغفه بالتنقل والأسفار . حتى إذا انتهى إلى إرساء القواعد والأصول للإستنباط والإجتهاد واطمأن قلبه إلى ما جمعه فى حوزته , قرر أن يخرج بما عنده إلى الناس عامة وإلى جموع الفقهاء والدارسين خاصة ..
كان من المنطقى على رجل مثله أن يرنو بصره فى هذه المرحلة إلى بغداد قلعة العلوم ومعقل العلماء فى شتى فنون العلم وطرائقه . التى اجتمع فيها فقهاء أهل الرأى من أصحاب أبى حنيفه وفقهاء أهل الحديث من أصحاب مالك . قال لامرأته حميده ذات ليلة وهو جالس وحده يخط رسالة عزاء لأحد أصحابه .............
ــ يا حميده , أعدى لى حاجياتى وكتبى . إنى مسافر فى الغد إن شاء الله ..
ــ فاجأتنى والله يا أبا محمد . إلى أين يا ترى هذه المرة ؟.
ــ إلى بغداد ..
ردت فى دهشة ..........
ــ بغداد . لم ؟.
ــ أجل , بغداد قلعة العلوم وحاضرة الأمة الإسلامية ومهبط العلماء ..
إبتسمت قائلة ...............
ــ ياه منذ زمن طويل لم تغادر مكة حتى ظننت أنك لن تعود سيرتك الأولى راحلا متنقلا من بلد إلى بلد ..
ــ صدقت ياحميده , لكنى رأيت أنه من الضرورى بل من الواجب على أن أعجل بالذهاب إلى العراق هذه الأيام ..
نظرت إليه متسائلة فأردف قائلا ...........
ــ علمت من بعض الوافدين من أهل العراق إلى هنا لتلقى العلم أن كثيرا من علماء البصرة والكوفة ينكرون حجية الحديث ويتشددون تشددا مفرطا فى قبول الحديث . مع أنه من أهم وأوثق مصادر التشريع بعد كتاب الله عز وجل ويكفى لقبوله أن يكون متصلا صحيح الإسناد , ولم يعلم أولئك أن السنة أصل مبين ومفصل ومكمل ..
أردف قائلا وهو يشير إلى خزانة كتبه ........
ــ لهذا لا تنسى أن تضعى مع حاجياتى "الكتاب البغدادى" ..
ــ تعنى هذا الكتاب الضخم الذى صنفت فيه الرد على كل مسائلهم التى اطلعت عليها فى كتب أستاذهم محمد بن الحسن ؟.
ــ أجل يا حميده , فما أبعد شقة الخلاف بيننا نحن الحجازيون أصحاب الحديث وبين العراقيين القائلين بالرأى والإستحسان . إنهم يقدمون القياس على خبر الآحاد وإن صح سنده , كما أنهم يتركون بعض الأحاديث بدعوى أنها غير مشهورة . فى المقابل يعملون بأحاديث أخرى لم تصح عند المحدثين بدعوى أنها مشهورة . لقد عكفت على قراءة كل ما كتبوه نقلا عن أئمتهم وعلى ما وصل إلى سمعى من كلامهم ودرسته دراسة متأنية ..
ــ كيف وجدتهم ؟.
ــ وجدتهم غرقوا فى الفروع والجزئيات , وأهملوا كثيرا من الأصول ..
ــ وعلى من ستنزل فى بغداد ؟.
ــ سأنزل على دار محمد بن أبى حسان الزيادى وأمضى أياما عنده ثم أتوجه بعد ذلك إلى تلميذى الحبيب ..
أشارت بيدها فقال ......
ــ أحمد بن حنبل ..
ــ لم تذهب أولا إلى دار الزيادى ؟.
ــ إنها دار عامرة بالعلم والكتب . أبوه رحمه الله كان قاضيا وعالما جليلا , وأعلم أنه يحتفظ فى داره بخزانة حسنة ضخمة للكتب ورثها عنه ولده محمد . ليتنى أستطيع أن أتزود منها بما ينفعنى وينفع الناس ..
سألته امرأته مستفسرة وهى تشير إلى رسالة العزاء التى انتهى لتوه من كتابتها فقال لها .............
ــ علمت اليوم أن ولدا لعبد الرحمن بن مهدى قضى نحبه , وعلمت أيضا أنه اشتد جزعه عليه حتى أنه عزف عن الطعام والشراب , فكتبت له هذه الرسالة أعزيه وأذكره . سأعطيها فى الغد لأحد المسافرين إلى العراق ليوصلها إليه , إلى أن أصل إلى هناك وأواسيه بنفسى ..
قرأ على وجهها تساؤلا وهو يلتفت إليها فبادرها من فوره ........
ــ تودين أن أقرأها عليك . أليس كذلك ؟.
ــ بلى ليتك تسمعنى ما كتبت , فإنك وربى لا تنطق إلا بالحكمة ومأثور القول ؟.
ــ قلت له ........
إنى معزيك لا أنى على ثقة .. من الخلود ولكن سنة الدين ..
فما المعزى بباق بعد صاحبه .. ولا المعزى وإن عاشا إلى حين ..
يا أخى عز نفسك بما تعزى به غيرك , واستقبح من فعلك ما تستقبحه من فعل غيرك . واعلم أن أمضى المصائب فقد سرور وحرمان أجر , فكيف إذا اجتمعا على اكتساب وزر ؟. فتناول حظك يا أخى إذا قرب منك قبل أن تطلبه وقد نأى عنك . ألهمك الله عند المصائب صبرا وأجزل لنا ولك بالصبر أجرا ..
يتبع.. إن شاء الله............................
@ بعد أيام قلائل كان الشافعى يمتطى صهوة بغلته آخذا طريقه صوب العراق . قبل أن يفارق الدار قالت له امرأته وهى تمسح دمعة فرت على خدها ..
ــ ليت المقام لا يطول بك فى أرض العراق يا أبا محمد . ما أحوجنا جميعا إلى وجودك بيننا , لم يعد لنا طاقة بفراقك ؟.
رد قائلا وهو ينظر إليها نظرة حنان ومودة.........
ــ إطمئنى يا عثمانيه , عملت حساب هذا ..
ــ ماذا تعنى يا أبا محمد ؟.
ــ خالى على كما تعلمين يسافر كثيرا إلى العراق والشام لجلب البضاعة لدكانهم بعد أن توسعوا فى تجارة العطارة والأعشاب . مررت عليه فى داره بالأمس وأعلمته بسفرى إلى العراق وأكدت عليه أن يسأل عن مكانى فى بغداد عند أول قدمة له إليها ويأتينى فيه ..
ــ لم أفهم بعد ما الذى تقصده ؟.
ــ تعلمين أنه قد يطول بى المقام هناك , لهذا طلبت منه أن يأتى بكم جميعا . أنت والأولاد والجاريه فى قدمته الثانيه بعد أن يستقر بى الأمر وتكون لى دارا هناك ..
@ رنا الشافعى إلى بغداد سنة "195" هجريه وبين ثنايا عباءته منهاج فى الفقه لم يسبقه إليه من قبل أحد, كان الشغل الشاغل لأهل زمانه ومن قبلهم فى أحكام الفروع والجزئيات . فجاءهم بقاعدة القواعد يضبط ويعرف بها الجزئيات والفروع . تطلع إليها حاملا معه فى جرابه كتبه التى كتبها فى مكة وفى مقدمتها الرسالة الأصولية والكتاب البغدادى . وقبل أن يدخل بغداد كان كتابه المسمى بالرسالة الذى وضعه فى مكة قد سبقه إلى أهلها بعد أن سلمه إلى تلميذه أحمد بن حنبل قبل سنة ليوصله إلى عالم العراق عبد الرحمن بن مهدى ..
وفى مجلس ضم رهطا من علماء بغداد وفقهائها وبينهم جلس شيخ المحدثين عبد الرحمن بن مهدى فى الجامع الغربى ,يقرأ عليهم رسالة الشافعى فى علم الأصول بعد أن عكف عليها وحده أياما طويلة ينهل من علمها الوفير مخاطبا نفسه كلما مضى فى قراءتها .......... عجبا والله لما أقرأ . كلام نفيس لم تقع عينى على مثله طيلة عمرى . أى رجل هذا . والله ما ظننت أنه يكون فى هذه الأمة اليوم مثل هذا الرجل , وما أظن أن الله خلق مثله فى أهل العلم .
جلس العلماء من أهل الحديث وأصحاب مدرسة الرأى وغيرهم من طلاب العلم وهم فى عجب مما يسمعون من صاحبهم . كلام جديد يطرق آذانهم لأول مرة لم يسبق لهم أن استمعوا إلى مثله من قبل . ومع الأيام تولد لديهم شوق إلى رؤية كاتبه والجلوس إليه وسماع هذه العلوم والمعارف منه . كانوا يتسائلون فيما بينهم ...... متى يجيئنا هذا الشيخ ناصر الحديث وواضع هذه الأصول ؟.
ما كادوا يعلمون بدخوله بغداد من باب الشام ووجوده بينهم حتى انثالوا عليه جماعات كأمواج البحر الهادر . أخذت حلق العلماء الآخرين تتناقص واحدة بعد أخرى حتى صارت ثلاث حلقات بعد أن كانت تعد بالعشرات فى شتى مساجد بغداد ..
يتبع.. إن شاء الله............................
@ دخل الشافعى العراق وهى تموج وتضطرب بالفرق وأصحاب المذاهب من المسلمين ومن غيرهم . المسلمون منهم شيعة وخوارج ومتكلمون ومعتزلة وقدريون ومرجئة ولكل فرقة منها فروع شتى تفرعت عنها . هذا بخلاف أهل السنة وهم جمهور الأمه إلا أنهم تفرقوا إلى مذاهب شتى . فور دخوله بغداد من باب الشام ذهب إلى دار محمد بن أبى حسان الزيادى كما أخبر امرأته ,ثم توجه إلى تلميذه الأثير إلى قلبه أحمد بن حنبل , ولما علم منه أن صديقه وزميله القاضى محمد بن الحسن قضى نحبه منذ ست سنوات ,طلب أن يزور قبره وقبر الإمام الأعظم أبى حنيفه فرد عليه قائلا ........
ــ سنذهب إذن إلى مقابر الخيزران ..
ــ الخيزران ؟.
ــ أجل .. إنه إسم المكان الذى أقيمت فيه مقبرته . بلغنا أن الإمام أوصى أن يدفن فى هذه الأرض قائلا إنها أرض طيبة غير مغصوبه ..
ــ رحم الله الإمام ورضى عنه . هيا بنا إلى هناك فإنى أتبرك به ..
ولدى عودتهما إلى الدار سأله ابن حنبل ..............
ــإذا أذنت لى يا شيخنا,أعرف أنك ترفع يديك فى الصلاة عند القيام من الركوع ..
ــ أجل ..
ــ واليوم رأيتك تفعل خلاف ذلك وأنت تصلى ركعتين عند أبى حنيفه , ما السبب يا ترى ؟.
ــ رأيت ألا أفعل أدبا مع الإمام رضى الله تعالى عنه وأن أظهر خلافه بحضرته ..
@ أمضى الشافعى بضعة أيام فى دار أحمد بن حنبل يريح فيها جسده المكدود من عناء السفر قبل أن يخرج إلى الناس ليعلمهم . كانت فرصة أتاحت لكل واحد منهما أن يتعرف على صاحبه عن قرب , حتى أن الشافعى قال له ......
ــ يا أبا عبد الله أنت أعلم بالأخبار الصحاح منا , فإذا كان خبر صحيح فأعلمنى حتى أذهب إليه كوفيا كان أو بصريا أو شاميا ..
رآه ينظر إليه متعجبا فأردف قائلا وهو يشد على يديه ............
ــ لا تعجب يا أخى فأنت الثقة ..
وقبل أن يغادر الشافعى دار صاحبه لمح ابنته تميل على أذنه تهمس له بكلمات بينما عينيها تروح وتجئ عليه كأنها تتحدث عنه وعلى إثرها نظر ابن حنبل لأستاذه مبتسما فسأله بدوره ...........
ــ إيه يا أبا عبد الله ماذا تقول لك ابنتك ,أحسبها تسأل عن شئ ؟.
إبتسم صاحب الدار قائلا ..........
ــ فى الحقيقة ليس شيئا واحدا .. بل أشياء ؟.
ــ تكلم يا أبا عبد الله ..
ــ والله يا سيدى إنى فى حرج منك ولا أدرى ما أقول لك ..
ــ دع عنك الحرج وهات ما عندك يا رجل ..
ــ تقول لى هلا سألت الشيخ الآن عن المسائل التى حدثتك عنها ؟.
ــ أية مسائل تلك التى تسأل عنها ؟.
ــ الحكاية يا سيدى أن هذه البنت الفضولية جاءتنى بالأمس وسألتنى :
......……………
ــ من يكون هذا الشيخ يا أبت ؟.
ــ شيخى وأستاذى محمد بن إدريس الشافعى ..
ــ آه , الذى حدثتنا عنه غير مره . هذا هو إذن ؟.
ــ أجل يا ابنتى , لكن ... لكن لم تسألين ؟.
ــ لاحظت يا أبت أشياء على هذا الشيخ حيرتنى , ليتك تسأله عنها ..
ــ خيرا إن شاء الله ..
ــ لاحظت أنه عندما قدمنا له الطعام أكل كثيرا مع أنى سمعتك مرة تقول عنه أنه لم يشبع من قبل قط .
ــ إيه وماذا بعد أيتها الفضوليه ؟.
ــ عندما دخل غرفته للنوم لاحظت أنه لم يتحرك من مكانه ولم يقم أبدا ليصلى صلاة الليل ..
عاود سؤالها وقد بدا نافد الصبر .........
ــ هل بقى شئ ؟.
ــ شئ واحد . لما صلى بنا الفجر لم يطلب ماء للوضوء . أتراه صلى بغير وضوء يا أبت ؟.
ــ ما هذا الذى تقولينه يا ابنتى ؟. أتريدين منى أن أذهب إلى هذا العالم الجليل . إلى شيخى ومعلمى وقدوتى ... و ... وأسأله عن مثل هذه الأمور . كيف أجرؤ على ذلك يا ابنتى كيف أجرؤ ؟.
ــ إذن دعنى أسأله أنا ؟.
ــ لا لا . لا يجوز يا ابنتى . عفا الله عنك ... أحسنى الظن بالشيخ ..
ــ والله يا أبت ما قصدت إساءة الظن به, لكنها أمور لاحظتها وأردت أن أعرف تأويلها حتى لا يكون فى النفس شئ ………………
إبتسم الشافعى وهو ينظر إليها متعجبا من فطنتها ودقة ملاحظتها . ثم قال وهو يربت على كتفيها براحة يده رفقا ومودةوأبوه ............
ــ بارك الله فيك وأكثر من أمثالك يا ابنتى . أجل يا أبا عبد الله كل ما قالته حق ويحق لمثلها أن تسأل عنه . أما عن مسألة الطعام فإنى أكلت كثيرا على غير عادتى لأنى أعلم أن طعامك من حلال كما أنك كريم وطعام الكريم دواء كما أن طعام البخيل داء . فأنا ما أكلت لأشبع وإنما أكلت لأتداوى بطعامك يا أبا عبد الله . أما عن عدم قيامى الليل للتهجد فسبب ذلك أننى لما وضعت رأسى لأنام نظرت كأن أمامى الكتاب والسنه ففتح الله على باثنتين وسبعين مسألة من علوم الفقه , لهذا لم أتمكن من قيام الليل للتهجد ..
ــ كأنك لم تنم إذن ؟.
ــ أجل .. لم تنم عينى وظللت يقظان حتى جاء النداء للصلاه ..
ــ لهذا لم تجدد الوضوء وصليت بنا الفجر على وضوء العشاء ..
ــ أجل ..
ــ بارك الله فيك وزادك علما وتقى وصلاحا أيها الشيخ المبارك الصالح ..
ــ مهلا مهلا ... مالى أنا والصالحين يا ولدى . أنا أحب الصالحين لكنى لسـت منهم ..
ــ ماذا تقول يا شيخنا إنك ....
قاطعه الشافعى مرتجلا فى الحال ..........
أحب الصالحين ولست منهم .. لعلى أن أنال بهم شفاعه ..
وأكره من تجارتهم معاصى .. وإن كنا سويا فى البضاعه ..
رد ابن حنبل من فوره .........
بل ...... تحب الصالحين وأنت منهم .. ومنكم سوف يلقون الشفاعه ..
وتكره من تجارتهم معاصى .. وقانا الله من شر البضاعه ..
يتبع.. إن شاء الله............................
@ جلس الشافعى فى ساحة الدرس بالجامع الكبير فى بغداد ,أمامه جموع غفيرة من أهل العراق وخراسان يتقدمهم ثلة من علماء اختلفت مشاربهم وميولهم ودارسين تقاطروا عليه من جميع الأقطار . يعلمون أنهم فى حضرة رجل أعلم منهم بلغة الكتاب والسنة وأبصر بالمعانى ,وأقوى منهم جميعا جدلا وحجة . كذلك حكى لهم وعرفهم من رآه وهو يناظر ويحاور فى ساحة الحرم فى مكة ,ومع هذا فهو قمة فى تواضعه ودماثة خلقه ..
تعرف على بعضهم وصاروا من المقربين إلى قلبه وروحه , ومع توالى الليالى والأيام انصرفوا عن مذهب أهل الرأى الذى كان سائدا عندهم بعد أن وعوا أقوال الشافعى وآراءه وفكره . من أولئك الحسين بن على الكرابيسى وأبو ثور الكلبى وأبو عبد الرحمن البصرى , وأخيرا ذلك الفتى النبطى الذى كانت له حكاية مع الشافعى فى أول لقاء لهما ..
ذكره ذلك الفتى عندما وقعت عليه عينه فى المرة الأولى ,بنفسه وحاله وقت أن كان يختلف إلى إمام دار الهجرة قبل أكثر من عشرين عاما , والصدفة وحدها هى التى عرفته على هذا الشاب وعلى مواهبه ,بل جعلته من أصحابه المقربين لا يفارقه ,وظل ملازما له حتى آخر يوم له فى العراق . وحكايتهبدأت مع أول لقاء له بتلاميذه فى بغداد , لما طلب إليهم أن يختاروا من بينهم من يقرأ لهم . وانتظر أن يتطوع واحدا منهم دون جدوى , لم يجترئ واحدا منهم أن يتقدم , تهيبوا من القراءة فى حضرته , إلى أن تقدم من بينهم أخيرا فتى نحيلا دون الخامسة عشر من العمر يبدو من هيئته وسماته أنه من غير بلاد العرب , قال ......
ــ أنا أقرأ لهم أيها المعلم ..
ــ هل أنت أفصحهم لسانا يا فتى ؟.
ــ لا أقول ذلك يا سيدى ولا أدعيه . لكنى سمعت البعض يقول لى ذلك , وبالأمس طلب بعضهم أن أتولى أمر القراءه ..
نظر إليه الشافعى طويلا معجبا من فصاحة لسانه وعذوبة صوته ,قال له .....
ــ ما اسمك يا فتى ؟..
ــ أبو على الحسن الصباح ..
ــ من أى البلاد ؟.
ــ ما أنا بعربى يا سيدى المعلم , بل نبطى من قرية بالسواد يقال لها الزعفرانيه ..
ــ الأنباط يا بنى تمتد جذورهم إلى عرب جنوبي الجزيرة قبل أن يستوطنوا جنوب الشام . فهم فى أصولهم من العرب .. أليس كذلك ؟.
ــ بلى أيها المعلم ..
ــ إذن أنت من الآن سيد قرية الزعفرانيه . هيا اقرأ علينا يا زعفرانى من كتاب الرسالة وسننصت كلنا جميعا لك . ومن يعن له منكم أمرا أو يجد فى نفسه شيئا فليسأل عنه فى الحال , وسأجيب كل واحد على مسألته إن شاء الله ..
أمسك الفتى بالكتاب وبدأ يقرأ على الجالسين وهم منصتون إليه إلى أن قال .........
ــ ومن جماع علم كتاب الله ,العلم بأن جميع كتاب الله إنما نزل بلسان العرب . والمعرفة بناسخه ومنسوخه والغرض فى تنزيله والأدب والإرشاد والإباحة . وما أراد بجميع فرائضه ومن أراد ,كل خلقه أم بعضهم دون بعض ..
سأل أحد الجالسين .........
ــ سمعنا من يقول من علماء بغداد والكوفة أن فى القرآن عربى وأعجمى ,وفيه مما ينطق به غير العرب . وأنت تقول لنا إن جميع ما فى كتاب الله إنما نزل بلسان العرب فليتك تزيدنا بيانا ؟.
ــ إن جهل بعض العرب ببعض ما فى القرآن ليس دليلا على عجمة هذا البعض بل هو دليل على على جهل هؤلاء ببعض لغتهم . ليس لأحد أن يدعى الإحاطة بكل ألفاظ اللسان العربى لأنه أوسع الألسنة مذهبا وأكثرها ألفاظا . ولا يحيط بجميع علمه إنسان غير نبى الله "صلى الله عليه وسلم" مثل العلم بالسنه لا يحيط بها واحد علما مع ثبوتها للمجموع , والواجب على العالمين ألا يقولوا إلا من حيث علموا . وقد تكلم فى العلم من لو أمسك عن بعض ما تكلم فيه منه لكان الإمساك أولى به وأقرب إلى السلامة له إن شاء الله ..
ــ وما قولك إذن فى بعض الكلمات القليلة التى أشكلت على القوم ؟.
ــ من الممكن أن يكون بعض الأعاجم تعلم شيئا من ألفاظ اللغة العربية وسرت إلى لغاتهم فتوافقت بعض كلمات القرآن القليلة مع تلك الألفاظ . كما يجوز أن يوافق لسان العجم أو بعضها قليلا من لسان العرب ..
ــ فما الحجة فى أن كتاب الله محض بلسان العرب ولا يخلطه فيه غيره ؟.
ــ الحجة فيه منه أى من كتاب الله . قال الله عز وجل "وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه" ..
ــ الرسل قبل محمد "صلى الله عليه وسلم" كانوا يرسلون إلى قومهم خاصة , أما محمد "صلى الله عليه وسلم" فإنه بعث إلى الناس كافة فيحتمل أن يكون بعث بألسنتهم جميعا . فهل من دليل على أنه بعث بلسان قومه خاصة دون ألسنة العجم ؟.
ــ الدلالة على ذلك بينة فى كتاب الله فى غير موضع . قال الله عـز وجـل "وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربى مبين" وقال "وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها" وقال "قرآنا عربيا غير ذى عوج لعلهم يتقون" . فأقام حجته بأن كتابه عربى ثم أكد ذلك بأن نفى عنه جل ثناؤه كل لسان غير لسان العرب فى آيتين من كتابه فقـال تعالـى "ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذى يلحدون إليه أعجمى وهذا لسان عربى مبين" وقال "ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمى وعربى" ..
ــ ولماذا نبهت على هذا الأمر فى أول كتابك ؟.
ــ لأنه لا يعلم من إيضاح جمل علم الكتاب أحد جهل سعة لسان العرب وكثرة وجوهه وجماع معانيه وتفرقها . ومن علمه انتفت عنه الشبه التى دخلت على من جهل لسانها . فتنبيه العامة على أن القرآن نزل بلسان العرب خاصة نصيحة للمسلمين , والنصيحة لهم فرض لا ينبغى تركه ..
ــ وماذا على المسلمين الأعاجم ؟.
ــ على كل واحد منهم أن يتعلم من لسان العرب ما بلغه جهده . حتى ينطق به الشهادتين ويتلو به كتاب الله ويتعلق بالذكر فيما افترض عليه من التكبير وأمر به من التسبيح والتشهد وغير ذلك . فكلما ازداد علما باللسان الذى جعله الله لسان من ختم به نبوته وأنزل به آخر كتبه كان خيرا له , كما عليه أن يتعلم الصلاة والذكر فيها ويأتى البيت ويتوجه لما وجه له ..
يتبع.. إن شاء الله............................
@ فى تلك الأثناء ولم يكن قد مضى عليه فى العراق كثير جاءه خاله على كما وعده قبل سفره فى داره الرحيبة التى اتخذها سكنا له فى بغداد على مقربة من دار تلميذه وصاحبه أحمد بن حنبل . تعرف على مكانه وأمضى معه أياما قليلة رجع بعدها إلى مكه على وعد منه أن يحضر إليه فى القريب وبرفقته عائلة الشافعى ليقيموا جميعا معه فى العراق ..
مكث غير بعيد ثم أتاه مرة ثانية يدق عليه الباب ومعه عائلته كلها إمرأته وأولاده وجاريته ليعيشوا معه وفى كنفه فى العراق حولين كاملين . لم يهدأ فيهما لحظة واحدة إنما عمل دؤوب وحركة دائمة هنا وهناك يسعى من خلالها لتقريب شقة الخلاف بين العراقيين وأهل الحجاز ويكون بحق رائد الوسطية فى علوم الفقه والتشريع على مر العصور . إشتهرت جلالة الشافعى فى العراق وعم ذكره الآفاق واعترف بفضله خصومه قبل مؤيديه وانضم إلى ركبه العديد من أئمة أهل الفقه بل ورجع كثير منهم عما كانوا يعتقدونه ..
فى المقابل كان بعض السخفاء من أصحاب البدع يحضرون مجالسه لا غرض لهم ولا أرب إلا السخرية منه والاستهزاء به . وآخرون يسألونه أسئلة تافهة مضحكة لا وزن لها . يرد فى تواضع على بعضها ويكتفى بالسكوت والإبتسام على البعض الآخر . من ذلك أن واحدا سأله ذات مره ............
ــ ما تقول أيها المطلبى .. فى رجل دخل منزل آخر فرأى بطة ففقأ عينها , ماذا يجب عليه ؟.
إبتسم الشافعى قائلا .........
ــ عليه أن ينظر إلى قيمتها وهى صحيحة وقيمتها وقد ذهبت عينها ثم يقوم ما بين القيمتين ..
وآخر يسأله نوعا من تلك الأسئلة التى شغفوا بها ............
ــ ما قولك أيها الشيخ فى واحد حلف قائلا ......... إن كان فى كمى دراهم أكثر من ثلاثة فعبدى حر . ثم ظهر أن فى كمه أربعة دراهم ؟.
ــ ما تقول أنت ؟.
ــ أقول يعتق عبده ..
ــ وأنا أقول لك لا يعتقه ..
ــ لم ؟.
ــ لأنه استثنى من جملة ما فى كمه دراهم والزائد على الثلاثة عنده درهم واحد وليس دراهم , أفهمت أيها الكوفى ؟.
ــ آمنت بالذى فوهك هذا العلم ………………
كان القوم يستمعون إلى ردوده فيدهشهم ما يرونه من حلمه وسعة صدره . لا يسعهم وهم خارجون من عنده إلا أن يقولوا لبعضهم .... هذا رجل معه نصف عقل الدنيا إنه أفقه من رأينا من أهل الأرض ..
وآخرون يقولون عنه فى مجالسهم ومنتدياتهم ..........
ــ هذا المطلبى لا يأخذ فى شئ إلا تحسبها صناعته ..
يرد عليه الآخر ...........
ــ إذا أخذ فى الشعر والعربية تقول هذه صناعته ..
ويعقب ثالث .......
ــ وإذا أخذ فى أيام العرب تقول هذه صناعته ..
ويقول رابع ............
ــ والله ما كنا ندرى ما الكتاب ولا السنة نحن ولا الأولون حتى سمعنا من الشافعى الكتاب والسنة والإجماع ..
فى المقابل لم يسلم الشافعى من بعض المضايقات والصغائر من أولئك النفر المتعصبين لمذهب شيخ العراق أبى حنيفة النعمان . دفعهم التعصب الأعمى لشيخهم إلى ملاحقته بنوع من الأسئله تصوروا أنهم يحرجوه بها أو ينقصوا من قدره . لم يكن غرضهم فى حقيقة الأمر هو التعلم أو البحث عن الحقيقه . سأله أحد الكوفيون ذات مره .......
ــ أخبرنى عن القرآن أخالق هو ؟.
ــ اللهم لا ..
ــ فمخلوق ؟.
ــ اللهم لا ..
ــ فغير مخلوق ؟.
ــ اللهم نعم ..
ــ فما الدليل على أنه غير مخلوق ؟.
أطرق برهة ثم رفع رأسه قائلا ..........
ــ تقر أيها الرجل بأن القرآن كلام الله ؟.
ــ أجل كلام الله لقوله تعالى لرسوله "صلى الله عليه وسلم" .... " وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله " ..
ــ وتقر بأن الله كان وكان كلامه أو كان الله ولم يكن كلامه ؟.
ــ بل كان الله وكان كلامه ..
إبتسم الشافعى قائلا ..........
ــ يا كوفيون إنكم لتأتونى بعظيم من القول . إذا كنتم تقرون بأن الله كان قبل القبل وكان كلامه فمن أين لكم الكلام . هل الكلام الله أو سوى الله أو غير الله أو دون الله ؟.
سكت الرجل ,لم يجد ما يرد به , قال الشافعى موجها كلامه للحاضرين .........
ــ القرآن كلام الله تعالى , وهو غير مخلوق , ومن قال بأنه مخلوق فقد كفر بالله العظيم ………………
يتبع.. إن شاء الله............................
@ عظمت رتبته وعلت عند أمير المؤمنين محمد الأمين وأفراد حاشيته . أرسل إليه مرات وهو فى العراق يدعوه إلى زيارته فى قصره ليسمع منه علومه وما دونه منها فى كتبه . سأله مرة عن رأيه فى فرقة من الناس يسمون القدريه من أتباع رجل إسمه معبد الجهنى فقال له .........
ــ تسأل يا أمير المؤمنين عن أولئك الذين يقولون أن الإنسان حر الإرادة يصنع أفعاله ويقدرها بعلمه وإرادته وينفذها بقدرته ؟.
ــ نعم هؤلاء أعنى ..
ــ لا أقول فيهم إلا ما قاله رسول الله "صلى الله عليه وسلم" : "هم مجوس هذه الأمه" وهم الذين يقولون : إن الله لا يعلم المعاصى حتى تكون ..
ــ وما تقول أنت فى القدر ؟.
رد مرتجلا فى حينه :
ما شئـت كان وإن لم أشأ .. وما شئـت إن لـم تشأ لم يكن ..
خلقت العباد على ما علمت .. ففى العلم يمضى الفتى والمسن ..
على ذا مننت وهذا خذلت .. وهـذا أعنـت وذا لـم تعـن ..
فمنهم شقـى ومنـهم سعيد .. ومنـهم قبيـح ومنـهم حسن ..
وكان الخليفة الأمين يسأله عن أمور كثيرة ويعجب من ردوده التى لم يسمع بمثلها من قبل حتى فى المسائل التى لا تتعلق بعلوم القرآن والحديث . من ذلك أنه فاجأه مرة وهو جالس أمامه وحاشيته من حوله ..............
ــ يا محمد لأى علة خلق الله الذباب ؟.
بدا السؤال غريبا على أسماع الحاضرين إلا أن الشافعى رد قائلا وهو ينظر إليه بعد أن أطرق برهة ............
ــ خلقه مذلة للملوك يا أمير المؤمنين ..
ضحك الأمين وهو يقول ............
ــ رأيت الذبابة يا محمد وهى تسقط على خـدى ؟.
ــ أجل ولقد سألتنى وما عندى جواب فأخذنى من ذلك الزمع . فلما رأيت الذبابة سقطت بموضع لا يناله أحد إنفتح فيه الجواب كـما سمعـت ..
ــ لله درك يا محمد ما أفطنك .
وقبل أن يأذن له فى الإنصراف من مجلسه سأله وهو يسلم عليه ............
ــ سؤال أخير يا ابن إدريس ؟.
ــ على الرحب والسعة يا أمير المؤمنين ..
ــ ماذا تقول فى السماع ؟.
ــ من لم يطرب فى السماع يا أمير المؤمنين فما له حس ..
ــ إذن فأنت تبيح السماع ؟.
ــ يا أمير المؤمنين ما أعلم أحدا من علماء الحجاز كره السماع إلا ما كان منه فى الأوصاف . أما الحداء وذكر الأطلال والمرابع وتحسين الصوت بألحان الأشعار ونشيد الأعراب فمباح كله ..
ــ هل من دليل من السنه ؟.
ــ أخبرنا سفيان عن إبراهيم عن ميسره عن عمرو بن الشريد عن أبيه قال : أردفنى رسول الله "صلى الله عليه وسلم" فقال هل معك من شعر أمية بن أبى الصلت شئ ؟. قلت نعم قال : هيه . قال فأنشدته بيتا . قال هيه فأنشدته حتى بلغت مائة بيت. وسمع رسول الله "صلى الله عليه وسلم" الحداء والرجز وأمر ابن رواحه فى سفره فقال : "حرك بالقوم" فاندفع برجزه ..
يتبع.. إن شاء الله............................
الأحباب الكرام .......
عود على بدء .......
توكلنا على الله .......
@ إستمر زهاء سنتين ينشر علومه وآراءه فى أرجاء العراق مفسحا صدره لكل صاحب رأى مخالف مهما أظهر من لدد أو لجاج فى مناظرات ومحاورات حامية صاخبه كان فيها هو الفارس المنتصر ,بما يملكه من قواعد كلية مؤصلة الأصول ليست فروعا جزئية كتلك التى عاشوا عليها فى بلادهم وتشربوا بها . تلك الحصيلة الهائلة من الآراء المستقلة فى قضايا الفقه وما عاينه بنفسه من توجهات العراقيين ونهجهم فى الفتوى والتشريع ,بهما دون الشافعى فى بغداد كتابا ضخما سماه "الحجه" . وكذلك "كتاب السير وكشف الظنون" و "كتاب المناسك" و "كتاب الصلاه" و "كتاب الجزيه" و "كتاب السنن وقتال أهل البغى" و "كتاب القضايا" وغيرها كثير . ومع ذلك العطاء والفيض كله كان الشافعى يقول فى تواضع العلماء العاملين لمن يعجب من كثرة ما كتب وصنف .............
ــ ما أبالى يا قوم , لو أن الناس كتبوا كتبى هذه ونظروا فيها وتفقهوا ثم لم ينسبوها إلى أبدا ………………
@ وإلى الكوفة معقل الخلاف وموطن اللجاج وتباين الآراء ذهب الشافعى وجلس وسط علمائها وطلاب العلم فيها وهو يعيد عليهم بيان منهجه استجابة لرغبة أهلها لما قالوا له ........
ــ بين لنا يا شيخ ,القاعدة الأصولية فى التشريع كما وضعتها ؟.
ــ سأوجز عليكم بيانها وعليكم أن ترجعوا لما كتبت . إعلموا أن الأصل قرآن وسنه فإن لم يكن فقياس عليهما . وإذا اتصل الحديث عن رسول الله "صلى الله عليه وسلم" وصح الإسناد منه فهو سنه . والإجماع أكبر من الخبر المفرد والحديث على ظاهره وإذا احتمل معانى فما أشبه منها ظاهره أولاها به . وإذا تكافأت الأحاديث فأصحها إسنادا أولاها . وليس المنقطع منها بشئ ما عدا منقطع ابن المسيب . ولا يقاس أصل على أصل ولا يقال للأصل "لم" و "كيف" وإنما يقال للفرع "لم" . فإذا صح قياسه على الأصل صح ,وقامت به الحجه ..
ــ كيف تزعم ذلك ,وقد بلغنا أنك تأخذ بالحديث على إطلاقه ؟.
ــ أفك المبلغ وافترى وإنما خذوا عنى ما أقوله أمامكم . إذا ثبت الحديث عن رسول الله "صلى الله عليه وسلم" فإنه لا يعدله شئ من رأى أو قياس أو أثر مروى عن صحابى أو تابعى . أيضا إذا حدث ثقة عن رسول الله "صلى الله عليه وسلم" ولم يكن هناك حديث يخالفه عمل به ..
ــ وكيف تعمل إذا تخالفت الأحاديث ؟.
ــ أنظر لأرى هل فيها ناسخ ومنسوخ كأن يتأخر أحدها فى الزمن ويثبت بدليل ما أن الأخير ينسخ الأول فأعمل بالأخير . فإن لم يتأكد وقوع النسخ ننظر فى أوثق الروايات فإن تكافأت المرويات عرضت على الكتاب وعموم السنة الثابتة وعمل بما كان منها أقرب إلى ذلك من غيره ..
ــ فما تقول فى الإستحسان . سمعنا أنك لا تقول به وتبطل عمله أليس هو نوع من القياس ؟.
ــ الإستحسان بخلاف القياس ولا يجوز لأحد أن يقول بالإستحسان لأنه من استحسن فقد شرع . الإستحسان لا يخرج عن كونه رأى تجرد من الإستناد إلى أصل شرعى ولا ينتسب إلا إلى صاحبه مهما تحكمت فيه روح الشريعه . بهذا فهو لا يمت للتشريع الإسلامى بأية صلة ولو جاز تعدى القياس وتعطيله إلى الإستحسان . جاز لأهل العقول من غير أهل العلم أن يقولوا فيما ليس فيه خبر بما يحضرهم من الإستحسان ..
ــ وما تقول فى خبر الخاصة ,هل يحتج به ؟.
ــ لا تقوم الحجة بخبر الخاصة حتى يجمع أمورا .... منها أن يكون من حدث به ثقة فى دينه معروفا بالصدق فى حديثه عاقلا لما يحدث به عالما بما يحيل معانى الحديث من اللفظ . وأن يكون ممن يؤدى الحديث بحروفه كما سمعه ولا يحدث به على المعنى لأنه إذا حدث به على المعنى وهو غير عالم بما يحيل معناه لم يدر لعله يحيل الحلال إلى حرام ………………
@ وفى مساجد البصرة أيضا جلس إلى أهلها يحاورهم ويحاورونه كدأبهم ......
ــ يرحمك الله أيها الشيخ ,سمعناك تقول أن فى كتاب الله خبرا عاما يراد به الخاص وخبرا خاصا يراد به العام , تلك أول مرة يقرع آذاننا مثل هذا الكلام عن العام والخاص, ليتك تبينه لنا ؟.
ــ سأضرب لكم مثالا مما نزل من الكتاب عام الظاهر يراد به كله الخصوص قوله تعالى " يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له . إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له . وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب " . فى هذه الآيه يوجه الخطاب بلفظ الناس وهى لفظة تستغرق الجنس وتحمل دلالة العموم المطلق . إلا أن الخصوص واقع على تلك الفئة التى تدعو من دون الله إلها آخر . واستثنى من ذلك من لم يفعل والمرفوع عنه التكليف لعدم المشاركة فى الإثم ..
ــ هل لك أن تزيدنا بيانا بمثال آخر ؟.
ــ هذا كثير فى القرآن لمن نظر فى كتاب الله إقرأ مثلا قوله تعالى فى سورة البقره "ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس" . يحمل لفظ الناس فى هذه الآيه على العموم فى منطوقه بينما تتضمن الآية مفهوم الخصوص . وهو الحاصل من أن من أفاضوا فى عرفه لم يكونوا كل الناس فى زمان رسول الله "صلى الله عليه وسلم" . كما أخبر رب العزة عن نار جهنم فقال "وقودها الناس والحجاره" فدل كتاب الله تعالى على أنه إنما أراد وقودها بعض الناس . لقول الله جل ثناؤه "إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون" ..
ــ عرفتنا الخبر العام فى الكتاب يراد به الخاص .. فماذا عن الخبر الخاص يراد به العام ؟.
ــ أيضا هذا كثير فى القرآن مثال ذلك قوله تعالى فى سورة الطلاق "يا أيها النبى إذا طلقتم النساء" . فهو خطاب خاص لرسول الله "صلى الله عليه وسلم" يراد به عموم الأمه ..
يتبع .. إن شاء الله............................
__________________
أحرث حقول المعرفه
لتقطف سنبلة الفهم
التى بذرتها
التعديل الأخير تم بواسطة : د أنس البن بتاريخ 16/05/2011 الساعة 18h18
|