| |
 |

21/07/2009, 12h13
|
 |
نهـر العطاء
رقم العضوية:688
|
|
تاريخ التسجيل: March 2006
الجنسية: مصرية
الإقامة: مصر
المشاركات: 8,309
|
|
|
|
@ بعد فراغه من صلاة العشاء فى مسجد القصر , خرج الرشيد كعادته وحده يتجول فى حدائق القصر ,يتنسم هبات من هوائها النقى المشبع بعبير الأزهار قبل أن يصعد إلى مجلسه . سار بضع خطوات توقف بعدها مكانه وهو ينظر حواليه كأنه يبحث عن شئ يفتقده . شعر أنه فى حاجة لأن يستريح بعض الوقت . جلس على أقرب مقعد صادفه مسندا ظهره عليه فى استرخاء ثم أطلق لخياله العنان وهو ينظر إلى صفحة السماء الصافية يزينها هلالا فى أيامه الأولى ..
وبينما هو سابح فى تأملاته وأفكاره مال برأسه ليرى حاجبه الأكبر الفضل بن الربيع قادما من بعيد متخذا طريقه ناحيته بعد أن التقطت أذناه وقع خطواته وهو يمشى على استحياء كارها أن يقطع على أمير المؤمنين خلوته وانفراده بنفسه ,لما رآه على تلك الحال وأدرك بذكائه أن مولاه فى لحظات تأمل . رآه الرشيد مترددا فى القدوم ناحيته نادى عليه وهو يشير إليه بيده .............
ــ مالك يا ابن الربيع تقف مكانك بعيدا هكذا . تعال اجلس هنا إلى جوارى ..
إمتثل وهو يتمتم كلمات الشكر والثناء ثم جلس صامتا فى انتظار أن يأذن له بالكلام بينما استأنف أمير المؤمنين تأملاته وهو يدق عصاه على الأرض فى ملل دقات رتيبة متتابعه . بعد برهة من الزمن جاءه صوته .............
ــ إيه يا أبا العباس ،أقرأ كلاما مسطورا على صفحة وجهك , أليـس كذلـك ؟.
ــ بلى يا مولاى ... إذا أذنت لى ..
ــ تكلم هات ما عندك ..
ــ فى الحقيقة يا مولاى كنت مترددا أن أفاتحك فى هذا الأمر كى لا أثقل عليك وأزيد الهموم والمواجع . لولا أنه يمس سلامة مولاى و.... وأمن البلاد ..
ــ تكلم يا ابن الربيع هات ما عندك فما عادت هنالك هموم تثقل القلب بعد أن فقدت ولدى أحمد ,أعز أبنائى وأتقاهم وأحبهم إلى قلبى . بعد أن خرج منذ أكثر من خمسة أعوام هائما على وجهه زاهدا فى حياة القصور . ظللت طيلة هذه السنوات الطوال لا أعلم عنه شيئا حتى أتانى من يخبرنى بوفاته . ليت هذا النعى لم يأت وتركنى أتصور أن ولدى لا يزال على قيد الحياه . كنت آمل أن ألقاه مرة أخرى ..
ــ معذرة يا مولاى , ما الذى جعلك تذكره بعد كل هذه السنين ؟.
ــ لا أدرى والله يا أبا العباس ,رأيتنى فجأة أتذكر كلمات رسالته التى جائتنى منه وما كانت تحمله من موعظة غاليه ..
نظر إلى السماء وهو يهز رأسه قائلا .............
ــ إيـه .... نصحتنى والله يا ولدى ..
ثم أردف قائلا بعد أن مسح براحة يده دمعة فرت من عينه رغما عنه وهو يشيح بوجهه جانبا .............
ــ لأى أمر جئتنى يا ابن الربيع ؟.
ــ أتذكر يا مولاى أمر يحى بن عبد الله الطالبى الذى تحدثت معك فى شأنه منذ أعوام . وعن مؤامراته التى كان يديرها فى الخفاء طمعا فى كرسى الخلافه ؟.
ــ أجل , كيف أنسى , وأذكر أنى عهدت بأمره لوزيرنا الفضل بن يحى البرمكى وأمرته أن يضعه فى السجن ويجعله بمعزل عن قومه وأنصاره . راودتنى نفسى أيامها أن أجهز عليه وأريحها مؤنته غير أنى اكتفيت بحبسه وعزله . لكن ماذا تريد أن تقول ؟.
ــ معذرة يا مولاى علمت منذ أيام أنه ليس فى محبسه وبالأمس تأكدت من هذا الأمر بنفسى ..
ــ ليس فى محبسه . ماذا تعنى . هل فر منه ؟.
ــ لا يا مولاى لم يهرب من محبسه ,لكنه يعيش حرا طليقا فى مكان آخر ..
ــ خارج السجن ؟.
ــ أجل يا مولاى , يعيش آمنا معززا مكرما فى كنف واحد ... واحد من أقرب المقربين إلى قلبك ..
ــ من يكون هذا الذى ثكلته أمه ؟.
ــ الوزير الذى عهدت إليه بأمره ..
ــ تقصد .. الفضل بن يحى البرمكى ؟.
ــ أجل يا مولاى ..
إنتفض الرشيد قائلا ............
ــ أأنت على يقين مما تقول يا ابن الربيع ؟.
ــ لما علمت بذلك من أحد رجالى المخلصين لم أصدق مثلك فى بادئ الأمر . غير أنى لم آت إلى هنا إلا بعد أن تأكدت بنفسى من صحة الروايه ..
قاطعه الرشيد متسائلا ...............
ــ تعنى أنك رأيته بنفسك ؟.
ــ أجل يا مولاى رأيته بعينى رأسى هاتين يرتع فى قصر الفضل بن يحى ..
بدا على الرشيد أنه غير مصدق لما يسمعه فاستأنف الفضل قائلا ............
ــ ما جئتك إلا بالحقيقة لا شئ غيرها يا أمير المؤمنين . وعلى أية حال سله بنفسك وإنى لعلى يقين أنه لن يستطيع الإنكار إن واجهته بها ..
أطرق الرشيد برهة يقلب الأمر فى رأسه وأخذ يقول لنفسه .......... الويل لك أيها الفارسى اللعين . أبلغت بك الإستهانة بنا وبأوامرنا هذا الحد .
ثم رفع رأسه مطلقا نظره إلى بعيد , وبدا عليه أنه نوى فى نفسه أمرا ..
@ إستأذن الفضل مجاهدا فى إخفاء سعادته وسروره خلف قناع مصطنع من الأسى ,تاركا الرشيد نهب هواجسه وأفكاره الحائره . توجه من فوره إلى حيث كانت تنتظره على أحر من الجمر مولاته " زبيده " فى قصرها المسمى دار القرار لتعرف منه ما كان من أمره هذا المساء فى لقائه مع زوجها أمير المؤمنين ..
كان يحدث نفسه وهو فى الطريق إليها.......... ما أثقله من حمل حملتنيه مولاتى زبيده , على كل حال يكفي ما قمت به اليوم مما كلفتنى به. مالى أنا والشأن الآخر فلأتركه لها. من غيرها يجرؤ على كشفه لأمير المؤمنين ؟. أجل إنها كفيلة به ..
فى السنوات الماضية جرت لقاءآت عديدة بينهما حيث يجمعهما هدف واحد هو القضاء على البرامكه واستئصال شأفتهم بعد أن زاد نفوذهم وعلا سلطانهم وأحكموا قبضتهم على مقاليد الأمور فى دولة الخلافه , متكئين على حب الرشيد لهم وثقته المفرطة فيهم ..
والفضل بن الربيع شأنه شأن أبيه الراحل يطمح فى أن يكون الرجل الأول فى بلاط الرشيد وصاحب الكلمة العليا والأمر والنهى من بعده . إلا أن الأخوين الفضل وجعفر أبناء يحى البرمكى كانا يقفان عقبة كؤود فى طريق طموحاته وتحقيق أحلامه بالسلطة والوزاره ..
أما زبيده الهاشميه أحب زوجات الرشيد إلى قلبه وأقربهن إليه منزلة لتدينها ورجاحة عقلها وفراستها من ناحيه ولجمالها الأخاذ ونضارتها من ناحية أخرى . كانت تحمل فى صدرها حقدا شديدا على كل البرامكه خاصة فتاهم المدلل الوزير جعفر بن يحى لمواقفه السابقة من ولدها محمد الأمين ولى العهد وتحديه له . وإصراره على أن يأخذ البيعة لأخيه غير الشقيق عبد الله المأمون إبن الجاريه على أن يصبح وليا للعهد من بعده للصداقة الحميمة التى كانت تربطهما معا برباط وثيق وتجمعهما معا سهرات اللهو والسكر والعربده ..
كانت تود أن تكون البيعة لولدها فحسب حتى تكون من بعده لأحد أبنائه لا لأخيه غير الشقيق . لهذا ظلت هى والفضل بن الربيع يترقبان فرصة مواتية يوقعان فيها بالأخوين وباقى عائلة البرامكه . ظلا يعملان معا فى الخفاء لجمع المعلومات عنهما حتى توصلا أخيرا إلى ما يوصلهما إلى هدفهما الذى أصبحا قاب قوسين أو أدنى من تحقيقه بعد أن كان يبدو من قبل أمرا مستحيلا ..
@ لدى اقترابه من أسوار القصر لمحته إحدى وصيفات زبيده . كانت مكلفة بمراقبة الباب الرئيسى من إحدى الشرفات . أسرعت فى الحال لتخبر مولاتها . أمرتها أن تسمح له بالدخول عليها فى الحال وأن تنبه الحراس إلى ذلك . لدى دخوله بادرته فى لهفة قبل أن يلقى التحية عليها .............
ــ هيه ماذا فعلت ,هل قابلت أمير المؤمنين ؟.
ــ أجل يا مولاتى ,إنى قادم من عنده الآن ؟.
ــ هل أخبرته بكل شئ كما اتفقنا ؟.
رد متلعثما فى خبث ...............
ــ فى الحقيقة يا مولاتى لم أجسر على إبلاغه إلا بأمر العلوى ..
ــ والأمر الآخر , إنه الأهم . كان أجدر بك يا كبير الحجاب أن تخبره به أولا فهو الضربة القاضية التى ستهوى برأس ذلك الفتى المدلل ..
ــ حاولت عدة مرات فى هذا اللقاء أن أفاتحه فى هذا الأمر الجلل ولو تلميحا , إلا أننى تهيبت يا مولاتى . كلما هممت بالكلام انعقد لسانى وأخذتنى الهيبة من أمير المؤمنين , حتى أنه لاحظ ذلك وسألنى عما بى . فتعللت أنى أشعر بدوار مفاجئ وآلام تدق فى رأسى ..
هزت رأسها قائلة ..............
ــ كنت أتمنى أن تحيط أمير المؤمنين علما بهذا الأمر ,لكن .... يبدو أنك على حق فيما قلت . أمر كهذا يحتاج إلى أن أقوم به بنفسى , الصدمة ستكون كبيرة على أمير المؤمنين وسيكون رد فعله عنيفا ومدمرا وهذا هو ما نريده فى نهاية الأمر . حتى يفيق من غفلته ويعرف حقيقة هؤلاء الموالى الفرس الذين وضع فيهم ثقته المطلقه ,أليس كذلك يا كبير الحجاب ؟.
ــ بلى يا مولاتى ,ليس أمامنا غير ذلك ..
ردت وهى تهم بالوقوف إيذانا بانتهاء المقابله .............
ــ لا عليك أنت .. سأقوم أنا بنفسى بتلك المهمة الصعبه . بعد الغد إن شاء الله أخبره عقيب فراغه من أمر العلوى وتأكده من تواطئ الفضل بن يحى معه وتهريبه إياه خارج السجن ..
@ بدأت الحكاية منذ عقد الرشيد لأخته العباسه على الوزير جعفر البرمكى , قيل وقتها أنه اضطر لذلك حتى يحل له النظر إليها فى مجلسه , على ألا يعاشرها معاشرة الأزواج ,حذره من أن تسول له نفسه أن يقربها أو يختلى بها . كذلك شدد على أخته العباسه وإلا كان مصيرهما سيف الجلاد الذى لا يرحم . أمر عجيب فرضته التقاليد العربية التى تأبى أن تتزوج هاشمية من الأشراف إلا بمن يماثلها فى الشرف والنسب والعروبه . وجعفر رغم منزلته وقدره عند الرشيد هو وعائلته كلهم جميعا إلا أنهم فى نهاية الأمر ليسوا أكثر من فرس من بلاد العجم ..
مع مرور الأيام لاحظت زبيده بذكاء الأنثى وبما كان لديها من فراسة أن العلاقة التى تربط بينهما أكبر وأعمق من أن تكون علاقة زواج صورى . لاحظت ذلك من النظرات التى كان يتبادلها الزوجان وكذلك لغة العيون التى كانت تدور فى صمت بينهما فى مجالس السماع والأنس . شعرت أن فى الأمر شيئا مريبا ,أخذت تتحسس أخبارهما عن طريق عيونها من الجوارى والخدم المندسين من حولهم فى كل مكان ,حتى تأكدت أنهما يلتقيان سرا بعيدا عن عيون الرشيد لقاءات متعددة وأن هذه اللقاءات أثمرت "ولدين" قاما بتهريبهما إلى مكان آمن بعيدا عن عيون الرشيد وجواسيسه . لم تجد العباسة مكانا أكثر أمنا من بيت لأحد أتباعها المخلصين فى ضاحية بعيدة فى إحدى شعاب مكه . بذلك تتمكن من زيارتهما كل حين متعللة بأنها ذاهبة لزيارة البيت الحرام ..
علمت الأميرة زبيده بكل ذلك فأرسلت للفضل بن الربيع وأخبرته. إتفقا فى هذا اللقاء على أن يرقب تحركات العباسه وأن يتبعها بنفسه إلى مكة فى أول زيارة تقوم بها , أكدت عليه مولاته زبيده أن يستوثق بنفسه من هذه الأمور وأن يتأكد من وجود الصغيرين ولدى العباسه وجعفر فى مكمنهما ....... "أنظرهما بعينى رأسك قبل أن أبلغ أمير المؤمنين" ..
أخذ الفضل يترقب عن طريق عيونه ميعاد سفر العباسة إلى مكه حتى علم أخيرا أنها عزمت على السفر سرا . شد الرحال هو الآخر وراءها إلى هناك متعللا أمام أمير المؤمنين أنه ذاهب إلى مكه لزيارة صديقه الشافعى ودعوته للحضور إلى بغداد . لم يرجع من رحلته إلا بعد أن رأى الولدين بنفسه وتأكد من زيارة العباسة لهما سرا فى دار تقع فى أطراف مكه ..
فى تلك الرحلة القصيرة الخاطفة التقى بصاحبه الشافعى فى داره وجلس إليه وهو يلقى دروسه وسط حشد كبير من الناس على اختلاف ألوانهم وقد وفدوا إليه من شتى البقاع لسماع علومه والأخذ عنه . لم يخبره عن السبب الحقيقى لحضوره إلى مكه إلا أنه ألمح إليه لما سأله عن أحوال الخلافة قائلا ..........
ــ كل شئ يجرى على ما يرام إلا أن هنالك أمورا خطيرة لا يستطيع أن ينطق بها فمى الآن لأى أحد. إنما كل ما أستطيع أن أخبرك به أيها الصديق أن الطوفان قادم لا محاله ,أحداثا جسام سوف تشهدها البلاد فى الأيام القليلة القادمه . أظن أن التاريخ سيتوقف أمامها طويلا . أيام وستعلم كل شئ بنفسك ..
لدى عودته زف البشرى إلى مولاته زبيده وأخبرها بكل ما رآه هناك وأعلمها أن الولدان يعيشان فى مكه . أخبرها بمكانهما الذى يختبئان فيه فى إحدى الضواحى بعيدا عن العيون واتفقا فى هذا اللقاء أن يذهب للرشيد وينقل إليه كل ما فى جعبته من أسرار . غير أنه تراجع ولم يفعل واكتفى بقصة يحى بن عبد الله العلوى وما كان من أمر الفضل بن يحى البرمكى معه ,ولم يجرؤ على إخباره بأمر جعفر والعباسه كما تقدم ..
@ فى غرفتها أخذت تروح وتجئ عاقدة يديها خلف ظهرها وهى تستعيد فى رأسها ما سوف تقوله فى الغد لأمير المؤمنين . إلا أنها لم تطق صبرا لانتظار الغد وعزمت على أن تذهب إليه من فورها . بدأت تعد نفسها لهذه المقابلة المهمة فارتدت أجمل ثيابها وتزينت بأغلى حليها وتعطرت بأفخر وأطيب ما عندها من طيب ثم نادت على وصيفتها وكاتمة أسرارها لتكون برفقتها واتخذت طريقها إلى قصر أمير المؤمنين بعد أن وضعت النقاب على وجهها ..
أثناء هبوطها الدرج الموصل إلى حديقة قصرها استوقفتها إحدى الجوارى وهى تسير فى خطوات متلاحقة من الجهة المضادة قائلة ............
ــ عفوا مولاتى ..
ــ من . سميه ؟. ماذا وراءك أيتها الجاريه ؟.
ــ مولاتى رسالة جاءت للتو من حراس الأبواب الخارجية للقصر أن مولاى أمير المؤمنين فى طريقه إلى هنا ..
دون أن تعقب على حديث الجارية قفلت أدراجها راجعة إلى غرفتها تنتظر قدوم الرشيد وهى فى عجب من مجيئه إلى قصرها فى هذا الوقت المتأخر من الليل . دخل عليها فلاحظت تجهمه وقرأت علامات الضيق على جبينه . بادرته محيية ومرحبة وهى تبالغ فى إبداء سرورها من مقدمه عليها . بعد أن اتخذ مجلسه على السرير بادرها قائلا ..............
ــ أسمعت بما جرى يا ابنة العم ؟.
ــ خيرا إن شاء الله يا أمير المؤمنين ؟.
أجابها وعلى شفتيه ابتسامة ساخره وفى صوته مرارة ............
ــ خير . أى خير يا ابنة العم بعد أن جاءتنى الخيانة من أخلص رجالى وأحبهم إلـى قلبـى .
تساءلت فى دهشة مصطنعة كأنها لا تعلم شيئا ...................
ــ ماذا تقول ؟. لم أفهم بعد يا أمير المؤمنين ؟.
ــ أجل إنها الحقيقه ,ذلك الفارسى اللعين الذى أعطيته كل ثقتى إرتكب جناية وفعلة شنعاء . ما كنت أتصور أبدا فى يوم من الأيام أن تبدر من مثله ..
ــ أى رجالك تعنى ,وما الذى ارتكبه هذا الأحمق ؟.
ــ لن تصدقى إذا قلت لك . إنه الفضل بن يحى البرمكى الذى لم أناديه يوما هو وأخيه جعفر إلا يا أخى . علمت قبل قليل أنه أطلق سراح العلوى دون أن يخبرنى مع أنى نبهته مرارا ألا تغفل عينه عنه فى محبسه . إننا لم نأت به من بلاد الديلم إلا بالسياسة والحيله وأخاف أن يتمكن من العودة إلى هناك مرة أخرى ويرفع علينا راية التمرد والعصيان وتضيع الخلافة وتخرج البلاد من أيدينا ..
توقف الرشيد عن الكلام وهو يلمح بركن عينه ابتسامة ساخرة ترتسم على شفتيها . لم يتصور أن يكون هذا رد فعلها على ما سمعته منه . سألها فى دهشة ...........
ــ ماذا دهاك يا امرأه . أراك تبتسمين فى سخرية وتهكم ؟.
ــ ومالى لا أبتسم بعد أن سمعت منك ما سمعت .
سألها فى سخط وتبرم مستنكرا ............
ــ وهل فيما قلت ما يدعو للتبسم والضحك ما الذى دهاك يا ابنة العم ؟.
ــ كنت أحسبك ستخبرنى بالنبأ العظيم ..
ــ وأى نبأ أعظم من هذا يا ابنة العم . هل تعلمين شيئا لا أعلمه ؟.
ــ شئ ؟! بل أشياء . أنا أعلم ما هو أدهى مما قلت .... بل وأمر ..
تحجرت عيناه فى مقلتيهما قبل أن يبادر متسائلا ...................
ــ أدهى وأمر ؟. أى طامة تلك ؟. تكلمى يا امرأه فإنى فى حيرة من أمرى , أنا ما جئتك إلا من أجل الرأى والمشوره ..
نظرت إليه نظرة حادة كأنها سهم وانطلق لسانها يقول فى جرأة وجسارة من يملك الحقيقة المجردة والبرهان الدامغ . لم يكن يجرؤ على مثل ذلك بين يدى الرشيد من أهل المعمورة سواها لمنزلتها الخاصة عنده ولثقته من رجاحة عقلها وإخلاصها له ..
ــ سأخبرك عساك تفيق من غفلتك وتعرف حقيقة هؤلاء الفرس الموالى الذين أطلقت أيديهم فى الحكم ومكنت لهم . أنسيت أباهم الذى كنت تناديه يا أبت والذى أعطيته يوما خاتمك . أنسيت ما قلته له عندما أخرجته من السجن عقيب توليك إمارة المؤمنين وقلدته الوزارة . كم من مرة حذرتك من أفعالهم , وفى المقابل كنت لا أرى منك إلا السخريه واتهامك لى بالتجنى عليهم والغيرة منهم ..
إندفعت فى هجومها غير هيابة ولا وجلة وهى تسرد عليه فى ثقة حكاية جعفر وشقيقته العباسه . كان يستمع إليها ذاهلا لا يكاد يرى أمامه من هول ما يسمع وقد أخذ الغضب منه مأخذا عظيما شاعرا بالأرض تميد به من تحته . حتى إذا انتهت من كلامها مرت لحظات من السكون كأنه سكون المقابر جاءها بعده صوت الرشيد من أعماق صدره متحشرجا كأنه يحادث نفسه ............. وامصيبتاه رحماك يا ربى أية مصائب تلك التى حلت علينا . يا لفضيحتنا بين العرب والعجم . أيفعل بى ذلك من كنت أسميه أخى . كيف سولت له نفسه أن يفعل ذلك فى إبنة خليفة من خلفاء الله ؟. والله لأمحون هذا العار بالدماء ... أجل : من لم يؤدبه الجميل .. ففى عقوبته صلاحه ..
@ بضعة أيام مرت على هذه الأحداث الجسام , روعت بعدها أمة الإسلام كلها بزلزال رهيب ضرب أرجاءها . صحت بغداد لترى فتاها المدلل ,فخر شبابها جعفر ورأسه منصوبة على رأس الجسر الأوسط وأشلاء جسده على الجسر الأعلى والأسفل . لحق به الكثير من أهله الذين تهاوت رؤوسهم تحت ضربات سيف الجلاد مسرور . ومن كتبت له النجاة منهم وأفلت من هذا السيف كان مصيره الحبس حتى الموت صبرا ..
كان فى مقدمة المحبوسين أبو البرامكة وكبيرهم ومربى الرشيد ومؤدبه يحي بن خالد ومعه أكبر أبنائه الفضل . أغلق باب الشفاعة والرجاء فى تلك الأيام العصيبه , لم يجرؤ إنسان مهما تكن منزلته أو درجة قربه أن يفتح فمه بكلمة رجاء أو شفاعة لأحد منهم . بعد أن أرسل الرشيد مناديا ينادى فى المدائن والثغور أن لا أمان لبرمكى وكتب إلى ولاته فى البلاد بجمع أموالهم وغلاتهم ومتاعهم ..
ولما طال حبس الشيخ الهرم الذى قلده الرشيد يوما خاتم الدوله سمحت امرأته لنفسها ذات يوم وذلك حوالى منتصف العام الهجرى الثانى والتسعين بعد المائه أن تذهب إلى الرشيد وهى تتوكأ على عصاها ترجوه وتلح فى الرجاء . لما كان لها من مكانة وزلفى عند أمير المؤمنين وما لها من حق عليه . فهى أمه من الرضاع . رآها الرشيد فقام إليها محتفيا ومحييا قائلا لها وهو يقبل رأسها ............
ــ أهلا أم أمير المؤمنين ..
ردت فى صوت مختنق متهدج بينما تحاول مسح الدمع من عينيها ................
ــ يا أمير المؤمنين , لقد ربيتك وأخذت لك الأمان من دهرى . واليوم أتيتك راجية أن تصفح عن ظئرك يحى وأبوك بعد أبيك وأن تطلقه من محبسه ..
ــ أماه ..... قدر سبق ... وقضاء حم ... وغضب من الله نزل ..
ــ يا أمير المؤمنين ,تعلم أنى لم آت إليك من أجل ولدى الذى حكمت عليه بالموت . ولا من أجل ولدى الآخر الذى حبسته مع أبيه . لكن أتيت إليك هذه المرة متوسلة أن تعفو عن الشيخ الذى باتت أيامه فى هذه الدنيا قليله ..
ــ أماه . من يرد غير مائه يصدر بمثل دائه . لله الأمر من قبل ومن بعد ..
@ بضعة أشهر مضت على هذا اللقاء إنتقل بعدها يحي بن خالد البرمكى إلى جوار ربه ومن بعده ولده الفضل . وفى غرة جمادى الأولى للسنة الثالثة والتسعين بعد المائة الأولى للهجره رحل خليفة المسلمين هارون الرشيد هو الآخر إلى جوار ربه وهو فى حوالى الخامسة والأربعين من عمره . تولى من بعده ولى عهده ولده محمد الأمين . كان الشافعى قد لقيه من قبل بضعة مرات هو وشقيقه المأمون وهما فى سن الصبا فى حلقة إمام دار الهجره مالك بن أنس عندما كان يتلقى العلم على يديه . والتقى بهما مرة أخرى قبل تسع سنوات فى بغداد بعد نجاته من محنته الكبرى وهما غلامين فتيين مع مؤدبهما أبى عبد الصمد ..
وقصة هذا اللقاء الثانى أنه بينما كان الشافعى ذات يوم جالسا وحده فى الدار التى أسكنه فيها القاضى محمد بن الحسن مستغرقا فى تدوين أوراق أمامه إذ سمع طارقا يطرق الباب لا يكف يده . قام ليجد أمامه سراج خادم الرشيد وهو يقول له معتذرا بعد أن حياه ...............
ــ معذرة أيها الشيخ الجليل ..
ــ ماذا وراءك يا سراج ؟.
ــ أمير المؤمنين فى انتظارك..
إرتدى عباءته وأغلق باب الدار وانطلق بصحبة خادم الرشيد إلى قصر الذهب . لدى دخوله مجلس أمير المؤمنين قام إليه محييا ومرحبا ثم قال له ..........
ــ يا أبا عبد الله ,هذا ولدى محمد الأمين ولى العهد من بعدى . وهذا ولدى عبد الله المأمون ولى العهد من بعده ..
قالها وهو يشير إليهما أن يتقدما ليسلما على الشافعى , ثم أردف قائلا بعد أن قاما وسلما عليه ...................
ــ وهذا هو الشيخ أبى عبد الصمد مؤدبهما , وإنى أرسلت إليك اليوم لتوصيه ..
قال الشافعى بعد أن أقعد الشيخ أمامه ..............
ــ ليكن أول ما تبدأ به من إصلاح أولاد أمير المؤمنين إصلاح نفسك . فإن أعينهم معقودة بعينك والحسن عندهم ما تستحسنه أنت والقبيح عندهم ما تركته . علمهم كتاب الله ولا تكرههم عليه فيملوه ولا تتركهم منه فيهجروه . ثم روهم من الشعر أعفه ومن الحديث أشرفه . ولا تخرجهم من علم إلى غيره حتى يحكموه , فإن ازدحام الكلام فى السمع مضلة للفهم ..
يتبع.. إن شاء الله............................
__________________
أحرث حقول المعرفه
لتقطف سنبلة الفهم
التى بذرتها
التعديل الأخير تم بواسطة : د أنس البن بتاريخ 16/05/2011 الساعة 17h11
|

05/08/2009, 10h36
|
 |
مواطن من سماعي
رقم العضوية:102176
|
|
تاريخ التسجيل: November 2007
الجنسية: مصرية
الإقامة: كندا - تورونتو
المشاركات: 1,211
|
|
|
|
رد: عالـم قـريش ـ السـيرة الشافعـيه ـ أنس البن
سيّدي الوالد الأديب
الدكتور أنس البن
تعْلمُ أن بكل بيتٍ ركنٌ ما ، يطيب لنا الركون إليه ، كما المُدُنِ يحتضننا فيها مكانٌ و ننفرُ من آخر
هنا ، و بعد النقر على الماوس مباشرة ، يغمرني ارتياحٌ يشبه السكينة . حيث النـَّص يشبهك يا دكتور أنس :
بسيطاً بلا ادعاء ، عميقاً بلا تكلف .
و أعترف أني لم أطبع حوالي ثلاث صفحات ، بسبب ما تعرفه من المشاغِل ،
أجرب الآن القراء من الشاشة
__________________
أستغفِرُ الله العظيم وهو التوّاب الرحيم
|

05/08/2009, 20h23
|
 |
نهـر العطاء
رقم العضوية:688
|
|
تاريخ التسجيل: March 2006
الجنسية: مصرية
الإقامة: مصر
المشاركات: 8,309
|
|
|
|
رد: عالـم قـريش ـ السـيرة الشافعـيه ـ أنس البن
أسعدنى حضورك وتشريفك , ونزلت كلماتك على بردا وسلاما كأنها جاءت فى وقتها
شكرا من القلب يا شاعرنا الكبير سيد أبو زهده ورسالة تحية من إمامنا قاضى الشريعه على توقيعك الجديد المقتبس من درر حكم كلماته
__________________
أحرث حقول المعرفه
لتقطف سنبلة الفهم
التى بذرتها
التعديل الأخير تم بواسطة : د أنس البن بتاريخ 19/05/2011 الساعة 19h40
|

30/09/2009, 09h50
|
 |
نهـر العطاء
رقم العضوية:688
|
|
تاريخ التسجيل: March 2006
الجنسية: مصرية
الإقامة: مصر
المشاركات: 8,309
|
|
|
|
195 هجـريـه .. فـى مدرسـة العـراق
@ أمضى الشافعى حوالى تسعة أعوام بعد عودته من العراق أول مرة قابعا فى أحضان مكة والبيت الحرام لا يتحرك منها قبل أن يرجع سيرته الأولى متنقلا بين البلدان والأقطار طولا وعرضا . إما باحثا فى دروب العلم وسراديبه عن أسراره , أو منقبا فى باطنه عن كنوزه ودرره أو ناشرا لما تجمع لديه وصار فى حوزته من أفكار وآراء على طلاب علمه فى مكة والقاصدين إليه من بلدان الدنيا . أتاح له مقامه الطويل فى مكة بعيدا عن ضجيج العراق وصخبها وما تموج به من أراء وأفكار متابينة وفرق شتى , وما هيأته له من مناخ هادئ ملائم أن يتأمل فى روية وأناة ويستنبط القواعد التى أسس على متنها أصول مذهبـه الكبير ..
عكف على القرآن زمنا يدرس أحكامه وطرق دلالاتها , ليتعرف على ناسخها ومنسوخها وخصائصها , ناظرا فى جميع ما توافر عنده من سنة رسول الله "صلى الله عليه وسلم" ليعرف مكانها من الشريعة وطرق الإستدلال بها ومقامها من القرآن الكريم . ثم كيف يستخرج الأحكام إذا لم يجد نصا فى قرآن أو سنة . وبدأ فى وضع الضوابط والحدود لمن أراد أن يجتهد فى حكم حتى لا يتعدى الثوابت النصية ويأمن من الشطط والزلل أو يقع فى المحذور ..
هذه القضية الأساسية وما تبعها من فروع وروافد جعلته يستقر طوال هذه السنوات وأن يطول به المقام فى مكان واحد تاركا إلى حين هوايته وشغفه بالتنقل والأسفار . حتى إذا انتهى إلى إرساء القواعد والأصول للإستنباط والإجتهاد واطمأن قلبه إلى ما جمعه فى حوزته , قرر أن يخرج بما عنده إلى الناس عامة وإلى جموع الفقهاء والدارسين خاصة ..
كان من المنطقى على رجل مثله أن يرنو بصره فى هذه المرحلة إلى بغداد قلعة العلوم ومعقل العلماء فى شتى فنون العلم وطرائقه . التى اجتمع فيها فقهاء أهل الرأى من أصحاب أبى حنيفه وفقهاء أهل الحديث من أصحاب مالك . قال لامرأته حميده ذات ليلة وهو جالس وحده يخط رسالة عزاء لأحد أصحابه .............
ــ يا حميده , أعدى لى حاجياتى وكتبى . إنى مسافر فى الغد إن شاء الله ..
ــ فاجأتنى والله يا أبا محمد . إلى أين يا ترى هذه المرة ؟.
ــ إلى بغداد ..
ردت فى دهشة ..........
ــ بغداد . لم ؟.
ــ أجل , بغداد قلعة العلوم وحاضرة الأمة الإسلامية ومهبط العلماء ..
إبتسمت قائلة ...............
ــ ياه منذ زمن طويل لم تغادر مكة حتى ظننت أنك لن تعود سيرتك الأولى راحلا متنقلا من بلد إلى بلد ..
ــ صدقت ياحميده , لكنى رأيت أنه من الضرورى بل من الواجب على أن أعجل بالذهاب إلى العراق هذه الأيام ..
نظرت إليه متسائلة فأردف قائلا ...........
ــ علمت من بعض الوافدين من أهل العراق إلى هنا لتلقى العلم أن كثيرا من علماء البصرة والكوفة ينكرون حجية الحديث ويتشددون تشددا مفرطا فى قبول الحديث . مع أنه من أهم وأوثق مصادر التشريع بعد كتاب الله عز وجل ويكفى لقبوله أن يكون متصلا صحيح الإسناد , ولم يعلم أولئك أن السنة أصل مبين ومفصل ومكمل ..
أردف قائلا وهو يشير إلى خزانة كتبه ........
ــ لهذا لا تنسى أن تضعى مع حاجياتى "الكتاب البغدادى" ..
ــ تعنى هذا الكتاب الضخم الذى صنفت فيه الرد على كل مسائلهم التى اطلعت عليها فى كتب أستاذهم محمد بن الحسن ؟.
ــ أجل يا حميده , فما أبعد شقة الخلاف بيننا نحن الحجازيون أصحاب الحديث وبين العراقيين القائلين بالرأى والإستحسان . إنهم يقدمون القياس على خبر الآحاد وإن صح سنده , كما أنهم يتركون بعض الأحاديث بدعوى أنها غير مشهورة . فى المقابل يعملون بأحاديث أخرى لم تصح عند المحدثين بدعوى أنها مشهورة . لقد عكفت على قراءة كل ما كتبوه نقلا عن أئمتهم وعلى ما وصل إلى سمعى من كلامهم ودرسته دراسة متأنية ..
ــ كيف وجدتهم ؟.
ــ وجدتهم غرقوا فى الفروع والجزئيات , وأهملوا كثيرا من الأصول ..
ــ وعلى من ستنزل فى بغداد ؟.
ــ سأنزل على دار محمد بن أبى حسان الزيادى وأمضى أياما عنده ثم أتوجه بعد ذلك إلى تلميذى الحبيب ..
أشارت بيدها فقال ......
ــ أحمد بن حنبل ..
ــ لم تذهب أولا إلى دار الزيادى ؟.
ــ إنها دار عامرة بالعلم والكتب . أبوه رحمه الله كان قاضيا وعالما جليلا , وأعلم أنه يحتفظ فى داره بخزانة حسنة ضخمة للكتب ورثها عنه ولده محمد . ليتنى أستطيع أن أتزود منها بما ينفعنى وينفع الناس ..
سألته امرأته مستفسرة وهى تشير إلى رسالة العزاء التى انتهى لتوه من كتابتها فقال لها .............
ــ علمت اليوم أن ولدا لعبد الرحمن بن مهدى قضى نحبه , وعلمت أيضا أنه اشتد جزعه عليه حتى أنه عزف عن الطعام والشراب , فكتبت له هذه الرسالة أعزيه وأذكره . سأعطيها فى الغد لأحد المسافرين إلى العراق ليوصلها إليه , إلى أن أصل إلى هناك وأواسيه بنفسى ..
قرأ على وجهها تساؤلا وهو يلتفت إليها فبادرها من فوره ........
ــ تودين أن أقرأها عليك . أليس كذلك ؟.
ــ بلى ليتك تسمعنى ما كتبت , فإنك وربى لا تنطق إلا بالحكمة ومأثور القول ؟.
ــ قلت له ........
إنى معزيك لا أنى على ثقة .. من الخلود ولكن سنة الدين ..
فما المعزى بباق بعد صاحبه .. ولا المعزى وإن عاشا إلى حين ..
يا أخى عز نفسك بما تعزى به غيرك , واستقبح من فعلك ما تستقبحه من فعل غيرك . واعلم أن أمضى المصائب فقد سرور وحرمان أجر , فكيف إذا اجتمعا على اكتساب وزر ؟. فتناول حظك يا أخى إذا قرب منك قبل أن تطلبه وقد نأى عنك . ألهمك الله عند المصائب صبرا وأجزل لنا ولك بالصبر أجرا ..
يتبع.. إن شاء الله............................
@ بعد أيام قلائل كان الشافعى يمتطى صهوة بغلته آخذا طريقه صوب العراق . قبل أن يفارق الدار قالت له امرأته وهى تمسح دمعة فرت على خدها ..
ــ ليت المقام لا يطول بك فى أرض العراق يا أبا محمد . ما أحوجنا جميعا إلى وجودك بيننا , لم يعد لنا طاقة بفراقك ؟.
رد قائلا وهو ينظر إليها نظرة حنان ومودة.........
ــ إطمئنى يا عثمانيه , عملت حساب هذا ..
ــ ماذا تعنى يا أبا محمد ؟.
ــ خالى على كما تعلمين يسافر كثيرا إلى العراق والشام لجلب البضاعة لدكانهم بعد أن توسعوا فى تجارة العطارة والأعشاب . مررت عليه فى داره بالأمس وأعلمته بسفرى إلى العراق وأكدت عليه أن يسأل عن مكانى فى بغداد عند أول قدمة له إليها ويأتينى فيه ..
ــ لم أفهم بعد ما الذى تقصده ؟.
ــ تعلمين أنه قد يطول بى المقام هناك , لهذا طلبت منه أن يأتى بكم جميعا . أنت والأولاد والجاريه فى قدمته الثانيه بعد أن يستقر بى الأمر وتكون لى دارا هناك ..
@ رنا الشافعى إلى بغداد سنة "195" هجريه وبين ثنايا عباءته منهاج فى الفقه لم يسبقه إليه من قبل أحد, كان الشغل الشاغل لأهل زمانه ومن قبلهم فى أحكام الفروع والجزئيات . فجاءهم بقاعدة القواعد يضبط ويعرف بها الجزئيات والفروع . تطلع إليها حاملا معه فى جرابه كتبه التى كتبها فى مكة وفى مقدمتها الرسالة الأصولية والكتاب البغدادى . وقبل أن يدخل بغداد كان كتابه المسمى بالرسالة الذى وضعه فى مكة قد سبقه إلى أهلها بعد أن سلمه إلى تلميذه أحمد بن حنبل قبل سنة ليوصله إلى عالم العراق عبد الرحمن بن مهدى ..
وفى مجلس ضم رهطا من علماء بغداد وفقهائها وبينهم جلس شيخ المحدثين عبد الرحمن بن مهدى فى الجامع الغربى ,يقرأ عليهم رسالة الشافعى فى علم الأصول بعد أن عكف عليها وحده أياما طويلة ينهل من علمها الوفير مخاطبا نفسه كلما مضى فى قراءتها .......... عجبا والله لما أقرأ . كلام نفيس لم تقع عينى على مثله طيلة عمرى . أى رجل هذا . والله ما ظننت أنه يكون فى هذه الأمة اليوم مثل هذا الرجل , وما أظن أن الله خلق مثله فى أهل العلم .
جلس العلماء من أهل الحديث وأصحاب مدرسة الرأى وغيرهم من طلاب العلم وهم فى عجب مما يسمعون من صاحبهم . كلام جديد يطرق آذانهم لأول مرة لم يسبق لهم أن استمعوا إلى مثله من قبل . ومع الأيام تولد لديهم شوق إلى رؤية كاتبه والجلوس إليه وسماع هذه العلوم والمعارف منه . كانوا يتسائلون فيما بينهم ...... متى يجيئنا هذا الشيخ ناصر الحديث وواضع هذه الأصول ؟.
ما كادوا يعلمون بدخوله بغداد من باب الشام ووجوده بينهم حتى انثالوا عليه جماعات كأمواج البحر الهادر . أخذت حلق العلماء الآخرين تتناقص واحدة بعد أخرى حتى صارت ثلاث حلقات بعد أن كانت تعد بالعشرات فى شتى مساجد بغداد ..
يتبع.. إن شاء الله............................
@ دخل الشافعى العراق وهى تموج وتضطرب بالفرق وأصحاب المذاهب من المسلمين ومن غيرهم . المسلمون منهم شيعة وخوارج ومتكلمون ومعتزلة وقدريون ومرجئة ولكل فرقة منها فروع شتى تفرعت عنها . هذا بخلاف أهل السنة وهم جمهور الأمه إلا أنهم تفرقوا إلى مذاهب شتى . فور دخوله بغداد من باب الشام ذهب إلى دار محمد بن أبى حسان الزيادى كما أخبر امرأته ,ثم توجه إلى تلميذه الأثير إلى قلبه أحمد بن حنبل , ولما علم منه أن صديقه وزميله القاضى محمد بن الحسن قضى نحبه منذ ست سنوات ,طلب أن يزور قبره وقبر الإمام الأعظم أبى حنيفه فرد عليه قائلا ........
ــ سنذهب إذن إلى مقابر الخيزران ..
ــ الخيزران ؟.
ــ أجل .. إنه إسم المكان الذى أقيمت فيه مقبرته . بلغنا أن الإمام أوصى أن يدفن فى هذه الأرض قائلا إنها أرض طيبة غير مغصوبه ..
ــ رحم الله الإمام ورضى عنه . هيا بنا إلى هناك فإنى أتبرك به ..
ولدى عودتهما إلى الدار سأله ابن حنبل ..............
ــإذا أذنت لى يا شيخنا,أعرف أنك ترفع يديك فى الصلاة عند القيام من الركوع ..
ــ أجل ..
ــ واليوم رأيتك تفعل خلاف ذلك وأنت تصلى ركعتين عند أبى حنيفه , ما السبب يا ترى ؟.
ــ رأيت ألا أفعل أدبا مع الإمام رضى الله تعالى عنه وأن أظهر خلافه بحضرته ..
@ أمضى الشافعى بضعة أيام فى دار أحمد بن حنبل يريح فيها جسده المكدود من عناء السفر قبل أن يخرج إلى الناس ليعلمهم . كانت فرصة أتاحت لكل واحد منهما أن يتعرف على صاحبه عن قرب , حتى أن الشافعى قال له ......
ــ يا أبا عبد الله أنت أعلم بالأخبار الصحاح منا , فإذا كان خبر صحيح فأعلمنى حتى أذهب إليه كوفيا كان أو بصريا أو شاميا ..
رآه ينظر إليه متعجبا فأردف قائلا وهو يشد على يديه ............
ــ لا تعجب يا أخى فأنت الثقة ..
وقبل أن يغادر الشافعى دار صاحبه لمح ابنته تميل على أذنه تهمس له بكلمات بينما عينيها تروح وتجئ عليه كأنها تتحدث عنه وعلى إثرها نظر ابن حنبل لأستاذه مبتسما فسأله بدوره ...........
ــ إيه يا أبا عبد الله ماذا تقول لك ابنتك ,أحسبها تسأل عن شئ ؟.
إبتسم صاحب الدار قائلا ..........
ــ فى الحقيقة ليس شيئا واحدا .. بل أشياء ؟.
ــ تكلم يا أبا عبد الله ..
ــ والله يا سيدى إنى فى حرج منك ولا أدرى ما أقول لك ..
ــ دع عنك الحرج وهات ما عندك يا رجل ..
ــ تقول لى هلا سألت الشيخ الآن عن المسائل التى حدثتك عنها ؟.
ــ أية مسائل تلك التى تسأل عنها ؟.
ــ الحكاية يا سيدى أن هذه البنت الفضولية جاءتنى بالأمس وسألتنى :
......……………
ــ من يكون هذا الشيخ يا أبت ؟.
ــ شيخى وأستاذى محمد بن إدريس الشافعى ..
ــ آه , الذى حدثتنا عنه غير مره . هذا هو إذن ؟.
ــ أجل يا ابنتى , لكن ... لكن لم تسألين ؟.
ــ لاحظت يا أبت أشياء على هذا الشيخ حيرتنى , ليتك تسأله عنها ..
ــ خيرا إن شاء الله ..
ــ لاحظت أنه عندما قدمنا له الطعام أكل كثيرا مع أنى سمعتك مرة تقول عنه أنه لم يشبع من قبل قط .
ــ إيه وماذا بعد أيتها الفضوليه ؟.
ــ عندما دخل غرفته للنوم لاحظت أنه لم يتحرك من مكانه ولم يقم أبدا ليصلى صلاة الليل ..
عاود سؤالها وقد بدا نافد الصبر .........
ــ هل بقى شئ ؟.
ــ شئ واحد . لما صلى بنا الفجر لم يطلب ماء للوضوء . أتراه صلى بغير وضوء يا أبت ؟.
ــ ما هذا الذى تقولينه يا ابنتى ؟. أتريدين منى أن أذهب إلى هذا العالم الجليل . إلى شيخى ومعلمى وقدوتى ... و ... وأسأله عن مثل هذه الأمور . كيف أجرؤ على ذلك يا ابنتى كيف أجرؤ ؟.
ــ إذن دعنى أسأله أنا ؟.
ــ لا لا . لا يجوز يا ابنتى . عفا الله عنك ... أحسنى الظن بالشيخ ..
ــ والله يا أبت ما قصدت إساءة الظن به, لكنها أمور لاحظتها وأردت أن أعرف تأويلها حتى لا يكون فى النفس شئ ………………
إبتسم الشافعى وهو ينظر إليها متعجبا من فطنتها ودقة ملاحظتها . ثم قال وهو يربت على كتفيها براحة يده رفقا ومودةوأبوه ............
ــ بارك الله فيك وأكثر من أمثالك يا ابنتى . أجل يا أبا عبد الله كل ما قالته حق ويحق لمثلها أن تسأل عنه . أما عن مسألة الطعام فإنى أكلت كثيرا على غير عادتى لأنى أعلم أن طعامك من حلال كما أنك كريم وطعام الكريم دواء كما أن طعام البخيل داء . فأنا ما أكلت لأشبع وإنما أكلت لأتداوى بطعامك يا أبا عبد الله . أما عن عدم قيامى الليل للتهجد فسبب ذلك أننى لما وضعت رأسى لأنام نظرت كأن أمامى الكتاب والسنه ففتح الله على باثنتين وسبعين مسألة من علوم الفقه , لهذا لم أتمكن من قيام الليل للتهجد ..
ــ كأنك لم تنم إذن ؟.
ــ أجل .. لم تنم عينى وظللت يقظان حتى جاء النداء للصلاه ..
ــ لهذا لم تجدد الوضوء وصليت بنا الفجر على وضوء العشاء ..
ــ أجل ..
ــ بارك الله فيك وزادك علما وتقى وصلاحا أيها الشيخ المبارك الصالح ..
ــ مهلا مهلا ... مالى أنا والصالحين يا ولدى . أنا أحب الصالحين لكنى لسـت منهم ..
ــ ماذا تقول يا شيخنا إنك ....
قاطعه الشافعى مرتجلا فى الحال ..........
أحب الصالحين ولست منهم .. لعلى أن أنال بهم شفاعه ..
وأكره من تجارتهم معاصى .. وإن كنا سويا فى البضاعه ..
رد ابن حنبل من فوره .........
بل ...... تحب الصالحين وأنت منهم .. ومنكم سوف يلقون الشفاعه ..
وتكره من تجارتهم معاصى .. وقانا الله من شر البضاعه ..
يتبع.. إن شاء الله............................
@ جلس الشافعى فى ساحة الدرس بالجامع الكبير فى بغداد ,أمامه جموع غفيرة من أهل العراق وخراسان يتقدمهم ثلة من علماء اختلفت مشاربهم وميولهم ودارسين تقاطروا عليه من جميع الأقطار . يعلمون أنهم فى حضرة رجل أعلم منهم بلغة الكتاب والسنة وأبصر بالمعانى ,وأقوى منهم جميعا جدلا وحجة . كذلك حكى لهم وعرفهم من رآه وهو يناظر ويحاور فى ساحة الحرم فى مكة ,ومع هذا فهو قمة فى تواضعه ودماثة خلقه ..
تعرف على بعضهم وصاروا من المقربين إلى قلبه وروحه , ومع توالى الليالى والأيام انصرفوا عن مذهب أهل الرأى الذى كان سائدا عندهم بعد أن وعوا أقوال الشافعى وآراءه وفكره . من أولئك الحسين بن على الكرابيسى وأبو ثور الكلبى وأبو عبد الرحمن البصرى , وأخيرا ذلك الفتى النبطى الذى كانت له حكاية مع الشافعى فى أول لقاء لهما ..
ذكره ذلك الفتى عندما وقعت عليه عينه فى المرة الأولى ,بنفسه وحاله وقت أن كان يختلف إلى إمام دار الهجرة قبل أكثر من عشرين عاما , والصدفة وحدها هى التى عرفته على هذا الشاب وعلى مواهبه ,بل جعلته من أصحابه المقربين لا يفارقه ,وظل ملازما له حتى آخر يوم له فى العراق . وحكايتهبدأت مع أول لقاء له بتلاميذه فى بغداد , لما طلب إليهم أن يختاروا من بينهم من يقرأ لهم . وانتظر أن يتطوع واحدا منهم دون جدوى , لم يجترئ واحدا منهم أن يتقدم , تهيبوا من القراءة فى حضرته , إلى أن تقدم من بينهم أخيرا فتى نحيلا دون الخامسة عشر من العمر يبدو من هيئته وسماته أنه من غير بلاد العرب , قال ......
ــ أنا أقرأ لهم أيها المعلم ..
ــ هل أنت أفصحهم لسانا يا فتى ؟.
ــ لا أقول ذلك يا سيدى ولا أدعيه . لكنى سمعت البعض يقول لى ذلك , وبالأمس طلب بعضهم أن أتولى أمر القراءه ..
نظر إليه الشافعى طويلا معجبا من فصاحة لسانه وعذوبة صوته ,قال له .....
ــ ما اسمك يا فتى ؟..
ــ أبو على الحسن الصباح ..
ــ من أى البلاد ؟.
ــ ما أنا بعربى يا سيدى المعلم , بل نبطى من قرية بالسواد يقال لها الزعفرانيه ..
ــ الأنباط يا بنى تمتد جذورهم إلى عرب جنوبي الجزيرة قبل أن يستوطنوا جنوب الشام . فهم فى أصولهم من العرب .. أليس كذلك ؟.
ــ بلى أيها المعلم ..
ــ إذن أنت من الآن سيد قرية الزعفرانيه . هيا اقرأ علينا يا زعفرانى من كتاب الرسالة وسننصت كلنا جميعا لك . ومن يعن له منكم أمرا أو يجد فى نفسه شيئا فليسأل عنه فى الحال , وسأجيب كل واحد على مسألته إن شاء الله ..
أمسك الفتى بالكتاب وبدأ يقرأ على الجالسين وهم منصتون إليه إلى أن قال .........
ــ ومن جماع علم كتاب الله ,العلم بأن جميع كتاب الله إنما نزل بلسان العرب . والمعرفة بناسخه ومنسوخه والغرض فى تنزيله والأدب والإرشاد والإباحة . وما أراد بجميع فرائضه ومن أراد ,كل خلقه أم بعضهم دون بعض ..
سأل أحد الجالسين .........
ــ سمعنا من يقول من علماء بغداد والكوفة أن فى القرآن عربى وأعجمى ,وفيه مما ينطق به غير العرب . وأنت تقول لنا إن جميع ما فى كتاب الله إنما نزل بلسان العرب فليتك تزيدنا بيانا ؟.
ــ إن جهل بعض العرب ببعض ما فى القرآن ليس دليلا على عجمة هذا البعض بل هو دليل على على جهل هؤلاء ببعض لغتهم . ليس لأحد أن يدعى الإحاطة بكل ألفاظ اللسان العربى لأنه أوسع الألسنة مذهبا وأكثرها ألفاظا . ولا يحيط بجميع علمه إنسان غير نبى الله "صلى الله عليه وسلم" مثل العلم بالسنه لا يحيط بها واحد علما مع ثبوتها للمجموع , والواجب على العالمين ألا يقولوا إلا من حيث علموا . وقد تكلم فى العلم من لو أمسك عن بعض ما تكلم فيه منه لكان الإمساك أولى به وأقرب إلى السلامة له إن شاء الله ..
ــ وما قولك إذن فى بعض الكلمات القليلة التى أشكلت على القوم ؟.
ــ من الممكن أن يكون بعض الأعاجم تعلم شيئا من ألفاظ اللغة العربية وسرت إلى لغاتهم فتوافقت بعض كلمات القرآن القليلة مع تلك الألفاظ . كما يجوز أن يوافق لسان العجم أو بعضها قليلا من لسان العرب ..
ــ فما الحجة فى أن كتاب الله محض بلسان العرب ولا يخلطه فيه غيره ؟.
ــ الحجة فيه منه أى من كتاب الله . قال الله عز وجل "وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه" ..
ــ الرسل قبل محمد "صلى الله عليه وسلم" كانوا يرسلون إلى قومهم خاصة , أما محمد "صلى الله عليه وسلم" فإنه بعث إلى الناس كافة فيحتمل أن يكون بعث بألسنتهم جميعا . فهل من دليل على أنه بعث بلسان قومه خاصة دون ألسنة العجم ؟.
ــ الدلالة على ذلك بينة فى كتاب الله فى غير موضع . قال الله عـز وجـل "وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربى مبين" وقال "وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها" وقال "قرآنا عربيا غير ذى عوج لعلهم يتقون" . فأقام حجته بأن كتابه عربى ثم أكد ذلك بأن نفى عنه جل ثناؤه كل لسان غير لسان العرب فى آيتين من كتابه فقـال تعالـى "ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذى يلحدون إليه أعجمى وهذا لسان عربى مبين" وقال "ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمى وعربى" ..
ــ ولماذا نبهت على هذا الأمر فى أول كتابك ؟.
ــ لأنه لا يعلم من إيضاح جمل علم الكتاب أحد جهل سعة لسان العرب وكثرة وجوهه وجماع معانيه وتفرقها . ومن علمه انتفت عنه الشبه التى دخلت على من جهل لسانها . فتنبيه العامة على أن القرآن نزل بلسان العرب خاصة نصيحة للمسلمين , والنصيحة لهم فرض لا ينبغى تركه ..
ــ وماذا على المسلمين الأعاجم ؟.
ــ على كل واحد منهم أن يتعلم من لسان العرب ما بلغه جهده . حتى ينطق به الشهادتين ويتلو به كتاب الله ويتعلق بالذكر فيما افترض عليه من التكبير وأمر به من التسبيح والتشهد وغير ذلك . فكلما ازداد علما باللسان الذى جعله الله لسان من ختم به نبوته وأنزل به آخر كتبه كان خيرا له , كما عليه أن يتعلم الصلاة والذكر فيها ويأتى البيت ويتوجه لما وجه له ..
يتبع.. إن شاء الله............................
@ فى تلك الأثناء ولم يكن قد مضى عليه فى العراق كثير جاءه خاله على كما وعده قبل سفره فى داره الرحيبة التى اتخذها سكنا له فى بغداد على مقربة من دار تلميذه وصاحبه أحمد بن حنبل . تعرف على مكانه وأمضى معه أياما قليلة رجع بعدها إلى مكه على وعد منه أن يحضر إليه فى القريب وبرفقته عائلة الشافعى ليقيموا جميعا معه فى العراق ..
مكث غير بعيد ثم أتاه مرة ثانية يدق عليه الباب ومعه عائلته كلها إمرأته وأولاده وجاريته ليعيشوا معه وفى كنفه فى العراق حولين كاملين . لم يهدأ فيهما لحظة واحدة إنما عمل دؤوب وحركة دائمة هنا وهناك يسعى من خلالها لتقريب شقة الخلاف بين العراقيين وأهل الحجاز ويكون بحق رائد الوسطية فى علوم الفقه والتشريع على مر العصور . إشتهرت جلالة الشافعى فى العراق وعم ذكره الآفاق واعترف بفضله خصومه قبل مؤيديه وانضم إلى ركبه العديد من أئمة أهل الفقه بل ورجع كثير منهم عما كانوا يعتقدونه ..
فى المقابل كان بعض السخفاء من أصحاب البدع يحضرون مجالسه لا غرض لهم ولا أرب إلا السخرية منه والاستهزاء به . وآخرون يسألونه أسئلة تافهة مضحكة لا وزن لها . يرد فى تواضع على بعضها ويكتفى بالسكوت والإبتسام على البعض الآخر . من ذلك أن واحدا سأله ذات مره ............
ــ ما تقول أيها المطلبى .. فى رجل دخل منزل آخر فرأى بطة ففقأ عينها , ماذا يجب عليه ؟.
إبتسم الشافعى قائلا .........
ــ عليه أن ينظر إلى قيمتها وهى صحيحة وقيمتها وقد ذهبت عينها ثم يقوم ما بين القيمتين ..
وآخر يسأله نوعا من تلك الأسئلة التى شغفوا بها ............
ــ ما قولك أيها الشيخ فى واحد حلف قائلا ......... إن كان فى كمى دراهم أكثر من ثلاثة فعبدى حر . ثم ظهر أن فى كمه أربعة دراهم ؟.
ــ ما تقول أنت ؟.
ــ أقول يعتق عبده ..
ــ وأنا أقول لك لا يعتقه ..
ــ لم ؟.
ــ لأنه استثنى من جملة ما فى كمه دراهم والزائد على الثلاثة عنده درهم واحد وليس دراهم , أفهمت أيها الكوفى ؟.
ــ آمنت بالذى فوهك هذا العلم ………………
كان القوم يستمعون إلى ردوده فيدهشهم ما يرونه من حلمه وسعة صدره . لا يسعهم وهم خارجون من عنده إلا أن يقولوا لبعضهم .... هذا رجل معه نصف عقل الدنيا إنه أفقه من رأينا من أهل الأرض ..
وآخرون يقولون عنه فى مجالسهم ومنتدياتهم ..........
ــ هذا المطلبى لا يأخذ فى شئ إلا تحسبها صناعته ..
يرد عليه الآخر ...........
ــ إذا أخذ فى الشعر والعربية تقول هذه صناعته ..
ويعقب ثالث .......
ــ وإذا أخذ فى أيام العرب تقول هذه صناعته ..
ويقول رابع ............
ــ والله ما كنا ندرى ما الكتاب ولا السنة نحن ولا الأولون حتى سمعنا من الشافعى الكتاب والسنة والإجماع ..
فى المقابل لم يسلم الشافعى من بعض المضايقات والصغائر من أولئك النفر المتعصبين لمذهب شيخ العراق أبى حنيفة النعمان . دفعهم التعصب الأعمى لشيخهم إلى ملاحقته بنوع من الأسئله تصوروا أنهم يحرجوه بها أو ينقصوا من قدره . لم يكن غرضهم فى حقيقة الأمر هو التعلم أو البحث عن الحقيقه . سأله أحد الكوفيون ذات مره .......
ــ أخبرنى عن القرآن أخالق هو ؟.
ــ اللهم لا ..
ــ فمخلوق ؟.
ــ اللهم لا ..
ــ فغير مخلوق ؟.
ــ اللهم نعم ..
ــ فما الدليل على أنه غير مخلوق ؟.
أطرق برهة ثم رفع رأسه قائلا ..........
ــ تقر أيها الرجل بأن القرآن كلام الله ؟.
ــ أجل كلام الله لقوله تعالى لرسوله "صلى الله عليه وسلم" .... " وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله " ..
ــ وتقر بأن الله كان وكان كلامه أو كان الله ولم يكن كلامه ؟.
ــ بل كان الله وكان كلامه ..
إبتسم الشافعى قائلا ..........
ــ يا كوفيون إنكم لتأتونى بعظيم من القول . إذا كنتم تقرون بأن الله كان قبل القبل وكان كلامه فمن أين لكم الكلام . هل الكلام الله أو سوى الله أو غير الله أو دون الله ؟.
سكت الرجل ,لم يجد ما يرد به , قال الشافعى موجها كلامه للحاضرين .........
ــ القرآن كلام الله تعالى , وهو غير مخلوق , ومن قال بأنه مخلوق فقد كفر بالله العظيم ………………
يتبع.. إن شاء الله............................
@ عظمت رتبته وعلت عند أمير المؤمنين محمد الأمين وأفراد حاشيته . أرسل إليه مرات وهو فى العراق يدعوه إلى زيارته فى قصره ليسمع منه علومه وما دونه منها فى كتبه . سأله مرة عن رأيه فى فرقة من الناس يسمون القدريه من أتباع رجل إسمه معبد الجهنى فقال له .........
ــ تسأل يا أمير المؤمنين عن أولئك الذين يقولون أن الإنسان حر الإرادة يصنع أفعاله ويقدرها بعلمه وإرادته وينفذها بقدرته ؟.
ــ نعم هؤلاء أعنى ..
ــ لا أقول فيهم إلا ما قاله رسول الله "صلى الله عليه وسلم" : "هم مجوس هذه الأمه" وهم الذين يقولون : إن الله لا يعلم المعاصى حتى تكون ..
ــ وما تقول أنت فى القدر ؟.
رد مرتجلا فى حينه :
ما شئـت كان وإن لم أشأ .. وما شئـت إن لـم تشأ لم يكن ..
خلقت العباد على ما علمت .. ففى العلم يمضى الفتى والمسن ..
على ذا مننت وهذا خذلت .. وهـذا أعنـت وذا لـم تعـن ..
فمنهم شقـى ومنـهم سعيد .. ومنـهم قبيـح ومنـهم حسن ..
وكان الخليفة الأمين يسأله عن أمور كثيرة ويعجب من ردوده التى لم يسمع بمثلها من قبل حتى فى المسائل التى لا تتعلق بعلوم القرآن والحديث . من ذلك أنه فاجأه مرة وهو جالس أمامه وحاشيته من حوله ..............
ــ يا محمد لأى علة خلق الله الذباب ؟.
بدا السؤال غريبا على أسماع الحاضرين إلا أن الشافعى رد قائلا وهو ينظر إليه بعد أن أطرق برهة ............
ــ خلقه مذلة للملوك يا أمير المؤمنين ..
ضحك الأمين وهو يقول ............
ــ رأيت الذبابة يا محمد وهى تسقط على خـدى ؟.
ــ أجل ولقد سألتنى وما عندى جواب فأخذنى من ذلك الزمع . فلما رأيت الذبابة سقطت بموضع لا يناله أحد إنفتح فيه الجواب كـما سمعـت ..
ــ لله درك يا محمد ما أفطنك .
وقبل أن يأذن له فى الإنصراف من مجلسه سأله وهو يسلم عليه ............
ــ سؤال أخير يا ابن إدريس ؟.
ــ على الرحب والسعة يا أمير المؤمنين ..
ــ ماذا تقول فى السماع ؟.
ــ من لم يطرب فى السماع يا أمير المؤمنين فما له حس ..
ــ إذن فأنت تبيح السماع ؟.
ــ يا أمير المؤمنين ما أعلم أحدا من علماء الحجاز كره السماع إلا ما كان منه فى الأوصاف . أما الحداء وذكر الأطلال والمرابع وتحسين الصوت بألحان الأشعار ونشيد الأعراب فمباح كله ..
ــ هل من دليل من السنه ؟.
ــ أخبرنا سفيان عن إبراهيم عن ميسره عن عمرو بن الشريد عن أبيه قال : أردفنى رسول الله "صلى الله عليه وسلم" فقال هل معك من شعر أمية بن أبى الصلت شئ ؟. قلت نعم قال : هيه . قال فأنشدته بيتا . قال هيه فأنشدته حتى بلغت مائة بيت. وسمع رسول الله "صلى الله عليه وسلم" الحداء والرجز وأمر ابن رواحه فى سفره فقال : "حرك بالقوم" فاندفع برجزه ..
يتبع.. إن شاء الله............................
الأحباب الكرام .......
عود على بدء .......
توكلنا على الله .......
@ إستمر زهاء سنتين ينشر علومه وآراءه فى أرجاء العراق مفسحا صدره لكل صاحب رأى مخالف مهما أظهر من لدد أو لجاج فى مناظرات ومحاورات حامية صاخبه كان فيها هو الفارس المنتصر ,بما يملكه من قواعد كلية مؤصلة الأصول ليست فروعا جزئية كتلك التى عاشوا عليها فى بلادهم وتشربوا بها . تلك الحصيلة الهائلة من الآراء المستقلة فى قضايا الفقه وما عاينه بنفسه من توجهات العراقيين ونهجهم فى الفتوى والتشريع ,بهما دون الشافعى فى بغداد كتابا ضخما سماه "الحجه" . وكذلك "كتاب السير وكشف الظنون" و "كتاب المناسك" و "كتاب الصلاه" و "كتاب الجزيه" و "كتاب السنن وقتال أهل البغى" و "كتاب القضايا" وغيرها كثير . ومع ذلك العطاء والفيض كله كان الشافعى يقول فى تواضع العلماء العاملين لمن يعجب من كثرة ما كتب وصنف .............
ــ ما أبالى يا قوم , لو أن الناس كتبوا كتبى هذه ونظروا فيها وتفقهوا ثم لم ينسبوها إلى أبدا ………………
@ وإلى الكوفة معقل الخلاف وموطن اللجاج وتباين الآراء ذهب الشافعى وجلس وسط علمائها وطلاب العلم فيها وهو يعيد عليهم بيان منهجه استجابة لرغبة أهلها لما قالوا له ........
ــ بين لنا يا شيخ ,القاعدة الأصولية فى التشريع كما وضعتها ؟.
ــ سأوجز عليكم بيانها وعليكم أن ترجعوا لما كتبت . إعلموا أن الأصل قرآن وسنه فإن لم يكن فقياس عليهما . وإذا اتصل الحديث عن رسول الله "صلى الله عليه وسلم" وصح الإسناد منه فهو سنه . والإجماع أكبر من الخبر المفرد والحديث على ظاهره وإذا احتمل معانى فما أشبه منها ظاهره أولاها به . وإذا تكافأت الأحاديث فأصحها إسنادا أولاها . وليس المنقطع منها بشئ ما عدا منقطع ابن المسيب . ولا يقاس أصل على أصل ولا يقال للأصل "لم" و "كيف" وإنما يقال للفرع "لم" . فإذا صح قياسه على الأصل صح ,وقامت به الحجه ..
ــ كيف تزعم ذلك ,وقد بلغنا أنك تأخذ بالحديث على إطلاقه ؟.
ــ أفك المبلغ وافترى وإنما خذوا عنى ما أقوله أمامكم . إذا ثبت الحديث عن رسول الله "صلى الله عليه وسلم" فإنه لا يعدله شئ من رأى أو قياس أو أثر مروى عن صحابى أو تابعى . أيضا إذا حدث ثقة عن رسول الله "صلى الله عليه وسلم" ولم يكن هناك حديث يخالفه عمل به ..
ــ وكيف تعمل إذا تخالفت الأحاديث ؟.
ــ أنظر لأرى هل فيها ناسخ ومنسوخ كأن يتأخر أحدها فى الزمن ويثبت بدليل ما أن الأخير ينسخ الأول فأعمل بالأخير . فإن لم يتأكد وقوع النسخ ننظر فى أوثق الروايات فإن تكافأت المرويات عرضت على الكتاب وعموم السنة الثابتة وعمل بما كان منها أقرب إلى ذلك من غيره ..
ــ فما تقول فى الإستحسان . سمعنا أنك لا تقول به وتبطل عمله أليس هو نوع من القياس ؟.
ــ الإستحسان بخلاف القياس ولا يجوز لأحد أن يقول بالإستحسان لأنه من استحسن فقد شرع . الإستحسان لا يخرج عن كونه رأى تجرد من الإستناد إلى أصل شرعى ولا ينتسب إلا إلى صاحبه مهما تحكمت فيه روح الشريعه . بهذا فهو لا يمت للتشريع الإسلامى بأية صلة ولو جاز تعدى القياس وتعطيله إلى الإستحسان . جاز لأهل العقول من غير أهل العلم أن يقولوا فيما ليس فيه خبر بما يحضرهم من الإستحسان ..
ــ وما تقول فى خبر الخاصة ,هل يحتج به ؟.
ــ لا تقوم الحجة بخبر الخاصة حتى يجمع أمورا .... منها أن يكون من حدث به ثقة فى دينه معروفا بالصدق فى حديثه عاقلا لما يحدث به عالما بما يحيل معانى الحديث من اللفظ . وأن يكون ممن يؤدى الحديث بحروفه كما سمعه ولا يحدث به على المعنى لأنه إذا حدث به على المعنى وهو غير عالم بما يحيل معناه لم يدر لعله يحيل الحلال إلى حرام ………………
@ وفى مساجد البصرة أيضا جلس إلى أهلها يحاورهم ويحاورونه كدأبهم ......
ــ يرحمك الله أيها الشيخ ,سمعناك تقول أن فى كتاب الله خبرا عاما يراد به الخاص وخبرا خاصا يراد به العام , تلك أول مرة يقرع آذاننا مثل هذا الكلام عن العام والخاص, ليتك تبينه لنا ؟.
ــ سأضرب لكم مثالا مما نزل من الكتاب عام الظاهر يراد به كله الخصوص قوله تعالى " يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له . إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له . وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب " . فى هذه الآيه يوجه الخطاب بلفظ الناس وهى لفظة تستغرق الجنس وتحمل دلالة العموم المطلق . إلا أن الخصوص واقع على تلك الفئة التى تدعو من دون الله إلها آخر . واستثنى من ذلك من لم يفعل والمرفوع عنه التكليف لعدم المشاركة فى الإثم ..
ــ هل لك أن تزيدنا بيانا بمثال آخر ؟.
ــ هذا كثير فى القرآن لمن نظر فى كتاب الله إقرأ مثلا قوله تعالى فى سورة البقره "ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس" . يحمل لفظ الناس فى هذه الآيه على العموم فى منطوقه بينما تتضمن الآية مفهوم الخصوص . وهو الحاصل من أن من أفاضوا فى عرفه لم يكونوا كل الناس فى زمان رسول الله "صلى الله عليه وسلم" . كما أخبر رب العزة عن نار جهنم فقال "وقودها الناس والحجاره" فدل كتاب الله تعالى على أنه إنما أراد وقودها بعض الناس . لقول الله جل ثناؤه "إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون" ..
ــ عرفتنا الخبر العام فى الكتاب يراد به الخاص .. فماذا عن الخبر الخاص يراد به العام ؟.
ــ أيضا هذا كثير فى القرآن مثال ذلك قوله تعالى فى سورة الطلاق "يا أيها النبى إذا طلقتم النساء" . فهو خطاب خاص لرسول الله "صلى الله عليه وسلم" يراد به عموم الأمه ..
يتبع .. إن شاء الله............................
__________________
أحرث حقول المعرفه
لتقطف سنبلة الفهم
التى بذرتها
التعديل الأخير تم بواسطة : د أنس البن بتاريخ 16/05/2011 الساعة 19h18
|

16/01/2010, 16h28
|
 |
نهـر العطاء
رقم العضوية:688
|
|
تاريخ التسجيل: March 2006
الجنسية: مصرية
الإقامة: مصر
المشاركات: 8,309
|
|
|
|
198 هجـريـه .. إلـى أرض الكنانـه
@ أمضى عامين كاملين لم يهدأ خلالهما يوما واحدا وهو يجوب أنحاء العراق شمالا وجنوبا نشرا لمذهبه فى كل مدارسها ,وتعريفا لعلومه وفكره . قرر بعدها أن ينهى إقامته فى العراق ويحزم أمتعته عائدا إلى مكة مـرة أخرى ,لما لاحظ فى الأيام الأخيرة أن العلة التى تعانى منها امرأته حميده أخذت تستشرى فى جسدها بلا هوادة وتستحكم فى أعضائها يوما عن يوم . زادتها وهنا على وهن بينما هى صامدة صابرة لا تظهر شكواها لأحد ولا تبثها إلا إلى ربها فى صلواتها وهى قائمة فى خشوع بين يديه . كان يدرك بما لديه من خبرة فى أمور مداواة الأبدان ,حجم معاناتها وما تتحمله وحدها فى صمت من آلام وعذاب ..
حينئذ قرر الشافعى العودة للبلاد حتى إذا أدرك الموت امرأته لقيها وهى فى أحضان مكة بين الأهل والأحباب . وفى ليلة السفر ودع تلاميذه وأصحابه العراقيين . لم يمكنوه من مفارقتهم إلا على وعد منه أن يعود إليهم مرة أخرى فى القريب , وكان قد أسر لبعض المقربين منه عن سبب رحيله المفاجئ . لم تمض أيام حتى كانت مكة تفتح له ذراعيها مرة أخرى ,غير أنه بدا هذه المرة حزينا على غير عادته وهو يعلم أن امرأته التى شاركته رحلة الحياة بحلوها ومرها باتت أيامها معدودة فى هذه الدنيا الفانيه ..
صح ما توقعه وحسب حسابه من قبل أن هذا المرض الذى ابتليت به وهى فى ريعان الشباب ومقتبل العمر لن يمهلها طويلا . لم يكد يستقر بهم المقام فى مكة أياما قليلة حتى صحا ذات ليلة على صوتها وهى تناديه بصوت واه كأنه قادم من عالم آخر . لم تكن تبغى إلا وداعه قبل أن تفارق الدنيا . مرت لحظات قليلة قبل أن تنطق بضع كلمات تدمى الفؤاد ,بينما أنفاسها المتلاحقة تضطرب شهيقا وزفيرا . أوصته على أولادهما وشددت فى الرجاء له أن يتزوج جاريته دنانير ,ثم أسلمت الروح وهى مسجاة على فراشها كالملاك الطاهر البريء. استراح الجسد وهدأت آلامه بعد أن خاصمتها العافية بضع سنوات وصعدت روحها الطيبة إلى بارئها ورجعت نفسها المطمئنة إلى ربها راضية مرضيه ..
@ مرت بضعة أشهر على وفاتها ,سافر بعدها الشافعي إلى العراق مرة ثانية كما وعد أصحابه ليكمل ما بدأه . لم يمكث فيها هذه المرة إلا نصف العام ثم رجع إلى مكة مرة ثالثة بعد أن اطمأنت نفسه وشعر أنه أدى واجبه فى بغداد كما كان يتمنى ويرجو حيث أرسى فيها قواعد راسخة ثابته لأصول الأحكام واستنباط قواعد الشرع ..
وفى تلك الأثناء نفذ وصية امرأته الراحله وتزوج جاريته دنانير التى أمضت من عمرها سنوات طويلة تخدمه فى تفان وإخلاص . لم يجد خيرا منها بعد العثمانية زوجا له تشاركه ما بقي من سنوات عمره . كانت حقا كما قالت عنها امرأته الراحله أحرص الناس على راحته والقيام على مصالحه وأنها تعرف طباعه وميوله وما يوافق هواه وما لا يوافقه . أثبتت الأيام ذلك حتى أنها كانت إذا نظرت إليه أو شرع إليها بوجهه تعرف ما يريده منها دون أن يترجم ذلك إلى كلمات على لسانه ..
وفى يوم نادى عليها بعد أن بلغ الليل منتصفه أو كاد وهى راقدة فى فراشها على غير إرادتها إذعانا لأمره . كانت تفضل أن تبقى ساهرة إلى جواره ربما احتاج منها إلى شيء أثناء سهره وهو يلح عليها كى تريح جسدا أضناه طول السهاد وهى قائمة على خدمته . نادى عليها وطلب منها أن تجلس إلى جواره . سألته ...........
ــما بك يا أبا عبد الله ؟.
ــ لا شئ يا دنانير أود أن أتحدث معك قليلا . أين الأولاد ؟.
ــ كلهم نائمون ,هل أوقظهم ؟.
ــ لا . لا دعيهم فإنهم متعبون من عمل الأمس كما أنى أود أن أتحدث معك الآن على انفراد . سأخبرهم فيما بعد على ما عزمت عليه ..
ــ طوع أمرك ..
ــ دنانير ,لقد طوفت سنوات كثيرة فى عديد من بـلاد الإسلام . والحمد لله أن أعاننى على نشر كثير مما أنعم به على من علوم ورد شبه المبطلين وتصحيح الكثير من المعتقدات الخاطئة فى أحكام الشريعه . وبيان ما أبهم من أمور الدين ومواطن الزلل التى وقع فيها البعض ..
ــ أجل كل هذا صحيح . لكن ماذا تود أن تقول ؟.
ــ أردت أن أخبرك أنه آن للراحل أخيرا أن يحط عصاه ..
ــ ماذا تعنى يا أبا عبد الله . أخيرا قررت ألا تغادر مكة بعد اليوم وأن تستقر فيها بعد طول ترحال ؟.
ــ لا يا دنانير ما قصدت هذا وإنما عنيت أمرا آخر . لقد شاءت الأقدار أن يكون مقامنا الأخير ومستقرنا فى غير هذا البلد ..
أجفلت قائلة وقد ظهر الدهش فى عينيها وعلى قسمات وجهها الأسمر الداكن :
ــ ماذا تعنى يا أبا عبد الله . هل سنرحل من مكة إلى الأبد ؟. إلى أيـن ؟.
ــ خارج جزيرة العرب ,إلى بلد اشتقت إليه كثيرا . منذ سنوات وأنا أتطلع إلى الرحيل إليه . بذا جرت المقادير يا ابنة صالح ..
زادت دهشتها فأكمل قائلا ............
ــ لا تعجبى يا دنانير فهذا أمر أشعر أنى أساق له سوقا . كأنما الأحداث الحاضرة وما تموج به البلاد من قلاقل وفتن تدفعنى إليه دفعا لتتحقق الرؤيا التى رأتها أمى قبل ثمانية وأربعين عاما . لقد ألمحت لى عليها مرات فى السنوات الماضيه لكنها وهى على فراش الموت حدثتنى بما لم تحدثنى به من قبل . سمعت منها ما لم أسمع بمثله منها يرحمها الله قالت : ………………
ــ هل تذكر يا ولدى , ما سبق أن قلته لك عن خبر تلك الرؤيا التى أريتها وأنا فى بلاد الشام ؟.
ــ أجل يا أم الشافعى حدثتنى منذ زمن عن كوكب شاهدته عيناك فى المنام وهو يخرج من النافذه . وبضع شظايا تخرج منه لتنزل فى العراق والشام واليمن ومكة والمدينه . ثم وهو يدور فى السماء إلى أن حط فى مصر ..
ــ إسمع يا ولدى تلك الرؤيا التى رأيتها ذات يوم وعبرها لى أبوك إدريس أراها مع الأيام وهى تتحقق أمام عينى . صورة واقعة حقيقية كما قال لى وأكد يومها على كلامه .. يرحم الله أباك يا ولدى ..
ــ ماذا تعنين يا أماه ؟.
ــ قال لى أبوك يا ولدى أن هذا الكوكب الذى رأيته ,هو .... هو .. أنت ؟.
ــ أنا يا أماه ؟.
قالها فى دهشة فأجابت ..........
ــ أجل يا ولدى , قال لى وأنت لا تزال جنينا فى أحشائى أنك أنت هذا الكوكب وأنك عالم قريش الذى يملأ الأرض علما . وقبل أن يفارق الدنيا أوصانى بك ,وأكد على أنك ستكون عالم قريش الذى أخبر عن مجيئه رسول الله "صلى الله عليه وسلم" . والحمد لله الذى أحيانى إلى هذا اليوم حتى شهدت رؤياى وهى تتحقق يوما بعد يوم أمام عينى وأراك وأنت ترحل من بلد إلى بلد تسمع الناس علوما ما سمعوا بها من قبل ولا طرقت آذانهم . لكن يا ولدى بقى ختام الرؤيا وأشعر أنى سألقى ربى قبل أن أراه يتحقق أمام عينى ..
ــ الرحيل إلى مصر ..... أليس كذلك يا أماه ؟.
ــ أجل يا ولدى إنها كنانة الله فى أرضه والبلد التى سوف تخلد علومك كما خلدت من قبل تراث أبناءها منذ آلاف السنين . ومنها ستنتشر إلى شتى بقاع الأرض على مر الزمان ..
ــ صدقت والله يا أماه . إنى أجد فى قلبى من الحنين إليها والشوق إلى ترابها وأهلها ما لم أكن أدري له سببا ولا تأويلا من قبل . إلى أن علمت منك اليوم حقيقة ذلك الشوق وسبب هذا الحنين الذى يجذبنى إلى ترابها جذبا ………………
سألته دنانير ..........
ــ لهذا إذن قررت الرحيل إلى مصر ؟.
ــ أجل يا دنانير لقد سبقنى إلى هناك منذ عشرة أيام تلميذى أبو بكر الحميدى . يحمل معه رسالة منى إلى صديقى المصرى عبد الله بن عبد الحكم . أعرفه فيها بقدومنا إلى مصر حتى يكون فى استقبالنا ..
ــ ومتى الرحيل يا إمام ؟.
ــ بضعة أيام ونشد الرحال جميعا إلى هناك فى صحبة والى مصر العباس بن موسى الذى جاء إلى مكة منذ أيام ليصطحبنا معه . سننزل فى البداية إن شاء الله على أخوالى الأزد فى الفسطاط نقضى معهم وفى ضيافتهم أياما قليلة قبل أن يستقر بنا المقام فى دارنا ..
ــ أى دار تلك . ألنا دار فى مصر ؟.
ــ أجل سيكون لنا بإذن الله تعالى دار واسعة بالفسطاط وعد أن يعدها لنا صديقى المصرى عبد الله بن عبد الحكم بالقرب من دور بنى عبد الحكم فى خطة أهل الرايه ..
@ أبت نفس الأب الطيب الذى تربى منذ نعومة أظفاره على فيض متجدد دائم من الحنان والمودة من أمه الراحله ,إلا أن يطلع أبناءه على ما نواه ,لم يشأ أن يباغتهم بقراره الذى اتخذه ,وهو يعلم يقينا أنه عسير على أمثالهم أن يفارقوا إلى الأبد بلدا تربوا فى أحضانه وعاشوا فى ربوعه ووديانه أيام طفولتهم وصباهم ,ولهم فى كل لمحة فيه ذكريات وأحلام ,ويرحلون إلى بلاد يسمعون بها ولا يعرفون فيها أحدا ولا يعلمون عنها شيئا ..
فى اليوم التالى جمع الشافعى أبناءه محمد وزينب وفاطمه ,أجلسهم أمامه وأخبرهم بما نواه وقرره كى يعدوا أنفسهم ويتهيأون لهذه الرحلة الطويلة الشاقة . أخذ يشرح لهم الأسباب التي دفعته إلى اتخاذ قراره ,كانت تدور حول رغبته فى نشر علومه وآرائه على الكافة ,وأن يكون تلاميذه المصريون هم حملة علومه وحفاظها ,ينقلونها للناس جيلا بعد جيل على مر الزمان ..
سأله محمد ..........
ــ كم سنمكث فى مصر يا أبت قبل أن نرجع إلى بلدنا وأهلنا ؟.
سكت الشافعى قليلا ثم قال ...............
ــ إعلم يا محمد أنه لا ينبل قرشى بمكة ولا يظهر أمره حتى يخرج منها ويهاجر إلى بلد آخر ..
عاد يسأل غير مصدق ............
ــ تعنى يا أبت أننا لن نرجع إلى مكة مرة أخرى ؟.
فوجئ ومعه شقيقتاه وهو يقول لهم ...............
ــ أجل لن نغادر مصر يا أبا عثمان إلى أى مكان آخر . إنها مقرنا الأخير ومحط رحالنا ومستودعنا إلى أن ألقى وجه ربى ..
رد متلعثما وقد أصابته المفاجأة بالدهشة والوجوم ..........
ــ يا أبت لو كان الأمر غربة لفترة محدودة ونرجع إلى بلدنا كما عودتنا من قبل لهان الأمر . أما أن نغادر بلادنا التى تعودنا العيش فى كنفها وفيها أهلنا وأصحابنا وإخواننا ونهاجر إلى بلد لا نعرف فيه أحدا ولا يعرفنا أحد , نبدأ فيه حياتنا من جديد ,فهذا أمر لا نستطيع تصوره ..
ــ على رسلك يا أبا عثمان ,يبدو أنك لا تعرف شيئا عن مصر أو المصريين ,ليس أحد أعرف بهم منى ولسوف ترى بنفسك . إن هى إلا أيام معدودات فى مصر وستعرف كل الناس ويعرفك أيضا كل الناس . ستشعر وأنت بينهم أنك بين أهلك لم تفارقهم . إنهم يا ولدى شعب ودود طيب ينسيك المقام معهم أنك فى دار غربة ..
@ فى تلك السنة و الشافعى يتخذ عدته للرحيل إلى مصر ,آل أمر خلافة المسلمين إلى عبد الله المأمون عقيب مقتل شقيقه الأمين ,معارك ضارية دارت بين الأخوين وأنصارهما فى قلب بغداد . وصلت إلى ذروتها فى وقت كان الشافعى يحزم فيه أمتعته استعدادا للعودة إلى مكه . لكن تتابع الأحداث كان أسرع منه وتولى المأمون زمام الأمور والشافعى لا يزال قابعا هو ومن معه فى قلب بغداد لا يستطيع الخروج منها وهى محاصرة بجيوش المأمون وأنصاره من الفرس قيادة الفضل بن سهل ,فى الوقت الذى كان صاحبه الفضل بن الربيع وزير الأمين وساعده الأيمن يقف على رأس المدافعين عنه ضد المأمون ..
كانت الخلافات قد بدأت عقب تولى الأمين خلافة المسلمين وإعلانه خلع أخيه المأمون من ولاية العهد ومبايعة ولده موسى وليا للعهد وخليفة للمسلمين من بعده كى تظل الخلافة فى عقبه . هذا الخلاف بين الأخوين ألقى بظلاله على أحوال البلاد عامة فسادتها حالة من الفوضى وعدم الإستقرار ,ولم تعد الأمور إلى ما كانت عليه قبل موت الرشيد إلا بعد تولى الخليفة المأمون زمام الأمور ..
نال مصر نصيب من الفرقة والإنقسام بين الأخوين وتحزب أهلها إلى فريقين ,فريق مع هذا وآخر مع ذاك . غير أن الفريق الموالى للمأمون كان أكثر عددا وأقوى حتى أنهم أعلنوا عصيانهم وتمردهم . وصل بهم الأمر إلى إعلانهم خلع الأمين من الخلافة وإعلان المأمون أميرا للمؤمنين . قام المصريون بالثورة على واليه فى البلاد جابر بن الأشعث وطرده وتولية واحد من الموالين للمأمون يدعى عباد بن محمد . لم يكن قد مر إلا حوالى العام على تولى الأمين زمام أمور الخلافه ..
ولما استتب الأمر للمأمون وتفرق الجمعان قفل راجعا إلى بغداد من مقره الذى اتخذه مؤقتا لإدارة أمور الخلافة من مرو فى خراسان وسط أتباعه وأنصار دولته من الفرس . فور رجوعه بدأ يعيد ترتيب الأمور فى البلاد وفق ميوله واتجاهاته . من ذلك أنه أرسل إلى الشافعى قبل أن يهم بالرحيل إلى مكة بعد أن سمع بآرائه وما يملكه من جرأة فى الجدال وثبات فى الرأى وحداثة فى الفكر ,لم يزل يذكره وقت أن كان يختلف إلى شيخ المدينة مالك بن أنس مع شقيقه الأمين وهما فى سن الصبا ,ويذكر له محاوراته مع الشيخ ومواقفه مع تلاميذه ..
قال له الخليفة المأمون بعد فيض من الحفاوة والترحيب , كأن له به عهدا قديما .....
ــ أتعلم لم أرسلت إليك يا محمد ؟.
ــ خيرا إن شاء الله يا أمير المؤمنين ..
ــ علمت أن والدنا هارون الرشيد طيب الله ثراه عرض عليك أن تعمل فى قضاء بغداد ولم تقبل .. أليس كذلك ؟.
ــ بلى يا أمير المؤمنين وقبل عذرى أيامها وأعفانى من هذا الشرف الكبير ..
ــ وأنا اليوم أعرض عليك مرة أخرى أن تكون قاضى القضاه ولك الخيار فى القبول أو الرفض . وإن كنت أتمنى أن تقبل . نحن فى حاجة لأمثالك يا محمد ..
ــ أشكرك يا أمير المؤمنين على ثقتك فى وأرجو قبول اعتذارى ..
ــ هل لى أن أسألك عن علة إبائك ورفضك ؟.
ــ لقد عزمت يا مولاى على الرحيل إلى مصر ,وآمل أن يجعل الله لى فيها مستقر ومستودع ..
ــ لم يا محمد ؟, أقصد لم اخترت مصر ؟.
ــ لا يزال أمامى الكثير أن أفعله لمواصلة رحلة العلم ,تلك الرحلة التى لم يأن لها أن تنتهى بعد . ومصر هى المكان الملائم لمثلى ..
ــ ماذا تعنى ؟.
ــ فى مصر يا أمير المؤمنين أستطيع جنى ثمار ما حصلت من علوم . إنها الواحة التى أستطيع أن أحكم فيها كتبى وأعيد صياغتها ..
ــ متى ترحل إن شاء الله ؟.
ــ سأسافر إلى مكة أولا ثم أرحل منها إلى مصر ..
رد المأمون قائلا وهو يهم واقفا إيذانا بانتهاء المقابلة ............
ــ على بركة الله ,ولا تغادر مكة حتى يأتيك رسولا من عندى ..
ــ هل لى أن أعرف السبب يا مولاى ؟.
ــ ستعرف , ستعرف حتما عندما يأتيك حاجبى ..
توقف برهة قبل أن يصافح الشافعى . كان المأمون لماحا فأردف قائلا بعد أن قرأ بفراسته كلاما على وجهه يتردد فى النطق به ............
ــ هل لك رغبة فى شئ يا محمد . أطلب ما تشاء وأنا آمر به فى التو والحين ..
لاحظ المأمون أنه لا يزال مترددا فاستحثه مؤكدا له أن طلبه مقضى كان ما كان , فقال فى حياء ..............
ــ لى مطلب واحد يا أمير المؤمنين وما أجرأنى عليه إلا معرفتى بما أنت عليه من حلم وميل إلى العفو ..
إبتسم المأمون فى مودة قائلا ............
ــ هى شفاعة إذن ؟. لمن تشفـع يا محمد ؟.
لاحظ تردده وحياءه من ذكر اسمه فأخذ يستحثه قائلا ...............
ــ هيا يا رجل , لا تضيع الفرصة ,قل ولا تتردد وإلا رجعت فى كلامى ..
ــ الفضل بن الربيع ..
نطق اسمه حذرا متوجسا ثم أردف قائلا على عجل بعد أن لاحظ وجوم الخليفة المأمون وتغير وجهه .............
ــ أعلم يا أمير المؤمنين أن جنايته عظيمة لكن ,أعظم منها كرمك وعفوك ..
إنفرجت أساريره قائلا ..............
ــ وأنا قد عفوت عنه يا محمد إكراما لخاطرك . إن كنت تعرف مكانه الذى يختبئ فيه بلغه ذلك ,وقل له يأتينى هنا وقد أعطيته الأمان ..
ــ الحقيقة يا أمير المؤمنين أنه جاءنى قبل أن يفر هاربا بعيدا عن العيون ورجانى أن أشفع له عندك ثم فارقنى دون أن أعرف له مكانا ..
ــ على أية حال إن جاءك مرة أخرى أو رأيته بلغه أنى قد عفوت عنه . والله يا محمد لو عرف الناس حبى للعفو لتقربوا إلى بالجرائم . سأصلى الآن ركعتين شكرا لله أن رزقنى العفو عنه ..
ــ شكرا لك يا مولاى أستودعك الله ………………
@ كان المأمون رجل علم شغوف بالقراءة والإطلاع وما يثير الفكر من قضايا مولع بقراءة ما صنفه الفلاسفة الإغريق فى كتبهم . لهذا أدنى منه جماعة من الفقهاء عرفوا بالمعتزله يرون إثبات العقائد وما يتعلق بها من قضايا بمقاييس العقل . يستخدمون فى كلامهم ومجادلاتهم لغة المنطق وأدواته وأساليب الفلاسفة وطرائقهم ..
وجرت المقادير بما جرت بالنسبة للشافعى من تولى المأمون خلافة المسلمين فى هذا الوقت تحديدا . كأنما كان مجيئه على قدر لتتحقق الرؤيا التى رأتها أم حبيبه قبل نصف قرن من الزمان . حتى يحط الكوكب الدرى فى مصر وتستقر سفينة العلوم وتضع شراعها بعد إبحار طويل على ضفاف نهر النيل العظيم ..
ولأن الله تعالى قد جعل لكل شئ سببا ,مكن المأمون من أمر البلاد ليكون ذلك دافعا للشافعى للرحيل بعيدا خارج جزيرة العرب إلى مصر . واحة العلماء وخبيئة العلوم والفنون منذ آلاف السنين ,بعد أن شعر بحسه المرهف وبصيرته النافذه أن نسمات من الهواء الفارسى الجاف القاسى سوف تهب على بغداد وجزيرة العرب فى ظل خلافة المأمون ,بما تحمله من هيمنة للفرس وما يعتنقونه من أفكار وفلسفات دخيلة على الإسلام وتشيعهم لآل البيت العلوى وما ينطوى عليه ذلك من إحياء للفرقة وإذكاء لنيرانها التى شاء الله تعالى أن تخبو قليلا فى السنوات الماضيه ..
أدرك الشافعى كذلك أن نجم دولة علماء المعتزله فى طريقه للبزوغ واللمعان وأن الساحة ستكون مرتعا خصبا وخاليا لهم ,بما عندهم من ولع بالجدل العقلى العقيم فى أصول العقيدة وأحكامها وكل ما هو خارج عن منطقة العقل . وهو لم يزل متطلعا لاستكمال رسالته التى وهب لها سنى عمره كلها وأن يعيد صياغة ما كتبه فى هدوء وطمأنينة وأمن ,لن يجده إلا فى ربوع وادى النيل الخالد وحناياه الدافئه ..
هذا هو ما عبر عنه وقاله لصديقه عبد الله بن عبد الحكم ذات ليلة بعد أيام قليلة من وصوله إلى مصر وهما يتبادلان حديثا ودودا حيث جمعهما قارب صغير يتهادى بين شاطيئ نيل مصر . ركباه بعد أن أديا صلاة العشاء فى المسجد العتيق متخذين طريقهما إلى الجيزة لزيارة واحد من شيوخ مصر وتلاميذ الشافعى إسمه الربيع الجيزى ..............
ــ أجل يا ابن عبد الحكم هذا هو ما دفعنى للإسراع بالمجئ إلى بلادكم وأن يكون مثواى الأخير فى تراب هذا البلد الطيب ..
ــ أطال الله بقاءك يا صديق العمر . لكأنى بك تسابق الزمـن وتصارع الأيام ؟.
ــ تلك هى الحقيقة يا أخى . أشعر والله أن ما تبقى لى من أجل لن يكون كافيا لأن أكمل رسالتى . أجل لا يزال أمامى الكثير ..
يتبع.. إن شاء الله ...........................
__________________
أحرث حقول المعرفه
لتقطف سنبلة الفهم
التى بذرتها
التعديل الأخير تم بواسطة : د أنس البن بتاريخ 19/05/2011 الساعة 20h18
|

04/02/2010, 03h02
|
 |
مواطن من سماعي
رقم العضوية:102176
|
|
تاريخ التسجيل: November 2007
الجنسية: مصرية
الإقامة: كندا - تورونتو
المشاركات: 1,211
|
|
|
|
رد: عالـم قـريش ـ السـيرة الشافعـيه ـ أنس البن
سيّدي الجليل
الوالد الدكتور أنس
كلما مررتُ من هنا ، خِلتُني بمكانٍ أعشقه بمصر ، ذلك المكان الذي من فرطِ تعلقي به ، أصبحَ هو خميرةَ مصر التي أخبئها بين الشِغاف .
هل أذِنتَ لي بأن أحدِّثك عن "خان الخليلي" ؟
........ شُكراً لكَ يا دكتور
كنتُ في طريقي من "النحّاسين" بشارع المعز لدين الله ، إلى الروضة الحسيّنيّةِ العطرة ، أحبُّ أن أستريح بدكانِهِ الصغير - بأول الممر يساراً – الذي لا يتسع إلا لزبونٍ واحد ، بينما هو جالسٌ إلى طاولةٍ خشبيّةٍ عليها بعض الأدوات اليدويّة – التي أظنه قد صنعها بيديه.
لقد تخصص في صنعةٍ نادرة "صناعة الخواتم الفضيّة" بما في ذلك إصلاحها و ضبط مقاساتها و لحام المكسورِ منها .
و لأنني مولعٌ بكل ماهو يدوي ، كنت أختلق الأسباب التي تجعل جلوسي إليه شيئاً ضرورياً ، كأن أشتري خاتماً من دكاكين "الفضة القديمة" – و حبذا لو كان به عيب كأن يكون مفقودَ الحجر "الفص" أو به شرخٌ أو بحاجة إلى تضييق ... إلخ !
و من كثرة ترددي عليه ، كنت السبب في تعارفٍ بينه و بين أبي رحمه الله ، الذي كان مولعاً بالأحجار الكريمة و أحوالها.
،
عند استقامة الممر بنهايتهِ من الجهة الشرقيّة ، دكانٌ آخر بمواجهة "مقهى وليّ النِعَم" ، لكن هذا الدكان كان يتميّز رغم صِغرِهِ بأنهُ مكشوفٌ للمارّة ، و صاحبه يجلس بحلقِ دكانِه الصغير على هيئة جلوس التشَهُدِ أمام مخرطةٍ غاية في البساطة
، يُدير قِطعةَ الحجر الكريم بين فكينٍ من قضيبٍ التَفَّ على طرفِه خيطٌ تثبَتَ بطرفي قضيبٍ لا يشبهه .
كان صانِعُ المسابِحِ يستنبت من قِطعَةِ الحجر حبة تسبيحٍ ، و كأنه يعزِف على ربابةٍ مستلقية بين يديه. و يداهُ ، كأنهما لرجلين لا يتخاطران.
،
كنتُ أتعَجَبَ لحركتي يديه ، فاليُسرى تستولِدُ اللفاتِ بلا انتباهٍ منهُ ، و اليُمنى بها إزميلٍ يخرط الحبّة فتنفلت منها قِشرَةُ الحجر الكريم (الرايش) تتلوى حرماناً من البقاءِ للتسبيح.
،
كان صانع المسابح قد ألِفَ تـحَلـُّقِ الناس بِه ، فيعرض عنهم ، و أكثرهم من السيّاح و محطات التلفزة العالمية ، يصورونه بكل أنواع الكاميرات ، و هو سادرٌ بسمتِهِ كأنه يُلَقِّنُ الحبّة َ ماسوف يُتلى عليها بيدِ المَسَبِّحين .
حتى إذا رضيَ عن حجمها ، أخذَ ورقة سنفرة ناعمة يحضن بها الحبّة التي لا تكف عن الدوران ،لصقلها، ثم يسند القوس إلى الأرض كأنه يهدهد طِفلاً ليخلع الحبَّةَ بتفريجِ فكي القضيب ، ماسِحاً الهواءِ ببسمةٍ ودودة تِجاه المُتحلقين به من المارّة (وانا أولهم)
كأنه تعلـَّم تلك الصنعة منذ التسبيح ، لا يلتفتُ إلاَّ إليه .
،
تذكرتُ المشهدين و أنا هنا بحضرةِ سيّدي المُلَقبِ بقاضي الشريعة عند أهل مِصر .
و أنتَ تواصل ، يا دكتور أنس ، تبسيط سيرته العطرة لأمثالي من بناة الأكواخ ، تواصل إتمام ناطحة سحابٍ إسمها : السيرة الشافعيّة ،
كأنك سابك الفضة أو صانع السبح ، حيث لسان حالكم يقول للعابرين ، بلا مشاركاتٍ:
فالدُّرُّ يَزدادُ حُسْناً وَهْوَ مَنْتَظِمٌ ..... وَليسَ يَنْقُصُ قَدْراً غيرَ مَنْتَظِمِ
و
تحيّة إكبارٍ و توقير لشيخنا الجليل امحمد شعبان
.
__________________
أستغفِرُ الله العظيم وهو التوّاب الرحيم
|

04/02/2010, 10h42
|
 |
نهـر العطاء
رقم العضوية:688
|
|
تاريخ التسجيل: March 2006
الجنسية: مصرية
الإقامة: مصر
المشاركات: 8,309
|
|
|
|
@ وقف الشافعى وخيوط الصباح الأولى تنسج أنوارها الفضية فى سماء مكة بعد أن فرغ من حزم أمتعته القليلة وكتبه الكثيرة ,يعاين بنفسه الجياد والإبل التى ستحمله وأهله وأمتعته إلى مصر ,أخذ يستحث أولاده وامرأته مناديا عليهم ليضعوا حاجياتهم على متن المطايا قائلا .............
ــ هيا أسرعوا تأخرنا على الوالى ,قافلة والى مصر العباس بن موسى تنتظرنا كى نرحل فى صحبتهم ..
كان الخليفة المأمون قد عين واحدا من أبناء عمومته يدعى العباس بن موسى واليا على مصر من قبله ,بعد أن أمر بعزل واليها المطلب بن عبد الله وأوصاه أن يمر على الشافعى فى مكة قبل أن يرحل إلى مصر ليكون فى صحبة قافلته ,ومن حول الشافعى تجمع أخواله وباقى أقاربه وخاصة تلاميذه ومحبيه الذين أبوا أن يدعوه يغادر البلاد قبل أن يودعوه الوداع الأخير ,ظلوا يتوافدون على داره جماعة بعد أخرى , وأخيرا امتطى متن راحلته متقدما قافلته الصغيرة فى رحلة الهجرة من مكة البلد الأمين الطاهر إلى مصر الكنانة والأمن ..
أخذ ينظر عن يمينه إلى سهولها ووديانها وشعابها ويملى ناظريه من مساكنها وسفوحها وجبالها قبل أن يفارقها الفراق الأخير ,أجل إنه على يقين أنه الفراق الأخير . بدأ يردد مرة أخرى بيت الشعر الذى قاله لصاحبه المصرى .......
فوالله ما أدرى أللفوز والغنى .. أساق إليها أم أساق إلى القبر ..
ثم رجع البصر أمامه فى الأفق البعيد فرآه يطوى فى باطنه تاريخ أرض الكنانة البعيد والقريب وما حوت فى أحضانها من كنوز وأسرار ,وما سطرته القرون الماضيات فى سمائها من أحداث . أبصر فى أحضان الفسطاط حاضرة البلاد مسجدها العتيق أو تاج الجوامع كما يسميه المصريون ,أشهدته مخيلته ثمانين من الصحابة العظام تقدموا جيش الفاتحين ,على رأسهم عمرو بن العاص والزبير بن العوام وأبو ذر الغفارى وأبو الدرداء وعباده بن الصامت وسعد بن أبى وقاص ,يعملون معاولهم فى مكان قريب من الفسطاط الذى كان يقيم فيه قائدهم ليقيموا أول مسجد على أرض الكنانه ,تلك الأرض الطيبة التى شاء الله تعالى أن ينشر فيها وعلى أهلها من رحمته بعد طول ظلم ومعاناة على أيدى طغاة بيزنطه ,ويهئ لهم من أمرهم رشدا على أيدى الفاتحين العظام تحت لواء القائد الكبير عمرو بن العاص فى عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب ..
دخلها عمرو بن العاص كما بشره من قبل رسول الله "صلى الله عليه وسلم" ليخلص أهلها من أقوام طالما ساموهم سوء العذاب وسقوهم كؤوس المذلة والهوان منذ مئات من السنين جيلا بعد جيل من قبل ميلاد المسيح عليه السلام ,حتى دخلها المسلمون وردت مصر لأهلها بعد أن كانت ولاية رومانية ثم بيزنطية منذ انتصار أغسطس قيصر على ملكة البلاد كليوباترا وانتهاء دولة البطالسه فى موقعة أكتيوم قبل ميلاد المسيح بثلاثين عاما ..
وزاد اضطهاد الرومان الوثنيين لأهل مصر لما اعتنقوا المسيحيه ,حتى بعد أن اعتنق الرومان المسيحية بعد حوالى أربعمائة عام تجدد إيذاؤهم واضطهادهم للمصريين لخلاف جدلى بين الكنيسة المصريه فى الإسكندريه والكنيسة الرومانية البيزنطيه فى القسطنطينيه حول طبيعة السيد المسيح عليه السلام. تعرض رموز المسيحية فى مصر من أساقفة وبطاركة إلى إضطهاد فاق كل اضطهاد . دفع البعض منهم للفرار فى الصحراء هربا من بطش المستعمر وطغيانه ,بهذا صار الطريق ممهدا لفتح مصر على يد العرب ..
تذكر الشافعى ما كان من أمر عمر بن الخطاب الذى كان مشفقا على جيش المسلمين من هذه المعركه لأنه سمع رسول الله "صلى الله عليه وسلم" يقول.... "إن مصر كنانة الله فى أرضه وفيها خير أجناد الأرض " . لهذا حاول كثيرا أن يثنى قائده عمرو بن العاص عن هذا الأمر دون جدوى . فلما رأى منه إصرارا وعزما أكيدا قال له ..... سر على بركة الله لكن إذا جاءك كتابا منى وأنت فى الطريق ولم تكن حينذاك فى أرض مصر فلا تدخلها وعد من فورك إلى هنا ,وإن جاءك وأنت داخل أرض مصر فامض على بركة الله ..
كان عمرو بن العاص قد عقد العزم على أن يدخل مصر مهما كلفه ذلك فإنه سمع رسول الله "صلى الله عليه وسلم" وهو يقول ..... "الله الله فى قبط مصر فإنكم ستظهرون عليهم ويكونون لكم عدة وأعوانا فى سبيل الله" . سار القائد بجيش قوامه أربعة آلاف جندى من قيساريه بفلسطين حتى بلغ العريش ومنها إلى الفرما ثم بلبيس . كان يقضى على كل مقاومة يلقاها من جيوش البيزنطيين الذين كانوا يجثمون على أنفاس المصريين ويسومونهم سوء العذاب . حتى وصل إلى أم دنين شمال حصن بابليون على رأس دلتا النيل والباب المفتوح إلى الإسكندريه عاصمة مصر آنذاك . لقى فيها مقاومة عنيفة إلى أن تم أخيرا فتح الحصن الذى كان يحتمى به الرومان بعد حصار دام أربعة أشهر . إستسلم بعدها المقوقس على أن يدفع أهل مصر الجزية ويظلوا على دينهم وألا يبت فى أمر الرومان المحتلين إلا بعد أن يكتب إلى ملكهم هرقل فى روما ..
دارت المعارك مرة أخرى ضاريه بعد أن رفض هرقل أن يسرى على الرومان ما سرى على المصريين . وواجه عمرو بن العاص مقاومة عنيدة على أبواب الإسكندريه . تلك المدينة التى بهرته ذات يوم بكثرة أهلها ومالها وما فيها من عمارة وبنيان عندما دخلها قبل سنوات فى الجاهلية فى صحبة واحد من الرهبان من أهلها إلتقى به مصادفة فى بيت المقدس ..
أخيرا أمكن للفاتحين أن يفتحوا حصون الإسكندرية المنيعة بعد أن استسلم الرومان وتم إجلاؤهم عن البلاد بعد أن عقدت معاهدة الصلح والهدنة الثانية والأخيره بحامية الإسكندريه ,وفتحت مصر كلها أحضانها للعرب المنقذين لأهلها وفلذات أكبادها من بأس القوم الظالمين ..
لم يمض غير قرن من الزمان على فتح مصر حتى تغلغل الإسلام فى أنحاء البلاد شمالا وجنوبا وانتشرت المساجد والمنابر شيئا فشيئا مع انتشار الإسلام فى ربوعها جنبا إلى جنب الكنائس التى كانت مقامة من قديم وتلك التى تم تشييدها أيضا بعد الفتح الإسلامى . أفتى بجواز ذلك فقهاء مصر وعلى رأسهم فقيهها الأول الليث بن سعد قائلا فى ذلك ........... إن هذا لمن عمارة البلاد وإن عامة الكنائس لم تبن فى مصر إلا فى زمن الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم ..
لم يعرف أبدا أن المسلمون هدموا كنيسة ليبنوا مسجدا بل ساعدوهم على استرداد الكنائس والأديرة التى كانت بأيدى البيزنطيين . تركت لهم حرية العبادة والإحتفال بكافة الأعياد الدينيه وكانوا يشتركون معهم فى الصلاة من أجل أن يفيض نهر النيل بالماء إذا أصاب البلاد جدب أو قحط لقلة فيضانه ..
بلغ سكان مصر سنة دخول الشافعى إليها حوالى عشرين مليونا من البشر يسكنون ثمانين كورة أو مقاطعه بها أكثر من عشرة آلاف قرية يدير أمورها مصريون من أهلها ,وبدأت قبائل العرب الوافدة هجرة من أنحاء الجزيرة إلى مصر تنتشر فى سائر أنحاء البلاد ويندمج أفرادها مع أقباط مصر فى شتى الأقاليم يصاهرونهم ويتزوجون من نسائهم ,يعملون معهم فى الزراعة وفى شتى الصناعات التى كانت منتشرة فى البلاد آنذاك مثل صناعة المنسوجات والزجاج والخزف والورق والمعادن ,بعد أن كانوا فى سنوات الفتح الأولى قلة لا شغل لها إلا السياسة والحكم والحروب ولا تربطهم بأقباط مصر أية علاقات ولا يشاركونهم فى أعمالهم أو يزاحمونهم فيها ..
بذلك كثر المسلمون فى مصر من العرب ودخل كثير من أهل مصر دين الإسلام فصارت بهذا المزج مجتمعا جديدا يحكمه حاكم عربى مسلم بشريعة الإسلام السمحاء ,وأخذت اللغة العربية تسود فى البلاد شيئا فشيئا مكان اللغتين اليونانية والقبطية التى لم يكن المصريون يعرفون غيرها ,إلى أن صدر فى العام الخامس والثمانين للهجرة أمرا من الأمير عبد الله بن عبد الملك بن مروان باستعمال اللغة العربية فى جميع دواوين البلاد وصارت هى اللغة الرسمية لشعب مصر ..
@ ما كاد أبو بكر الحميدى ,تلميذ الشافعى يصل مصر وتطأ قدماه أرض الفسطاط ,حتى أخذ يجد السير بين خططها يسأل عن دار بنى عبد الحكم فى خطة أهل الرايه ,لما لقيه أخبره أن الشافعى فى طريقه إلى مصر وأنه قادم بعد أيام قليلة فى صحبة والى مصر الجديد. على الفور زف عبد الله بن عبد الحكم البشرى إلى أصحابه ولم ينم المصريون فى الفسطاط ليلتهم إلا وقد سرى النبأ العظيم فى أنحاء البلاد وهم يتناقلون فيما بينهم البشرى بقرب وصول عالم قريش محمد بن إدريس إلى بلادهم . علموا أنه سيقيم فى مصر بقية عمره لن يغادرها إلى بلد آخر ..
غمرتهم الفرحة كما غمرتهم من قبل فى القرن الماضى لما جاءتهم السيدة زينب بنت على كرم الله وجهه فى غرة شعبان للسنة الثانية والستين للهجره عقيب مذبحة كربلاء التى فاضت فيها الدماء الطاهرة أنهارا على رمال العراق . لم ينتظر المصريون دخولها مدينة الفسطاط فخرجوا يومها حفاة يستقبلونها عند ميناء بلبيس يتقدمهم والى مصر والفقهاء والقضاة وكبار القوم . كذلك فعلوا مع السيدة نفيسه حفيدة الإمام على لما قدمت إلى مصر كما سبق وحكى ذلك ابن عبد الحكم للشافعى وهو يزوره فى مكة قبل عامين ..
دخل الشافعى أرض مصر ليجد صاحبه عبد الله بن الحكم ومعه كوكبة من فقهاء مصر وشبابها من طلاب العلم ينتظرونه فى الحوف ,خارج حدود الفسطاط بالقرب من مدينة بلبيس على شاطئ خليج أمير المؤمنين ,تلك القناة التى أمر بحفرها عمر بن الخطاب وسميت بإسمه لتصل نهر النيل بالبحر الأحمر حتى تكون خط اتصال بحرى تجرى فيه السفائن بالخيرات بين مصر والحجاز ..
إستأذن الشافعى من والى مصر فى الذهاب مع صاحبه ومن معه ,وقبل أن يفارقه قال له الوالى .......................
ــ يا ابن إدريس ,أمامنا مهام صعبة فى الفترة القادمه ,علمت أن المصريين تمردوا على أمير المؤمنين المأمون وشغبوا على ولدى عبد الله الذى سبقنى إليهم نائبا عنى بعد أن قبض على المطلب بن عبد الله الوالى السابق وحبسه . وبالأمس جاءتنى الأنباء وأنا فى الطريق أن الجند ثاروا على ولدى عبد الله وأخرجوه من الفسطاط وأنهم أيضا أخرجوا واليهم السابق من محبسه وأعادوه واليا عليهم مرة ثانيه ..
ــ وما الذى تنوى فعله يا سيدى الوالى ؟.
ــ والله يا ابن العم لم أقرر بعد ,ليتك تشير على فأنا لا أدرى فى الحقيقة ما فعله ذلك الأحمق ,ليتنى ما جعلته يسبقنى ..
ــ إن أردت الرأى والمشوره على ما علمت منك الآن ,فإنى أنصح لك بعدم دخول الفسطاط هذه الأيام ,لتبق ههنا فى بلبيس بضعة أيام أنت ومن معك ريثما يستطلع رجالك جلية الأمر . نسأل الله العلى القدير أن يكشف الغمة وأن يجنب هذا البلد كل سوء ..
ــ نعم الرأى والمشورة يا ابن إدريس فليس معى من الحراس والجند ما يجعلنى أعيد السيطرة على مقاليد الأمور ,أو يمكننى من تدارك ما حدث وإخماد نيران الفتنه ..
قال ذلك ثم ودعه راجعا لصاحبه المصرى الذى قال له ...........
ــ هيا تعال أنت ومن معك ,دع هذه العير بما عليها من متاع ,سيتكفل رجالنا بأمرها ..
ــ ماذا تعنى هل سنكمل بقية رحلتنا سيرا على الأقدام ؟.
رد عبد الله بن عبد الحكم مداعبا وقد غلبه الضحك ............
ــ إن كان فى مقدورك أن تمشى هيا بنا . إنها مسافة قريبة جدا لا تزيد على مجرد خمسين ميلا فحسب ..
ــ أراك تمزح . كيف الوصول إذن إلى الفسطاط ما دمنا سنترك العير لمن يلحقنا بها من رجالك ؟.
أشار بيده إلى شاطئ خليج أمير المؤمنين قائلا وهو لا يزال على حاله من الضحك ..........
ــ أنظر يا صاحبى وراءك ,ماذا ترى ؟.
إبتسم الشافعى قائلا وهو ينظر سفينة ضخمة تقف بالقرب من الشاطئ ........
ــ تعنى أننا سنكمل رحلتنا فى هذه السفينة عبر مياه الخليج ؟.
ــ أجل ستكملون بقية الرحلة معنا فى هذه السفينه ..
ــ لكنا لم نعتد ركوب البحر من قبل ..
قاطعه ضاحكا .............
ــ لا تخف يا رجل إنها سفينة متينة صنعتها أيد مصرية مدربة فى جزيرة الروضه . كما أنه يقوم على أمرها ملاحون مهره . سوف ترسو بنا إن شاء الله على الشاطئ الشرقى للنيل أمام المسجد العتيق تماما ..
أسلم الشافعى أمره لله ونادى على أهله ثم توجهوا جميعا إلى الشاطئ وركبوا السفية فى حذر تاركين ركائبهم بما عليها من متاع للمصريين يلحقونهم بها . وعلى متن السفينة راح عبد الله بن عبد الحكم يحكى لصاحبه ويحدثه عن أحوال البلاد وما جرى فيها من أحداث فى الأيام الماضيه . عرف منه أن الوالى القادم معه من الحجاز لن يمكنه بالفعل دخول الفسطاط , لغضب المصريين مما فعله ولده عبد الله معهم واشتداده عليهم وظلمه لهم فى الفترة القصيرة التى أنابه فيها أبوه عنه فى مباشرة أمور البلاد ..
يتبع .. إن شاء الله ...........................
__________________
أحرث حقول المعرفه
لتقطف سنبلة الفهم
التى بذرتها
التعديل الأخير تم بواسطة : د أنس البن بتاريخ 19/05/2011 الساعة 20h22
|
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
|
|
|
تعليمات المشاركة
|
You may not post new threads
You may not post replies
You may not post attachments
You may not edit your posts
كود HTML معطلة
|
|
|
جميع الأوقات بتوقيت GMT. الساعة الآن 03h30.
|
|