* : نهاد طربيّه (الكاتـب : Edriss - آخر مشاركة : لؤي الصايم - - الوقت: 10h05 - التاريخ: 06/09/2025)           »          كارم محمود- 16 مارس 1922 - 15 يناير 1995 (الكاتـب : سماعي - آخر مشاركة : أحمد شهاب - - الوقت: 08h54 - التاريخ: 06/09/2025)           »          اصوات منسية (الكاتـب : هادي العمارتلي - آخر مشاركة : لؤي الصايم - - الوقت: 07h51 - التاريخ: 06/09/2025)           »          فى انتظار حفل اذاعة الاغانى الخميس الاول من شهر بتمبر 2025 (الكاتـب : EgyLoveR1980 - آخر مشاركة : محمد حسام محمود - - الوقت: 07h37 - التاريخ: 06/09/2025)           »          عبادي الجوهر (الكاتـب : ابوحمد - آخر مشاركة : لؤي الصايم - - الوقت: 07h28 - التاريخ: 06/09/2025)           »          سليم الطبَّاع (الكاتـب : لؤي الصايم - - الوقت: 04h39 - التاريخ: 06/09/2025)           »          فريد الأطرش فتى غلاف في مجلات قديمة (الكاتـب : el kabbaj - آخر مشاركة : أبوإلياس - - الوقت: 23h30 - التاريخ: 05/09/2025)           »          محمد رشيد (الكاتـب : abuaseem - آخر مشاركة : محمود نديم فتحي - - الوقت: 23h20 - التاريخ: 05/09/2025)           »          ليلى مجدي (الكاتـب : سماعي - آخر مشاركة : لؤي الصايم - - الوقت: 18h52 - التاريخ: 05/09/2025)           »          بصوت محمد البحر درويش (الكاتـب : الباشا - آخر مشاركة : عبدالقادرمحمد - - الوقت: 15h54 - التاريخ: 05/09/2025)


العودة   منتدى سماعي للطرب العربي الأصيل > صالون سماعي > ملتقى الشعر و الأدب > نتاج الأعضاء .. القصص والروايات

رد
 
أدوات الموضوع طرق مشاهدة الموضوع
  #1  
قديم 17/10/2008, 18h31
الصورة الرمزية عبد الحميد سليمان
عبد الحميد سليمان عبد الحميد سليمان غير متصل  
مواطن من سماعي
رقم العضوية:245929
 
تاريخ التسجيل: June 2008
الجنسية: مصرية
الإقامة: السعودية
المشاركات: 135
افتراضي اسماء

بسم الله الرحمن الرحيم
أخواننا وأعزاءنا
نتلمس طريقنا الي عوالمكم ونتحسس خطانا في دوحتكم
ولنا بعض من انتاج أدبي ثرنا به علي قيود الأكاديمية العلمية التي أرهقت أرواحنا خلال سني عمرنا الآفلة
ونود اسهاما في نشاطكم ان نرسلها
ولم تقبلها صفحة الرد هذه لانها تكاد تبلغ العشرين ورقة
وما نكتبه ونسير في دربه يسير في دربكم ويستظل بظلال رقيكم ورسالتكم الداعية الي الأصالة والعودة الي الجادة المستقيمة والهويات التي تناوشتها أنياب الأدعياء والأغبياء والأعداء
دلوني علي دربكم وسبيلي الي واحتكم
أخوكم عبد الحميد
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 15/01/2009, 17h21
الصورة الرمزية عبد الحميد سليمان
عبد الحميد سليمان عبد الحميد سليمان غير متصل  
مواطن من سماعي
رقم العضوية:245929
 
تاريخ التسجيل: June 2008
الجنسية: مصرية
الإقامة: السعودية
المشاركات: 135
افتراضي الدكتور عبد الحميد سليمان ـ المجموعه القصصيه

بسم الله الرحمن الرحيم
السمهري والجامعي

000سمهريا وسيما رائعا حين أبصره للمرة الأولي, متوسدا مقعده, قبالته في مجلسه من قاعة الامتحان إبان سنوات تحصيله في كلية دار العلوم, حينها تأبط الجامعي شرا إذ استفزته وسامة زميله وأناقته وبادي اعتزازه بنفسه, لكن السمهري فجأه مبتدرا ومحييا ومسلما, بخفيض صوت وسكينة نفس, وبسمة متوددة تجلت فيها آيات من براءة وعفوية وصدق طوية, وبدا وكأنه قد استكنه معتملات نفس الجامعي ومعقبات رؤيته ومظانه, فسعي إليه ليذهب عن نفسه إعراضها وارتيابها, دون أن يردعه توجسه وتخوفه نفورا وإعراضا وشت به قسمات الجامعي,وبدت بوادره جلية متوثبة 0

000كان الجامعي قد اصطرعت عليه الأيام علي يفاعته فأثقلته,وجهدته وحدته بين عديد قومه وأهله ,الذين اعتبروه كلأ مباحا وسقطا من متاع ينهشون منه ما شاء لهم النهش ,ويعز نصيرهم إن استنصرهم وتوسل منهم سندا لا يأتي وعضدا لا يذب,وماعادوا يكترثون لعتاب معتب أو لوم لائم ,ولم يترفقوا بوهدة يتمه وفداحة اغترابه بين أهله, فبات أنأي عنهم قلبا ونفسا , بعد أن استخذوا في ملمات عديدة عن عون صغيرهم الذي أثقله عبئ حماية صغار أخوته من غوائل الطامعين واستطالة المستطيلين, لقد ترك ذلك خطوطه السود علي نفسه وقلبه وعقله, فغدا منطويا,حذرا,متوجسا,مرتابا,حنقا,معرضا,متمردا,متوثبا ,متصديا,هازئا0

000فعل ذلك فعله في الجامعي فبات من دأبه ومستقر عادته, أن يمعن النظر في عيون من يخالط أو يعرف في وهلة تعارفه الأولي بهم ,متحسسا مطوياتهم ودخائلهم ,متوسلا سبر أغوارهم,ولطالما وقته تلك الفراسة,وأسعفته وكفته, فطفق يجزم انه يستهدي بها, ليتقي غائلة الطامعين وأدعياء الصداقة وزائفي الحنان والرحمة, ولم تخذله يوما نظراته تلك,العميقة المستشرفة المستكنهة,إلي عيون بدت غادرة متلمظة,وأخري ناعمة خبيثة بعيدة الأغوار لا تسبرها خبرة أعمار,أو عميق تجاريب, وبات يسيرا عليه إن رأي عيونا قلقة مضطربة متوجسة أن يدرك أن وراءها ميراثا ثقيلا من القهر والفزع والروع, أنشب أظفارها فيها,فما عادت تملك لنفسها منه انعتاقا أو فكاكا, وبدا ملازما,لا ينفك عنها ولا تنفك عنه, مهما أوتيت من جاه أو صالت من صائلة أو حازت من مال0

000تكاثفت الفراسة في الجامعي حتي انه ليميز عن غيره, من اكتوي باليتم صغيرا,مهما بلغ من الكبرعتيا, وكان حاديه إلي ذلك وهاديه, موغل يتمه وقديم ألمه وانكساره,وبات لا ينبئك مثله خبير,ذلك أن فاجعة اليتم لا ترقأ مهما تطاول الأمد وتبدلت السنون وتغيرت الأحوال,وأوعي الناس تحسسا لها من ربي يتيما فالمصائب كعادتها يجمعن المصابينا, لقد تلمس الجامعي في عيني زميله شيئا من ذلك واستشعر انكسارا خفيا,وألما مطويا,تسترا خلف قامة سمهرية ممشوقة,وجبهة مرفوعة وأنفة بادية ,ونبالة واعتزاز نفس 0


00 0حين شد السمهري علي يده,استنهض الجامعي متراكم خبراته في استكناه العيون واستبطان النفوس وأهلها التي كانت تأنس نفسه بها إلي نفوس ووجوه فتطمئن حينا,وتتوجس أخري أحايين كثيرة, وبدأت كلمات شاردات تتلمس طريقها إلي شفاههما,علي تحذر واستحياء عن مرتقب الامتحان ومتوقعه,وما يحذره كلاهما منه,وما يتمنيانه من انعتاق من طائلة عامهما الدراسي الثقيل الشاق البطيء,من أواخر سبعينات القرن المنصرم,وأملهما في إياب مشوق يثوب به الجامعي إلي ضعاف أخوته الذين خلفهم في قريته من دمياط في دلتا مصر ,ويجوز به السمهري شائك دروبه التي أثقلها وأنهكها هول الاحتلال ومخالبه وزبانيته,إلي أعزائه في موطنه في خان يونس من فلسطين الأسيرة0

000أمعن الجامعي نظرا إلي عيني صاحبه, فشغل بذلك عما عداه,وبدا لا يكاد يعي ما يسمع,أو يدور حوله,حين فجعه وقلقل همه الذي قلقل الحشا, تعانق الألم والأمل, والكبرياء والانكسار,ونجاد القوة المصطرعة مع وهاد الوحدة والضعف0

000 في هاتين العينين رأي من ذلك عجبا,فوقر في قلبه وأنست نفسه الي أن مثل تلك العينين, يرفدهما قلب ينوء بأحمال ثقال وأحلام عراض,ألقت بيفاعة العمر وميعة الشباب ونزق المرحلة خلف ظهرها,و أثقلت الفؤاد بالسواد,وألقت بأطيافها علي وضاءة وجهه التي جهدت جهدها لتدرأ كهولة مبتدرة وشيخوخة متأهبة0

000آذن ذلك بحوارات ومساجلات ومقاربات ومباعدات تقاربا فيها فاتفقا واختلفا فلم يفترقا ,وتواصلا فتلاحما شعورا وصدقا, وأبت أنات فيروز وأنينها وشجنها وانكسارها وتوسلها طيف من لن يجئ إلا أن تنكأ جراحهما فتذيبهما وتصهر ذواتهما,فأفضي كلاهما لصاحبه بآلامه وآماله0لقد ترفعا بالصداقة الفتية فسمت بهما,وتمازجا بها فانصهرا وغدا كلاهما لأخيه كنفسه التي بين جنبيه0

وإخوان تخذ تهموا دروعا000فكانوها ولكن للأعادي
وخلتهموا سهاما صائبات000فكانوها ولكن في فؤادي
******
تحذر من صديقك كل يوم 000وبالأسرار لا تركن إليه
سلمت من العدو فما دهاني000سوي من كان معتمدي عليه
******
ربما يرجو الفتي نفع فتي 000 خوفه أولي به من أمله
رب من ترجو به دفع الأذي000 سوف يأتيك الأذى من قبله
000لطالما درسا في دار العلوم آيات من عبر التاريخ ونذره عن أولئك الذين قلبوا ظهر المجن لأصدقاء أمسهم وشركاء آلامهم فغدوا أمضي عليهم حساما وأوغل إيلاما, وأنكي خطرا وأشد عتيا ولم يرقبوا فيهم إلا ,ولا ذمة, ولطالما استنفرت عقليهما وأثقلت أذنيهما ورانت علي قلبيهما,أشعار وأمثال وحكم ومواعظ ,متوجسة منذرة,تدأب فلا تكل وتسعي فلا تمل, عن تقلب الصديق وغدره ,وتبشر بخيانته ونأيه وخذلانه ونكوصه وكيده, فتتهدد بذلك كل صداقة ,وتوجس جراءه كل صديق من صديقه,لقد درسا ذلك فوعوه ووثقا به واطمأنا إليه, لكنهما حين خبراه كذباه فأطاحا به وراء ظهرانيهما 0

000 أزرت تلك الصداقة بادعاءات الأيام وزائفات روايات التاريخ وافتراءات الشعر وأفك الشعراء, ولم ترعو الأيام التي استثارها ذلك التلاحم الإنساني الفريد ,واستنفرها واهتاجها ,فأوجفت عليه خيلها وركابها, وغرها أنها قد ألفت خيانات المحبين وتقلبات الأحوال ,فأصلت انصهار وتلاحم السمهري والجامعي بجمرات ولظي التجاريب, لكنها
صدمت فذهلت ,وخاب سعيها, وأدبر ظنها, ثم كرت كلمي موتورة ,متلمظة حانقة ,لكنها آبت يائسة مخزية0

000كان ذلك بابا واسعا ومدخلا رحيبا ولجه كل منهما إلي سويداء صاحبه, فتوسد منه مكانا عليا لا يبرحه مهما تنازعته الأحداث والشخوص وتبدلت به الأحوال, وتكأكأت عليه العقود,والسنوات من الافتراق البدني التي نافت علي الثلاثين, و بدوره آيس افتراق الأبدان وتقاذف الأيام ووعثائها,من النيل من ذلك التوسد والتربع, اللذين كانا يمعنان ما أمعنت الأيام ويزيدان ما زادت دون أن ينطويا كما انطوت غائلة الافتراق, آو يأفلا كما أفلت,وما انفكت صورة السمهري ووضاءة وجهه ومستكن ألمه المنصهر بشموخه الذي يشي بغير حاله في مخيلة الجامعي وواعي ذاكرته وسويداء قلبه,وان ظن أن صاحبه أعجز من أن يكن له مثلما يحمل من محبة خالصة نقية من غوائل المنفعة ووضاعتها ,أو أن تلك الدواهي التي ما انفكت تتري علي فلسطين وأهلها والتي تخاذل فيها الشقيق واستيأس النصير, فغر ذلك الذئب اللئيم فتوحش واستأسد ولم يعد يتوجس لومة لائم ولا نخوة قريب أوبعيد,قد صرفت السمهري و شغلته فأنسته0

000لقد تقطعت السبل وتناءت المسافات وعزت الأخبار وفعلت الأحداث أفاعيلها فحالت بينهما,دون أن تأبه لصادق ود وعميق حب وحافل ذاكرة ,أو مشترك تاريخ وتواصل جغرافية,أولوثاقة أصل وأرومة محتد وتجذرعرق0

00 لم تبرح صورة السمهري نفس الجامعي وذاكرته,ثم أطبقت عليه من أقطارها هواجسه ومخاوفه وتوجسه,وذهبت به كل مذهب ,حين أبصر وتلظي بما ابتليت به غزة من بلاء الاحتلال وجبروته الذي غرته الأماني وسوء ما آل إليه حالها بعد حصار قاس لايرحم ولايريم , عز خلاله النصير والمعين,ونأت القواعد من الرجال, بعد أن اطمأنت نفوسهم إلي الذل واستمرأته حتي استعذبته,دون أن يردعها رادع من نخوة أو آبق من شعور, أو بقية من ضمير, وأوسعت المخاوف الجامعي وتناوشه التوجس حينما اشتد الكرب فشخصت الهواجس واتقدت ذاكرة العمر لتمتزج بذاكرة التجربة وقسوة الألم واستفحاله,وتواترت فتكاثفت سود الأخبار وإيغال من لا يرحم,وتداعي وتواطؤ من لم ينس آلام الماضي وانكساراته وهزائمه,من الذين اجتمعت إلي نفوسهم خسة الطبع وفساد النفس وغواية الضعف,وخبرة تحسس مواطن القوة وتوسلها,ومظان الفائدة واهتبالها0وتأصل النهز وتمكن الغل والشر0

000أعجز الحال الجامعي وأثقلته الهموم واختلفت عليه آيات الروع والوهن ,حين تداعت الأنباء عن جولة عتية متجبرة وحشية متلمظة تتعشق الولوغ في الدماء فلا ترتوي لها غلة,وتدأب ولا تأبه فتتوغل ولا تتردد أو ترعوي,ولا يزيدها صمت الصامتين وتوجس الخائفين وقعود القاعدين وإيعاز الموعزين إلا ضراوة وشراسة ,فغدت تمخر في دماء الأطفال وأشلاء الرجال والنساء وأطلال البيوت والعمائر دونما كلل أو ملل أو تحسب لحسيب او ترقب لرقيب0

000تراكض قلق الجامعي علي السمهري, الذي نأت به الأيام وأخفته سدول الأمكنة والأزمنة, واصطرعت الهموم علي نفس الجامعي فأثقلت قلبه ,واعتورته الآلام وتناوشته المخاوف, فعن له أن يتحسس أخباره ويتوسل أنباءه,علي شبكة الانترنت,عله يستضئ ببصيص من خبر, يستبصر به إلي أين انتهت بصديقه الأحداث وآلت إليه الأيام0وكان ممن ينفق بعض كبيرا من وقته في مطالعة تلك البحار التي لا حدود لها من المعارف المتنوعة علي جهاز الكمبيوتر وطفق لا يكف عن ذلك, منذ أمكنه الإبحار في لجب بحاره والرسو في مراسيها0

000 لحيظات أو ثوان انتقلت بالجامعي من استرخاء يائس مستسلم إلي شعلة من نشاط ,واضطرام لبركان من مستكن المشاعر, لقد جحظت عيناه حتي كادتا تخرجان وهما تستحلفان الكمبيوتر مزيدا من الأنباء عن السمهري, وتتوسلانه ثم تستحثانه بعضا من جوده وفيضا من فيضه, بعد موغل ضن ومعتاد بخل, فرأف بحاله ورق له, وان تنازعه ضنه ومتأصل طبعه فبدأ يلقي للجامعي بشحيح الأخبار مما لا يروي له غلة ولا يشفي صدي نفسه,وكأنه آلي علي نفسه الا يسرف في عطائه حتي لا يظن به الغفلة ,ويطمع منه في أريحيه غابرة,ولم يقنع الجامعي وأشعله ما يلقي به الكمبيوتر إليه من شحيح الأخبار,وظلا يصطرعان أيهما اصبر علي غائلة صاحبه,حتي ضجر الكمبيوتر وتخوف علي نفسه من مصطرع لا يروعه وقت أو جهد, فآثر السلامة و الانعتاق من غائلة الجامعي التي بدت لا ترحم ولا تكف أو تيأس ,والقي برقم هاتف السمهري إلي مفتقده عله يرفع عنه يده ويكف دأبه ويثني عزمه,بعد أن يروي صدي نفسه ويشفي غلتها, فكان له ما رامه, فانعتق من إسار الجامعي وارتهانه,الذي فجأه حينما أخرسه بغير ما اعتاده من تأذن له واصطبار عليه, حتي يطوي سجلاته ويطمئن إلي استعادة حاجاته وأدواته0

000لحيظات سجلتها ساعة الحائط في حجرة الجامعي ولكنها مرت ثقيلة بطيئة مترددة تكاد تفتك بأوتار قلبه التي اشتد أوارها وخفقانها واضطرابها,حتي جاءه صوت لم ينسه لحيظة ,ولم يغترب عن أذنه هنيهة واحدة, فامتزج البكاء بالفرحة ,واختلط الألم بالأمل, والإيناس بالاستيئاس, وتدافعت وأسرفت العيون بدمها ودموعها التي لم ترقأ, و تحشرجت كلمات السمهري وهو يلوم حبيبه علي إهماله رسالة أودعها رقم هاتف من دمياط ألقي إليه به الكمبيوتر ذات يوم ,حين اعتاد أن يتحسس منه خبرا أو طيفا للجامعي, وخطر له أن يهاتف صاحبه عله يهديه إلي حبيبه الجامعي الذي افتقده,وجاءه صوت من وعده خيرا,لكنه لم يحر بعد ذلك ردا, فاصطرعت في نفسه المخاوف علي حبيبه الجامعي , وظن به ظن سوء وتحول وتبدل ونكران عهد وود, في زمن ألف تحول الرجال وترخص الغلاة ,وراجت فيه بضاعة النفاق و الافك والأراجيف, وتوسد التناسي والتغافل والجحود0

000 تعانقا علي بعد المسافة وتباكيا,وتغافرا فتسامحا, وتواعدا وكلاهما لا يريد أن ينهي لقاء بدا ضربا من محال,وحال دونه ردح طويل من الزمن,وبدا الحديث بلا نهاية,ثم فجأتهم صاعقة مزلزلة وانفجار مروع, فجن جنون الجامعي وهو يضرب هاتفه حينا ويتوسله أحيانا, ويصطرخ لاعنا زاعقا ثم يتلهف متوددا متملقا مستحلفا,دون أن يرق له التليفون أو يرأف بحاله,وكأنه أضمر كيده فلم يجبه ولم يرحه0000 ظل الجامعي يضرب دون كلل أو يأس أو ملل, ولامجيب ,يضرب ويضرب ويضرب ويعود ليضرب ويضرب,ثم يضرب ويضرب ويضرب 000

الأستاذ الدكتور/ عبد الحميد سليمان

مساء الجمعة في مستهل اسود لسنة2009م
رد مع اقتباس
  #3  
قديم 15/01/2009, 17h23
الصورة الرمزية عبد الحميد سليمان
عبد الحميد سليمان عبد الحميد سليمان غير متصل  
مواطن من سماعي
رقم العضوية:245929
 
تاريخ التسجيل: June 2008
الجنسية: مصرية
الإقامة: السعودية
المشاركات: 135
افتراضي الدكتور عبد الحميد سليمان(السمهري والجامعي)الي عبد المجيد عيسي في خان يونس

بسم الله الرحمن الرحيم
السمهري والجامعي

000سمهريا وسيما رائعا حين أبصره للمرة الأولي, متوسدا مقعده, قبالته في مجلسه من قاعة الامتحان إبان سنوات تحصيله في كلية دار العلوم, حينها تأبط الجامعي شرا إذ استفزته وسامة زميله وأناقته وبادي اعتزازه بنفسه, لكن السمهري فجأه مبتدرا ومحييا ومسلما, بخفيض صوت وسكينة نفس, وبسمة متوددة تجلت فيها آيات من براءة وعفوية وصدق طوية, وبدا وكأنه قد استكنه معتملات نفس الجامعي ومعقبات رؤيته ومظانه, فسعي إليه ليذهب عن نفسه إعراضها وارتيابها, دون أن يردعه توجسه وتخوفه نفورا وإعراضا وشت به قسمات الجامعي,وبدت بوادره جلية متوثبة 0

000كان الجامعي قد اصطرعت عليه الأيام علي يفاعته فأثقلته,وجهدته وحدته بين عديد قومه وأهله ,الذين اعتبروه كلأ مباحا وسقطا من متاع ينهشون منه ما شاء لهم النهش ,ويعز نصيرهم إن استنصرهم وتوسل منهم سندا لا يأتي وعضدا لا يذب,وماعادوا يكترثون لعتاب معتب أو لوم لائم ,ولم يترفقوا بوهدة يتمه وفداحة اغترابه بين أهله, فبات أنأي عنهم قلبا ونفسا , بعد أن استخذوا في ملمات عديدة عن عون صغيرهم الذي أثقله عبئ حماية صغار أخوته من غوائل الطامعين واستطالة المستطيلين, لقد ترك ذلك خطوطه السود علي نفسه وقلبه وعقله, فغدا منطويا,حذرا,متوجسا,مرتابا,حنقا,معرضا,متمردا,متوثبا ,متصديا,هازئا0

000فعل ذلك فعله في الجامعي فبات من دأبه ومستقر عادته, أن يمعن النظر في عيون من يخالط أو يعرف في وهلة تعارفه الأولي بهم ,متحسسا مطوياتهم ودخائلهم ,متوسلا سبر أغوارهم,ولطالما وقته تلك الفراسة,وأسعفته وكفته, فطفق يجزم انه يستهدي بها, ليتقي غائلة الطامعين وأدعياء الصداقة وزائفي الحنان والرحمة, ولم تخذله يوما نظراته تلك,العميقة المستشرفة المستكنهة,إلي عيون بدت غادرة متلمظة,وأخري ناعمة خبيثة بعيدة الأغوار لا تسبرها خبرة أعمار,أو عميق تجاريب, وبات يسيرا عليه إن رأي عيونا قلقة مضطربة متوجسة أن يدرك أن وراءها ميراثا ثقيلا من القهر والفزع والروع, أنشب أظفارها فيها,فما عادت تملك لنفسها منه انعتاقا أو فكاكا, وبدا ملازما,لا ينفك عنها ولا تنفك عنه, مهما أوتيت من جاه أو صالت من صائلة أو حازت من مال0

000تكاثفت الفراسة في الجامعي حتي انه ليميز عن غيره, من اكتوي باليتم صغيرا,مهما بلغ من الكبرعتيا, وكان حاديه إلي ذلك وهاديه, موغل يتمه وقديم ألمه وانكساره,وبات لا ينبئك مثله خبير,ذلك أن فاجعة اليتم لا ترقأ مهما تطاول الأمد وتبدلت السنون وتغيرت الأحوال,وأوعي الناس تحسسا لها من ربي يتيما فالمصائب كعادتها يجمعن المصابينا, لقد تلمس الجامعي في عيني زميله شيئا من ذلك واستشعر انكسارا خفيا,وألما مطويا,تسترا خلف قامة سمهرية ممشوقة,وجبهة مرفوعة وأنفة بادية ,ونبالة واعتزاز نفس 0


00 0حين شد السمهري علي يده,استنهض الجامعي متراكم خبراته في استكناه العيون واستبطان النفوس وأهلها التي كانت تأنس نفسه بها إلي نفوس ووجوه فتطمئن حينا,وتتوجس أخري أحايين كثيرة, وبدأت كلمات شاردات تتلمس طريقها إلي شفاههما,علي تحذر واستحياء عن مرتقب الامتحان ومتوقعه,وما يحذره كلاهما منه,وما يتمنيانه من انعتاق من طائلة عامهما الدراسي الثقيل الشاق البطيء,من أواخر سبعينات القرن المنصرم,وأملهما في إياب مشوق يثوب به الجامعي إلي ضعاف أخوته الذين خلفهم في قريته من دمياط في دلتا مصر ,ويجوز به السمهري شائك دروبه التي أثقلها وأنهكها هول الاحتلال ومخالبه وزبانيته,إلي أعزائه في موطنه في خان يونس من فلسطين الأسيرة0

000أمعن الجامعي نظرا إلي عيني صاحبه, فشغل بذلك عما عداه,وبدا لا يكاد يعي ما يسمع,أو يدور حوله,حين فجعه وقلقل همه الذي قلقل الحشا, تعانق الألم والأمل, والكبرياء والانكسار,ونجاد القوة المصطرعة مع وهاد الوحدة والضعف0

000 في هاتين العينين رأي من ذلك عجبا,فوقر في قلبه وأنست نفسه الي أن مثل تلك العينين, يرفدهما قلب ينوء بأحمال ثقال وأحلام عراض,ألقت بيفاعة العمر وميعة الشباب ونزق المرحلة خلف ظهرها,و أثقلت الفؤاد بالسواد,وألقت بأطيافها علي وضاءة وجهه التي جهدت جهدها لتدرأ كهولة مبتدرة وشيخوخة متأهبة0

000آذن ذلك بحوارات ومساجلات ومقاربات ومباعدات تقاربا فيها فاتفقا واختلفا فلم يفترقا ,وتواصلا فتلاحما شعورا وصدقا, وأبت أنات فيروز وأنينها وشجنها وانكسارها وتوسلها طيف من لن يجئ إلا أن تنكأ جراحهما فتذيبهما وتصهر ذواتهما,فأفضي كلاهما لصاحبه بآلامه وآماله0لقد ترفعا بالصداقة الفتية فسمت بهما,وتمازجا بها فانصهرا وغدا كلاهما لأخيه كنفسه التي بين جنبيه0

وإخوان تخذ تهموا دروعا000فكانوها ولكن للأعادي
وخلتهموا سهاما صائبات000فكانوها ولكن في فؤادي
******
تحذر من صديقك كل يوم 000وبالأسرار لا تركن إليه
سلمت من العدو فما دهاني000سوي من كان معتمدي عليه
******
ربما يرجو الفتي نفع فتي 000 خوفه أولي به من أمله
رب من ترجو به دفع الأذي000 سوف يأتيك الأذى من قبله
000لطالما درسا في دار العلوم آيات من عبر التاريخ ونذره عن أولئك الذين قلبوا ظهر المجن لأصدقاء أمسهم وشركاء آلامهم فغدوا أمضي عليهم حساما وأوغل إيلاما, وأنكي خطرا وأشد عتيا ولم يرقبوا فيهم إلا ,ولا ذمة, ولطالما استنفرت عقليهما وأثقلت أذنيهما ورانت علي قلبيهما,أشعار وأمثال وحكم ومواعظ ,متوجسة منذرة,تدأب فلا تكل وتسعي فلا تمل, عن تقلب الصديق وغدره ,وتبشر بخيانته ونأيه وخذلانه ونكوصه وكيده, فتتهدد بذلك كل صداقة ,وتوجس جراءه كل صديق من صديقه,لقد درسا ذلك فوعوه ووثقا به واطمأنا إليه, لكنهما حين خبراه كذباه فأطاحا به وراء ظهرانيهما 0

000 أزرت تلك الصداقة بادعاءات الأيام وزائفات روايات التاريخ وافتراءات الشعر وأفك الشعراء, ولم ترعو الأيام التي استثارها ذلك التلاحم الإنساني الفريد ,واستنفرها واهتاجها ,فأوجفت عليه خيلها وركابها, وغرها أنها قد ألفت خيانات المحبين وتقلبات الأحوال ,فأصلت انصهار وتلاحم السمهري والجامعي بجمرات ولظي التجاريب, لكنها
صدمت فذهلت ,وخاب سعيها, وأدبر ظنها, ثم كرت كلمي موتورة ,متلمظة حانقة ,لكنها آبت يائسة مخزية0

000كان ذلك بابا واسعا ومدخلا رحيبا ولجه كل منهما إلي سويداء صاحبه, فتوسد منه مكانا عليا لا يبرحه مهما تنازعته الأحداث والشخوص وتبدلت به الأحوال, وتكأكأت عليه العقود,والسنوات من الافتراق البدني التي نافت علي الثلاثين, و بدوره آيس افتراق الأبدان وتقاذف الأيام ووعثائها,من النيل من ذلك التوسد والتربع, اللذين كانا يمعنان ما أمعنت الأيام ويزيدان ما زادت دون أن ينطويا كما انطوت غائلة الافتراق, آو يأفلا كما أفلت,وما انفكت صورة السمهري ووضاءة وجهه ومستكن ألمه المنصهر بشموخه الذي يشي بغير حاله في مخيلة الجامعي وواعي ذاكرته وسويداء قلبه,وان ظن أن صاحبه أعجز من أن يكن له مثلما يحمل من محبة خالصة نقية من غوائل المنفعة ووضاعتها ,أو أن تلك الدواهي التي ما انفكت تتري علي فلسطين وأهلها والتي تخاذل فيها الشقيق واستيأس النصير, فغر ذلك الذئب اللئيم فتوحش واستأسد ولم يعد يتوجس لومة لائم ولا نخوة قريب أوبعيد,قد صرفت السمهري و شغلته فأنسته0

000لقد تقطعت السبل وتناءت المسافات وعزت الأخبار وفعلت الأحداث أفاعيلها فحالت بينهما,دون أن تأبه لصادق ود وعميق حب وحافل ذاكرة ,أو مشترك تاريخ وتواصل جغرافية,أولوثاقة أصل وأرومة محتد وتجذرعرق0

00 لم تبرح صورة السمهري نفس الجامعي وذاكرته,ثم أطبقت عليه من أقطارها هواجسه ومخاوفه وتوجسه,وذهبت به كل مذهب ,حين أبصر وتلظي بما ابتليت به غزة من بلاء الاحتلال وجبروته الذي غرته الأماني وسوء ما آل إليه حالها بعد حصار قاس لايرحم ولايريم , عز خلاله النصير والمعين,ونأت القواعد من الرجال, بعد أن اطمأنت نفوسهم إلي الذل واستمرأته حتي استعذبته,دون أن يردعها رادع من نخوة أو آبق من شعور, أو بقية من ضمير, وأوسعت المخاوف الجامعي وتناوشه التوجس حينما اشتد الكرب فشخصت الهواجس واتقدت ذاكرة العمر لتمتزج بذاكرة التجربة وقسوة الألم واستفحاله,وتواترت فتكاثفت سود الأخبار وإيغال من لا يرحم,وتداعي وتواطؤ من لم ينس آلام الماضي وانكساراته وهزائمه,من الذين اجتمعت إلي نفوسهم خسة الطبع وفساد النفس وغواية الضعف,وخبرة تحسس مواطن القوة وتوسلها,ومظان الفائدة واهتبالها0وتأصل النهز وتمكن الغل والشر0

000أعجز الحال الجامعي وأثقلته الهموم واختلفت عليه آيات الروع والوهن ,حين تداعت الأنباء عن جولة عتية متجبرة وحشية متلمظة تتعشق الولوغ في الدماء فلا ترتوي لها غلة,وتدأب ولا تأبه فتتوغل ولا تتردد أو ترعوي,ولا يزيدها صمت الصامتين وتوجس الخائفين وقعود القاعدين وإيعاز الموعزين إلا ضراوة وشراسة ,فغدت تمخر في دماء الأطفال وأشلاء الرجال والنساء وأطلال البيوت والعمائر دونما كلل أو ملل أو تحسب لحسيب او ترقب لرقيب0

000تراكض قلق الجامعي علي السمهري, الذي نأت به الأيام وأخفته سدول الأمكنة والأزمنة, واصطرعت الهموم علي نفس الجامعي فأثقلت قلبه ,واعتورته الآلام وتناوشته المخاوف, فعن له أن يتحسس أخباره ويتوسل أنباءه,علي شبكة الانترنت,عله يستضئ ببصيص من خبر, يستبصر به إلي أين انتهت بصديقه الأحداث وآلت إليه الأيام0وكان ممن ينفق بعض كبيرا من وقته في مطالعة تلك البحار التي لا حدود لها من المعارف المتنوعة علي جهاز الكمبيوتر وطفق لا يكف عن ذلك, منذ أمكنه الإبحار في لجب بحاره والرسو في مراسيها0

000 لحيظات أو ثوان انتقلت بالجامعي من استرخاء يائس مستسلم إلي شعلة من نشاط ,واضطرام لبركان من مستكن المشاعر, لقد جحظت عيناه حتي كادتا تخرجان وهما تستحلفان الكمبيوتر مزيدا من الأنباء عن السمهري, وتتوسلانه ثم تستحثانه بعضا من جوده وفيضا من فيضه, بعد موغل ضن ومعتاد بخل, فرأف بحاله ورق له, وان تنازعه ضنه ومتأصل طبعه فبدأ يلقي للجامعي بشحيح الأخبار مما لا يروي له غلة ولا يشفي صدي نفسه,وكأنه آلي علي نفسه الا يسرف في عطائه حتي لا يظن به الغفلة ,ويطمع منه في أريحيه غابرة,ولم يقنع الجامعي وأشعله ما يلقي به الكمبيوتر إليه من شحيح الأخبار,وظلا يصطرعان أيهما اصبر علي غائلة صاحبه,حتي ضجر الكمبيوتر وتخوف علي نفسه من مصطرع لا يروعه وقت أو جهد, فآثر السلامة و الانعتاق من غائلة الجامعي التي بدت لا ترحم ولا تكف أو تيأس ,والقي برقم هاتف السمهري إلي مفتقده عله يرفع عنه يده ويكف دأبه ويثني عزمه,بعد أن يروي صدي نفسه ويشفي غلتها, فكان له ما رامه, فانعتق من إسار الجامعي وارتهانه,الذي فجأه حينما أخرسه بغير ما اعتاده من تأذن له واصطبار عليه, حتي يطوي سجلاته ويطمئن إلي استعادة حاجاته وأدواته0

000لحيظات سجلتها ساعة الحائط في حجرة الجامعي ولكنها مرت ثقيلة بطيئة مترددة تكاد تفتك بأوتار قلبه التي اشتد أوارها وخفقانها واضطرابها,حتي جاءه صوت لم ينسه لحيظة ,ولم يغترب عن أذنه هنيهة واحدة, فامتزج البكاء بالفرحة ,واختلط الألم بالأمل, والإيناس بالاستيئاس, وتدافعت وأسرفت العيون بدمها ودموعها التي لم ترقأ, و تحشرجت كلمات السمهري وهو يلوم حبيبه علي إهماله رسالة أودعها رقم هاتف من دمياط ألقي إليه به الكمبيوتر ذات يوم ,حين اعتاد أن يتحسس منه خبرا أو طيفا للجامعي, وخطر له أن يهاتف صاحبه عله يهديه إلي حبيبه الجامعي الذي افتقده,وجاءه صوت من وعده خيرا,لكنه لم يحر بعد ذلك ردا, فاصطرعت في نفسه المخاوف علي حبيبه الجامعي , وظن به ظن سوء وتحول وتبدل ونكران عهد وود, في زمن ألف تحول الرجال وترخص الغلاة ,وراجت فيه بضاعة النفاق و الافك والأراجيف, وتوسد التناسي والتغافل والجحود0

000 تعانقا علي بعد المسافة وتباكيا,وتغافرا فتسامحا, وتواعدا وكلاهما لا يريد أن ينهي لقاء بدا ضربا من محال,وحال دونه ردح طويل من الزمن,وبدا الحديث بلا نهاية,ثم فجأتهم صاعقة مزلزلة وانفجار مروع, فجن جنون الجامعي وهو يضرب هاتفه حينا ويتوسله أحيانا, ويصطرخ لاعنا زاعقا ثم يتلهف متوددا متملقا مستحلفا,دون أن يرق له التليفون أو يرأف بحاله,وكأنه أضمر كيده فلم يجبه ولم يرحه0000 ظل الجامعي يضرب دون كلل أو يأس أو ملل,ولامجيب,يضرب ويضرب ويضرب ويعود ليضرب ويضرب,ثم يضرب ويضرب ويضرب 000

الأستاذ الدكتور/ عبد الحميد سليمان

مساء الجمعة في مستهل اسود لسنة2009م
رد مع اقتباس
  #4  
قديم 20/11/2008, 19h37
الصورة الرمزية عبد الحميد سليمان
عبد الحميد سليمان عبد الحميد سليمان غير متصل  
مواطن من سماعي
رقم العضوية:245929
 
تاريخ التسجيل: June 2008
الجنسية: مصرية
الإقامة: السعودية
المشاركات: 135
افتراضي اسماء

أسماء

. . ارتفع ضوء الشمس متسللا من وهدة فى نافذة قاعة كبيرة توسدت فيها كرسيا ناعم السحنة غليظ المتئد وآذن ذلك بولوج لفحات ساخنة من وهجها ولهيبها سرعان ما ابتدرت ثم أوغلت .

. . صرفت همى إلى سجل ضخم من سجلات محكمة دمياط الشرعية لم تفتض صفحاته التى سطرت منذ نيف وثلاثمائة عام ، وردعت نفسا تاقت منى إلى أهلى وولدى وقد نأت بى وبهم أيام ومسافات . ثم انبجست مشاعر مستكنة فى نفسى وفاضت لتكلأ تلك الوثائق المتدافعة التى بادلت من أولاها جل اهتمامه وقصر عليها نفسه ووجده وأنفق سواد عمره وأعتقها من إسارها الذى تكأكأت عليه القرون ولها بوله وشوقا بشوق فلانت له ثم أسلمت له قيادها وباحت بدخائلها وأسرارها بعد أن هجعت إلى عينيه اللتين شغفتا بها وإلى يديه الحانيتين تربتان عليها .

. . هى المحبوبة المترعة بالحب والشوق المتلهفة لحبيبها المطمئنة لصادق شعوره وعميق وده فلا تضن عليه بمفاتنها وكنوزها البكر التى لم تستبحها يد من قبل ولم تنهبها عين .
. . رويدا تنساب الساعات وتنصرم اللحظات وتشخص بعض الحروف والكلمات وفجأة تستصرخنى وثيقة كادت أن تضطرم من أحداث أثقلتها قرون عددا وقد اهتبلت فرصة ربما لن تتكرر لها للانعتاق من إسارها واصطبرت لتحينها وترقبها بما لا نظير له من الصبر, ويزيدني أوارها إلى خانق المكان وقائظ اليوم ضراما إلي ضرام .

. . ( حضر إلى مجلس الشرع الشريف سيدى محمد أبو سليمان والشيخ على أبو سليم وشيخ العرب غلاب مشايخ قرية كفر سليمان وصحبتهم من أهالى الناحية المحترم عكاشة وابن أخيه عطية ورفعوا إليه قصته أنهى فيها عكاشة أن ابنته البكر الرشيدة أسماء المخطوبة لابن عمها الماثل فى مجلس الشرع المنيف دون أن يدخل بها أو يصيبها رغم عقده عليها وإصداق أبيها صداقها الشرعى حسبما تحرر فى دفتر وقائع النكاح والطلاق فى ناحية كفر سليمان البحرى الكائنة على الضفة الغربية لنهر النيل قبالة فارسكور والواقعة فى التزام فخر أمثاله الأمير على جوربجى مستحفظان قد اختفت منذ عشرين يوما دون أن يظهر لها أثر ، وقد تحراها مع نفر من أهله فى كل مكان دون أن يعثروا لها على جرة، وقد بلغهم ممن يطمئنون إلى صدقه وتدينه منذ يومين أنها لبثت مختفية عن الأنظار معظم تلك المدة فى بيت أرملة اسمها روض من كفر المنازلة المجاور ، كانت تعتاد القرية لتتسبب ببيع الأقمشة ثم لحقت الغائبة أسماء بمركب معاش ينقل المسافرين فى طريقها مقبّلة إلى ثغر بولاق المعمور .
. . والتمس الناهى وابن أخيه بعد أن أقره على حاله مشايخ الناحية الحاضرون معه إلى مجلس الشرع الشريف والمحفل المنيف أن يمكنا من إعادة أسماء إلى ربعها ومحل سكنها بالطريق الشرعى، وقد أجابهم إلى ذلك سيدنا قاضى قضاة الإسلام ، معدن الفضل والعلم والكلام ، مميز الحلال عن الحرام ، مؤيد شريعة سيد الأنام مولانا يحيى أفندى الحاكم الشرعى بثغر دمياط المحروس زيدت فضا يله ، وعليه أصدر الأمر الشريف الموجب لتحرير الحروف وتسطير الصنوف إلى كل واقف عليه وسامع له من ولاة الأمر والمتكلمين بالوجه البحرى وصوباشية البحر الضالعين بأمان المراكب النيلية فى بحر النيل المبارك بتحرى أسماء والتقصى والبحث عنها فى المراكب والمعاشات الصاعدة والمنحدرة فى نهر النيل المبارك وضرورة ضبطها والتقيد التام فى الفحص عنها وسرعة إحضارها بحيث لا يتأخر ذلك سوى مسافات الطريق لتعود إلى أهلها وسكنها وتستقر إلى من عقد عقدها وأمهرها صداقها ، والحذر ثم الحذر من المخالفة أو الإهمال أو العناد ، وكل من قصر فى ذلك وأهمل فى إجراء الشرع الشريف فلا يلومن إلا نفسه .
ولما تم الحال على هذا المنوال ، كتب ذلك ضبطا للواقعة ليراجع للاحتجاج به عند الاحتياج إليه وجرى ذلك وحرر فى السابع عشر من شهر صفر الخير سنة ثمانية وسبعين وألف من الهجرة النبوية الشريفة على صاحبها أفضل الصلاة وأتم السلام) .

. . قرأت الوثيقة فأوسعتنى وأثقلتنى هما إلى هم وشجنا إلى شجن، وشدتنى إليها حيث تداخلت فى نفسى الأزمنة والأشخاص والأمكنة ، فالقرية نفسها هى التى شهدت مولدى واندهاشاتى الأولى بعالمها وبيوتها ونخيلها وساحلها ومواردها التى تبدو مرافئ تركن إليها المراكب حين تمر صاعدة ومنحدرة من دمياط وإليها فى أشكالها وأنواعها المختلفة خالبة الألباب رائعة الصورة فريدة المنظر ، وهى القرية التى وسعت يفاعتى وشبابى ، وأكاد أجزم أن عز من رجالها ونسائها وعطوفها ودروبها وحقولها وسواقيها ودوابها من لا يستأثر فى نفسى وذاكرتى بمكان ورابطة وذكرى ، ووشت لى الأسماء التى ساقتها الوثيقة أن منهم أجدادا انحدرت منهم وانتسبت إليهم .

تدافعت الأسباب وتشابكت لتوحدنى شعورا وانفعالا وتفاعلا مع أسماء وأمها ، ووجدتنى أذوب فى الأحداث وآلامها التي ساقتها الوثيقة فتأخذ على نفسى أقطارها وتستشعر ما نكبت به تلك البائسة ومثيلاتها حين قضى لهن كئيب حظهن أن ينحرن على مذبح الزواج إلى من لا يطيقونه بغضا ونفورا وكرها يسوقهن إلى ذلك أعزاء وأحباء لم يروعهم ما راعهن ولم يخطر ببالهم أى قتلة يدفعون إليها بتلك الطيور الرقيقة من بناتهم وأعزائهم .

. . يموت الأحياء موتة واحدة وإن قتلوا فهى قتلة لا ثانية لها ، ولكنها حينئذ ألف موتة ومئات الآلاف من القتلات تهول كل تعسة اقتيدت إلى بائس مصيرها يسوقها من لا قلب له فيرحم ولا عزم له فيؤوب إلى من لا نخوة له فينأى ولا عزة فيأنف ، لقد أغفل نص غليظ القلب وحضور وشهود وولاة أمور وقضاة وعلماء دين آلام تلك النفس البائسة التى دلفت بهروبها إلى جحيم المجهول وأواره تستعر في لظاه ميتة كالأحياء وحية كالأموات ، لقد ذل ذلك الهول والمجهول كلهما لها وهانا وربما طابا حينما تخيلت نفسها وقد أوصد بينها وبين الحياة باب زوجية زائفة وراعها ما ينتظرها حين ينفرد إليها عطية وتمثلته وقد تلمظت عيناه وكشر عن أنيابه واكفهرت سحنته واشرأبت مخالبه وتهيأ ليمزق أوصالها ويلغ فى دمائها .

....انزوت أسماء إلى نفسها وذاب لحمها وذبلت نضارتها ولم تفلح فيوض دموعها ودموع أمها وتبدل أحوالهما فى إثناء عكاشة عن اغتيال وحيدته ونحرها ولم يرعو عطية وقد تجسد له مقتهن له وارتياعهن من سماع اسمه فما البال بمطالعته ورؤيته .

. .و توددت الأم لعكاشة وتحينت اللحظات وتوسلت الرضى وتحسست دخائل زوجها ودروب تحننه وتملق مشاعره ولم يروعها صدود نفس وتصلب رأى وسواد قلب ودوام إعراض وجلاء يأس فاندفعت تحاول وتحاول وتصبر وتصطبر فما تجد إلا قلبا أغلفا وعقلا أصما .

. . أى نحس وشؤم جره ذلك الفدان البائس الذى امتلكه عطية وأوصد تخيل عكاشة أيلولته إلى غير ابنته الباب دون أن يتحسس آلام وأحاسيس أسماء أولى الناس به وأرفقهن فاندفع ليأدها شابة يافعة ويسحقها زهرة يانعة ، وخوف تلصص الرقيب آنست الأم إلى من عرفها الناس بأنها الخالة روض بائعة الأقمشة التى كانت تلوذ إليها وتروى صداها وتكسر حدة جوعها بضنين من زاد بائس وساذج من شراب تجود به الأم عليها حين تسوقها إليها خطواتها المنهكة المرهقة المثقلة بما تحمل من أقمشة وأردية خشنة غليظة، وكانت أم أسماء قد استشعرت ودها وابتلت صدقها وخبرتها وإخلاصها غير مرة .

. . اندلعت دموع العجوز واستعبرت حين تسمعت الأمر من الأم واستكنهت السر ، ولمست مأساة أسماء وانفطار نفس أمها أوتارا حساسة فى قلبها طوت عليها جوانحها وأسدلت أستارها وأخفى رماد أيامها وميض نارها يوم أن سيقت إلى زوج اجتمعت له خصال السوء وسواد القلب والنفس فسامها سوء العذاب وطاب له ذلك واستعذب إذلالها وسحقها إلى أن أجهز الموت عليه مثلما أجهز هو على أرضه وبدد ثمنها على تعاطى الحشيش وتوسل رضي الغوازى والغواني اللواتي لم يدخر فى دأبه إليهن نفيسا ولا مرتخصا ولا صحة ولا قوتا ولا وقتا وألفته ساحات الموالد والأعياد يتفقدهن فيها ويلتمسهن بها إلى أن حمل ميتا إلى زوجة ترملت به قبل موته حين اقتيدت إليه زوجة ولا زوجة وسكنا ولا سكن ، فلم تفجع بموته ولم تألم وإن صادف ذلك فى خفى نفسها ودخيلة سرها غبطة بانعتاق من سجنها وانفكاك لأغلال إسارها ولم تهنأ بذلك إلا لحيظات ضئيلة إذ فجأتها رهبة وارتياع من شبح يجحظ في مقبلات الأيام لأعباء إعالة ورعاية لبنياتها الصغار اللواتي عز لديهن المعين وغاب الأنيس ، ولكن الخلاص من ذلك الطاغوت قد بعث راحة وبث عافية فى نفس المرأة وجسدها فاندفعت تتقاذفها القرى والدساكر لتتسيب فى بيع الأقمشة هازئة بوطأة الأيام وقسوة الحياة وشظف العيش فكل ذلك يهون ويعذب إن طاف بها طائف من ذكريات أيام سود وليال عجاف مضين ثقيلات وئيدات تحت طائلة باشق عتى ووحش لا يرعوى .

. . وأوعزت العجوز لأسماء وأمها أنه لا منجاة إلا بالهروب وأن أرض الله الواسعة لن تضيق بأسماء وأنها سوف تسعها في كوخها النائي على أطراف كفر المنازلة مع بناتها إلى أن تدبر لها أمر اللحاق بمركب معاش يقل المسافرين إلى القاهرة من دمياط وسوف يعينها على ذلك ويهيئ لها أمره نوتى يعمل على ذلك المركب حين قدومه إلى زوجته التى تقطن جارة لها آيبا من سفرته من القاهرة إلى دمياط ومتأهبا لكرة أخرى فى رحلات بدت رتيبة قدرية ، وحين آيست الأم المكلومة وابنتها من أوبة لقلب أبيها ونكوص عن غيه ونأيه وظلمه اخترقت الأم بابنتها سدول ظلام دامس ومغاليق دروب غير مطروقة مهتبلة غفلة من عكاشة وسرحة من سرحات عطية حتى أسلمت ابنتها لمصيرها عند العجوز ثم تعانقتا وقد تمازجت بينهما الأنات وانساحت العبرات وتوادعتا وداع من لا أمل له أو مظنة أمل في لقاء ، وقد أسلمتا أمريهما إلى المقدور لتنوء بما جثم عليهما من الهم والكرب القلوب الكسيرة الأسيفة التى فى الصدور ثم يثقلنى الهم والألم ويرهقنى فادح الخيال لما سوف تلاقيه أسماء فى رحلة لا تعرف لها هدفا ولا نهاية واستهول ما يتلمظ لها من ذئاب الطريق الذين ماتت منهم الأفئدة ووأدت الضمائر فما أفلتت منهم من غفل عنها المدافع والحامى فأى مصير ينتظر من عز لديها الأنيس ونأى عنها النصير ، ويتكأكأ إلى ذلك لهيب شمس توسدت صفحة السماء واخترقت وهدة النافذة الي مجلسي وجسمي المثقل وعيني المرهقتين, فتفيئا إلى سنة من نوم ثقيل وتتداخل الأزمنة في ذاكرتي مثلما تداخلت الأشخاص والأحداث والأمكنة .

. . هى هي شمس يوليو المتقدة وهى هى حقول كفر سليمان ولهيب صيفها وغليظ مشاعرها ، غير أن ربع قرن ونيف من السنين الوئيدة انصرمت بين طفولتي المنتهكة في فرقة مكافحة دودة ورق القطن وبين مجلسي هذا في دار الوثائق القومية بالقاهرة ، هو هو الألم والمكابدة ورازح الهم وإن تسربل فى ذلك الزمن البعيد القريب بالرعب من عقوبة أبى ضيف الذى أحيط بهالة من السطوة والجبروت والرهبة والنفوذ جثمت وأوغلت في نفوس صبية صغار آنذاك حين دهمهم قدومه ليعمل مشرفا أو بتعبير تلك الأيام المنصرمة خوليا على تلك الزمرة من بائسى الصبية الأطفال الذين راعهم رائع لم يدر بخلدهم واغتال براءتهم حين انتزعوا من رحابه طفولتهم وسذاجة حكاياهم وأحلامهم ليساقوا إلى تلك الفرقة زمرا فيصطرع على أجسادهم هزال لا يريم وهجير لا يرحم ويوسعهم ضربا وبطشا طاغ سليب الحس والفؤاد يهزأ بأنات المثقلين المنهكين من أولئك الأطفال بخيزرانته ولا يكترث بعطشهم وجوعهم ويرى فى نفسه متفضلا رحيما ومحسنا كريما إن سمح لهم يوما وقليلا ما كان يسمح بالانكفاء على ترعة أو مصرف أو قناة ليطفئوا غلتهم بماء اختلط بطين وطحالب وروث ، ولو أبصر كسرى أنوشروان من إيوانه أو الإسكندر المقدونى أوان صولجانه ما كان يتيه به أبوضيف من نفوذ وهيبة وسلطان وروع في نفوس أولئك التعساء لتواريا ضعة ولذابا خجلاً وحسدا لشحيح سلطانهم وهزيل مهابتهم ، وتدأب خيرزانة أبى ضيف وتعتاد الاختلاف إلى أجساد الصبية مرات ومرات فى اليوم الواحد هازئة بصرخاتهم غير عابئة بأى موضع نزلت أو جراح خلفت ، وغدا شبحه كابوسا يفجأ أولئك الأطفال فى نومهم مثلما يفجأهم فى يقظتهم ووعيهم ، وأُوسد قلب الرجل وصُمت آذانه فما عاد يلتفت إلى دموع صغير أوغل فى هيكله الضعف وتوسدت المخافة والترقب فى قلبه فلا ينازعان ، دون أن تصرف هذه الدموع مآقبه عن حتمية تقصى اللطع ودود القطن فما ينتظر المقصر ومسلم نفسه إلى الدموع والمنشغل بالقهر والألم عن ذلك العبء من الهول إن قصر أو غفل لأشد رعبا وأنكى مغبة ،ولم تدخر وسعا النخبة من أولئك الصبية الذين رفعهم أبو ضيف مكانا عاليا حين اختصهم بمسئوليات جسام بعد أن وسدهم مناصب الفرارين الذين كانوا رقباء على العمل يتحرون غفلات الصبية عن اللطع وتجمعات دود القطن فلم يألوا جهدا بعد أن حظوا بتلك المكانة عند أبى ضيف خولى الفرقة فقدمهم على رفاقهم فى الألم والبؤس وسلطهم عليهم يترقبون سقطاتهم وقد لذ لهم أن ينفثوا عن مكبوت قهرهم ودفين آلامهم ومعاناتهم على أترابهم وإخوانهم في البؤس والألم بعدما وسدهم أبو ضيف فى تلك المناصب العظام وخولهم الاضطلاع بتلك المهام والمسئوليات الجسام ... وحقا إن قسوة الخائفين إن توسدوا وغلظة الضعفاء إن تسيدوا أو سيدوا وظلم المقهورين إن أمكنوا أو تمكنوا ليس كمثلها قسوة ولا كغلظتها غلظة ولا نظير إيغالهم إيغالا .

والشراب بنى حبيت جدع أسمرانى ،
والشراب بنى حبيت جدع أسمرانى
والشراب بنى قالوا لى تخدى ابن عمك
قلت أهو منى
قالوا لى تخدى ابن خالك . قلت أهو منى
قالوا لى تخدى الغريب .. زغردت أنا وأمى
حبيت جدع أسمرانى .

. . ينساب صوت ناعسة ليبدد صمتا رتيبا وخشخشة لأوراق شجيرات القطن ووقع أقدام متهرئة هزيلة فى خطوط توسدت قمتها تلك الشجيرات ، ويتداعى الصوت إلى نفسى التى اختلط فيها وتشابك الزمان والمكان فينبه غافل وعيي إلى ديمومة الألم وكر التجربة وتكرارها فأسماء التي شغلتني بألمها الوثيقة التي أثارت مستكن آلامي قد تسمت في طفولتي بعزيزة التي جمعتني إليها في تلك الطفولة البائسة غيطان كفر سليمان وفرقة مقاومة دودة ورق القطن ومزجت بين نفسينا الصغيرتين مشاعر متبادلة من الإشفاق والرثاء فيألم أينا لصاحبه إن صعقته خيزرانه أبى ضيف ويهرع لمساعدته فى تقصى اللطع إلى أن يستفيق من بكائه ويقوى على آلامه ويتبادلان الأدوار وقد باتا أحرص على التجاور عند اصطفاف الفرقة ، ويصل الحال يهما إلى آفاق وآماد حين يدخر أحدهما لصاحبه حظا من نعناع أو حلوى العسلية إن جاد عليه الدهر بشيء من ذلك ونادرا ما كان يحنو فيجود .

. . سنوات قليل وتشب عزيزة عن الطوق وتأوى إلى البيت فلا تظهر لرجال غرباء أو أقرباء ولا تنفلت من عقال البيت إلا ظهر كل يوم لتحمل إلى أبيها فى حقله قليلا من زاد وماء وهى فى ذلك كله تترقب من بخطبها من أبيها وبتعبير أمها تنتظر عدلها إلى أن تسوقها خطاها ويقودها قدرها إلى لقيا نوتي غريب جنحت مركب يعمل بها إلي موردة من موارد القرية , وكأنها كانت تستشرف أيامها ومصيرها وقتما كانت تردد وتغنى مع ناعسة بالأمس القريب وتنزع إلى ذلك الجدع الغريب الأسمرانى فتزغرد هى وأمها حين تخير بينه وبين أبناء عمومة وخئولة فيرضى أهلها باختيارها .

....ما أسذج تلك الأحلام ، وما أنآها عن واقع عزيزة وقلب أبيها فتبتلي بما ابتليت به أسماء ويفدحها ما فدحها ويدهاها مادهاها حينما رأت نفسها تساق إلى جزار لا تطيقه من بنى جلدتها وأقربائها وتدرك ألا سبيل لنجاتها إلا أن تنكب طريق أسماء ويصدق منها العزم على الإفلات والإباق للانعتاق من مصيرها المحتوم بعد أن آيست أمها من تشفع أوصدت دونه القلوب والآذان ولم يغنها إشفاق ولم يجدها توسل ورجاء ، فما هان لجزارها الأول وهو أبوها عزم وما لانت له قناة فأوغل فى غيه واستكباره وتهيأ لسوقها إلى من ارتضاه .

. . أسلمت عزيزة قيادها ومصيرها بعد أن أسلمت قلبها إلى ذلك النوتي الغريب الذى تمازجت روحه ولاذت نفسه وهجع قلبه إليها حين نزل إلى القرية يوم أقلته إلى تلك القرية مركب جانحة وريح ساكنة ثم شغل بها فشغف بحبها واصطنع جنوحا زائفا لمركبه والتمسها حيث رآها من قبل وروى صدى قلبه من تلك القلة الفخارية التى توسدت رأس عزيزة وهى في طريقها إلى أبيها تحمل له طعام الغداء ساعتها أخذت بتلابيب قلبه ونفسه عذوبة الإجابة وإشراقةالوجه الوضىء فما عاد يدرى أى العطشين يحرقه ويؤرقه .

...أيام هزيلة سراع مضت ومضى معها التعلل بالتماس الماء وتوسل الكلام وعذوبة المشاعر وبليغ النظرات ، وتمر ليال ثقال بطاء على حبيبين طابت لمركب أحدهما ريح فأبعدت جسمين ولكنها صهرت قلبين , وتوشك تلك الأيام أن تسلم عزيزة إلى ما يهولها من مصير بين أنياب وأظافر سالم الذي تملقه أبوها ليزوجه ابنته طمعا فيما يرتقبه لابنته من رغد العيش وطيب الحياة ووفير ما تفيض به فدادين سالم المزدهرة , ثم ترعو الأيام قليلا فتألم لتلك البائسة فتسوق إليها حبيبها فيروى غلته ويشفى نفسه وقلبه الظمآن ، لكن دموع عزيزة تهوله وتعتصره آلامها حين راعته بما ينتظرها من مآل ، ثم تثور نفسه ونفسها إلى أن لا مناص من الخلاص ويتواعدان إلى حين يتسربل معها بسربال الليل فيحتويهما ويظلها إلى حيث لا عودة ولا إياب .

....ودون جدوى يجوب الأب وخلصاؤه القرى المجاورة باحثا مستقصيا تتقاذفهم الأماكن والدروب وتتفحصهم وجوه لم تألف لهم سمتا ولا رسما إلى أن يقعد اليأس من إدراكها أباها فيستكين ويستبد به القنوط إلي الاستسلام والركون ، ويسلمه ذلك إلى ملحاج من لوم وتأنيب يصيب به كل من يلقي من أهل وولد إلا نفسه التى نأى بها عن كل ذلك اللوم والتقريع .

....يأتى صارخا حازما صوت مدام نادية المشرفة على قاعة الباحثين فى دار الوثائق رادعة احدي العاملات التي تأخرت في إحضار ما طلبته من سجلات لمحكمة دمياط الشرعية فيعيدنى إلى وعيى وواقعى ويصرفنى إلى سجل جديد يستلب جل اهتمامى ويشغلنى عن كل ما يحيطنى وينقلنى إلى عالمه وما ينوء به من شخوص وأحداث وأيام وتتوحد معه نفسى مثلما يوغل فيه عقلى ، وتنساب الوقائع منه وتتراكض الأيام والسنون ، وأكاد أنسى أسماء وما آل إليه حالها ومصيرها فى رحلتها إلى المجهول .

....تجحظ العينان ويستنفر الوعى وتستنهض المشاعر حين أجدنى وجها لوجه مع ما كان يمر بخاطرى من خيالات وتخيلات لما صار إليه حال أسماء وما ادخرته لها الليالى من صروف وآلام حين تصدمني وثيقة تنعي إلي ضحيتها.

( صورة مكتوب صدر من قدوة العلماء والأعيان فخر القضاةالمعتمدين ، عين الوجهاء المكرمين مولانا مصطفي أفندى الحاكم الشرعى بالمحلة الكبيرة المحروسة زيدت فضايله على يد قدوة الأماجد والأشراف السيد أحمد أغا ، زيد قدره المكمل بالختم الشريف على العادة ، مضمونة أنه قد حضر إليه فخر الأماثل وقدرة الأماجد على كتخدا مستحفظان بالمحلة الكبيرة المزبورة حالا ومعه بعض أرباب الأدراك ومشايخ نواحى محلة زياد وطليمة والريس أبو العزم العرابى وابن أخيه الكحلاوى ريس مركب قياسة من أهالى كفر سليمان قبالة فارسكور والريس سعود البرمبالى ريس مركب معاش لنقل المسافرين وجمع من الصيادين من أهلى الناحيتين المشار إليهما من شهود الواقعة وأنهوا لمسامعه الشريف حفظها الله ، أن المركب القياسة رياسة أبى العزم العرابى كانت مقبلة فى طريقها إلى موردة مراكب الدمياطة على ساحل النيل المبارك فى المحلة الكبرى وذلك لتوسق حمولتها من الأرز الشعير وتعود به إلى دمياط واقتربت القياسة من جراء الماء المتدافع ودواماته من المركب المعاش ، وأوان ذلك أبصر الكحلاوى الغائبة أسماء ابنة خاله عكاشة من أهالى كفر سليمان وهى خالية إلى ظهر قمرات المركب المعاش الخلفية يمين الدفة وتأهب لنزول الكيك القارب الصغير المجرور خلف القياسة ليعود بها إلى أبيها وذلك لسابق علمه بهروبها فلما تيقنت منه صرخت ورفضته وتأهبت لتلقى بروحها فى البحر إن اقترب ، ولما دفعت موجة عاتية الكيك إلى جانب المركب المعاش هوت أسماء إلى الماء فتلقفتها دوامة من دوامات الفيضان ابتلعتها وغابت فيها عن الأنظار وشهد الريس أبو العزم على ذلك وأنهى أنه رأى الحال على ما قال الكحلاوى وشهد أبو زيد الطلخاوى وإسماعيل البندارى وغنام بن على الصيادون من أهالى محلة زياد وطليمة المجاورة لمحل الواقعة أنهم عاينوا أسماء وهى فوق الخن الورانى للمركب المعاش خلف القمرة الكبيرة بجوار الدفة وهى واقفة ثم حين ألقت بروحها فى البحر فجأة وبخاطرها دون أن يقربها أحد والتمس الرويسا والحاضرون منمولانا الحاكم الشرعىالفحص عن ذلك وإثباته على نحو ما جرت به العادة وشهادة شهوده حكما شرعيا وثبوتا مستوفيا برفع يد ومسئولية الريس سعود البرمبالى ريس المراكب المعاش عن أى دعوى أو تمحيص بخصوص الغارقة أسماء بنت عكاشة وخلو سبيله بالطريق الشرعى وأنها غرقت بقضاء الله وقدره والتمس الريس سعود حجة شرعية من مولانا بعدم معارضته أو الادعاء عليه ومنع ذلك منعا شرعيا مستوفيا مرعيا فأجابه لما سأل بعد أن ثبت لديه أبقاه الله ثبوتا شرعيا وأشهد على نفسه الكريمة بذلك مولانا أفندى المومى إليه وجرى ذلك وتحرر فى عاشر رمضان المعظم سنة ثمانية وسبعين من الهجرة النبوية الشريفة على صاحبها أفضل الصلاة وأتم السلام ) .

. . مالت رأسى إلى المكتب وغرقت فى سبات وصمت عميقين وشدهت روحى إلى حيث ابتلع النيل أسماء وتمثلت نفسى مخاوفها واضطرابها فى رحلة هروب لا تعرف لها حدا ولا تملك فيها لنفسها دفعا وقد أسلمت نفسها ومصيرها إلى تصاريف الأيام والأقدار ، وخلتها وقد راعها ما جهدت نفسها للخلاص منه وما هان لديها من الخطر حين أدركت مغبة اقتراب ابن خالتها الكحلاوى وفداحة تخيلها لنفسها مقودة إلى من جهدت جهدها وبذلت أمنها وغاليها لدفع غائلته وتوقى صائلته وذلك حينما أبصرته وتيقنت منه وتحسبت لما سيؤول حالها إليه إن أمكن منها وأعادها إلى بلدها وأبيها وابن عمها فرخص لديها عمرها وطاب لها مصيرها فألقت بنفسها إلى فيضان متراكم متدافع من الماء والموج فابتلعها النهر وضن بها فأخفاها فى جوفه وذهبت إلى حيث لا يعود ذاهب .

....يأتى صوت مدام نادية مترفقا حانيا مشفقا على وقد استغرقت فى سبات وألم غبت بهما عن الوجود تنبهنى إلى أن الساعة قد جاوزت السادسة وأنه قد آن الأوان لإغلاق القاعة فأجيبها دون أن أعى فتشده وتبهت لغرابة ما أقول وتهز رأسها غير فاهمة ولا مدركة وعاجزة أمام تساؤل لبثت أرده بلا وعى مرات عددا وقد تمثلت فى قسمات وجهى أبلغ آيات الاعتصار والألم والروع ،
أكان عليها أن تغرق لتنجو ؟ أم كان عليها أن تنجو لتغرق ، أكان عليها أن تغرق لتنجو؟ أم كان عليها أن تنجو لتغرق، أكان عليها أن تغرق لتنجو؟؟؟؟؟ ...
أ د عبد الحميد سليمان
الدمام 20 من رمضان المعظم 1428
رد مع اقتباس
  #5  
قديم 29/12/2008, 20h54
الصورة الرمزية عبد الحميد سليمان
عبد الحميد سليمان عبد الحميد سليمان غير متصل  
مواطن من سماعي
رقم العضوية:245929
 
تاريخ التسجيل: June 2008
الجنسية: مصرية
الإقامة: السعودية
المشاركات: 135
افتراضي الدكتور عبد الحميد سليمان ـ المجموعه القصصيه


بسم الله الرحمن الرحيم
غروب وهروب
00حدقت عيناها في فضاء عريض وبدت لا تعبأ بقتامة جو أو صرصر ريح وقارس برد وصراخ أطفال كانت تحمل منهم بيمينها من تحمل ويتشبث بأذيال ثوبها من يتشبث, وانصرف انتباهها عما حولها حتى بدت تمثالا شاخصا غادرته روحه إلي حيث تلتمس غايتها وتتحسس موئلها وعائلها, بعد أن خلا جسر الترعة من العائدين إلي بيوتهم من الفلاحين,الساحبين مواشيهم,الممتطين دوابا ناءت بأحمالها من الرجال والأطفال أو الحطب أوالبرسيم,إلي حيث تحتضنهم بيوت زانتها زرائب وخرائب بعد انصرام نهار منهك,قاس,بطئ0

000أقفرت الموردة من مرتاديها من نسوة وأطفال مع أفول شمس ذلك اليوم,وتقاطرت النسوة عائدات إلي بيوتهن في خطي سريعة,تتعجل عشاء ضنينا إلا من عذب حديث ودفيئ عاطفة وصادق بوح وموغل بؤس وحزن وشجن ,بعد أن غسلن أوانيهن وأزلن عن أبدانهم وأطفالهن كثيفا من تراب وطين, خلفه يوم شاق وسعي دائب لا يكل ,وهن يحملن من ماء الترعة ما ترتوي به غلة ليلهن وما يدخرنه ويحتجنه لساذج طعامهن,بعد أن أنفقن سحابة نهار يوم من أيامهن البائسات المتواترات الرتيبات,من شهر أمشير الذي أبي أن يأتي إلا بما اعتاده من ريح عاصف وبرد فاتك قارس يدأب فيتغلغل وغزير سيول,لا ترعوي أو تأبه بما تخلفه في بيوت وأسقف زائفة واهية عاجزة ,وأطفال ونسوة وشيوخ عز لديهم ما يعين علي متراكم الغوائل والبؤس,وما بقي لهم من معين علي صائلة مثل ذلك اليوم وأشباهه إلا وثير من قش يفترشونه ويتدثرون به ويتحلقون حوله فتنساب حكاياهم ويزيد تدانيهم فيسري في عروقهم دفء إنساني تكلؤه حرارة جادت بها نار حطب أو خشب أو قلاويح أذرة مما توسد مكانا عليا من بيوتهم المتدثرة أسقفها بأحمالها منه0

000في مثل ذلك التلاحم الإنساني المفعم,يفعل فعله شجي الحديث واستدفاء الأطفال بأحضان أمهاتهم وتداني الأمهات من أزواجهن وأولادهن تدان يجعلهم كيانات متعانقة متدافئة متسامرة متوحدة الأجسام والمشاعر,ويغدو ذلك دروعا سابغات وحصونا منيعات يدرؤون بها غائلة برد أمشير ودأبه وقسوته ووحشيته,ولو جادت الأيام بقليل من البطاطا,تصطلي بلظى راكية الموقد ,فان تلهفا للأطفال واصطبارا مصطنعا للكبار يكاد يصرف الانتباه عن ذلك الزمهرير وأفاعيله فيرتد عنهم كسيفا خزيا متأهبا متوعدا متوثبا0

000آذن الظلام بالسدول لكنه وأفاعيل برد أمشير لم يصرفا انتباه تلك الأم ولم يثنياها عن تحديق بدا بلا نهاية واستشراف يتوسل سدفة الظلام ألا تجيء ,واصطراع لعينيها مع عتمة لم تأبه لها أو ترحمها,فطفق طغيانها يتغلغل رويدا رويدا, لكنها كانت غافلة عن عيون ترمقها من بعيد,كانت ارقهما وأحناهماعينا صبي ناهزت أعوامه الثمانية,قابع خلف شجرة قريبة لا يأبه به ولا له أحد, ,وكانت أجرأهما وأخبثهما وأوقحهما عينان ما انفكتا تمعنان في المرأة فتكادان تنضيان ثوبها عنها,وتمعنان فتجحظان,وتعودان فتبرقان وتشدهان ثم تجحظان وتتلمظان,إن جذب طفل من أطفالها ممن تعلق بملابسها ورجليها ثوبها, متوسلا متضجرا من غلظة برد وانتظار بدا بلا نهاية, فالتصق جراء ذلك جسم تلك الأم الشابة بارعة الحسن سمهرية القوام بثوبها وأبان بعضا من امتشاق قامتها واعتدال قدها وحيويتها ,أو كشف قدما لها زانها خلخال من فضة علا قبقابا غليظا خشنا,قد من خشب التوت0

000أما الصبي فكان ينظر إليها فيذوب ألما لها وإشفاقا عليها ويتمني لو انقشع الظلام المتسارع المتكاثف عن زوجها عيسي وعن مهرته التي كانت تجر عربته الكارو وتحيا معه مثلما يحيي معها,فتقاسمه حياته واهتمامه وحنانه مع زوجته وأولاده ,ولا تدخر في خدمته وسعا,وكأنها تبادله عطاء بعطاء وحبا بحب, وحنانا بحنان وإشفاقا بإشفاق واصطبارا باصطبار0

00 ود الصبي الذي كانت عيناه تتحسسان عينا الأم الشابة وتستكنهان مشاعرها وقلقها وتخوفها غيبة عائلها ودرعها وأمانها ودافئها دون أن يدري الصبي سببا لاهتمامه وترقبه اليومي كي يري بريق عيني تلك الأم الشابة,الحاني المشفق المتوجس المروع ,المتوسل عودة عائلها منفقا يوما من أيامه الشاقة التي تتري,فتوسعه بؤسا إلي بؤسه وشحا وضنا إلي شحيح رزقه,ولا تدخر في كيدها قيظا ولا زمهريرا,ولا في صولتها تقلبا وتبدلا 0
000أتراهما توقد مشاعر,وإشفاق قد فعلا بنفس الصبي تلك الأفاعيل ونحيا به ذلك المنحي؟ أم سالف عرفان وحب لم تتكتمه تلك الأم الغريبة لأمه الراحلة,منذ أن أقبلت مع زوجها وعيالها إلي القرية من حيث لا يعرف احد,فأشفقت عليهم أمه ورأفت بهم وأفضت إلي زوجها بحالهم,فوسعتهم حجرة من طوب لبن في رحبة البيت حيث يقع الفرن الذي تعتاده أسرة الصبي وجيرانها وغدا بذلك ملاذا دافئا لأسمار الأمهات واجترار العجائز وأحلام الفتيات وتلصص الأطفال الملتمسين بعضا مما يكتوي بناره 0

000أتراه قد تنبه لتلك العينين المتلمظمتين فانزوي يرقب الأمر وقد اعتورته المخاوف علي تلك الأم وتربصت به الظنون؟ أم شجاه تحسسها عودة زوجها وحبيبها وعائلها فحرك أوتار قلبه واهتاج به مستكن شجنه ومتوسد لوعته ويتمه,وذكره بأبيه المنشغل المكلوم وبأمه الراحلة ودفيئ حضنها وعميق قلقها والتياعها وتشوفها عودة زوجها,ثم ارتياحها وذهاب روعها وخوفها واطمئنان نفسها واشراقة وجهها ورقيق ابتسامتها حين يلوح مقبلا جزلانا مرهقا ويجلس الي طعامه فيتوسد الصبي حجره, تكلؤه رحمة وحنو لايحدان,ويتنافس الوالدان في اختصاصه بأطايب طعامهما وروعة حنوهما؟

000ومافتئ صاحب العين الأخرى يرقب من مكان قصي فتجحظ عيناه ببريق الرغبة وتتلمظ أنيابه وتكاد تتحرك خطاه ويداه اللتان تودان لو انتزعتا هذه الأم وانفردتا بها وروتا غلته ونزقه وجموحه وأنهت ملاحقة ومتابعة لا تيأس ولا تمل ولا تريم, وتسفر بلا خجل عن نزقها وضعة غايتها وخسة مرامها,إن أمنت غفلة الرقيب ولومة اللائم0

000كان فوزي رجلا نزقا عتيا وضيعا لا يردعه أصل أو محتد ,و يخشاه الناس ويتحسبون لشراسته واستقوائه بمن يعمل في خدمتهم من أهل الإدارة والسيطرة ورجال الشرط والضبط,وكان يسرف في التودد لهم ويتحين أوامرهم وتلبية مطالبهم ورغباتهم حاسرا من كرامة مهدرة و نخوة غائضة ومروءة قاصية نائية, وكان يتلذذ بخدمتهم ويستعذب شتائمهم واستعلائهم حيث كان يمدهم بالشاي والقهوة ,ويرتب سهراتهم الخاصة ويغذوها بما يثري الجوزة والمعسل من الحشيش الأصلي والأفيون المعتق فيطلق ذلك سحائب الدخان الأزرق التي تحلق برؤوسهم وخيالاتهم إلي السماء,فتذوب آلامهم وكوامن ذلتهم وقهرهم وكبتهم لمشاعرهم إزاء جبروت رؤسائهم وكبرائهم واستعلائهم وإذلالهم الذي يوسع به كبيرهم صغيرهم ولا ينفكون يتناقلونه, وتمد لهم تلك السحابات الزرقاء حبال الوهم وتحلق بهم إلي عوالم غير مدركة و جنان زائفة,ولم يدخر فوزي وسعا ولا حيلة أو وسيلة لقود أو إخضاع أو استدراج أو قهر من راقت لسادته من نساء ليدفئوا بهن لياليهم ويشبعون نزواتهم ونزقهم وغرائزهم ,فصار بذلك مأمونا لديهم وحذاء طيعا لينا,تستمرئه أقدامهم وأمكنه ذلك من نفوذ واستقواء وغواية تأهبت لها وترقبتها نفسه وغرائزه وتحينته, فصار يروع من يروع ويتهدد من يتهدد,وذاع أمره وشخص خطره فتملقته العائلات الكبيرة وخشيته الصغيرة وانصاع له الغرباء ممن لفظتهم بلادهم وأنكرتهم قراهم فبادلوها جحودا بجحود ونكرانا بنكران فتركوها لتتقاذفهم القري والعزب فعاشوا حيث أمكن لهم شحيح الرزق,ولم يرتو ظمأ فوزي ولم تشبع رغبته ولم يردع كيده وازع أو ضمير أو حسيب ,وصار الناس يتهيبون صولته ويسترضونه ويخطبون وده وصارت العفيفات الشريفات تتجنبن طريقه وتتقين وقاحة عينيه0

00علي استحياء تناهي إلي أذن الصبي صوت عربة عيسي ضئيلا خافتا هزيلا يشق طريقه ويستبق فلول النور المتآكل أمام حجافل الظلام المتدافعة ,وأدرك صدق ما سمعه حينما أشرق وجه الأم الشابة وانفرجت أساريرها واطمأنت عيناها,فقفلت عائدة إلي حجرتها, وشرع الصبي بعينيه فأبصر فوزي مغادرا حانقا متوعدا حسيرا0

000ألف الصبي ذلك المشهد الذي يمتزج فيه الخوف بالإشفاق والأمل وبتغلغل فيه الوفاء والحب , بتهيؤ الشر وتوثب النزق,ووعي الخطر المحدق بهذه الأسرة المسكينة الغريبة ,ونمت مخاوفه وتوجسه متخيلا ما قد يرعوها من خطر فوزي وشراسته وآثم رغباته وغوايته واستطالته وسطوته,إلي أن أبصر الخفراء ورجال الشرط يقتحمون تلك الحجرة البائسة علي أهلها صبيحة يوم, فيأخذون بتلابيب عيسي وعربته ومهرته,دون أن يكترثوا لآيات الفزع والروع التي شخصت في قسمات وجوه ,وصرخات أم ,وروع وبكاء أطفال,وتألم وعجز جيران,وتوجس وتحسب عقلاء0

000تناهي الصراخ والألم والبكاء والعويل إلي سمع ونفس الصبي فصحت لديه مخاوفه وراعه ما يروعهم واسترجعت ذاكرته الغضة مشهد فوزي بالأمس القريب وقد اعترض طريق الأم الشابة أثناء قفولها من بعض الحقول والغيطان المتاخمة للقرية حاملة بعض ما جادت به الجسور وشواطئ الترعة من نبات السلق والحميض والسريس والدنيبة لتطعم به أولادها وزوجها وطيورها فأعرضت عنه وغره ضعفها ووحدتها ووحشة الطريق فامتدت يده إليها,ففزعت منه وأنذرته, وحين تهيأ لكرة أخري خلعت قبقابها الخشبي وقرعت به وجهه مزمجرة هادرة فانصرف مرعوبا صامتا متوعدا متوجسا متلفتا مخافة أن تفتضح هزيمته فتضيع صولته وهيبته 0
000انزوي الصبي حسيرا كسيفا وود لو امتلك قوة يردع بها هذا العتي الباغي,أو مالا يزود به هذه الأم وصغارها ,أو تنفذا يهرع به لإنقاذ عيسي من كيد يحاك له,لا تعرف عواقبه ومغبته ,ووعي الصبي أن إقصاء عيسي وسيلة دبرتها رغبات فوزي المتأججة ونفسه الوضيعة وهزيمته المنكرة, فانكفأ مهولا فزعا إلي أن هجعت عيناه الحائرتان الدامعتان إلي نوم عميق ثقيل,حتي بددته أصوات نسوة يودعن الأم الشابة ويتضرعن إلي الله أن ينتقم ممن ظلمها وكاد لزوجها وتربص بهم, وقد تشبث بها أطفالها وأثقل رأسها ما تحمل من متاع, فودعتهم باكية حزينة0000 اندفع إليها الصبي دامعا متجهما فزعا سائلا:إلي أين يا خالة؟ فربتت علي رأسه ومسحت دموع له لم ترقأ ,قائلة متعجلة مضطربة متلفتة : إلي حيث لا ندري ولا يدري فوزي 0

الأستاذ الدكتور/عبد الحميد سليمان
00 كفر سليمان البحري ليلة12من يناير الشاتية القارسة, لعام بقي من قرن منصرم0
رد مع اقتباس
  #6  
قديم 09/04/2009, 21h21
الصورة الرمزية عبد الحميد سليمان
عبد الحميد سليمان عبد الحميد سليمان غير متصل  
مواطن من سماعي
رقم العضوية:245929
 
تاريخ التسجيل: June 2008
الجنسية: مصرية
الإقامة: السعودية
المشاركات: 135
افتراضي الدكتور عبد الحميد سليمان ـ المجموعه القصصيه

أبو حيان الدمياطي


الجزء الأول

0000في سياحاته في بحار المعرفة, وأيام درسه الجامعي بكلية الآداب في جامعة القاهرة في ساحات مكتباتها وردهاتها وقاعاتها وشيوخها, وجد الدمياطي عجبا وأدرك جللا حين فجأه وراعه ذلك الفيلسوف المسلم الفذ,أبو حيان التوحيدي, ورويدا رويدا توسد منه أقطار نفسه واستبد بقلبه بعد أن سلب لبه واسترق عقله فشغله عن عداه ونهره عمن سواه, لقد بهره التوحيدي,عبقريا شامخا لا يعبأ بوزير أو أمير, ولا يكترث لمهيب أو جليل,طموحا,لا تثنيه كئود نجاد أو سحيق وهاد,فخورا يري لنفسه من السمو والتعاظم والعلو والمكنة مالا يراه فيه غيره, متعاليا لا ترغم أنفه لراغم وإن علا ولا لجبار وإن ذاع سؤدده,واستقر توسده 0

000انبهر الدمياطي بازدراء التوحيدي لعلماءُ وفلاسفة وكتاب ممن عرف فضلهم واتبعت خطاهم ,لكنهم عند التوحيدي لم يكونوا غير طلاب علم يجهدون فلا يدركون فيدعون ويتزلفون,وحين تعوزهم الحجة وتلجئهم الضرورة يستعينون علي عجزهم بالتملق والمداهنة والتصنع والتجاهل حينا والتعالم أحايين عددا ,ولايرعوون عن تصعير الخدود وتهيئة الأقفية وترويضها إذا اقتضت الحاجة أو استدعي الموقف ,الأمر الذي ينأي بنفسه عنه كل ذي نفس شامخة وباع طويل وعطاء وفير جزيل,,أما التوحيدي فقد أعجزه كبرياء نفسه وعبقرية عقله عن أن يتكيف مع واقع مريض ومجتمع سقيم تروج فيه بضاعة أدعياء العلم والمنافقين والمتوسلين والوضعاء ودناءة السوقة وتسفل السفلة,واجتهد ساعيا,باحثا عن مكانة وعلياء رأي نفسه أولي بهما وأجدر, فأجهده بحثه وخاب فأله ,وانكفأ أمله0

000 تأجج قلب أبي حيان حين اصطرعت حاجات نفسه مع كبريائه الذي وقف عقبة كأداء أمام طموحه ودأبه لتغيير واقعه المتدني وشح حالته وفاقته وازورار مجالس الوزراء والأمراء والوجهاء عنه, ومهيلا جالت حاجات نفسه الدنيا,الملحاحة القاسية جولتها وصالت صولتها , فشرعت قدماه تتحسس خطواتها الأولي بطيئة متثاقلة مترددة إلي تلك المجالس بعيد أن كبحت جماح تعاليه,وجنوح عقليته الفذة وأراقت كبرياءه المستكن الأصيل0

000كان التوحيدي لا يملك سبباً لرزقه وسبيلا لثرائه وانتزاع مكانته المهدرة الضائعة,سوي عبقرية الأديب وبحار من المعرفة خاض غمارها
وطابت له ريحها فامتاح ما وسعته قدرته من كنوزها وللآلئها ودرها، ,لقد أثخنته حاجاته فاضطر تحت وطأة الضرورة وغلظتها, إلي شيء من مداهنة أصحاب التوسد والنفوذ والثراء, سعيا لنوالهم وعطائهم, لكنه لم يدرك من ذلك شيئا مما كان يصبو إليه بعد أن أقصي أنفته ربيبة كبريائه, وأراق’مكرها,آملا ماءها ليفسح ساحات نفسه أمام مقتضيات الحاجة المذلة , لكن تلك النفس الهادرة سرعان ما استعرت نارها واندفعت حمم بركانها, حين أيقنت أن بحار التدني لا تدرك,ومعين فنونها وصورها لا ينضب ,وأغوارها لا تسبر, ونهم سادتها لا يشبع ,بعد أن أغراهم بذلك امتطائهم الآمن المستقر لظهور الذين خبروا عباب الذل وطابت لأشرعتهم ريحها,واستكنت نفوسهم واطمأنت لها وبها, فانتفضت نفسه, برمة ناقمة ثائرة ساخطة, فاستغربته مجالس النفاق ثم لفظته,فتقاذفته أقدام وأحذية المتنفذين ونبذته ساحات المتوسدين إلي العراء وهو سقيم, ,فأوسعته سخرية الساخرين من المستمرئين ,الراقصين, اللاعبين علي كل الحبال,الآكلين علي كل مائدة , الموطئين أكنافهم عن ذلة لازمة ملازمة ووضاعة متأصلة ,اللاعقين لكل حذاء,الذين حسدتهم تلك الأحذية ونفست عليهم انتزاعهم لدورها واستئثارهم بمكانتها ومواضعها, فاستعرت بدورها غيرة وحقدا وغلا, جراء ما لا يباري من مرونتهم ونعومتهم وطاعتهم واستخذائهم,واستنفرت قوتها واستنهضت غلظتها حين كان ممتطوها يوسعون بها أدبارهم ووجوههم ,وأمعنت فيهم حانقة غائلة ,لكنها ارتدت كسيفة خزية حسيرة’, أمام ظاهر رضاءهم ودائم استعدادهم وزائف ابتساماتهم0

000لقد صرع بخل البخلاء ونفاق المنافقين وسخائم الحاسدين, أحلام التوحيدي وحاجاته,فزاده ذلك ضراما إلي ضرام وإباقا إلي إباق, وما إن لفظته ساحاتهم حتى انبري يذم فعالهم ويلمز أخلاقهم ويهزأ بسلطانهم ويستقصي عوراتهم ويقتفي زلاتهم ونقائصهم ويهتك أسرارهم ويستبيح مستكنات نقائصه0

000أوغل التوحيدي ففعل بهم الأفاعيل وأهدر كراماتهم واقتص من تعاظمهم,وظن أنه ناج بذلك, لكنهم لم يكفهم أن أنشبوا فيه مخالب إعراضهم, فتهدده ماحق خطرهم, وأدرك عارفوا قدره فداحة ما ينتظره,وهول ما يتلمظ له من شر وكيد ,فآثر فطناؤهم السلامة , فأعرضوا عنه,ونأت عنه ساحاتهم ووجوههم ,واستبق أراذلهم إلي كيده تزلفا وتوددا, وأشفق عليه من اكتوي بمثل ما اكتوي به,لكنه اصطبر علي ذلك فأضمر غيظه,ووأد حنقه,وصرع تمرده ,لكنه اعتبر حنق التوحيدي وغضبه وثورته وتمرده صرخة لأمثاله من المظلومين وبوح بأنات المكلومين,

000مضي التوحيدي طريدا وحيدا منبوذا جائعا,لا يدري أذكي أريب هو أم غبي مغرور؟ واشتعلت نفسه واتقدت مستكناته فصبت لظاها علي أروع ما فاضت به عبقريته وجادت به قريحته من ذخائر مؤلفاته فأشعل فيها النار ضنا بها أن ينالها ويفيد منها ,مجتمعات وأقوام لم ير منها إلا آيات الجهل والازورار والإعراض والاحتقار والإذلال ,وأفلت من هول ذلك المصير بعض مما ازدانت به القريحة العربية وتباهت واستطالت به الحضارة الإسلامية كالإمتاع والمؤانسة والهوامل والشوامل وغيرها ,لتترك مأساة التوحيدي وكل توحيدي جذعة متقدة دائمة لاتريم,وحشا لا فكاك من أنيابه ومخالبه,وداءُ عضال لا برء منه ولا شفاء,وسوسا ينخر فلا يشبع ولا يقنع في عقل الأمة وروحها وهيكلها رغم اختلاف الأماكن وتبدل الوجوه وانصرام الأيام وفيض الدروس والعبر وافتضاح الخلل وعموم الزلل0

000لم يفت ذلك في نفس الدمياطي ولم يوهن حبه وإعجابه بأبي حيان التوحيدى ولم يألو صعلوك العرب وثائرها الأشهر عروة بن الورد جهدا في عون التوحيدي, وإبقائه علي مكانه ومكانته في نفس الدمياطي,وكان لعروة دالة ومنزلة لا تنافس في قلبي التوحيدي والدمياطي, الذين جمعهما إعجاب لا يحد بابن الورد حين صرف نفسه وجهده ولم يدخر وسعه وأنفق عمره,علي الإقتصاص للمغبونين المظلومين من ظالميهم ومستغليهم وانتزاع ما أمكن له من أموالهم وعروضهم وأمنهم ,ليعيدها إلي مستحقيها وأهلها,وعلي ذلك ذاع شعره الذي ناء بثقل نقمته وسخطه علي مجتمعه وبيئته وأدرانهما فغدا شاعرا فذا وصعلوكا فريدا في تاريخ شعراء العربية ومتمرديها عبر تاريخها الطويل ,لقد أ’خذ الدمياطي مثلما أ’خذ التوحيدي بعروة الناقم الثائر الهازئ وهو يقول:


ذريني للغنى أسعى فإني000 رأيت الناس شرُّهم الفقير‏


وأبعدهم وأهونهم عليهم0000 وإن أمسى له كرمُ وخِير‏


ويُقْصيه النديُّ وتزدريه 00000حليلته وينهرُه الصغير‏


وتَلقى ذا الغنى له جلال00000 يكادُ فؤادُ صاحبه يطير‏


قليلٌ ذنبه والذنب جَمٌّ 000000ولكنّ للغنى ربّ غفور


000لم يألو عروة جهده فألف بين قلبي وعقلي الرجلين, شريكي بؤسه وعوزه,ورفيقي تمرده وحنقه, فتوحدا به ومعه في الرأي والرؤية,وجمعهم الموقف والمسلك والثورة علي نكد الدنيا وتسيد الأراذل وانزواء العباقرة الشوامخ,وزاد يقين الدمياطي بما ذهب إليه عقله واطمأنت نفسه من نهج ,حين أبصر جوهر الإسلام ونصاعة رؤيته وسمو فكرته حيث لا يتمايز الناس بانتماء ولا محتد ولا عرق وإنما يتمايزون بتقواهم ودورهم فلا عنصرية مقيته ولا استعلاء أصم أجوف ,بهره توسد بلال وأبو ذر وخباب بن الأرت وصهيب الرومي وعمار بن ياسر في قلوب وعقول الرسول والمسلمين مثلما توسد أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام وسعد بن معاذ ,وهو ما لم يدرك قليله أثرياء قريش وسادتها ,ومثلما راع زمن الرخاء العباسي أبا حيان التوحيدي ,ارتاع من قبله عروة ابن الورد زمن الجاهلية ,راعت الدمياطي سبعينات القرن المنصرم روعا بقيت أسبابه شامخة حاسرة,جاسرة, وقحة,لا ينال منها نائل ولا تكترث لطائل من فكر أو طرح ولا تتغير أو تتبدل وإنما تسرف في غيها ونزقها, فمريدوها دائما كثر وفاهموها والسالكون طريقها يزيدون ولا ينقصون ويدأبون لديدنهم ومذهبهم ولغتهم ولا يرعوون ولا تستثيرهم أو تنغص أفكارهم وقلوبهم قيمة ,ولا تنكأ ضمائرهم شرعة مهما كانت أو منهجا وإن علا,فبدا التدني والتزلف والتملق والتنكر والجحود والذاتية المفرطة القاصرة المتنكرة ,والتعالي الذي إلا إلي إجادة الإنحاء والاستخذاء, والرضي واستحباب الإمتطاء,ومنافسة الأحذية,لقد أصبح ذلك كله ثقافة مجتمع وسمات جمهرة شخوص الوطن0

000في ساحات آداب القاهرة ,تواترت تساؤلات الدمياطي وحواراته مع أساتذته وزملائه عن أبي حيان التوحيدي,وذاع بينهم نزوعه السافر إليه واقتفاؤه أثره وتمنطقه بمنهجه ,وباحت فأفصحت إيماءاته إليه واحتجاجاته بأقواله ,حتي لقبه بأبي حيان الدمياطي, أحد أساتذته ممن أكثر لجاجتهم وأسرف في جدالهم انتصارا لشخص التوحيدي وثقافته ورؤيته, فشاع ذلك بين أساتذته وأشياخه ورفاقه وزملاؤه ورضيت به نفسه, فاستقرت تلك التسمية في العقول واعتادتها الألسنة,ومثلما كان التوحيدي، الذي لم يكن يملك سوى أدبه وعلمه, غاضباً علي عصره، ساخطاً على أهله ,ناقماً على واقع فاسد يعلي المنافق ويزري بالشريف,حتي لو كان عبقريا فذا, كان الدمياطي يسير علي درب رفيقه ونهجه,فلا يكاد يبرحه, لقد غدا ثورة مستعرة ، وتمردا لا يريم.

000ذهل ابو حيان الدمياطي حين صدمته نهاية التوحيدي وما ساقه تبريرا لحرقه نفائسه حين قال (كيف أتركها لأناس جاورتهم عشرين عاماً فما صح لي من أحجهم وداد، ولا ظهر لي من إنسان منهم حفاظ. لقد اضطررت بينهم بعد العشرة والمعرفة في أوقات كثيرة، إلى أكل الخضر في الصحراء، وإلى التكفف الفاضح عند الخاصة، والعامة، وإلى مالا يحسن بالحر أن يرسمه بالقلم ويطرح في قلب صاحبه الألم).

000علي أن الدمياطي الذي رأي مآل صاحبيه وعاقبة أمرهما التي كانت خسرا وضيعة, أوعزت له نفسه ووقر في قلبه واستقر في عقله أن رفيقيه قد تكلفا عمرهما ولم تفلح عبقريتيهما وهمتيهما وعلو نفستيهما في قضاء حاجات حياتيهما والرقي بهما إلي ما يرونه جديرا بهما وأولي لهما من المكانة والتوسد والثراء والرفعة ,وراعه مصيرهما بعد أن أشفق علي ولوجوهما ديارا غير مرحبة ولا آبهة لهما أوبهما,فعل ذلك بنفس وعقل أبي حيان الدمياطي الأفاعيل وخيل له غرور عقله ومرونة لازمة مسعفة ملبية نداء حاجته ومقتضيات شدائده ,وتأقلم مع واقعه ,ربي ودرب عليهم, أنهما كان عليهما أن يدورا مثلما دار الناس وأن مآلهما وليد عجز عن فهم وقلة حيلة وانغلاق عقل وبطيئ فكر, واستقرت رؤيته واطمأنت نفسه إلي ما ذهبت إليه وانتوي أمورا ومنهجا في مقبلات أيامه يثبت لنفسه فيه أنه أحصف عقلا وأسع خبرة وأكثر دربة وأقدر مهارة,ليصل إلي ما تطمح إليه نفسه من توسد وتمكن وغني ,وبعد ذلك فلتذهب الأكمة وما وراءها إلي الجحيم0 --الي القاء مع الجزء الثاني
رد مع اقتباس
  #7  
قديم 29/04/2009, 04h47
الصورة الرمزية عبد الحميد سليمان
عبد الحميد سليمان عبد الحميد سليمان غير متصل  
مواطن من سماعي
رقم العضوية:245929
 
تاريخ التسجيل: June 2008
الجنسية: مصرية
الإقامة: السعودية
المشاركات: 135
افتراضي ابو حيان الدمياطي ج2: الي شباب المنتدي وادبائه العمري ورائد وغيرهم

00أقفرت أيام الدرس الجامعي وغاض ماؤها العذب,وولت بحبوحتها ورحابتها بعدما كان أبو حيان الدمياطي يتحري توليها ويتحرق شوقا إلي انتهائها ,لقد جهد جهده للتغافل عن غائلة أيامه القادمة في قريته التي درج فيه وأحبته دروبها وحاراتها ومصاطبها وخبرته حقولها وأجرانها وأشجار توتها وترعها وسواقيها ,وأنكرت عليه ذكاءه وتوثبه وطموحه قليل بيوتها وشوارعها, وازدرته قلوب وعيون بعض أهلها0

000في قريته تلك كانت تنتظر أمه وأختاه ويتلهفون ويترقبون عودة الأستاذ من القاهرة تزينه أكاليل غار النجاح والتخرج وتحدوه آمال عراض لتلك الأسرة البائسة في واسع عطاءه المرتقب ونواله المرتجي وتوسده المنتظر ,عاد الأستاذ كما كن ينادينه منذ صغره حين تعلقت آمالهن في الانعتاق به من قيود الحاجة وذل الفاقة والعوز والضعة, ولم يجل بخاطره ولا خاطرهن ديمومة أيام انكفائهن علي ضني حاجاتهن وقليل أرزاقهن وهول عوزهن واقتطاعهن ما أمكن لهم من شحيح ذلك وعسيره لمد الأستاذ في غربته بالقاهرة بجنيهات,مؤلمات,قليلات شحيحات,نادرات,بطيئات عزيزات المنال,مكلؤة بمطويات خبز وقليل بيض وأرز, ونادرا ما تكللت تلك الزوادات بذكر من البط ما انفكت أمه عن دس الأذرة في فمه والتنقيب له عن طعامه العزيز المسمن من جوع من تلك القواقع والطحالب التي كانت تتحراها فتفجأها في مكامنها وجحورها علي جسور الغيطان والحقول والترع والقنوات,وتجلب معها ما أمكن لها من سائغ حشائش الغلت والدنيبق والسعد وورد النيل وغيرها من تلك الحشائش التي كانت تعلن عن نفسها وعن تمردها حين تنبت بلامعين وبلا هدف في الحقول, إلا أن تقض مضاجع أولئك البؤساء من الفلاحين الذين كان يرهقهم تقصيها لاقتلاعها وإنقاذ زراعاتهم وملاذاتهم وحلمهم الوحيد في أقوات عامهم الآتي من خطرها وجرأتها0

00علي أن ظهور مثل تلك الحشائش الضارة النافعة كان مؤذنا بأرزاق وفرجات كروب لعيون مترقبة متأهبة لأولئك الذين لا ملاذ لهم من ضروريات أيامهم وحاجاتهم إلا بعملهم في الحقول لتنقيتها من تلك الآبقات من النباتات التي كانت تتحدي طموح نباتات الأرز والقمح والأذرة,وكأن هؤلاء البؤساء قد قضي لهم ألا يرتزقون إلا علي تلك المكروهات المؤلمات من الأعمال التي يستأجرون لتحريها واقتلاعها,وقد يذهب غيظ أولئك الفلاحين والأجراء من عمال وعاملات اليومية,رضوخ للمقدور وتمتع بشجي تلك الأحاديث الشائقة والقصص المؤلمة والآمال الآفلة والتنبيه الذكي بالحب والاهتمام الذي كان يتوامأ به شباب وشابات من بؤساء عمال اليومية حبن يتحينون غفلة رفقاء بؤسهم ,أو خولي العزبة أو صاحب الحقل ,لكم شهدت حقول الأرز والقمح فصول حب صادقة لاهبة بائسة وعذوبة كلمات ودفيئ عون ورحمة ورقيق ايماءات ,إبان اصطفاف أولئك الأنفار حسبما عرفهم الناس به وارتضوه لأنفسهم من وصف وتسمية وتصنيف, لمواجهة غائلة وعشوائية وتمرد وانفلات تلك النباتات التي لم يخل وجودها من فوائد, وأجواء مواجهتها من روعة,لكم أشعلت تلك النباتات الآبقة المتمردة لهيب حب وأحيت آمالا ,وأنشأت زيجات,وأبدعت أطفالا سرعان ما احتوتهم وابتلعتهم تلك الصفوف والحقول,ولطالما أفسحت أبواب رزق للبائسات الفقيرات العائزات,ومثل شركاء عوزهن وشقائهن كانت أم الأستاذ وأختاه يتلهفونها , ويتملقونها0

000عاد الأستاذ وما أدراك ما عودة الأستاذ, لقد كانت في مخيلة أمه وأختيه مؤذنة بانبلاج فجر وزوال هم وتفريج كرب وسعة رزق, وواعدة بغد ليس كمثله غد وأيام تنفض ركام سود لياليهن الماضيات البطيئات الثقيلات المحوجات المذلات, لقد توحد الأمل في نفس الأم الصابرة الساعية المقاتلة وبناتها اللواتي أعجزهن فقرهن وشحيح جمالهن وصرف عنهن عيون وقلوب شباب ما كانوا ليثقلوا كواهل أيامهم بتلك البائسات الفقيرات فأعرضوا عنهن إلي أتراب لهن حزن مالا أو قراريط من الطين أو جمالا أخذا, وتعلقت آمالهن بعودة الأستاذ الظافرة الواعدة المحلقة بهن إلي وضع جديد ومكانة منتظرة,ولطالما أفزعتهن مخافات الحسد المنتظر وموجبات الضغن الآتيات من أولئك الذين شاطروهم عوزهم وقهرهم وضعة أحوالهم أو من أولئك الذين استعملوهن في حقولهن من أثرياء القرية وسادتها الذين كان أولادهم أعجز من أن يجاروا الأستاذ ذكاء وتوثبا وعزما فتعثرت بهم دروبهم أمام شائك الامتحانات إلي أن أجهزت امتحانات الثانوية العامة الهائلة المهولة,علي من استمر يركض في مضمار سباقاتها منهم, وبقي الدمياطي فردا فذا تحرسه دعوات أم رءوم وأخوات حانيات مشفقات لم تنقطع أو تمل, وأشفقت عليهن وتحسست توجساتهن بعض نظيرات البؤس والحاجة اللواتي كان تفوق الأستاذ يبشرهن بثلمة في أبواب موصدة دونهن ودون آمالهن في دورة الأيام وتداولها بين الناس0

000عاد الدمياطي إلي قريته الغافية علي ضفاف النيل جنوب دمياط, تكلؤه آمال من لا آمال لهن وأحلام من لا أحلام لهن إلا به وفيه, لكن مستكنات ومخاوف وهواجس تغابي عنها ودأب علي تغافلها ردحا من زمنه وخفيت علي أولئك البؤساء, من مقبلات لياليه وأيامه, قد ولي زمان تغافله عنها,وانفلت عقال إسارها, فجحظت جلية متغلغلة في صدره ونفسه,لكنها سرعان ما ارتدت علي أعقابها لتعد عدتها لكرتها القادمة وصولتها الحاسمة, حين آب إلي عقله الذي آنس إلي وصف الشاعر لمقبلات الليالي الغامضات المنذرات بأنهن من الزمان حبالي مثقلات يلدن كل عجيبة ,لقد استوعبت نفسه ذلك فوعته ,وحسم عقله أمره متمترسا وراء تجاريب شخوص قرأ سيرها أو خالطها إبان سنوات عمره المنصرمة بالجامعة,سواء لأفذاذ أو لسفلة وإن توسدت تجربة أبي حيان التوحيدي نفسه واحتساها عقله حتي الثمالة عقله,و استقوي بها عزمه,لقد وعي تلك التجربة حين لم تفلح عبقرية التوحيدي في درء جوعه ودفع عوزه,وهاله مآل اعتزازه بنفسه,والقي باللائمة عليه إذ رآه مبالغا معتدا, وهزيلا متوددا مضطربا متملقا فما أغني عنه هذا ولا صان ماء كرامته ذاك,واطمأن رأي الدمياطي,إلي أن الأمر كان ينبغي ألا يجري علي ماجري عليه عند أبي حيان الذي بالغ في رأيه صعودا ُثم بالغ تدنيا,وعظم وقع مبالغته آبقا متمردا مغلظا ومستغلظا0

000 أيام سريعة جال خلالها الدمياطي في دروب قريته,واثق الخطي, مشرق الوجه, عالي الهامة,ماض قدما يخاله الظان أنه ما عاد إلي القرية علي حالته تلك إلا متدثرا بمال كثيرا كافأته به الجامعة تقديرا لعبقريته وتمكنه,ثم شاءت الأيام هازلة هازئة أن تبدد قليلا من قلقه وتوجسه منها فحملت له خطاب تعيينه مدرسا للفلسفة في المدرسة الثانوية الوحيدة بالمدينة المجاورة,لتشرق الآمال في نفوس أمه وأختيه, بعد أن تلقفت أيديهم جنيهاته راتبه الأول الإثني عشر,لكن تلك الآمال العراض سرعان ما تبخرت مع الحاجات الأولي اللازمة للأستاذ, وجاء ذلك الراتب الهذيل واعتاد المجيء تباشير كل شهر, فما ارتوت به غلة الحاجات الدائمات للدمياطي,وما جد علي أمه وأختيه إلا أن الأستاذ أمرهن أمرا لازما ملزما بألا يسرحن مع الأنفار حفاظا علي كرامته وصونا لكبريائه ومكانته, وما كن ينتزعنه من أجر,سد مسده بالكاد راتب الأستاذ الذي لا يكاد يسمن من هزال ولا يغني من فاقة, ويتواري خزيا ضئيلا حقيرا أمام غائلة حاجات لا ترعوي أو تمل0

000 أدرك الدمياطي أن أوان استيعاب تجاريبه واستخدامها لدفع ما ليس منه بد, والإجهاز علي واقعه الضروس قد آن, ووثبت شخصية التوحيدي وتجربته إلي الصدارة في نهجه المزمع الجديد ,وإن تنمرت لها وتأبطت بها شرا,أبيات كان صاحبها يوسف الشربيني صاحب كتاب (هز القحوف في شرح شادية أبي شادوف) أقرب مكانا وزمانا وحالا من الدمياطي ,ذلك أنه عاش في قرية شربين المجاورة القريبة في سنوات القرن السابع عشر الميلادي, في بيئة شبيهة قاتلة أجهزت علي أحلامه في الارتقاء والثراء بعد أن أجازه شيوخه في الجامع الأزهر فما أغني عنه علمه وما كسب, فبات أكثر صرامة وأوضح منهجا ,وأبين رؤية, وأحزم أمرا,من التوحيدي ,الذي ما فتئت تجربته موئلا أصيلا ومعينا وواعظا دائبا للدمياطي ولم يوغل فيها ذلك الا قليلا, وسجلت أبيات سافرت وقحة غير مواربة نهج الشربيني ومستقر رأيه, في سفره الموسوم بهز القحوف الذي يشي عنوان بحمله الدنيء , المتسفل, ذلك النهج وتلك الرؤية والمعالجة والأسلوب, حين قال لائما غيره ممن أخذت عليهم كرامته كل مأخذ, وظن أنها مانعته من الفاقة والذل فما زادته إلا ذلا وتضورا,وأوسعه لوم الشربيني,واستغباه واستجهله بقوله مزريا,لائما,واصفا, ناصحا:
كان والله تقيا صالحا 0000منصفا عدلا وما قط اتهم
كان لا يدري مداراة الورى 000ومداراة الورى أمر مهم

ثم استتبع ذلك بشرح منهجه متفاخرا وقحا مزريا باللائمين,غير آبه بأحد جل أو قل شأنه, وسجله شعرا جليا واضحا لا يحتمل تأويلا ولا يطيق لبسا حين قال:


فطورا تراني عالما ومدرسا 000وطورا تراني فاسقا فلفوسا


وطورا تراني في المزامر عاكفا000وطورا تراني سيدا ورئيسا


مظاهر انس إن تحققت سرها0000 تريك بدورا أقبلت وشموسا


000استدعي الدمياطي وعيه وحزم أمره وبادر إلي التصدي لواقعه المؤلم, وروع مآله الذي طالما استنفر لمواجهته ذاكرته ووعيه وذكائه, ,لقد بدأ طريقه للمواجهة حين جهد إلي ما أوغل فيه زملاء له في المدرسة من الدرس الخاص للتلاميذ وكانت لهم في دفعهم لطلب ذلك وإدراكه أساليب وفنون كثيرة متعددة مقنعة متهددة مستنزفة, وبات الرضوخ لها هما وبلاء وقدرا محتوما,لقد حاول الدمياطي فما أمكن له, ذلك أن الفلسفة علم ومادة غير ذات خطر لا تروع إلا بنادر مما يروع التلاميذ وآباءهم وذويهم من مدلهم الرياضيات والفيزياء والكيمياء وغير ذلك, فوئدت تجارته البائرة الكاسدة, وما أورثته الفلسفة وتضلعه فيها وعمره الذي أنفق أخطره في تحصيلها وإعلاء شانها ,إلا حسرة ولوعة وندم وفاقة وضئيل أهمية وساذج خطر0

000فجأ الأستاذ أمه وأختيه بأنه سوف يتقدم لخطبة زكية,فذعرت أمه ودهشت أختاه من تخيل زواج أخيهن ومعقد أملهن بتلك الفتاة التي جمعت إلي دمامتها وسوء خلقتها وخلقها جبروت أخوة لها,شاع بخلهم قرينا لثرائهم,وذاع توسدهم رديفا لاستغلالهم و بهظهم غيرهم, لقد كانوا ممن ذمهم القرآن وتهددهم بالويل والثبور وعظائم الأمور كونهم إذا كالوا علي الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون, وعلي هذا كانت اليوميات التي تقضيها أمه وشقيقاته وغيرهم في أرض أشقاء زكية الواسعة هما ثقيلا وألما فادحا, لا يلجئهم إليه إلا روع الجوع وغائلة الحاجة0
000أخبر الأستاذ أمه وأختيه أن ميراث زكية من أبيها سوف يكون خير شفيع لها إلي عقولهم وأسلك سبيلا إلي قلبه ثم قلوبهن,وأنه سوف يقتنص ذلك سهلا هنيئا مريئا ,فمثله لا يرد لمثلها التي فارقتها نضارة الشباب مع ما فارقها من سني العمر, ورضحت أمه وأختاه كارهين متوجسين,وان اعتادوا أن مقالة الأستاذ حتم لا يناقش ومقدور لا يرد0

000 توجه الدمياطي لأخوة زكية الذين استمهلوه متوجسين حذرين إلي أن يجتمعوا إلي كبيرهم الغائب, بعدما يئوب من المدينة, وحين جاءهم أجمعوا أمرهم سريعا أن الأستاذ ما جاءهم إلا طريد فاقته وضعة أهله,وصريع طمع,وأن عليهم أن يتثاقلوا قليلا حتى إذا اضطرم أمره وكاد ينفلت من شراك أعده لهم فقنصوه به, قبلوا طلبه متأففين كارهين متمانعين راغبين,مضمرين أن زواجها هم يزاح وعبئ يلقي,وكاهل يتخفف ولن يكلفهم الأمر شيئا,لأنهم سيتعللون عن تجهيز أختهم بما ينبغي علي أمثالهم وما يناسب ثرائهم, بالرغبة في عدم إحراج الأستاذ الذي لا يملك إلا غرفة يشاطر بها أمه وأختيه في بيتهم الهزيل, وسوف يتخففون من لومة عيون الصامتين , بتلك الأقفاص المغطاة بقماش أبيض المحمولة علي صهوة حميرهم المزدانة ببرادع من الصوف الثمين الذي لا يطيق ثمنه إلا أكابر القرية وأثريائها,الواعدة بعطاء من الطعام والفاكهة والحلوي ,حين يمخر موكبهم المعلن المتشدق بها عباب أزقة القرية ويتحسس مجالس أهلها ليقنعهم بكرم الأخوة ووفائهم لأبيهم الراحل وأختهم, فتخرس لذلك ألسنتهم وترعوي ظنونهم عن مقالات شائعة متواترة أن تلك الأسرة وغيرها من أثرياء القرية وخاصتها لا يورثون نساؤهم حتى لايئول ثرائهم وتراثهم إلي غريب من غيرهم0

000دارت الدائرة علي ما أضمر الجميع وسرعان ما شهدت ساحة منزل الأستاذ توأما يحبو ويكاد يجأر بشكواه من فاقة الأب وضن الأخوال ,وغير بعيد من هذا كله كانت جنيهات راتب الأستاذ تعلن انصرامها السريع مع أيام شهره الأولي,ولم يجد الدمياطي بدا من أن يتحسس أبواب رجال السياسة والإدارة والنفوذ والسلطان علهم يفيئون عليه ببعض مما أفاءه عليهم شياطين أفكارهم وانتهازيتهم وزورهم ونفاقهم, وترددت خطواته عليهم ثم اعتادته مجالسهم, ,لكن ما لم يغب عن خاطر أولئك الأبالسة هو غايات الدمياطي وخطورته,فأجمعوا أمرهم أن يتقبلوه ويفسحوا له موائدهم ومجالسهم وزائف اهتمامهم,علي أن يعلنوا ذلك ما أمكنهم للناس حتى يخلعوا عن الدمياطي كل ما يتوهم فقراء القرية والقرى والعزب المجاورة من مكانته ومهابته وتقدير لنبوغه وفصاحته ومنطقه وعلمه, فإذا ما نضوا عنه تلك الثياب تركوه عاريا ضائعا فاقدا لما قد يتهددهم من خطر عقله وذرب لسانه الذي بهت به ألباب من سمعه حينما كان يتصدي للحديث في الندوات أو يرتقي المنابر في الجمعات0
000 أجمعوا أمرهم وكان ذلك أسلوبا مجربا لديهم ونمطا معتادا لدرء خطر المتوثبين الأذكياء الطامحيين المتهددين الذين كان يغيب عنهم أن دون ذلك المرتقي الوعر مهارات وملكات وسبل لا يعرفها الدمياطي وأمثاله,وهم أغبي من أن يدركوها أو يتقنوها0

000بات الدمياطي منبتا لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقي,وقهره يأسه حينما صرعه إياب أمه وأختيه إلي العمل باليومية,ورفض رجال ومندوبي بعثات التعاقد مع المدرسين لبلدان الخليج حيث أحلام الثراء والرخاء,قائلين في ازورار عجيب, وإعراض غير آبه واستعلاء وشموخ وأنفة لا تحد(تخصصك غير مطلوب عندنا)00سارت الأيام بالدمياطي كئيبة مميتة قاتلة واشتد أورارها عليه ,فطفق يبحث ويألم فلم يجد كتبا له ليحرقها مثلما فعل التوحيدي,فاستسلم و تقاذفته الأيام مثلما تقاذفته الخطوب والآلام000وأترك لخيال قارئي العزيز ميدان التكهن بمصير الدمياطي ومآله فسيحا ثريا فطنا0

الأستاذ الدكتور عبد الحميد سليمان
الدمام القائظة اللاهبة/ فجر الأربعاء28من ابريل 2009م
رد مع اقتباس
  #8  
قديم 09/04/2009, 21h21
الصورة الرمزية عبد الحميد سليمان
عبد الحميد سليمان عبد الحميد سليمان غير متصل  
مواطن من سماعي
رقم العضوية:245929
 
تاريخ التسجيل: June 2008
الجنسية: مصرية
الإقامة: السعودية
المشاركات: 135
افتراضي الدكتور عبد الحميد سليمان ـ المجموعه القصصيه

أبو حيان الدمياطي


الجزء الأول

0000في سياحاته في بحار المعرفة, وأيام درسه الجامعي بكلية الآداب في جامعة القاهرة في ساحات مكتباتها وردهاتها وقاعاتها وشيوخها, وجد الدمياطي عجبا وأدرك جللا حين فجأه وراعه ذلك الفيلسوف المسلم الفذ,أبو حيان التوحيدي, ورويدا رويدا توسد منه أقطار نفسه واستبد بقلبه بعد أن سلب لبه واسترق عقله فشغله عن عداه ونهره عمن سواه, لقد بهره التوحيدي,عبقريا شامخا لا يعبأ بوزير أو أمير, ولا يكترث لمهيب أو جليل,طموحا,لا تثنيه كئود نجاد أو سحيق وهاد,فخورا يري لنفسه من السمو والتعاظم والعلو والمكنة مالا يراه فيه غيره, متعاليا لا ترغم أنفه لراغم وإن علا ولا لجبار وإن ذاع سؤدده,واستقر توسده 0

000انبهر الدمياطي بازدراء التوحيدي لعلماءُ وفلاسفة وكتاب ممن عرف فضلهم واتبعت خطاهم ,لكنهم عند التوحيدي لم يكونوا غير طلاب علم يجهدون فلا يدركون فيدعون ويتزلفون,وحين تعوزهم الحجة وتلجئهم الضرورة يستعينون علي عجزهم بالتملق والمداهنة والتصنع والتجاهل حينا والتعالم أحايين عددا ,ولايرعوون عن تصعير الخدود وتهيئة الأقفية وترويضها إذا اقتضت الحاجة أو استدعي الموقف ,الأمر الذي ينأي بنفسه عنه كل ذي نفس شامخة وباع طويل وعطاء وفير جزيل,,أما التوحيدي فقد أعجزه كبرياء نفسه وعبقرية عقله عن أن يتكيف مع واقع مريض ومجتمع سقيم تروج فيه بضاعة أدعياء العلم والمنافقين والمتوسلين والوضعاء ودناءة السوقة وتسفل السفلة,واجتهد ساعيا,باحثا عن مكانة وعلياء رأي نفسه أولي بهما وأجدر, فأجهده بحثه وخاب فأله ,وانكفأ أمله0

000 تأجج قلب أبي حيان حين اصطرعت حاجات نفسه مع كبريائه الذي وقف عقبة كأداء أمام طموحه ودأبه لتغيير واقعه المتدني وشح حالته وفاقته وازورار مجالس الوزراء والأمراء والوجهاء عنه, ومهيلا جالت حاجات نفسه الدنيا,الملحاحة القاسية جولتها وصالت صولتها , فشرعت قدماه تتحسس خطواتها الأولي بطيئة متثاقلة مترددة إلي تلك المجالس بعيد أن كبحت جماح تعاليه,وجنوح عقليته الفذة وأراقت كبرياءه المستكن الأصيل0

000كان التوحيدي لا يملك سبباً لرزقه وسبيلا لثرائه وانتزاع مكانته المهدرة الضائعة,سوي عبقرية الأديب وبحار من المعرفة خاض غمارها
وطابت له ريحها فامتاح ما وسعته قدرته من كنوزها وللآلئها ودرها، ,لقد أثخنته حاجاته فاضطر تحت وطأة الضرورة وغلظتها, إلي شيء من مداهنة أصحاب التوسد والنفوذ والثراء, سعيا لنوالهم وعطائهم, لكنه لم يدرك من ذلك شيئا مما كان يصبو إليه بعد أن أقصي أنفته ربيبة كبريائه, وأراق’مكرها,آملا ماءها ليفسح ساحات نفسه أمام مقتضيات الحاجة المذلة , لكن تلك النفس الهادرة سرعان ما استعرت نارها واندفعت حمم بركانها, حين أيقنت أن بحار التدني لا تدرك,ومعين فنونها وصورها لا ينضب ,وأغوارها لا تسبر, ونهم سادتها لا يشبع ,بعد أن أغراهم بذلك امتطائهم الآمن المستقر لظهور الذين خبروا عباب الذل وطابت لأشرعتهم ريحها,واستكنت نفوسهم واطمأنت لها وبها, فانتفضت نفسه, برمة ناقمة ثائرة ساخطة, فاستغربته مجالس النفاق ثم لفظته,فتقاذفته أقدام وأحذية المتنفذين ونبذته ساحات المتوسدين إلي العراء وهو سقيم, ,فأوسعته سخرية الساخرين من المستمرئين ,الراقصين, اللاعبين علي كل الحبال,الآكلين علي كل مائدة , الموطئين أكنافهم عن ذلة لازمة ملازمة ووضاعة متأصلة ,اللاعقين لكل حذاء,الذين حسدتهم تلك الأحذية ونفست عليهم انتزاعهم لدورها واستئثارهم بمكانتها ومواضعها, فاستعرت بدورها غيرة وحقدا وغلا, جراء ما لا يباري من مرونتهم ونعومتهم وطاعتهم واستخذائهم,واستنفرت قوتها واستنهضت غلظتها حين كان ممتطوها يوسعون بها أدبارهم ووجوههم ,وأمعنت فيهم حانقة غائلة ,لكنها ارتدت كسيفة خزية حسيرة’, أمام ظاهر رضاءهم ودائم استعدادهم وزائف ابتساماتهم0

000لقد صرع بخل البخلاء ونفاق المنافقين وسخائم الحاسدين, أحلام التوحيدي وحاجاته,فزاده ذلك ضراما إلي ضرام وإباقا إلي إباق, وما إن لفظته ساحاتهم حتى انبري يذم فعالهم ويلمز أخلاقهم ويهزأ بسلطانهم ويستقصي عوراتهم ويقتفي زلاتهم ونقائصهم ويهتك أسرارهم ويستبيح مستكنات نقائصه0

000أوغل التوحيدي ففعل بهم الأفاعيل وأهدر كراماتهم واقتص من تعاظمهم,وظن أنه ناج بذلك, لكنهم لم يكفهم أن أنشبوا فيه مخالب إعراضهم, فتهدده ماحق خطرهم, وأدرك عارفوا قدره فداحة ما ينتظره,وهول ما يتلمظ له من شر وكيد ,فآثر فطناؤهم السلامة , فأعرضوا عنه,ونأت عنه ساحاتهم ووجوههم ,واستبق أراذلهم إلي كيده تزلفا وتوددا, وأشفق عليه من اكتوي بمثل ما اكتوي به,لكنه اصطبر علي ذلك فأضمر غيظه,ووأد حنقه,وصرع تمرده ,لكنه اعتبر حنق التوحيدي وغضبه وثورته وتمرده صرخة لأمثاله من المظلومين وبوح بأنات المكلومين,

000مضي التوحيدي طريدا وحيدا منبوذا جائعا,لا يدري أذكي أريب هو أم غبي مغرور؟ واشتعلت نفسه واتقدت مستكناته فصبت لظاها علي أروع ما فاضت به عبقريته وجادت به قريحته من ذخائر مؤلفاته فأشعل فيها النار ضنا بها أن ينالها ويفيد منها ,مجتمعات وأقوام لم ير منها إلا آيات الجهل والازورار والإعراض والاحتقار والإذلال ,وأفلت من هول ذلك المصير بعض مما ازدانت به القريحة العربية وتباهت واستطالت به الحضارة الإسلامية كالإمتاع والمؤانسة والهوامل والشوامل وغيرها ,لتترك مأساة التوحيدي وكل توحيدي جذعة متقدة دائمة لاتريم,وحشا لا فكاك من أنيابه ومخالبه,وداءُ عضال لا برء منه ولا شفاء,وسوسا ينخر فلا يشبع ولا يقنع في عقل الأمة وروحها وهيكلها رغم اختلاف الأماكن وتبدل الوجوه وانصرام الأيام وفيض الدروس والعبر وافتضاح الخلل وعموم الزلل0

000لم يفت ذلك في نفس الدمياطي ولم يوهن حبه وإعجابه بأبي حيان التوحيدى ولم يألو صعلوك العرب وثائرها الأشهر عروة بن الورد جهدا في عون التوحيدي, وإبقائه علي مكانه ومكانته في نفس الدمياطي,وكان لعروة دالة ومنزلة لا تنافس في قلبي التوحيدي والدمياطي, الذين جمعهما إعجاب لا يحد بابن الورد حين صرف نفسه وجهده ولم يدخر وسعه وأنفق عمره,علي الإقتصاص للمغبونين المظلومين من ظالميهم ومستغليهم وانتزاع ما أمكن له من أموالهم وعروضهم وأمنهم ,ليعيدها إلي مستحقيها وأهلها,وعلي ذلك ذاع شعره الذي ناء بثقل نقمته وسخطه علي مجتمعه وبيئته وأدرانهما فغدا شاعرا فذا وصعلوكا فريدا في تاريخ شعراء العربية ومتمرديها عبر تاريخها الطويل ,لقد أ’خذ الدمياطي مثلما أ’خذ التوحيدي بعروة الناقم الثائر الهازئ وهو يقول:


ذريني للغنى أسعى فإني000 رأيت الناس شرُّهم الفقير‏


وأبعدهم وأهونهم عليهم0000 وإن أمسى له كرمُ وخِير‏


ويُقْصيه النديُّ وتزدريه 00000حليلته وينهرُه الصغير‏


وتَلقى ذا الغنى له جلال00000 يكادُ فؤادُ صاحبه يطير‏


قليلٌ ذنبه والذنب جَمٌّ 000000ولكنّ للغنى ربّ غفور


000لم يألو عروة جهده فألف بين قلبي وعقلي الرجلين, شريكي بؤسه وعوزه,ورفيقي تمرده وحنقه, فتوحدا به ومعه في الرأي والرؤية,وجمعهم الموقف والمسلك والثورة علي نكد الدنيا وتسيد الأراذل وانزواء العباقرة الشوامخ,وزاد يقين الدمياطي بما ذهب إليه عقله واطمأنت نفسه من نهج ,حين أبصر جوهر الإسلام ونصاعة رؤيته وسمو فكرته حيث لا يتمايز الناس بانتماء ولا محتد ولا عرق وإنما يتمايزون بتقواهم ودورهم فلا عنصرية مقيته ولا استعلاء أصم أجوف ,بهره توسد بلال وأبو ذر وخباب بن الأرت وصهيب الرومي وعمار بن ياسر في قلوب وعقول الرسول والمسلمين مثلما توسد أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام وسعد بن معاذ ,وهو ما لم يدرك قليله أثرياء قريش وسادتها ,ومثلما راع زمن الرخاء العباسي أبا حيان التوحيدي ,ارتاع من قبله عروة ابن الورد زمن الجاهلية ,راعت الدمياطي سبعينات القرن المنصرم روعا بقيت أسبابه شامخة حاسرة,جاسرة, وقحة,لا ينال منها نائل ولا تكترث لطائل من فكر أو طرح ولا تتغير أو تتبدل وإنما تسرف في غيها ونزقها, فمريدوها دائما كثر وفاهموها والسالكون طريقها يزيدون ولا ينقصون ويدأبون لديدنهم ومذهبهم ولغتهم ولا يرعوون ولا تستثيرهم أو تنغص أفكارهم وقلوبهم قيمة ,ولا تنكأ ضمائرهم شرعة مهما كانت أو منهجا وإن علا,فبدا التدني والتزلف والتملق والتنكر والجحود والذاتية المفرطة القاصرة المتنكرة ,والتعالي الذي إلا إلي إجادة الإنحاء والاستخذاء, والرضي واستحباب الإمتطاء,ومنافسة الأحذية,لقد أصبح ذلك كله ثقافة مجتمع وسمات جمهرة شخوص الوطن0

000في ساحات آداب القاهرة ,تواترت تساؤلات الدمياطي وحواراته مع أساتذته وزملائه عن أبي حيان التوحيدي,وذاع بينهم نزوعه السافر إليه واقتفاؤه أثره وتمنطقه بمنهجه ,وباحت فأفصحت إيماءاته إليه واحتجاجاته بأقواله ,حتي لقبه بأبي حيان الدمياطي, أحد أساتذته ممن أكثر لجاجتهم وأسرف في جدالهم انتصارا لشخص التوحيدي وثقافته ورؤيته, فشاع ذلك بين أساتذته وأشياخه ورفاقه وزملاؤه ورضيت به نفسه, فاستقرت تلك التسمية في العقول واعتادتها الألسنة,ومثلما كان التوحيدي، الذي لم يكن يملك سوى أدبه وعلمه, غاضباً علي عصره، ساخطاً على أهله ,ناقماً على واقع فاسد يعلي المنافق ويزري بالشريف,حتي لو كان عبقريا فذا, كان الدمياطي يسير علي درب رفيقه ونهجه,فلا يكاد يبرحه, لقد غدا ثورة مستعرة ، وتمردا لا يريم.

000ذهل ابو حيان الدمياطي حين صدمته نهاية التوحيدي وما ساقه تبريرا لحرقه نفائسه حين قال (كيف أتركها لأناس جاورتهم عشرين عاماً فما صح لي من أحجهم وداد، ولا ظهر لي من إنسان منهم حفاظ. لقد اضطررت بينهم بعد العشرة والمعرفة في أوقات كثيرة، إلى أكل الخضر في الصحراء، وإلى التكفف الفاضح عند الخاصة، والعامة، وإلى مالا يحسن بالحر أن يرسمه بالقلم ويطرح في قلب صاحبه الألم).

000علي أن الدمياطي الذي رأي مآل صاحبيه وعاقبة أمرهما التي كانت خسرا وضيعة, أوعزت له نفسه ووقر في قلبه واستقر في عقله أن رفيقيه قد تكلفا عمرهما ولم تفلح عبقريتيهما وهمتيهما وعلو نفستيهما في قضاء حاجات حياتيهما والرقي بهما إلي ما يرونه جديرا بهما وأولي لهما من المكانة والتوسد والثراء والرفعة ,وراعه مصيرهما بعد أن أشفق علي ولوجوهما ديارا غير مرحبة ولا آبهة لهما أوبهما,فعل ذلك بنفس وعقل أبي حيان الدمياطي الأفاعيل وخيل له غرور عقله ومرونة لازمة مسعفة ملبية نداء حاجته ومقتضيات شدائده ,وتأقلم مع واقعه ,ربي ودرب عليهم, أنهما كان عليهما أن يدورا مثلما دار الناس وأن مآلهما وليد عجز عن فهم وقلة حيلة وانغلاق عقل وبطيئ فكر, واستقرت رؤيته واطمأنت نفسه إلي ما ذهبت إليه وانتوي أمورا ومنهجا في مقبلات أيامه يثبت لنفسه فيه أنه أحصف عقلا وأسع خبرة وأكثر دربة وأقدر مهارة,ليصل إلي ما تطمح إليه نفسه من توسد وتمكن وغني ,وبعد ذلك فلتذهب الأكمة وما وراءها إلي الجحيم0 --الي القاء مع الجزء الثاني
رد مع اقتباس
  #9  
قديم 29/04/2009, 04h47
الصورة الرمزية عبد الحميد سليمان
عبد الحميد سليمان عبد الحميد سليمان غير متصل  
مواطن من سماعي
رقم العضوية:245929
 
تاريخ التسجيل: June 2008
الجنسية: مصرية
الإقامة: السعودية
المشاركات: 135
افتراضي ابو حيان الدمياطي ج2: الي شباب المنتدي وادبائه العمري ورائد وغيرهم

00أقفرت أيام الدرس الجامعي وغاض ماؤها العذب,وولت بحبوحتها ورحابتها بعدما كان أبو حيان الدمياطي يتحري توليها ويتحرق شوقا إلي انتهائها ,لقد جهد جهده للتغافل عن غائلة أيامه القادمة في قريته التي درج فيه وأحبته دروبها وحاراتها ومصاطبها وخبرته حقولها وأجرانها وأشجار توتها وترعها وسواقيها ,وأنكرت عليه ذكاءه وتوثبه وطموحه قليل بيوتها وشوارعها, وازدرته قلوب وعيون بعض أهلها0

000في قريته تلك كانت تنتظر أمه وأختاه ويتلهفون ويترقبون عودة الأستاذ من القاهرة تزينه أكاليل غار النجاح والتخرج وتحدوه آمال عراض لتلك الأسرة البائسة في واسع عطاءه المرتقب ونواله المرتجي وتوسده المنتظر ,عاد الأستاذ كما كن ينادينه منذ صغره حين تعلقت آمالهن في الانعتاق به من قيود الحاجة وذل الفاقة والعوز والضعة, ولم يجل بخاطره ولا خاطرهن ديمومة أيام انكفائهن علي ضني حاجاتهن وقليل أرزاقهن وهول عوزهن واقتطاعهن ما أمكن لهم من شحيح ذلك وعسيره لمد الأستاذ في غربته بالقاهرة بجنيهات,مؤلمات,قليلات شحيحات,نادرات,بطيئات عزيزات المنال,مكلؤة بمطويات خبز وقليل بيض وأرز, ونادرا ما تكللت تلك الزوادات بذكر من البط ما انفكت أمه عن دس الأذرة في فمه والتنقيب له عن طعامه العزيز المسمن من جوع من تلك القواقع والطحالب التي كانت تتحراها فتفجأها في مكامنها وجحورها علي جسور الغيطان والحقول والترع والقنوات,وتجلب معها ما أمكن لها من سائغ حشائش الغلت والدنيبق والسعد وورد النيل وغيرها من تلك الحشائش التي كانت تعلن عن نفسها وعن تمردها حين تنبت بلامعين وبلا هدف في الحقول, إلا أن تقض مضاجع أولئك البؤساء من الفلاحين الذين كان يرهقهم تقصيها لاقتلاعها وإنقاذ زراعاتهم وملاذاتهم وحلمهم الوحيد في أقوات عامهم الآتي من خطرها وجرأتها0

00علي أن ظهور مثل تلك الحشائش الضارة النافعة كان مؤذنا بأرزاق وفرجات كروب لعيون مترقبة متأهبة لأولئك الذين لا ملاذ لهم من ضروريات أيامهم وحاجاتهم إلا بعملهم في الحقول لتنقيتها من تلك الآبقات من النباتات التي كانت تتحدي طموح نباتات الأرز والقمح والأذرة,وكأن هؤلاء البؤساء قد قضي لهم ألا يرتزقون إلا علي تلك المكروهات المؤلمات من الأعمال التي يستأجرون لتحريها واقتلاعها,وقد يذهب غيظ أولئك الفلاحين والأجراء من عمال وعاملات اليومية,رضوخ للمقدور وتمتع بشجي تلك الأحاديث الشائقة والقصص المؤلمة والآمال الآفلة والتنبيه الذكي بالحب والاهتمام الذي كان يتوامأ به شباب وشابات من بؤساء عمال اليومية حبن يتحينون غفلة رفقاء بؤسهم ,أو خولي العزبة أو صاحب الحقل ,لكم شهدت حقول الأرز والقمح فصول حب صادقة لاهبة بائسة وعذوبة كلمات ودفيئ عون ورحمة ورقيق ايماءات ,إبان اصطفاف أولئك الأنفار حسبما عرفهم الناس به وارتضوه لأنفسهم من وصف وتسمية وتصنيف, لمواجهة غائلة وعشوائية وتمرد وانفلات تلك النباتات التي لم يخل وجودها من فوائد, وأجواء مواجهتها من روعة,لكم أشعلت تلك النباتات الآبقة المتمردة لهيب حب وأحيت آمالا ,وأنشأت زيجات,وأبدعت أطفالا سرعان ما احتوتهم وابتلعتهم تلك الصفوف والحقول,ولطالما أفسحت أبواب رزق للبائسات الفقيرات العائزات,ومثل شركاء عوزهن وشقائهن كانت أم الأستاذ وأختاه يتلهفونها , ويتملقونها0

000عاد الأستاذ وما أدراك ما عودة الأستاذ, لقد كانت في مخيلة أمه وأختيه مؤذنة بانبلاج فجر وزوال هم وتفريج كرب وسعة رزق, وواعدة بغد ليس كمثله غد وأيام تنفض ركام سود لياليهن الماضيات البطيئات الثقيلات المحوجات المذلات, لقد توحد الأمل في نفس الأم الصابرة الساعية المقاتلة وبناتها اللواتي أعجزهن فقرهن وشحيح جمالهن وصرف عنهن عيون وقلوب شباب ما كانوا ليثقلوا كواهل أيامهم بتلك البائسات الفقيرات فأعرضوا عنهن إلي أتراب لهن حزن مالا أو قراريط من الطين أو جمالا أخذا, وتعلقت آمالهن بعودة الأستاذ الظافرة الواعدة المحلقة بهن إلي وضع جديد ومكانة منتظرة,ولطالما أفزعتهن مخافات الحسد المنتظر وموجبات الضغن الآتيات من أولئك الذين شاطروهم عوزهم وقهرهم وضعة أحوالهم أو من أولئك الذين استعملوهن في حقولهن من أثرياء القرية وسادتها الذين كان أولادهم أعجز من أن يجاروا الأستاذ ذكاء وتوثبا وعزما فتعثرت بهم دروبهم أمام شائك الامتحانات إلي أن أجهزت امتحانات الثانوية العامة الهائلة المهولة,علي من استمر يركض في مضمار سباقاتها منهم, وبقي الدمياطي فردا فذا تحرسه دعوات أم رءوم وأخوات حانيات مشفقات لم تنقطع أو تمل, وأشفقت عليهن وتحسست توجساتهن بعض نظيرات البؤس والحاجة اللواتي كان تفوق الأستاذ يبشرهن بثلمة في أبواب موصدة دونهن ودون آمالهن في دورة الأيام وتداولها بين الناس0

000عاد الدمياطي إلي قريته الغافية علي ضفاف النيل جنوب دمياط, تكلؤه آمال من لا آمال لهن وأحلام من لا أحلام لهن إلا به وفيه, لكن مستكنات ومخاوف وهواجس تغابي عنها ودأب علي تغافلها ردحا من زمنه وخفيت علي أولئك البؤساء, من مقبلات لياليه وأيامه, قد ولي زمان تغافله عنها,وانفلت عقال إسارها, فجحظت جلية متغلغلة في صدره ونفسه,لكنها سرعان ما ارتدت علي أعقابها لتعد عدتها لكرتها القادمة وصولتها الحاسمة, حين آب إلي عقله الذي آنس إلي وصف الشاعر لمقبلات الليالي الغامضات المنذرات بأنهن من الزمان حبالي مثقلات يلدن كل عجيبة ,لقد استوعبت نفسه ذلك فوعته ,وحسم عقله أمره متمترسا وراء تجاريب شخوص قرأ سيرها أو خالطها إبان سنوات عمره المنصرمة بالجامعة,سواء لأفذاذ أو لسفلة وإن توسدت تجربة أبي حيان التوحيدي نفسه واحتساها عقله حتي الثمالة عقله,و استقوي بها عزمه,لقد وعي تلك التجربة حين لم تفلح عبقرية التوحيدي في درء جوعه ودفع عوزه,وهاله مآل اعتزازه بنفسه,والقي باللائمة عليه إذ رآه مبالغا معتدا, وهزيلا متوددا مضطربا متملقا فما أغني عنه هذا ولا صان ماء كرامته ذاك,واطمأن رأي الدمياطي,إلي أن الأمر كان ينبغي ألا يجري علي ماجري عليه عند أبي حيان الذي بالغ في رأيه صعودا ُثم بالغ تدنيا,وعظم وقع مبالغته آبقا متمردا مغلظا ومستغلظا0

000 أيام سريعة جال خلالها الدمياطي في دروب قريته,واثق الخطي, مشرق الوجه, عالي الهامة,ماض قدما يخاله الظان أنه ما عاد إلي القرية علي حالته تلك إلا متدثرا بمال كثيرا كافأته به الجامعة تقديرا لعبقريته وتمكنه,ثم شاءت الأيام هازلة هازئة أن تبدد قليلا من قلقه وتوجسه منها فحملت له خطاب تعيينه مدرسا للفلسفة في المدرسة الثانوية الوحيدة بالمدينة المجاورة,لتشرق الآمال في نفوس أمه وأختيه, بعد أن تلقفت أيديهم جنيهاته راتبه الأول الإثني عشر,لكن تلك الآمال العراض سرعان ما تبخرت مع الحاجات الأولي اللازمة للأستاذ, وجاء ذلك الراتب الهذيل واعتاد المجيء تباشير كل شهر, فما ارتوت به غلة الحاجات الدائمات للدمياطي,وما جد علي أمه وأختيه إلا أن الأستاذ أمرهن أمرا لازما ملزما بألا يسرحن مع الأنفار حفاظا علي كرامته وصونا لكبريائه ومكانته, وما كن ينتزعنه من أجر,سد مسده بالكاد راتب الأستاذ الذي لا يكاد يسمن من هزال ولا يغني من فاقة, ويتواري خزيا ضئيلا حقيرا أمام غائلة حاجات لا ترعوي أو تمل0

000 أدرك الدمياطي أن أوان استيعاب تجاريبه واستخدامها لدفع ما ليس منه بد, والإجهاز علي واقعه الضروس قد آن, ووثبت شخصية التوحيدي وتجربته إلي الصدارة في نهجه المزمع الجديد ,وإن تنمرت لها وتأبطت بها شرا,أبيات كان صاحبها يوسف الشربيني صاحب كتاب (هز القحوف في شرح شادية أبي شادوف) أقرب مكانا وزمانا وحالا من الدمياطي ,ذلك أنه عاش في قرية شربين المجاورة القريبة في سنوات القرن السابع عشر الميلادي, في بيئة شبيهة قاتلة أجهزت علي أحلامه في الارتقاء والثراء بعد أن أجازه شيوخه في الجامع الأزهر فما أغني عنه علمه وما كسب, فبات أكثر صرامة وأوضح منهجا ,وأبين رؤية, وأحزم أمرا,من التوحيدي ,الذي ما فتئت تجربته موئلا أصيلا ومعينا وواعظا دائبا للدمياطي ولم يوغل فيها ذلك الا قليلا, وسجلت أبيات سافرت وقحة غير مواربة نهج الشربيني ومستقر رأيه, في سفره الموسوم بهز القحوف الذي يشي عنوان بحمله الدنيء , المتسفل, ذلك النهج وتلك الرؤية والمعالجة والأسلوب, حين قال لائما غيره ممن أخذت عليهم كرامته كل مأخذ, وظن أنها مانعته من الفاقة والذل فما زادته إلا ذلا وتضورا,وأوسعه لوم الشربيني,واستغباه واستجهله بقوله مزريا,لائما,واصفا, ناصحا:
كان والله تقيا صالحا 0000منصفا عدلا وما قط اتهم
كان لا يدري مداراة الورى 000ومداراة الورى أمر مهم

ثم استتبع ذلك بشرح منهجه متفاخرا وقحا مزريا باللائمين,غير آبه بأحد جل أو قل شأنه, وسجله شعرا جليا واضحا لا يحتمل تأويلا ولا يطيق لبسا حين قال:


فطورا تراني عالما ومدرسا 000وطورا تراني فاسقا فلفوسا


وطورا تراني في المزامر عاكفا000وطورا تراني سيدا ورئيسا


مظاهر انس إن تحققت سرها0000 تريك بدورا أقبلت وشموسا


000استدعي الدمياطي وعيه وحزم أمره وبادر إلي التصدي لواقعه المؤلم, وروع مآله الذي طالما استنفر لمواجهته ذاكرته ووعيه وذكائه, ,لقد بدأ طريقه للمواجهة حين جهد إلي ما أوغل فيه زملاء له في المدرسة من الدرس الخاص للتلاميذ وكانت لهم في دفعهم لطلب ذلك وإدراكه أساليب وفنون كثيرة متعددة مقنعة متهددة مستنزفة, وبات الرضوخ لها هما وبلاء وقدرا محتوما,لقد حاول الدمياطي فما أمكن له, ذلك أن الفلسفة علم ومادة غير ذات خطر لا تروع إلا بنادر مما يروع التلاميذ وآباءهم وذويهم من مدلهم الرياضيات والفيزياء والكيمياء وغير ذلك, فوئدت تجارته البائرة الكاسدة, وما أورثته الفلسفة وتضلعه فيها وعمره الذي أنفق أخطره في تحصيلها وإعلاء شانها ,إلا حسرة ولوعة وندم وفاقة وضئيل أهمية وساذج خطر0

000فجأ الأستاذ أمه وأختيه بأنه سوف يتقدم لخطبة زكية,فذعرت أمه ودهشت أختاه من تخيل زواج أخيهن ومعقد أملهن بتلك الفتاة التي جمعت إلي دمامتها وسوء خلقتها وخلقها جبروت أخوة لها,شاع بخلهم قرينا لثرائهم,وذاع توسدهم رديفا لاستغلالهم و بهظهم غيرهم, لقد كانوا ممن ذمهم القرآن وتهددهم بالويل والثبور وعظائم الأمور كونهم إذا كالوا علي الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون, وعلي هذا كانت اليوميات التي تقضيها أمه وشقيقاته وغيرهم في أرض أشقاء زكية الواسعة هما ثقيلا وألما فادحا, لا يلجئهم إليه إلا روع الجوع وغائلة الحاجة0
000أخبر الأستاذ أمه وأختيه أن ميراث زكية من أبيها سوف يكون خير شفيع لها إلي عقولهم وأسلك سبيلا إلي قلبه ثم قلوبهن,وأنه سوف يقتنص ذلك سهلا هنيئا مريئا ,فمثله لا يرد لمثلها التي فارقتها نضارة الشباب مع ما فارقها من سني العمر, ورضحت أمه وأختاه كارهين متوجسين,وان اعتادوا أن مقالة الأستاذ حتم لا يناقش ومقدور لا يرد0

000 توجه الدمياطي لأخوة زكية الذين استمهلوه متوجسين حذرين إلي أن يجتمعوا إلي كبيرهم الغائب, بعدما يئوب من المدينة, وحين جاءهم أجمعوا أمرهم سريعا أن الأستاذ ما جاءهم إلا طريد فاقته وضعة أهله,وصريع طمع,وأن عليهم أن يتثاقلوا قليلا حتى إذا اضطرم أمره وكاد ينفلت من شراك أعده لهم فقنصوه به, قبلوا طلبه متأففين كارهين متمانعين راغبين,مضمرين أن زواجها هم يزاح وعبئ يلقي,وكاهل يتخفف ولن يكلفهم الأمر شيئا,لأنهم سيتعللون عن تجهيز أختهم بما ينبغي علي أمثالهم وما يناسب ثرائهم, بالرغبة في عدم إحراج الأستاذ الذي لا يملك إلا غرفة يشاطر بها أمه وأختيه في بيتهم الهزيل, وسوف يتخففون من لومة عيون الصامتين , بتلك الأقفاص المغطاة بقماش أبيض المحمولة علي صهوة حميرهم المزدانة ببرادع من الصوف الثمين الذي لا يطيق ثمنه إلا أكابر القرية وأثريائها,الواعدة بعطاء من الطعام والفاكهة والحلوي ,حين يمخر موكبهم المعلن المتشدق بها عباب أزقة القرية ويتحسس مجالس أهلها ليقنعهم بكرم الأخوة ووفائهم لأبيهم الراحل وأختهم, فتخرس لذلك ألسنتهم وترعوي ظنونهم عن مقالات شائعة متواترة أن تلك الأسرة وغيرها من أثرياء القرية وخاصتها لا يورثون نساؤهم حتى لايئول ثرائهم وتراثهم إلي غريب من غيرهم0

000دارت الدائرة علي ما أضمر الجميع وسرعان ما شهدت ساحة منزل الأستاذ توأما يحبو ويكاد يجأر بشكواه من فاقة الأب وضن الأخوال ,وغير بعيد من هذا كله كانت جنيهات راتب الأستاذ تعلن انصرامها السريع مع أيام شهره الأولي,ولم يجد الدمياطي بدا من أن يتحسس أبواب رجال السياسة والإدارة والنفوذ والسلطان علهم يفيئون عليه ببعض مما أفاءه عليهم شياطين أفكارهم وانتهازيتهم وزورهم ونفاقهم, وترددت خطواته عليهم ثم اعتادته مجالسهم, ,لكن ما لم يغب عن خاطر أولئك الأبالسة هو غايات الدمياطي وخطورته,فأجمعوا أمرهم أن يتقبلوه ويفسحوا له موائدهم ومجالسهم وزائف اهتمامهم,علي أن يعلنوا ذلك ما أمكنهم للناس حتى يخلعوا عن الدمياطي كل ما يتوهم فقراء القرية والقرى والعزب المجاورة من مكانته ومهابته وتقدير لنبوغه وفصاحته ومنطقه وعلمه, فإذا ما نضوا عنه تلك الثياب تركوه عاريا ضائعا فاقدا لما قد يتهددهم من خطر عقله وذرب لسانه الذي بهت به ألباب من سمعه حينما كان يتصدي للحديث في الندوات أو يرتقي المنابر في الجمعات0
000 أجمعوا أمرهم وكان ذلك أسلوبا مجربا لديهم ونمطا معتادا لدرء خطر المتوثبين الأذكياء الطامحيين المتهددين الذين كان يغيب عنهم أن دون ذلك المرتقي الوعر مهارات وملكات وسبل لا يعرفها الدمياطي وأمثاله,وهم أغبي من أن يدركوها أو يتقنوها0

000بات الدمياطي منبتا لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقي,وقهره يأسه حينما صرعه إياب أمه وأختيه إلي العمل باليومية,ورفض رجال ومندوبي بعثات التعاقد مع المدرسين لبلدان الخليج حيث أحلام الثراء والرخاء,قائلين في ازورار عجيب, وإعراض غير آبه واستعلاء وشموخ وأنفة لا تحد(تخصصك غير مطلوب عندنا)00سارت الأيام بالدمياطي كئيبة مميتة قاتلة واشتد أورارها عليه ,فطفق يبحث ويألم فلم يجد كتبا له ليحرقها مثلما فعل التوحيدي,فاستسلم و تقاذفته الأيام مثلما تقاذفته الخطوب والآلام000وأترك لخيال قارئي العزيز ميدان التكهن بمصير الدمياطي ومآله فسيحا ثريا فطنا0

الأستاذ الدكتور عبد الحميد سليمان
الدمام القائظة اللاهبة/ فجر الأربعاء28من ابريل 2009م
رد مع اقتباس
  #10  
قديم 23/03/2009, 21h04
الصورة الرمزية عبد الحميد سليمان
عبد الحميد سليمان عبد الحميد سليمان غير متصل  
مواطن من سماعي
رقم العضوية:245929
 
تاريخ التسجيل: June 2008
الجنسية: مصرية
الإقامة: السعودية
المشاركات: 135
افتراضي الدكتور عبد الحميد سليمان ـ المجموعه القصصيه

المرسى

مسرعاً إلى حديقة منزلى ، مجتهدا فى تسميدها وريها والعناية بها على ضآلة حجمها وساذج خطري وخطرها ، أرقبه من حيث لا يرانى وأستكنه دخائله ومستكناته دون جدوى . عفيف النفس مترفعا حين يكون الترفع لمثله انتحارا وخطبا جليلا ، إن حمل إليه أحد أولادى كوبا يتيما من الشاى رأى فى ذلك عبئا واهتماما لا داعى لهما ، وتشى نظراته الخجولة المستكينة إلى الأرض بصدقه ، وبدا الأمر أدهى وأمر, ساعة أن لوحت له بقليل من زاد أو طعام يومها تبدت سافرة آيات الألم المكبوت وسورة الغضب الدفين حين شغلت به وأرقت لرقة حاله وكثير عياله وكبريائه فأوعزت إليه أن بعضا من حبوب وزيوت قد تركتها له خلف باب المنزل فاندفع يسبقنى بها إلى باب شقتي وألقى بها شاكرا داعيا وانطلق لا يلوى على شيء كأنما يطارده هول عظيم .

. . .شائع لدي سواد الناس أن الأنفة وليدة المال وربيبة السطوة والدور والمكانة ولكنها فى المرسى لا سند لها ولا ظهير فالعوز والبؤس والمرض وشحة الأهل وندرة النصير تصطرع على جسد منهك وروح مترعة بالألم والوحدة ,وبعيدا عن أشلاء تلك المعركة تنأى الأنفة فلا ينازعها فى نفسه منازع ولا يغيض لها فى قلبه بئر ولا في ضميره معين، وحينما حل ميعاد أجر هزيل أدهشتنى ضآلته وسذاجته حينما سألته عما يريده لقاء تلك المهمة التى كان يختلف إليها عصر كل يوم ولا يتقاعس عنها ولا يضطرب له موعدها ، سولت لى نفسى أن أزيد ذلك الأجر لقليل خطر تلك الزيادة على جيبى واستقرار حالى ، ولفضول ملح فى نفسى يجهد لاختبار الرجل وهاجسا يتشكك فى تلك الأنفة ويود أن يبتلى صدقها ومعدنها0
إن مما لا مراء فيه أن للمال سطوته وسلطانه على نفوس تركع له ولأهله وتتبذل وتترخص دون أن يمنعها أو يردها بعض من حياء أو قليل من كبرياء أو ما قد تكنز من مال وما تحوز من سلطان ، فما البال بالمتضورين جوعا وفقرا والرازحين مرضا وألما وبؤسا لا يكترث بهم مكترث ولا يتحسب لإنسانيتهم متحسب ولا يتوجس لغضبتهم متوجس .


كأن الرجل قد قرأ ما وسوست به نفسى وما تشوف له ظني وأسعفه إلى ذلك حساسية زائدة وكبرياء أصيلة أوغلتا فى نفسه إيغالا لا يزعزعه مزعزع ولا يهوله خطب ولا يغويه إغواء ، وفى انكسار ورقة وبلا تلهف عد النقود ثم أخذ ما ارتضيناه آنفا من أجر وقبله ثلاثا ثم رفعه إلى رأسه ورد ما زاد عنه إلي جيبي دون أن يبدو على قسماته أدنى درجات التلجلج أو التردد أو المراجعة أو التصنع أ و الادعاء 0

. . (بارك الله لك فى مالك يا أستاذ وأعانك على حالك إحنا بخير والحمد لله)
00أخرسني صدقه وأفحمني مقاله واندفعت لا ألوى على شيء وأنا فى عجب من أمره ودهشة من مفارقة جمعت في نفس واحدة أرفع درجات الكبرياء والنبل والترفع والتعفف إلى أقسي صور الفقر والفاقة والعوز .

. . . يسكن المرسى فى دور أرضى من منزل قديم استأجره من صاحبه وانتظم فى سداد إيجاره بدرجة لا تنتظر تسويفا ولا تتعلل بعلة ولا تكترث بخطب وإن جل ، وأصبح اندفاعه إلى صاحب المنزل أمرا وعادة لا ينفك عنها ولا تتقاعس هى عنه ,فما إن يتحسس راتبا هزيلا بلا تلهف يتقاضاه عن حراسة مؤسسة حكومية فى المدينة ، لا يسمح لنفسه بالتريث أو مجرد التفكير فى ولوج بيته والجلوس إلى طعامه الهزيل البائس وإنما يهرع إلى صاحب المنزل كى يعطيه إيجارا أثقل كاهله وأرهق نفسه، ولا يستسيغ مبررا إن التمس الرجل فى مكانه ولم يجده وإنما يدأب فى بحثه وتطوافه وسعيه حتى يلقاه ويلقى إليه بما رزح على صدره من هم الإيجار ومخافة التعريض ومغبة اللوم .

على أن مستوى أرفع من العفة والزهد والكبرياء أدركه المرسى فى نفسى حاسما ما كان يخامرنى وتوسوس به نفسي من ظنون وتشكك فى صدق الرجل وتساؤلات عن سر ذلك وحظه من الصدق أو الادعاء ,داحضا كل ما كان يتناهى إلى سمعى من لمز وتعريض بماضى الرجل حينما ألقى به عاثر حظه فى أحابيل بعض من تجار المخدرات وهو يتلمس طريقه إلى سنوات صدر الشباب ، وعجيبة هى ذاكرة أهل قريتى الجمعية التى لا تتشبث إلا بالسقطات ولا تنفك عن الزلات ولا تشفع لديها المكرمات ,لقد كنت أفتعل المواقف وأسترق السمع لبعض أهل قريتى ومقالاتهم حول هذا البائس الذى اقتحمت شخصيته عقلى واستثارت دفين ألمى ومشاعرى فما تناهى إلى إلا ما يستنهض الظنون وتعتصم إليه التخرصات والريب .

. . لكن نفسي لم تركن إلى شيء من هذا ولم تأنس لمقالة سوء أو كثير لمز ولا لبقية من توجس وحرص كان تتباعد وتتثاقل خطواتها فى ضميرى وعقلى إلى أن حملتنى أقدامى المثقلة من طين ووحل إلى شارع جانبى مظلم فى ليلة باردة عاصفة صاخبة من ليالى شهر رمضان يصحبنى الشيخ بشر رفيق عمرى وزميلى فى جمعية طاهرة النية صافية الطوية جمعتنا إلى أصدقاء وزملاء آلو على أنفسهم أن يبذلوا الوسع فى تحسس آلام المكلومين والمقهورين واليتامى والأرامل والمرضى بما كانوا يجودون به من قليل زادهم ومالهم ، وما كان يحنو به بعض من أهل القرية والمعارف من خارجها فيختلسونه اختلاسا من قوتهم وقليل زادهم ويدفعون به إلى جماعة بيت المال كما وسمت نفسها أو أسماها الناس فيتفقدون به من أرهقتهم الحاجة وثقلت عن البوح بها أنفسهم ، وقصت بهم منازلهم مثلما قصت أحوالهم فلم يحفل بهم محتفل ولم يكترث لهم مكترث ، ونأت عنهم قلوب القادرين مثلما اعتادتهم عقولهم وعيونهم فغدوا يرونهم فى الطرقات ويرون عيالهم وحالهم فلا يتنبه لهم متنبه ولا يضطرب لحالهم فؤاد ولا يستثار شعور .

. . . طرحت اسم المرسى على زملائى فاندفعوا يتلاومون على نسيانه ويرونه بائسا لا يفطن إليه فطين ولا يعن لخاطر محسن أو كريم وقد تجلى فيه وصف القرآن الكريم لأولئك الذين يحسبهم الجاهلون أغنياء من التعفف وهم فى وحدتهم ووهدتهم لا يسألون الناس إلحافا ، وأجمع رفاقى على عوزه الذى تخفيه نفس قانعة وكرامة مستكنة ، واندفعت وصاحبى إلى الرجل لا نلوى على شيء ولا نعبأ بليل أو برد أو مطر ونخوض فى وحل الحارات المظلمة لا يروعنا ما ران على ملابسنا وأجسامنا منه ولا نلتفت إلى شيء يصرفنا عن غايتنا وإن جل .

. . . مرحبا ومهللا ومستغربا ، انتفض المرسى لاستقبال أولئك الذين قدموا إليه لسبب يجهله واقتحموا رتيب ليله وقارس وحدته ، وهمسنا فى إذنه بما تحمس له إخواننا فى ببيت المال نابذين توجسا متوقعا منه ومظنة بادية جهدنا لدفعها عن كون ذلك إحسانا منا إليه فلعله يقبل تلك الأعطية إذا علم أنها من مجهولين لا يعبأون بمعرفة من صار إليه عطاؤهم ، فيفسح ذلك فسحة لمن لا ترقأ عفته ولا يرحمه كبرياؤه ،

قبل الرجل رأسينا ودموعه تتخلل شعيرات لحيته التى جثمت عليها آيات الفقر والمرض والكبرياء إلى كر الغداة ومر العشي فأشابوها ، وربت على أكتافنا رافعا يديه العجفاوتين إلى السماء ،

( أعانكم الله وجعله فى ميزان حسناتكم، إن فى القرية من هو أمس منى حاجة وأشد عوزا فاجهدوا جهدكم إليه), واندفع إلى داخل بيته موصدا بابه وحاسما أى تردد أو تشكك أو سبيل لإقناع .

. . . تركناه ذاهلين أو كالذاهلين بعد أن قرعنا عليه بابه مرارا دونما جواب أو مظنة جواب ، وتواثبت إلى أذهاننا صور لكثيرين نعدهم من الأثرياء والأغنياء إن قارنا حالهم بحال المرسى وهم يتزلفون ويتحننون ويتقربون إلينا متسترين حينا وصادعين بشكواهم أحيانا ,لا يتورعون عن تكرار سؤالهم عن ميعاد توزيع هبات بيت المال وقد أقفرت نفوسهم ونضب حياؤهم وانطلقت ألسنتهم فما عاد يزعجهم قليل من كبرياء أو شيء من خجل ولا يثقلهم تعفف أو ادعاء به, لقد استراحت إلى ذلك نفوسهم وغلقت أبوابها واعتادت حالها واستمرأته وغدا لديهم انتزاع ما لا يستحقونه والتسربل بسربال العوز والفقر والازدراء ,بنظرات الاستنكار أمورا سهلة وثمنا بخسا يهون إلى متعة الظفر وانتزاع المراد والمرتجى ، ولو اطلعت على أحدهم حين يظفر بقليل مال أو طعام نسوقه إليه ضجرا من إلحاح وقح ، أو إشفاقا على كرامة ضائعة مهددة, ونفس شرهة شائهة ,لرأيته منبسط الأسارير جذلانا يكاد يتعثر فى خطواته المتلهفة المتسارعة وكأنه قد قنص لنفسه ما عز نواله وندر مثاله وطمى فضله ونفست قيمته ,إنها نفوس دربت على القنص ومشاعر اطمأنت إلى الاهتبال وأزرت بكل ما يتعلق به المرسى وأمثاله وتشربته نفوسهم وقلوبهم من تعـفف وكبرياء مستكن 0

00( إن تاه أصل الفتى فعله يدل عليه )

. . . أثار ذلك المثل الذى سمعنه صغيرا في مجلس أبي ووعيته كبيرا تساؤلات ملحاحة حتى هجعت إلي إن ما رأيته من المرسى وما أحسسته واطمأنت له نفسى وركن إليه عقلى وقلبى أن مثله لا ريب منحدر من أصل عريق ومحتد كريم ,فتحسست أخبار أهله فعز لديهم ما يشفى غلتى ويروى ظمأ نفسى ووجدتهم لا يختلفون عمن خالطت من بؤساء قريتى وإن بزوهم رقة في الحال وضآلة فى العديد وندرة فى النصير والسند واجتمعوا إلي عوز وبؤس لا تخطئه عين كليلة ,ورثوه من آباء وأجداد فما انفكوا عنه ولا انفك عنهم .

. . . وأبت إلى نفسى أو آبت إلى وما كدت آيبا ، وقرعتني وقرعتها على سذاجة ما ذهبت إليه وهزاله ، ماذا عنته تلك النفس وركن إليه العقل فى فهمه الساذج لكرامة الأصل وعراقة المحتد؟ , أهو الغنى الزائل أم المجد الضائع ؟، أولم يورث الكثير من الأغنياء أولادهم وأحفادهم وذراريهم مع ما خلفوه من عروض وأموال طبائع الاستغلال والاهتبال والقنص وعبادة الدرهم والدينار والتزلف والترخص لأهل الحظوة والثراء والسلطان وابتذال النفس والكرامة والشرف؟ أوليس فى سبيل المزيد مما يعين علي التسلط على الأدنياء والترفع والاستعلاء على المسحوقين والتوسد على البؤساء والاستغلال البشع لحاجاتهم وبؤسهم , يهون الصعب ويسهل الوعر ويرتخص كل غال ؟.

. . . أولم يورث الكثير من الفقراء أولادهم وأحفادهم وذرا ريهم نفوسا مستكينة وقلوبا خانعة وشخصيات شائهة فما طمحت منهم نفس للانفلات من بائس المصير وما تمردت علي ذلك الواقع الأليم المرير , وما ملكت ذكاء قلب واتقاد عقل وعزة نفس وتوق وتطلع إلى انعتاق ؟ إنما استمرأت مصيرها وألفته واطمأنت إليه وقنعت بفتات من قوت وضئيل من كرامة يجود بها سادة جمعوا إلى سلطانهم وتسلطهم وثرائهم ,نفوسا قاسية وضمائر خربة وقلوبا غلفا ومشاعر ميتة وعقولا صرفت جل جهدها لإبقاء ذلك الحال وتكريس المآل حتى بدا الأمر قدرا محتوما وقضاء مبرما ، عجب لا ينتهى وحيرة لا ترعوى تجد فى طلب معين ذلك الكبرياء والتعفف وذكاء النفس الذين اطمأنوا وتوسدوا قلب المرسى ولم يعد يفزعه قلق أو تمرد أو حقد أو تطلع وإنما أسلم الرجل للمقدور نفسه وأمره .

( اسمع يا بني فقير الدنيا غنى الآخرة )

00تعليق سمعته صغيرا من عجوز بائس لا يكاد يجد الطعام طريقه إليه وإن وجده استغلظ وشح فلا يكاد يسد رمقا ولا يروى غلة فى أيامه التى تترى حتى بدت قريبة من نهايتها وكلها ذات غلظة وقسوة ومسغبة ،

0 استوي ذلك العجوز فى جلسته وتخلى عن قرفصائه وحملقت فيّ عيناه اللتان لا تكادان تغفلان عن شباك ساذجة ، وكأنه ما ألقى بها إلى الترعة إلا لتنذر ضالة الأسماك من مغبة صيدها ولا تنال إلا ممن أسرف فى غروره وأمعن فى تقحمه واستهتاره واستهزأ بتلك الشباك فاقتحمها بلا ترو فاهتزت وتلعثمت وساعتئذ تندفع إليها يدان عيل صبرهما وعينان لم تغفلا عنها لحظة واحدة . تلك هما يدا الشيخ العجوز الذي يستحيل عند ذلك شابا مفعما, ففقد مثل تلك الفرصة نذير بضياع جهد وخيبة مسعى وإيغال جوع.

كانت حكايات العجوز لاتكاد تنتهي, وشغلي بها لايرعوي عن بؤساء يضربون فى الأرض على غير هدى فيجدون خاتما متآكلا صدئا فلا يكادون يمسكون به حتى تملأ الأفاق جلبة ودخان يخرج بعدها مارد من الجان وعفريت من عفاريت سيدنا سليمان يفسح يديه وصدره تمثلا لأمر ذلك المحظوظ ( شبيك لبيك عبدك وملك يديك ، مر تطاع واطلب تجاب ).


ينفس ذلك الشيخ عن آلامه ويتخيل ويترقب آمالا لن تأتى , وحين يصيبه اليأس من انتظار مالا يجيء وتجف آبار حكاياه للصبى المتلهف له السابح في عالمه ,يبادره مستكينا مستسلما إلى ما استقر فى روعه واطمأنت إليه نفسه من فقر الدنيا وحتميته ويبلغ به اليأس منتهاه ويموت أمله ، فى اعتدال الميزان إلا فى الآخرة مع تخوف ساذج من استمرار ذلك فى العالم الآخر .


. . . وثبت حكمة الشيخ إلى ذاكرتى بعد أن كادت تأتى عليها سنوات خلت وهموم تداعت فأرهقت وأثقلت ، وقنع إليها عقلى ووثقت نفسى وقد جادت عليها بتعليل ذلك الرضى والاستسلام للواقع المر الذين لا يكدرهما قليل حقد ولا وميض تمرد أو غيظ فى نفس وعقل المرسى ، وأردف ذلك وشد أزره ما رأيت ولمست من ظاهر صلاحه ونأيه بلسانه ومجلسه عن السوء وأهله واستيئاس رفاقه القدامى من أوبته إليهم وزاد يقينى ما تنبهت له وبه من اختلافه إلى مصلى صغير يهجع إلى ضفة النهر ولا يكاد يعتاده أحد فبت وقد آنس إلى ذلك التفسير عقلى وقلبى الذين استفاقا مما أرهقهما من رغبة دفينة وتساؤلات لحوحة فى استكناه تلك الشخصية والنفسية التى ندر فيها ائتلاف البؤس والفقر إلي التعفف والكبرياء .


على غير عادته وسحنته وحال غير حالته التى ألفتها منه ، أقبل المرسى ظهيرة يوم قائظ كأن شمسه توسدت الأرض والرؤوس فألهبتهم بأشعتها الحارقة , يلوذ الناس منها ببيوتهم أو تحت أشجار عتاق لا تدخر ظلا ولا يبخل حفيف أوراقها بخجول من أنسام رقاق شحاح تكاد تنهبها الطيور التي آوت إليها ولا يكاد ينفلت الي المستلقين على ظهورهم ,الجالسين تحت تلك الأشجار من تلك الأنسام إلا القليل .

00أبصرت هيكلا آدميا متداعيا مضطربا فى خطواته , تشى هرولته من بعيد بأن شياطين الدنيا ووحوشها قد اندفعت إليه وأن شرا مستطيرا يجد خلفه فى طلبه ، كان ذلك الهيكل هو المرسى الذى هالنى أمره فهرعت إليه فألقى بنفسه فى صدرى باكيا كسيفا وقد ملك عليه الذعر والرعب كل مملك وسد عليه كل مسلك .

الحقنى يا أستاذ ، استرنى الله يستر عرضك ، طفى النار اللى فيه، ما ليش بعد الله إلا أنت.

. . . تناديت على ولدى صارخا أن يغيثنى بقارورة ماء بارد وشيء من سكر وماء لأنقذ به مسكينا بدا أقرب إلى الموت منه إلى الحياة .

(اهدأ يا مرسى ، كل عقدة ولها عند الكريم حلال ، اصبر وما صبرك إلا بالله ، لا تيأس من رحمة الله ، ماذا دهاك ، أفصح يا مرسى )

. . . ازدرد الرجل الماء ازدرادا وبث الماء المحلى بالسكر قليلا من عافية فى جسده ولعله قد أنعش لديه بعض الأمل حين أحس بصادق مشاعرى وتعاطفى معه فاندفع يروى ما دهاه ونكب به صبيحة هذا اليوم ، حين تفقد مخزن المعدات كدأبه قبل أن ينهى نوبة حراسته فراعه اختفاء عدد من تلك المعدات اهتبلها اللصوص حين آنسوا قبيل الفجر غفلة وسنة من نوم اجتهدتا إلى المرسى بعد أن سرى فى جسمه دفء نار هزيلة جادت بها قطع من لحاء الشجر استعان بها ليدفع غائلة برد قارص تكاد تتجمد من حدته الموجودات على اختلافها .

صعق الرجل لهول الأمر وتراكضت إلى ذهنه ونفسه ذكرياته الأليمة وقت أن تلقفته صفعات وركلات رجال الشرطة حين فجأوه ورفاق السوء من تجار المخدرات ومدمنيها فى ليلة كالحة ولت عددا ورسخت فى نفسه وقلبه سوادا وكمدا وألما ، وحين شرد عقله إلى ما ينتظره وذويه من اضطراب الحال وضيعة العائل والمعين وما يتلمظ لهم من مخالب الفاقة وبطشة العوز والحاجة تداعى هيكله إلى الأرض مغشيا عليه فهرع إليه الأستاذ الشربينى مدير المؤسسة وبعض أخيارها ليستجلوا الأمر ويستبينوه .

لا تحسبن الموت موت البلى إنما الموت سؤال الرجال
كلاهمـا مـوت ولـكن ذا أفظع من ذا لذل السؤال

. . تمثلت موت الرجال الذى أجمل الشاعر أسبابه واستشعرت ما يبدوا مصيرا محتوما ينتظره وهولا يرتقبه لما بلوته من عفة الرجل وترفعه وكبرياءه ، وكان الأستاذ الشربينى قد لمس ذلك عديدا وعجب من ترفع الرجل ونأيه عن التزلف الذى اعتاد سماعه من كبار الموظفين قبل صغارهم حين لم يلتمس يوما إلى عقله ولا إلى قلبه طريقا يدلف بها إلى واحة الحوافز والبدلات والإكراميات التى ذلت لولوجها أعناق الرجال وهان المرتقى الوعر عن مسغبة واضطرار أو خسة نفس وشراهة طبع ، لقد نأى المسكين بنفسه ووجهه وانزوى عن ذلك كله وأشباهه ومظانه نأيا لا يترك مجالا لشك أو تشكك .
. . . اسمع يا مرسى أعلم قدر أمانتك وبراءتك ، ولكنى لا حيلة لى فى الأمر ، سوف أمهلك يومين لشراء ما سرق من المعدات بنفس نوعها ومواصفاتها وإن تأخرت فلا مناص أمامى من إبلاغ الشرطة والنيابة والجهات الرسمية .
. . . وقعت كلمات الأستاذ الشربينى الآسية القاسية على مسامع ذلك الحطام المتداعى فاتقدت لهولها نيران نفسه وأجهزت على كل ما اعتصمت به من كبرياء وترفع وعزة نفس ، وعز على ذاكرته المعين والصديق وضاقت عليه بما رحبت أرض توسد أركانها ,اللصوص والمنافقون وآكلوا مال اليتامى والمرتشون وسدت على أصحاب النفوس الكريمة أقطارها ، وساقته أقدامه المتداعية إلى منزلى على نحو تتفطر له القلوب 0

طفى النار اللى فيه يا أستاذ ، استرنى يسترك ربنا دنيا وآخرة ، ليس لى بعد الله إلا أنت.

. . . هدأت من روع المرسى وبدأت من فورى مصطحبا صديقى بشر رحلة ثقيلة كئيبة إلى قلوب وعقـول وهمم من نعرف من أهل القرية,ودلفنا إلى دروب القرية وحاراتها وقد صح لدينا أن الأمر جد مختلف وأن نفوسنا وأسماعنا قد تصفع بتعليقات وردود وإعراض وأن بعضا من كبريائنا واعتزازنا قد يراق دون بلوغ غايتنا .

(يا أساتذة الرجل قد حن إلى سهرات الماضى وعبق الحشيش وخدر الأفيون فباع هذه العهدة ، يا أساتذة أنتم أكبر وأوعى من أن تنطلى عليكم تلك التمثيلية .. سلام عليكم)

قذفنا الرجل بتلك الكلمات فندمت ندما شديدا وأسفت حين خاطبت نفسه الميتة وقلبه الصدأ الذى درب على الرشا والتلهف إلى العطايا والإكراميات وغدا مكتبة ودرجه فاغرين متلمظين لا يوصدان ,يترقبان كل من ألقت به ظروفه إلى ذلك المبنى الذى يقله وأمثاله ,لقد اعتاد الناس أمره مثلما اعتاده هو ولم يعد يثير حفيظة ولا يستنهض انتباه ولا انتقادا ولا يستصرخ عتبا أو لوما .

. . . مقطب الجبين مكفهر الأسارير مكبوت الغيظ بدا الحاج إسماعيل الجار للمرسى سكنا ,الأنأى شعورا ,المزدرى نظرا, حين جهدنا لبيان ما حل بالرجل واسترقاق قلبه واستثارة إنسانيته .

(يا رجاله أنا عامل اللازم مع المرسى وأولاده ولا حاجة لى بمن يستحثنى ، تفضلوا)

، لامنى رفيقى على تهورنا بطرق باب ذلك الرجل الذى طبقت شهرة ضنه وبخله دروب وفجاج قريتنا وإن آثر الرجل أن يردف ذلك كله بكذب لا مراء فيـه وادعاء ظالم زائف .
. . ها هو المعلم الغيطانى فلنهرع إليه ، استحثنى صديقى ليقطع على ترددا وإحجاما لم يستفيقا من صدمة ما سمعا من جار السوء واجتمعا إلى انطباعات سابقة ارتكنت إلى مقالات الناس التي رسمت صورة وشخصية الرجل في ظني والتي استقرت علي قسوة الغيطانى وكيفية اقتناصه ثرواته الطائلة ، وأوصد ذلك الأبواب بين قلبى وبين الغيطانى الذى جمع إلى ذلك سحنة مخيفة وانبساط سريرة غائب .

(خير إن شاء الله يا أساتذة ) ،

,عيى لسانى عن البوح أو الوصف قنوطا ويأسا من أن يتأثر الغيطاني بما نقول أو يأبه له ,فانبرى رفيقى الذى قذف بى وبنفسه إلى ما لا نحب سماعه وشرح الأمر فى كلمات مقتضبة وصوت منهك متعب ...اضطرب وجه الغيطانى الضخم واعترته رعشة بدت ناصعة صريحة جلية وتبدلت سحنته ولمعت عيناه وتلعثمت كلماته .

. (لا حول ولا قوة إلا بالله ، إنا لله وإنا لله راجعون)

, وفى ذبالة ضوء شاردة من شباك منزل مجاور رأيت دموعا تنهمر من عينى الرجل ويده تندفع إلى حافظته حيث تدافعت الأوراق المالية أم مئذنة ذات المائة جنيه وبدا الرجل وكأنه لن يتوقف عن العد ، الله واحد ، ليس له ثان ، العدد ثلاثة ، أربعة ، خمسة ... ثلاثة آلاف وخمسمائة... صرخت كفاك يا أخي هذا إلى ما توفر لدينا يكفى ويزيد ، ماذا أقول لك ، رعتك عين الله التى لا تنام وسترك وأولادك سترا لا ينكشف وفى عناق باك حار التحم جسدانا واختلطت دموعنا وأناتنا 0

أوتعى يا بشر ؟، أو تصدق ما ترى وتسمع ؟، أخرسنى الموقف واتساع البون وبعده بين ما توقعت وتوجست, وما رأيت من الرجل ورهافة حسه ورقة مشاعره ، واندفعت كلماتى وخواطرى إلى نفسى لوما وتقريعا علي تسرعي ورعونة ظني ,وضلال خبرتى بالرجال والقلوب رغم سنوات عمرى الطويلة وما وخط رأسى من شعيرات بيض .


سويعات قليلة مضت حتى ألفيتنى ورفيقى عند الأستاذ الشربينى نحمل بديلا عما سرق من معدات وأدوات هرعنا إلى شرائها من المدينة على عجل واندفعنا بها إلى المؤسسة لا نلوى على شيء ،وتهللت أسارير الأستاذ الشربينى ودع الله لنا بالستر واقترح علينا ألا نتلكأ دون الإسراع إلى المرسى لنذهب عنه روعه وندفع ألمه فحمدنا له ذلك وتحمسنا له ، وفى طريقنا إلى السيارة ، قفل الأستاذ الشربينى عائدا على مكتبه بعد أن تراكض إليه سكرتيره ليخبره أن رئيس نيابة كفر سعد على التليفون ينتظره ، ارتبنا وتكاثفت ظنوننا ومخاوفنا من دهياء جديدة أو خطر قد يفسد علينا وعلى المرسى ما ينتظره من فرج وفرحة وزوال هم وانقشاع غم .


. . . اسمعوا يا أساتذة رئيس النيابة أخبرنى أن أمامه عصبة من اللصوص, اعترفوا وأرشدوا عن غنائمهم ومنها المعدات التى كانت فى عهدة المرسى وقد أوفدت من يتسلمها من قسم الشرطة ,فلنسرع إلى المرسى نزف إليه البشرى ونسوق إليه طمأنينته الضائعة ثم نعيد المعدات إلى بائعيها والثمن إلى أهله الذين تبرعوا به ، لقد صدقنى ظنى وحدسى ويقينى من براءة المرسى .. هلم سريعا يا رجال...

تسارعت أقدامنا تقطع حارات ضيقة وتخترق أزمة ملتبسة شائكة ونختصر المسافات والزمن وتتلهف الوصول ، وبدا منزل المرسى فى واحدة من تلك الحارات وقد اختفى مدخله وراء قليل من نسوة توشحن السواد ، فاتجهنا إلى المنزل فى تلهف نتوسل الخبر ونستكنه النبأ، فجاءنا صوت خفيض واهن ، البقاء لله يا أفندية ، المرسى انتقل إلى رحمة الله0

أ0د عبد الحميد سليمان
الدمام 00في غرة رجب الفرد الحرام 1427ه
رد مع اقتباس
رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
You may not post new threads
You may not post replies
You may not post attachments
You may not edit your posts

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع إلى


جميع الأوقات بتوقيت GMT. الساعة الآن 14h40.


 
Powered by vBulletin - Copyright © 2000 - 2010, Jelsoft Enterprises Ltd