اخضوضرت وريقات شجرة الأغنية الليبية ، و أزهرت بظهور شمس الفنان " محمود الشريف " الدافئة ، دفء صوته ذي الإيقاع الطروب ،القريب في أدائه من الغناء العربي المثالي ، فلهذا الفنان طابعه الغنائي الأصيل و الخاص ، و قد وصل إلى جودته هذه ، ربما نتيجة لكونه ضابط إيقاع في فرقة الإذاعة الموسيقية ، فعرف بالسليقة كيف يتمُّ ضبط الصوت على إيقاع اللحن العربي ، و كيفية البدء في الغناء و الفروغ من أداء الكوبليه الواحد بطرقة محسوبة و دقيقة ، ذلك بالحفاظ على الجملة اللحنية ، التي يترنم على موسيقاها ، فلخبرته الإيقاعية ، تشكلت في أدائه هذه البراعة الغنائية ، التي جعلته على الدوام أبعد ما يكون عن ( التنشيز ) في الأداء ، فهو يعرف السلم الموسيقي العربي معرفة أكيدة ، و هي ليست عملية هينة ، تلك التي يستطيع فيها مطرب ، أن يتعلم السلم الموسيقي ، إلا إذا كان مطرباً موهوباً له قدرة على حسن التقدير السماعي و الحدس بالجملة الموسيقية ، إذ أنّ فناناً من هذا النوع ، تجده يغني بحنجرته و أذنيه في وقت مشترك ، حيث يقوم بتشغيل الحاستين معاً ، بحيث لا يجعل إحداها ترين على آلية الأخرى ، بل بشيءٍ من التوازن بينهما ، و بعد دُربة و مِران على أصول الغناء العربي المُتقـَّن ، سيصل إلى هذه الرتبة الفائقة و الحرفية العالية ، اللتين تمكناه من أداء أصعب الألحان ، ذات الجمل الموسيقية الطويلة و القصيرة المتشابكات ، و ما تتخللها من محسنات صوتية ، لا يحسن إظهارها و التمكن منها إلا من هو على شاكلة الفنان الراحل " محمود الشريف " أو من يصقل صوته في المعاهد الموسيقية ، عن طريق تعليمه مبادئ الغناء و التدريب الصوتي على السلم الموسيقي ( السولفيج ) و الانتقال على درجاته من حرف لأخر بالكيفية الصحيحة و الواجبة ، هذا السلم المعروف ، بهذه الحروف الموسيقية ( دو – ري – مي – فا – صول – لا – سي ) العالمية التي يتكلم بها كل البشر موسيقياً ، و إنْ أختلفت لغاتهم باختلاف ألسنتهم ، فهي اللغة المُوحَّدة ، التي صار الناس يتخاطبون بها في العالم قاطبة ، عن طريق تبادل المعزوفات و التراث الموسيقي العالمي ، من دون أن تطغى أمة على ثانية ، و لا يحدث استلاب لثقافة ثالثة ، و أرى أنه مثلما نحرص على تعلم اللغات الحية و الميتة ، و التي شبعت منية ً ، أنْ نتعلم بالمثل هذا السلم الموسيقي ، كي نعرف كيفية التخاطب مع الآخر بهذ اللغة الثالثة .
لدى استماعك لأعمال الفنان الكبير " محمود الشريف " يتراءى لك ، أنه يتمتع - من دون سواه من الأصوات الليبية ، التي لا تقل عنه شأناً – بصوتٍ رنـّان و رخيم ذي مساحة واسعة ، و تميزه في اتقان الأداء الشرقي بزخارفه و عربه و تمطيطه و تفخيمه ، و ما يتعلق بمواصفات المطرب الشرقي الناجح أداءً و نطقاً ، و كذلك حرصه على ترديد الترددات الصوتية - وقت نهاية كل مذهب - في صوته في شكل ذبذبات متموجة ، تلتقطها الآذان بكل وضوح عن طريق هوائيات و مجسّات الإحساس الروحية ، من دون أي تشويش على النفس البشرية ، فهو في صفائه ، كما الماء العذب الرقراق ، أو هو أصفى من ذلك ، خصوصاً لما تسمعه ، و هو ينتقل من أعلى طبقة صوتية إلى التي تسفلها ، و صحة صعوده بالطريقة العكسية من غير أي كلل ، أو ظهور لعلل صوتية ، كما يحدث لغيره من فنانين كثيرين نعرفهم ، كما أنّ لهذا المطرب القدرة العظيمة على تصوير الأحداث الدرامية بإدائه التعبيري المشهدي ، أو قـُل التصويري الملاحظ بالذات في أغنيته ( خطم حفني ) الذائعة الصيت - و المعنى المقابل للفعل الثاني المكتوب باللهجة العامية ، هو ( رمقني بطرف العين أو نظر إليّ بخلسة ) - التي نظمها له الشاعر " علي السني " و لحنها " عبد الباسط البدري " و أجد الفرصة سانحة لأخط كلماتها لمن يصعب عليه استكناهها ، فمفرداتها تقول بعد تدقيق و تمحيص مني ، حفاظاً على المصداقية :
خطم حفني .. شيّع عيونه فيا
سلمت ما ردّ السلام عليا
...
خطم حفني يدّاعى
شدت معايا عين تحت اقناعه
مخضب بالحنة رقيق أصباعه
بو هذب بو جبنون يشعل ضيّه
...
وين خطم ناديته
في خطوته مني هرب لبيته
قلبي معاه و بالغطا ناجيته
غضبان شنو درتله من سيّة
...
عليا بخل فـ كلامه
هجرني و نسي رفيق أيامه
يا قلب هاللي خلفك فـ أوهامه
ايجي يوم يرجع ليك و ليا ..
فكانت هذه الأغنية من أبرز أعماله العاطفية ، التي بدأ بها الولوج إلى عالم الغناء بعد مكوثه طويلاً على كرسي ضابط الإيقاع ، الذي كان له باع طويل في تطويره و تحديثه هو و العازف " مصطفى القاضي " فيما بعد .
و كما أجاد و برع في هذا المجال ( العزف ) نجح و كما قدّمت في هذه المقالة المتواضعة جداً ، في مجال الغناء ، الذي توّجه بأغنياته الاجتماعية المعروفة ، التي تنوعت في مضامينها من الغناء للأسرة ، كما في أغنية ( يا بيت العيلة ) التي نسج مفرداتها الشعرية الشاعر الكبير " أحمد الحريري " و لحّنها صاحب الألحان التي تموج بالجمل الموسيقية البليغة و المدهشة ، الفنان " إبراهيم أشرف " إلى غنائه لفصل الربيع في غير أغنية جميلة منها مثلاً لا حصراً ، أغنيات ( بالربيع و زهره ) و ( على بابكم بان الربيع ) و ( الشمس بان شفقها ) حتى تجلى بهاؤها في أغنية ( يا غصن الورد ) ذات اللحن الجميل و التوزيع الموسيقي الأروع بين الأنغام الليبية ، أنا لا أطلب إليكم أن تصدقوني ، بل أن تستمعوا إلى أغنيته هذه ، إن استطعتم إلى ذلك سبيلاً ، كي تتأكدوا بذواتكم مما قلت و أقول عنه ، و هو يتغنى بهذه المفردات ، التي لحنها الموسيقار الراحل " محمود الكعبازي " :
يا غصن الورد يا أجمل زهرة تجلبني
يا مبهى الورد في غصنه امفتح يعجبني
يا محلى الورد و لون الورد
...
الورد اللي امفتح مبهاه
مع النسمة في أغصانه ايميل
يشرح الخاطر بزهاه
شافي لكل قلب عليل
منظره ايزهيني و ريحته تحييني
يا محلى الورد و لون الورد
...
منظر الورد في غصنه
شكله ايزهي العين
يجلب الناس ابحسنه
ربي عطاه الزين
في جنانه ايفوح و ايردّ الروح
يا محلى الورد و لون الورد ..
لكن الفنان " محمود الشريف " لم يكتف ِ بهذين المضمونين الغنائيين ( الأسرة و فصل الربيع ) بل إنه شارك حتى الناس في أفراحهم ، و سخّر فنه و صوته لإسعادهم ، بأغنيته التي صارت من دون أيّ مراء ، تراثاً ليبياً خالصاً نعتز به ، و هي أغنيته التي يقول في مطلعها : " جينا بنغنيلك يا عريسنا جينا " و لو أمدّ الله في عمره لكان له أكثر من عمل غنائي ذي صبغة اجتماعية ، غير هذا الذي ذكرنا بعضاً منه ، و من مثل هذا ، أغنيته ذات المضمون الواعظ ، التي يعظك فيها مدندناً بهذه الكلمات ، التي أجهل مُبدعيّها ، شعراً و تلحيناً :
أحباب الوجوه إياك ما اتحاديهم
حلال بعدهم و حرام قربك ليهم
...
أحباب الوجوه أعادي
لا تكونمنهم لا اتقول اندادي
ابعد عليهم كون ديماافرادي
بخيرهم بشرهم خلليهم
...
أحباب الوجوه امرايا
فيالوجه يضووا و في القفا برّايا
وقلوبهم بالغش ديمااملايه
شياطين شوره ابليس اللي امقريهم
...
تبّع أولاد الهمة
أهلالشرف و العزّ و اللي اتهمه
تنسى معاهم الكدر والغمة
اتعدي أيامك عز بلياليهم ..
فروحه الطيبة ، التي قاسمت الناس مسراتهم ، هي المؤثر الثالث ، الذي أسهم في نجاح أعماله إلى جانب ( الأذن و الحنجرة ) اللتين كان يغني بهما للناس بأحلى و أجلى إحساس ؛ و أنا إذ أستذكر هذه الروح الطاهرة ، لا يسعني في تتمة مقالتي هذه ، إلا أنْ أستمطر عليها شأبيب الرحمة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
زيــاد الـعـيـسـاوي _ ليبيا
بنغازي في : 14 / 4 / 2009
Ziad_z_73@yahoo.com