وُضِعَت السُفرة المستديرة وسط الحُجرة ، فاستبشرنا خيراً ، و اطمَئنـّت البطونُ المُستجيرة ، و لاحَت في الأفقِ بشائِرُ الطعام
و هَلَّ علينا الآلاتي ، حامِلاً طبقينِ من " السلاطة الخضراء " ، فقلتُ : أولُ الغيثِ قـَطرة !
ثمَّ توجّه إلى المطبخ ، و عادَ بطبقينِ مثلهما من السلاطة الخضراء ، فقلتُ لنفسي : و ليكن ،، السلاطة " تـَفتـَحُ النِفس " و تساعد على الهضم ، و لها فوائدها الغذائية
ثم خرَجَ ، ليدخل علينا بطبقينِ من السلاطة الخضراء ، فتـوَجَّستُ خيفـَة ً ، و قلتُ في " عَقل بالي " ، لعله صارَ نباتياً مثل أبي العلاء المَعَري و المهاتما غاندي و أدولف هتلر !
و كانت " الطامة ُ الكبرى " ، حين استقرَّ على السفرةِ ، طبقان آخران من السلاطة الخضراء
و كادت المائدة تمتليء عن آخرها ، بهذه الأطباق الثمانية ، و قد " انحَشـَرَ " بينها طبقانِ من " الطـُرشي " ، و انقلـَبَت الدهشة التي اعترت الجَميع ، إلى ضحِكِ هيستيري ، و هَمَّ البعضُ بالانصرافِ ، بحثاً عن مطعمٍ مُجاور ، لولا أن رأينا " بُرهانَ " المحمّر و المشمّر ..
إستطاع الآلاتي بحِرفيّة ، أن يجعل الأطباقَ الثمانية ، بمثابة ثماني دوائر على أطرافِ المائدةِ المستديرة ، فيما يشبه كواكب المجموعةِ الشمسيةِ حول الشمس ، و تدفقت الأصنافُ الواحد تلو الآخر ، فتنفسنا الصُّعَداء " إيه رأيكم في الصُّعَداء دي ؟! "
و في أول الطابور ، كانت المكرونة بالبشاميل " البعضُ يكتبونها : المعكرونة " ، ثم شرائح الدجاج البانيه ، ثم كفتة " سيخ " ، و بطاطس محشوة باللحم المفروم ، ثم كُراتٍ من الكفته المطبوخة تـُسمّى كفتة " داوود باشا " ، و داوود باشا هذا ، لم يذكره التاريخ العثماني ، سوى بكفتتهِ هذه !
أما الطبق " الرئيسي " ، فيحتوي على ذكَرَيّنِ من البَط ّالمُحَمّر ، و قد استقرا على مائدةٍ أخرى ، و كان لهما حضورٌ طاغٍ ، و شخصية كاريزميّة فرضت سطوتها على الجميع !
واحِد " فلحُوس " ممكن يسألني : و إيش عَرَّفك أنهما " ذكرانِ من البط " ؟!
فأقول له ، على طريقة مخاطبة الأعضاء الرسميّة في سماعي : أخي الفاضل ، لعلهما " أنثيَان " ،، و هنا يجدرُ أن نطلق عليهما " بطـّتان " ، و التعويلُ على المَذاقِ لا المُسَمّى
تطوع حسن كشك ب " تفسيخ " ذَكَرَىّ البَط "
حلوة ذَكَرَىّ البَط دي و أعطى لكلِ واحدٍ فينا " نايبُه " أو " مَنابُه " كما نقولها نحن البحراويّة ،،
و استغرقنا في التهامِ ما لذ و طاب ، و كلُّ واحِدٍ فينا ، يتطوعُ لملءِ طبق الآخر بالأصناف المتنوعة ، و قد سقطَ على بنطالي " بنطلوني يعني " كمية وافرة من الطعام ، حتى أنه كان يُمكن صُنع " شوربة " من بنطلون العَبد لله ، بعد غـَلـْيِـِهِ في حَلـّةٍ مناسبة !
أما الآلاتي " المضيف " ، فقد جلسَ بمُحاذاةِ " البطـَّتين " ، و قد استحوَذ على " الزلمُكـَّتـَين " ، متغزلاً في الوِركَين ، و أخذ يُمَصمِصُ في " الهيكلين ِالعظمِييَن " ، و تركهما " نظيفـَيْن " ، فاحترقنا و افترقنا شعلتين ، ثم صِرنا في الليالي دمعتين ، إثنتين ،، يا حبيبي "
مع الإعتذار للشاعر إبراهيم عيسى "
و عندما انجَلـَت المعركة ُ ، كان الهيكلان ، أنظف من هياكل الديناصورات في متحف التاريخ الطبيعي بواشنطن !
الوحيد الذي شارَكَ في " المؤاكلةِ " و ليس الأكل ، هو الدكتور ثروت ..
و المؤاكلة ، هي مداعبة الطعامِ دون أكلِه بنـَهَم ، و قد عَرفتُ السببَ ، فبَطـُلَ العَجَب ، فالدكتور ثروت " شِبه نباتي " ، وجبته الأساسية تحتوي على الخضراوات ، و لا مانع من الأسماكِ " البحرية فقط "
و بَعدَ الوليمة ، و " بُعَيْدَ " الشراب ، جذبت الأنظارَ ، " تورتة " شيك ، من " لابوار " ، قدَّمها الدكتور ثروت للحضور ، صُنِعَت على شكل " بيانو " ، و رَجَّحَ البعضُ أنها على هيئةِ " كَمان " و قام محمد أبو مندور ، برشق صواريخ " سباركِل " فوق التورتة ، و شمعتينِ يُشكلان الرقم " 54 " ، و احتفلنا جميعاً بعيد ميلاد حبيب الكل ، و صاحب الدعوة الكريمة ، محمد الآلاتي
إنسانٌ رقيق الحاشية ، بَشوش ، مُهذب ، و له تعليقات ـ على نعومتِها و بساطتها ـ إلا أنها قد تدخلكَ في " كريزة " ضحك ، لا تخرج منها ،،
قبيل أن نصلَ إلى بيت الآلاتي ، هَمَس في إذني بدعابةٍ مِن دُعاباتِهِ " و كنا نتحدث عن مسرحية سيدتي الجميلة " ، فلم أجد نفسي في الدنيا ، و كدتُ أستلقي على وجهي " لا قفاى " من شِدَّة الضـَحِك
الأمر الوحيد المتناقض في الدكتور حسن ، يكمن في المفارقةِ بين عُمرِه الحقيقي ، و ملامحه و حيويته ، فلا أكادُ أصدِّقُ أنه خرج على المعاش منذ عامين " اللهمَ لا حَسَد " ..
يتحدثُ بصوتٍ هاديءٍ ، و يُدلي بآرائِهِ الرصينةِ في هدوءِ الواثقين ، و لا يقاطعُ حِواراً ، و لكنه يجذبُ الأسماعَ إذا تـَحَدَّث ، و لا تفارق وجهه ابتسامة ٌ عَذبة ٌ ، مُطمَئِنـّة
في بيتِ الآلاتي ، كان د . أنسَ " نجمَ اللقاء " ، حين " تـَجَلـّى " في عزفِهِ على آلةِ القانون الساحِرة ،،
آلة القانون في حد ذاتِها ، تعد قطعة فنيّة " شكلاً " ،، و آلة ًآسِرة ً و مُغوية ً" موضوعاً " ، تستثيرُ انسجاماً و طرباً يصعبُ تفسيرهما ،، و تشيعُ روحاً شرقيّة ً أصيلة ،، تستفز ُ كوامنَ النفسِ القابعةِ في قمقمِ الاعتياد ، فتنطلقُ الإنفعالاتُ " الجُوَّانِيّة " ، كما ينطلقُ الجـِنـِّيُّ من مصباح علاء الدين !
إستحضرَ الدكتور أنس " أروح لمين " ،، ثم أتحفنا ببعض الموسيقى الشرقيّة المُجرَّدة ،،
أخذتُ أتأملُ أصابعه و هي تجري على الأوتارِ التي تربو على ال " 60 " وَتـَراً ، و تعجبتُ ،، كيف تقعُ الأصابعُ على النغمةِ المُراوِدةِ ، في جزءٍ من الثانية ، حيث تكادُ تنعدم المسافة " الزمنية " بين خيالِ العازفِ ، و لمساتِ أصابـِعِهِ !
كان الدكتور أنس ، حين تهربُ منه إحدى النغمات ، يشرعُ في مطاردتِها ، و الإمساكِ بها ، كأنما يطارِدُ غزالاً أليفاً ، يعرفُ أنه طوع يديه !
كمَن ينسِجُ زخارفَ و " سيميتريّاتٍ " من خيوطِ الحرير ، أخذنا معه في رِحلةٍ أسطوريّةٍ ،، و كان " الوَنـَس " يأتيه من عزفِ الآلاتي على " الأورج " ، و قد تـَعَمَّدَ الآلاتي ، أن " يُخـَدِّمَ " على عزفِ الدكتور أنس ، فيمشي بجوارِهِ أو خلفه " لا أمامه " عَزفاً ..
و قد أخذا يتهامسانِ بمصطلحاتٍ موسيقيّةٍ لضبط النغمات لم أفقه مِنها شيئاً ، مثل : " ماجير ، ركوز ، رست ، مقسوم ، سولفيج ، توماهوك "
أما عمنا الآلاتي ، فقد أشجانا ب " عَلمني الحب " للأخت صباح ، و " إيه هًوَّ ده " لنجاة الصغيرة ،،
و شاركناهُ غِناء ً ، فشـَعْشـَعَ الجَوّ ، و لـَعْلـَعَ المكانُ بأصواتِنا التي تصلحُ للمظاهراتِ لا الغناء
أن يُحضِرَ عمنا الآلاتي آلة الأورج ، و يبدأ في مداعبة أصابعه البيضاء و السوداء ، فهذا مُتوَقـَّع ،، و أن يتصدى الدكتور أنس لآلة القانون ، و يشرعَ في ضبط الأوتار ، بمفتاحٍ يشبه مفاتيح " الزَمبَلِك " ، فهذا مفهوم ،، أما أن يمسك حسن كشك " بالطـَّبلة " ، فتلك هي المفاجأة !
المفاجأة الأكبر ، هي تلك الإمكانية الموسيقية العبقرية " الكِشكِيّة " ، في " أقوَعَةِ " ما لا يحتملُ إيقاعاً في الموسيقى و الغناء
" الأقوَعَة " : مُصطلحٌ موسيقي يَعني إضافة أو وضع الإيقاع الموسيقي ، و صاحب هذا المصطلح ، هو محسوبكم الفقير إلى الله " ، أما مخترع " الأقـْوَعَة " ، فهو حبيبنا حسن كِشك " بلا مُنازِع "
و صديقي العزيز حسن كشك ، يتميز بتلقائية و عَفوية ، تجعله محبوباً من الجميعِ بدونِ قيدٍ أو شرط ،،
" مصري " بامتياز ،، تشعر أنه حامِل هموم البـَلـَد ، و يفقه في ألاعيب الفساد و المفسدين ، و يَطـَّلعُ على كل كبيرة و صغيرة ..
يتحدث بطريقةِ أداءٍ ساخرة و ممتعضة ، تغلبُ عليها خِفـّة الدَمٍ و التعليقاتُ اللاذِعة .. و أبواب قلبه و مشاعره مفتوحة للجميع ،،
قد يحدثك في موضوعٍ له طابعٌ سياسي ،، ثم يضغط على " زرٍ " سِحري في ريموت كنترول انفعالاتِهِ المشحونة ، فنجد أنفسنا بصدد الظلم الواقع على فريق الإسماعيلي ، و أزمة كرة القدم التي يحتكر بطولاتِها النادي الأهلي !
إنه مثل َشلال متدفق بطبيعته ، لا يعرفُ حدودا تحكم ماءَالموضوعات ..
فكان د. ثروت يُجاهِد ، ليحوِّل هذا الشلال ، إلى قنواتٍ مائيةٍ محددة المَجرى و المعالِم ..
و رغم هذه " الإنتقالات " الراديكاليّة ،، إلا أن آراءَ أسد الإسماعيلية ، لها وَجاهَتـُها و منطقها و مَذاقـُها الخاص .. و إذا كان ياسين قد التهمَ " نايبُه " في البط ، فقد التهم هو " نايـِبنا " في الكلام
بادَرَهُ البعضُ بسؤالٍ خبيث ، له أبعاد تاريخيّة :
ـ هِىَّ المانجة طِلعِت يا بو عـــلي ؟!
ـ أيوة طِلعِت ،، بس لسة ما لهاش طـَعم !
علاقتي به ، تشبه علاقة " زهرة الصبّارِ " بالحياة ،، فإذا كانت الصبّارة ُ تعيش عشرات السنين ، تحت درجةِ حرارةٍ قاسية ، فإن زهرتـَها تعيشُ يوماً واحِداً ، أو بعضَ يوم !
مقابلاتـُنا ، تأتي دائماً " في عنق الزجاجة " ، برغم ما لدينا مِن حديثٍ مُمتِعٍ ، يحتاجُ إلى عشراتِ اللقاءات ،،
في كلِّ لقاءٍ يجمعنا ، أحاولُ أن أختطفه من الجميع ، لنتحادَثَ معاً في هواياتِنا المُشتركة ، و منها : القراءاتُ المتنوعة ،، الشـِّعر ،، " الأفلام الهوليودية القديمة " ، و لكن محاولاتي دائماً ما تبوءُ بالفشل ..
هو إنسانٌ " عَذبٌ " بكلِّ ما في الكلمةِ مِن معنى ،، تـَسْري منه الأفكارُ و الآراءُ دونَ جَلـَبَةٍ أو حِدَّة ، بينما تستمتعُ الأذنُ بصوتِهِ الرقيقِ ، و مخارجِ ألفاظِهِ الواضحة
تحدَّثنا عن طبيعة عَمَلِنا " الحكومي " ،، ثم تطرقنا إلى بيرم التونسي ، و مقاماتِهِ الشعريةِ ، و التي يمتعنا بأدائِها بصوتِهِ الذي يتميزُ بالأداءِ الدقيق و التحكم في مخارج اللفظة ، و تطويعه درامياً ، حسب " المقامة "
و لم يحرمنا سيد المشاعلي من صوتِهِ ، فغنى لنا رائعة :" لا تكذبي "