عُدنا إلى الطريق الزراعي ، ليمتدَ الحديثُ بيننا ، مُنساباً مثلَ جدولٍ هاديءٍ من الماءِ الزلال ، نلتقي في نقطةٍ ، و نختلفُ في أخرى ، إلا أن " أستاذيّة " الدكتور ثروت ، هي المؤشـِّرُ الوحيدُ الثابتُ في الحِوار ..
و تطرَّقنا في حديثنا إلى " الجيل الجديد " ،،
كُنـّا جيلاً جديداً بالنسبةِ إلى آبائِنا ، تمَرَّدنا على جُلِّ أفكارِهم ، و انتمينا إلى أفكارِنا و قناعاتِنا ، ثم جاء أولادُنا ، ليفعلوها معنا !
فهل حجمُ الفجوة بين آبائِنا و بيننا ، هي نفسها بين أولادِنا و بيننا ؟!
إنها أكبرُ و أشدُ عُمقاً ، فقد بزغوا في عصرٍ " تكنولوجي " بامتياز ، و أصبح " الكومبيوتر " يشكلُ آلية تفكيرهم ، و يُمَنهِجُ رؤيتهم لكافة تفاعلات الحياة " هكذا يقول د. ثروت "
هل تراجعت العواطف ، و تـَسَيَّدَ المنطقُ الرياضيُ الباردُ الحاد ؟!
هل طغت " النفعية " على " الإيثار " ، و أصبحت كل القَيَمِ قابلة " للتثمين و التشييء " ؟!
هل " تـَبَرّمَجَت " الأمومة و الأبوة و الأُخـُوّة !
أن تصدِمنا الإجابة التي تقول " نعم " ، لكنها تعبّر عن الحقيقة ، خيرٌ من أن تطمئِننا الإجابة التي تقولُ " لا " ، لكنها تجافي الحقيقة !
أكَّد الدكتور ثروت ، على حتمية تخلخـُل و انزواءِ قيمةِ " الترابط الأُسَري " ، كما تلاشى مِن قـَبْلِها مفهوم " القـَبـَلِيّة " ، و كان منطِقـُه قوياً ، حين بَرَّرَ قناعته هذه قائلاً : لأن آلية علاقة الفرد بالمجتمع ، لم تعد ترتبطُ بالمكان !
أما الدكتور حسن ، الذي ينتمي قلباً و قالباً إلى معطيات ثورة يوليو ، و إلى الحِقبةِ الناصرية ، فقد أسهَبَ في مناقشةِ التدهورِ الشديدِ في مجالى الصحّة و التعليم ، و قارَن بين الجرعات التعليمية التي كنا نتلقاها في العهد الناصري " بدون دروس خاصة " ، و تخلـّي المؤسسات التعليمية الحالية ، عن مسئوليتها و دورها تجاه الطالب أو التلميذ ..
تـَعَلـَّقت أنظارُنا بالجانب الأيمن للطريق ، بحثاً عن لافِتة ٍ تشيرُ إلى " مِيت نـَما " ،، إلى أن ارتقينا الطريق الدائري ، و أخذتنا إحدى المنحنيات إلى " الضياعِ في مَلكوت الله " !
بلاد تشيلنا و بلاد تحطنا ، فكأننا نصعَدُ جبال الأنديز ، ثم نهبطُ إلى حوض الأمازون ، نرى النيلَ تارة ً ، ثم يختفي لتحلَّ محله أراضٍ زراعيّة ،،
و استوقـَفـْنا كلَّ بالغٍ عاقِل ، لنسأله عن الطريق إلى باسوس ، و لم يتوقف اتصالنا بالآلاتي ، فكنا نلِف و ندور و نعود أدراجنا ، و كأننا داخل لعبة " السلم و الثعبان " ، و خرجنا من طريق " جـِسر البحر " الذي يحتوي على عددٍ من " المقبـّات " و " المطبات " ، تكفي لإهلاك دبابة ميركافا ، لندخلَ في دُروبٍ ترابيّة مُتقلقِلة ، تصلـُحُ لاختبار قدرات سيارة هامَر أو لاند كروزر
و المقب ، يختلف عن المطب ، فالمقب ، هو ذلك النتوء الذي يرتفعُ على مستوى الشارع المنبسط ، فيرفعُ السيارة إلى أعلى ، و يخبط صندوق التروس أو المحرك ، و يؤثر علىالمساعدِين أو السوسَت ، أما المَطـَبّ ، فهو تقعُّرٌ في أسفلتِ الطريق ، يهوي بالسيارةِ إلى أسفل
و تنفسنا الصعداء ، حين لمحنا " خالد " الإبن الأوسط لأبي حسام ، ينتظرنا على قارعة الطريق " حِلوة قارعة دي " ، أو إن شئتم الدِّقة ، فقد كان ينتظرنا على قارعة المُنحنيات و المداخل و الزوايا ، التي تؤدي إلى بيت عمِّنا الآلاتي ،، و أعتقادي الشخصي ، أن الآلاتي نفسه ، يتوه يومياً و هو متوجه إلى بيتِه
بالأحضانِ و القبلات ، إستقبـَلـَنا المايسترو محمد الآلاتي ، و كان ابنه حسام هو ثاني مستقبلينا ، و الذي بدا لي خجولاً بَتولاً ، لا يتمتعُ بموهبةِ والدِهِ الخارقة ، في كسر الحواجز النفسيّةِ بينه و بين الآخرين ،،
و قبل أن يجالسنا ، طلبتُ منه أن يسرعَ بتحضير " طقم شاى " محترم ، بينما كان " كريم " آخر العنقود في سلالة عائلة الآلاتي الموسيقية ، يمرُقُ " كالصاروخ " بين الشرفةِ و الصالة " ذِهاباً و إياباً " ، و كلما حاول أبوه أن يمسِكَ به ، أخذ " يُفـَلفِصُ " منه ، كما تتـَفـَلفـَصُ سمكة التونة من أحضانِ صائِدِها
و جاءَ الشاى ،، و مع أول رشفاتٍ ، بدأنا نعودُ إلى رُشدِنا الذي فقدناهُ في المتاهة !
أما " مدام ناهد " ، فكانت أول مستقبلِنا من ضيوفِ الآلاتي ،
، ببشاشتِها ، و حرارةِ مشاعرها ،،، و لاحظتُ " شِياكتها " و أناقتها المعهودة ، و حاسّة " الضيافة " العالية التي لا تفارقها، و التي تـشي بسيدةٍ كريمةٍ مضيافة ، تـَرَبَّت على العطاءِ و الكَرَم ،،
و تذكرتُ آخرَ لقاءٍ جمعني بأستاذي الجليل د. أنس ، و أختي العزيزة مدام ناهد ، في دمياط و رأس البَر،،، ذلك اليوم العبقري " المفتوح " الذي تعانقت فيه الطبيعة " بحراً و نيلاً " مع مشاعرنا الفيّاضة ، و الذي أُقيمَ احتِفاء ً بحضورِ مطرب الطفولة سامي دربز إلى مصر ، و صاحبة الصّوت السوبرانو المُعَبِّر ، رِفقة بلطيفة
عاتبتني مدام ناهد على عدم انتظامي في التواجد بالمنتدى ، و " زوَغـَاني " المستمر ، فَ " زَوَّغتُ " من هذا العِتاب الأخوي ، بأن حدثتـُها عن قصصها الراقية البديعة ، و التي كانت مفاجأة ، لمـُعتادي و مُدمني " ملتقى الشعراء و الأدباء "
و قلتُ ، قولة الشاعر الأندلسي :
لو كان " وقتي " معي ما اخترتُ غيرَكمو
و لا رضيتُ سِـــــواكم في " الغِنــا " بَدَلا
و الحق أنه لولا الدكتور أنس ، الذي يحمِلُ عني " أحمالاً ثقيلة " في قسم الأدب و الشِعر ، لما كان للقسم أن يحظى بهذا التألق ، و أن يكونَ جاذِباً لكل هذه المواهب في الفصحى و العامية و القصة القصيرة ..
" جديرٌ بالذِكر أن د. أنس ، أثنى كثيراً على ـ إسلام ـ صديقي " أبو نـَسَب "
كانت مدام ناهد " طوالَ الوقتِ " تضع مِنديلاً على أنفِها ، إتقاء ً لفـُوَّهاتِ المداخن التي تصْدُرُ عنا جميعاً " باستثناء الدكتور أنس " ، الذي يُعَدُّ " مُدَخِنـاً سلبيّاً " بحكم الصداقةِ و الأخـَوِيّة
ثم أشرقت الدار و هَلـَّت الأنوار ، حين طـُرِقَ الباب ، فإذا بياسين و أبي مندور قد جاءا معاً ، و توالت الأحضان و القـُبُلات ، و جلس أبو مندور بجواري ، و ثالثنا الإنسان الرقيق المثقف سيد المشاعلي ، و دارَ حديثنا حول بيرم التونسي ، و مواقع الكتب الأدبية ، و الأحرفِ المقطـَّعةِ في القرآن الكريم ،،
ثم مِن بعدِهِ ، جالسني ياسين ، و أخبرني أنهما " هو و أبو مندور " ، قضيا ليلة الأمسِ بصحبةِ الملحن الفنــان د. أحمد رستم ،، فتمنيتُ لو كنتُ معهما ،، لأجالسَ هذا الفنان الذي كثيراً ما تراودني نغماته الدافئة في : بيتنا القديم ،، أبراج حمام ،، باسألك إذن الدخول ،، كنا ف رمضان ..
شاركَ الجميعُ في مناقشاتٍ متعددة و متشعبة و متفرعة و مُتباينة ، و جرى الحوارُ ثنائياً و ثلاثياً و رباعياً ، كأنما أوركسترا ، يعزفُ فيها كل عازفٍ على هواه ،، ، ثم حين يتحدث د. ثروت أو د. حسن أو د. أنس ، نعود لننتظم في إيقاعٍ واحد ..
الحوار بيننا ، كان يشبه الخطوط على أوراق الشجَر ، لا يمضي في خطوطٍ مستقيمة ، و إنما يتعَرَّجُ و يتقاطعُ و يتشققُ ، ليشكلَ في نهايةِ الأمرِ ، لوحة تشكيليّة ، تشبه تِلقائيّة الطبيعة و عَفـَويتها ..
إلى أن جلس عمنا محمد الآلاتي " علىَ قرافيصِه " ، ليعطينا محاضرة قـَيّمة ، عن مفهوم " الإيقاع " في الموسيقى
صَمتنا جميعاً ، و كأنَّ على رؤوسِنا الطـّير ، حين شـَرَع الآلاتي في الشرح ، فتحدثَ عن الإيقاع ، و كيفية قراءة النوتة الموسيقية ، و عائلة الآلات الأوركستراليّة ،،
و رغم احتواءِ الشرحِ على مصطلحاتٍ ، و أرقامٍ ، و تقنياتٍ فنيّة ، إلا أن بساطة الشرحِ ، و سلاسة التفسير ، قد جعلاني أفهمُ ما استغـْلـَقَ على عقلي المُرهَق ..
المدهش ، أن ياسين " أبو فارِس " ، كانَ " يؤاجـِرُ " عمنا الآلاتي ، في تـَتِمّةِ بعضِ المصطلحات و أسماء المقامات ، فأدركتُ أنه " يُذاكِر " مِن وَرَانا
ـ الأمرُ الوحيد الذي غـَلـَبَ على مناقشاتِنا الثريّة ، هو " المشروباتُ " مُثـَلـَّجها و ساخِنـُها ، فتدفـَّقت الأكوابُ من كافةِ الأحجامِ و الأشكال ،، و ساعدت حرارة الجَوِّ ، على القضاءِ على كل ما تحتويه " الثلاجة " من مشروبات ـ ..
وُضِعَت السُفرة المستديرة وسط الحُجرة ، فاستبشرنا خيراً ، و اطمَئنـّت البطونُ المُستجيرة ، و لاحَت في الأفقِ بشائِرُ الطعام
و هَلَّ علينا الآلاتي ، حامِلاً طبقينِ من " السلاطة الخضراء " ، فقلتُ : أولُ الغيثِ قـَطرة !
ثمَّ توجّه إلى المطبخ ، و عادَ بطبقينِ مثلهما من السلاطة الخضراء ، فقلتُ لنفسي : و ليكن ،، السلاطة " تـَفتـَحُ النِفس " و تساعد على الهضم ، و لها فوائدها الغذائية
ثم خرَجَ ، ليدخل علينا بطبقينِ من السلاطة الخضراء ، فتـوَجَّستُ خيفـَة ً ، و قلتُ في " عَقل بالي " ، لعله صارَ نباتياً مثل أبي العلاء المَعَري و المهاتما غاندي و أدولف هتلر !
و كانت " الطامة ُ الكبرى " ، حين استقرَّ على السفرةِ ، طبقان آخران من السلاطة الخضراء
و كادت المائدة تمتليء عن آخرها ، بهذه الأطباق الثمانية ، و قد " انحَشـَرَ " بينها طبقانِ من " الطـُرشي " ، و انقلـَبَت الدهشة التي اعترت الجَميع ، إلى ضحِكِ هيستيري ، و هَمَّ البعضُ بالانصرافِ ، بحثاً عن مطعمٍ مُجاور ، لولا أن رأينا " بُرهانَ " المحمّر و المشمّر ..
إستطاع الآلاتي بحِرفيّة ، أن يجعل الأطباقَ الثمانية ، بمثابة ثماني دوائر على أطرافِ المائدةِ المستديرة ، فيما يشبه كواكب المجموعةِ الشمسيةِ حول الشمس ، و تدفقت الأصنافُ الواحد تلو الآخر ، فتنفسنا الصُّعَداء " إيه رأيكم في الصُّعَداء دي ؟! "
و في أول الطابور ، كانت المكرونة بالبشاميل " البعضُ يكتبونها : المعكرونة " ، ثم شرائح الدجاج البانيه ، ثم كفتة " سيخ " ، و بطاطس محشوة باللحم المفروم ، ثم كُراتٍ من الكفته المطبوخة تـُسمّى كفتة " داوود باشا " ، و داوود باشا هذا ، لم يذكره التاريخ العثماني ، سوى بكفتتهِ هذه !
أما الطبق " الرئيسي " ، فيحتوي على ذكَرَيّنِ من البَط ّالمُحَمّر ، و قد استقرا على مائدةٍ أخرى ، و كان لهما حضورٌ طاغٍ ، و شخصية كاريزميّة فرضت سطوتها على الجميع !
واحِد " فلحُوس " ممكن يسألني : و إيش عَرَّفك أنهما " ذكرانِ من البط " ؟!
فأقول له ، على طريقة مخاطبة الأعضاء الرسميّة في سماعي : أخي الفاضل ، لعلهما " أنثيَان " ،، و هنا يجدرُ أن نطلق عليهما " بطـّتان " ، و التعويلُ على المَذاقِ لا المُسَمّى
تطوع حسن كشك ب " تفسيخ " ذَكَرَىّ البَط "
حلوة ذَكَرَىّ البَط دي و أعطى لكلِ واحدٍ فينا " نايبُه " أو " مَنابُه " كما نقولها نحن البحراويّة ،،
و استغرقنا في التهامِ ما لذ و طاب ، و كلُّ واحِدٍ فينا ، يتطوعُ لملءِ طبق الآخر بالأصناف المتنوعة ، و قد سقطَ على بنطالي " بنطلوني يعني " كمية وافرة من الطعام ، حتى أنه كان يُمكن صُنع " شوربة " من بنطلون العَبد لله ، بعد غـَلـْيِـِهِ في حَلـّةٍ مناسبة !
أما الآلاتي " المضيف " ، فقد جلسَ بمُحاذاةِ " البطـَّتين " ، و قد استحوَذ على " الزلمُكـَّتـَين " ، متغزلاً في الوِركَين ، و أخذ يُمَصمِصُ في " الهيكلين ِالعظمِييَن " ، و تركهما " نظيفـَيْن " ، فاحترقنا و افترقنا شعلتين ، ثم صِرنا في الليالي دمعتين ، إثنتين ،، يا حبيبي "
مع الإعتذار للشاعر إبراهيم عيسى "
و عندما انجَلـَت المعركة ُ ، كان الهيكلان ، أنظف من هياكل الديناصورات في متحف التاريخ الطبيعي بواشنطن !
الوحيد الذي شارَكَ في " المؤاكلةِ " و ليس الأكل ، هو الدكتور ثروت ..
و المؤاكلة ، هي مداعبة الطعامِ دون أكلِه بنـَهَم ، و قد عَرفتُ السببَ ، فبَطـُلَ العَجَب ، فالدكتور ثروت " شِبه نباتي " ، وجبته الأساسية تحتوي على الخضراوات ، و لا مانع من الأسماكِ " البحرية فقط "