نادِ من اليوم إلى الغدِّ ، لن يأتيك من ندائك سوى صداه ، فأنت تنادي على من هو بعيدٌ عنك ، هذا ما أراد قوله الموسيقار الراحل " فريد الأطرش " في أغنيته ( بنادي عليك ) التي ألفها الزجال الغنائي " مأمون الشناوي " فهو في تلحينه لمطلع هذه الأغنية ، لم يتصرف كما الملحن السطحي مع النص الشعري ، حينما يلحن ( اللفظة ) من دون أنْ يدرك مغزاها ، فالفنان " فريد الأطرش " قام بتلحين ( المعنى ) مُظهـِراً عبقرية و وعي الملحن الضليع ، ذي المخيال الشاسع و صاحب الأفق البعيد ، حتى في توظيفه لأصوات ( الكورال ) التي جعل منها ، كأنها مجرد صدى لصوته ، حينما تردُّ على ترديداته و نداءاته البعيدة الوجهة ، بالنبرة نفسها ، و هذا ما نستشفه من الموسيقار الراحل " كمال الطويل " في تلحينه لأغنية ( جواب ) و هي من شعر " مرسي جميل عزيز " للفنان " عبد الحليم حافظ " و هوّ يقرأ كلمات الأغنية في رسالته ، مُسمِعاً المتلقي خربشات القلم على ورقة المكتوب ، محاولاً أنْ يجعله يعايش هذه اللحظات بهذا المؤثر الصوتي .
فهذا الأسلوب من التلحين ، يجعل من العمل الغنائي متكامل الصوت و الصورة لا ( المرئية ) و إنما ( الخيالية ) من خلال الانطباع الذي يضعه الملحن في ذهنية المستقبل له ، فيحفظ الأغنية من الزوال و الاندثار من حيث الحضور الجماهيري ، حتى إنْ لم توّثق بالتدوين بواسطة العدسة المرئية .
لا أنكر ما للشاشة الصغيرة من دور فعّال في إشهار و شهرة الأغنية ، لكني لست ممّن يرونها معياراً ذا فعالية قصوى لإنجاحها ، فالمحك الحقيقي – برأيي – لتبيان نجاح أو فشل أية أغنية ، هو الاستماع إليها عبر المذياع ( الراديو ) فقد كان من الملحنين السابقين زمن الغناء الجميل ، أن وضعوا في تصوراتهم اللحنية ، ضرورة صياغة الجملة الموسيقية ، التي تصوّر معنى الأغنية - بكل حمولتها من محاسن بديعية – للمستمع بطريقة تدلُّ على أنّ الواحد منهم ، كان يعمل عمل الفنان الشامل ، الذي يموسق و يرسم الكلمة و يصوّر معناها برشة عوده و بألوان أوتاره ، فيخرج الأغنية في شكل لوحة فنية ، ألوانها تعدُّد مقاماتها و رسومها الجمل الموسيقية ، التي يضعها في اللحن ، لتنطبع لوحته ( أغنيته المصورة تلحيناً ) في أذهان المستمعين ، مضفياً على عمله ، متعةً بصرية ًو عقلية ً، علاوةً على المتعة السمعية ، التي يُفترض أنْ يجود بها ، ببرهان أنه على الرغم من قِدم هذه الأغنيات ، التي جئت على ذكر اثنتين منها في صدر مقالتي هذه ، إلا أنها ما تزال تنبض بالحيوية في نبض الذاكرة العربية ، حتى قبل أنْ يقوم مغنياهما فيما بعد ، بحفظهما هما و أغنيات أخريات ، بواسطة أشرطة الخيالة ، بعد أنْ بثتا عبر أثير و ذبذبات المحطات المسموعة الخارقة للحدود الجغرافية الوهمية ، ردحاً طويلاً من الزمن .
هذه المدرسة اللحنية ، عرفتها الأغنية العربية في ( مصر ) و قد عرفتها أقطار عربية أخرى ، فبعد أنْ دشّن مدرسة الحداثة اللحنية في ( ليبيا ) فتح الموسيقار " يوسف العالم " فصلاً متقدماً فيها ، فقد عُرف عنه ، أنه صاحب الفضل بالفعل على الأغنية الليبية ، إذ أنه كان أول مُحدِّث في هيكلة بنيانها ، بالألحان الجميلة ، غير أنّه يتباين مع الفنانين " فريد الأطرش " و " عبد الحليم حافظ " من حيث تحوّل أعماله إلى تراث ، بيد أنّ له عملاً غنائياً من ألحانه لم يصوّر مرئياً بعد ، مع أنه ، قد مرً عمرٌ طويل على أوان تسجيله ، و مع ذلك ، فهو ما يزال يسكن في خلايا الذاكرة و تجاويفها الغائرة العمق ، و في خُلجان خلجات النفس و تضاريسها ، التي لم تـُصب بعد ، بعوامل التعرية التي أحدثتها الأغنية في هذا الزمن على الذائقة الاستماعية لدى عدد كبير من المستمعين ، فأنت حينما تنصت إلى هذه الأغنية ، من خلال كلمات كاتبها الشاعر الراحل " عاشور عبد العزيز " بصوت المطرب " عادل عبد المجيد " حينما يدندنها بهذا الإحساس الرفيع :
ورد الجناين و الزهر و الحنة
و الفل ياما خبّروني عنه
...
قالي الزهر موالك
عايش مع الغالي اللي في بالك
غير شوف شغلك و انتبه لأعمالك
و بيديك صورها بلادك جنة
...
و الفل في الصبحية
ميّل عليا و قال جد اشوية
و كنك علي صابك سواد اصبية
يرجاك مهما طال بعدك عنه ..
تشعر بأنك بحقٍّ وسط خميلة جميلة ، غنّاء بالغناء ، الذي يجيء على شاكلة الأغنية المُعدَّة سلفاً كمشروع فني مُعمر لزمن بعيد ، من فنّان شامل ، و ليس ملحناً فحسب ، فهو يفسّر الكلمة أولاً ، بعد أنْ يحفظها و يردّدها بينه و بين نفسه عديد المرات ، حتى تتمكن منه ، و تفرض عليه أجواءها ، فيلحّن معناها و يرسم صورها و يخرجها للمستمع لتداعب مشاعره ، فيراها الأخير بأذنيه - من ثم - شاخصة قـُبالة ناظريه ، بل و يتحسسها بقبضة خياله ، فإذا كنت جالساً في حديقة بهذا الجمال المرئي ، الماثلة في الصور الشعرية ، التي وضعها الشاعر الرقيق " عاشور عبد العزيز " - الذي تعامل مع ملحننا الكبير " يوسف العالم " في أكثر من عمل – فليس من المستبعد ، أنْ يتناهى إلى سمعك زقزقة العصافير و تغاريد البلابل من خلال صوت عذب يشدو بموسيقا صوتية و مرئية ، كما هو الفنان " عادل عبد المجيد " دوماً في أنغامه ، و كما هو يؤدي هذه الأغنية بكل سلاسة لحنية و انسيابية شعرية ، و بأنجع مقياس بتصوري يُحتكم إليه ، لمعرفة الأغنية الناجحة من الهابطة ، أي من دون تأثير التصوير المرئي التقني ، بل بتصوير المعنى من خلال اللحن .
فيا ليت هذه المدرسة اللحنية تفتح أبوابها من جديد ، بعد أنْ غزتنا الجملة اللحنية الإيقاعية الصاخبة ، التي تبعد عن الإحساس و الطرب الشعوري لا الجسدي ، فهي الأقرب إلى الأخير من أي طرب آخر .
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
زيـاد الـعـيـسـاوي