رد: ودع هواك ...سناء البيسى تكتب عن محمد عبد المطلب
(2)
عندما يصر علي طلبها منه زبائن القهوة, وبعدما لحق بأخيه محمد لبيب الطالب بمدرسة التجارة في القاهرة الذي قام بإلحاقه بمدرسة محمد علي الابتدائية بحي السيدة ليجلس علي تختة واحدة إلي جوار من أصبح فيما بعد من مشاهير المعماريين في مصر المهندس الدكتور سيد كريم..
تعالي يا محمد سلم علي سعادة الباشا وغني قدامه طقطوقة من اللي انت حافظها.. ودخل ابن الخامسة عشرة متعثرا في خطواته ملبيا نداء شقيقه الأكبر للقاعة التي صعدا إليها لهاثا وانبهارا علي درجات السلم الرخامي المرتفع في القصر الكبير بيت الأمة ليجد قبالته في صدر القاعة هذا الذي يزلزل اسمه القلوب وتهتف بمحبته الألسن.. سعد باشا زغلول..
غني يا محمد.. حتغني إيه؟!.. أي حاجة تعوزها وتؤمر بها سعادتك بس اعذرني دولتك حاغني من غير آلاتية.. الصوت الحلو يا محمد فرقة قائمة بذاتها.. و.. لم يسعف محمد لرهبة الموقف ما يحفظه عن ظهر قلب لحبيبه عبداللطيف البنا وإنما حضرت علي لسانه لا إراديا طقطوقة منيرة المهدية ليردد في حضرة زعيم الأمة: رنة خلخالي يامه وأنا نازلة أدلع أملا القلل..
وقد جاء ذكر ذلك اللقاء التاريخي بتفاصيله في كتاب سعد زغلول الذي قام بوضعه سكرتيره الخاص محمد إبراهيم الجزيري عندما كتب في بعضه يقول: حدث في عام1925 أن جاء إلي بيت الأمة شاب موظف بوزارة المالية اسمه محمد لبيب الأحمر ومعه صبي صغير, يرتدي بنطلونا قصيرا. قدمه إلي الرئيس قائلا: إنه شقيقه محمد القادم من شبراخيت بلدهم في محافظة البحيرة وله صوت جميل ويريد أن يغني أمام الرئيس..
ويمضي سكرتير الزعيم الخالد قائلا: إن الرئيس كان يحب الفن والفنانين, ولذلك رحب بالاستماع إلي المطرب الصغير وأعجب به وتمني له مستقبلا حسنا ولم يكن المطرب الذي نال الحظوة سوي محمد عبدالمطلب الذي أضاف لتلك الواقعة: إن سعد باشا عندما استمع إلي صوتي في ذلك اليوم عبر عن إعجابه بي بأن قبلني ثم منحني مبلغ جنيه كامل وقدمني إلي السيدة صفية أم المصريين فغنيت لها الأغنية الشعبية ذاتها للست منيرة المهدية ( رنة خلخالي يامه وأنا نازلة أدلع أملا القلل) وكنت أمسك في يدي عصا خيرزان كما يفعل أبناء البلد الجدعان...
وتمر أيام الوفد ويجمع الفندق كلا من دولة مصطفي النحاس باشا رئيس الوفد والمطرب محمد عبدالوهاب الذي سيقيم له الفندق حفلا غنائيا في المساء, ويحرص عبدالوهاب علي لقاء النحاس قبل الحفل ليحمل إليه تحية وتبجيلا, ويهمس بطلبه للمترودوتيل الذي يقوم بدوره في استئذان الباشا فيأذن مضمرا في نفسه نصيحة يود أن يزكيها للمطرب الواعد ربيب الشاعر أحمد شوقي, وما أن انحني عبدالوهاب للنحاس كي يسلم عليه حتي فاجأه بعفويته الناقدة اللاذعة:
انت المطرب الخرع اللي بيغني قدام الناس مسكين وحالي عدم.. أنا يا ابني عايزك تخشوشن وتخليك سبع زي محمد عبدالمطلب..
ولقسوة النقد وجرح النصيحة خرج عبدالوهاب من حضرة النحاس مندفعا ثائرا ليعقد مقارنته الخاصة التي أطلق فيها لقبا جارحا ليلتصق بعبدالمطلب فأسماه حمار الإذاعة ومضي في انتقامه ممن لا ذنب له ليلغي عقده بسفره معه إلي باريس للاشتراك في فيلم الوردة البيضاء وهو الذي تتلمذ سنوات علي يديه في نادي الموسيقي الشرقية معهد الموسيقي العربية الآن
ومكث أكثر من12 سنة يقوم من خلفه بدور رئيس المذهبجية ليمتص عبدالوهاب كريمة أدائه المتفرد في الانتقال باللحن من مقام لآخر ومن الارتفاعات للانخفاضات بإبداع وحرفنة لم تتوافرا في أي مذهبجي آخر في أي فرقة, بل لقد اشترك معه بصوته في تسجيل الكثير من أسطواناته مثل سكت ليه يا لساني... وعشقت روحك... وأحب أشوفك كل يوم.... وبلبل حيران.... والقلب ياما انتظر.... وحسدوني وباين في عنيهم... وحبيب القلب ولما انت ناوي تغيب علي طول.... وليلة الوداع..
ولازمه في العديد من رحلاته إلي سوريا وفلسطين ولبنان والعراق, بل أنقذه من القتل أثناء إحدي رحلاتهما إلي العراق عندما كانت الفرقة تنزل في فندق ناء ببلدة الرطبة بين سوريا والعراق, وكان من عادة عبدالوهاب النوم بمفرده في غرفة مستقلة, بينما يكون أعضاء الفرقة في غرف مختلفة.. وفي الليلة الأولي بالفندق دخل أحد الخدم العمالقة في ساعة متأخرة ليصافح عبدالوهاب بيده الضخمة فقام عبدالوهاب برد السلام بأطراف الأصابع الحذرة كعادته
وإذا بالقادم يقبض علي الأصابع المرهفة يدهقها بقوة مهددا: لازم تعرف سيدي أن الإيد اللي بتسلم عليك يا أستاذ وقرفان تسلم عليها قتلت سبعة رجال.. وارتعدت فرائص عبدالوهاب لوجوده بمفرده في الغرفة مع القاتل, واستنجد بعبدالمطلب في الغرفة المجاورة ورجاه ملازمته كظله ليل نهار طوال الرحلة, ومكث عبدالمطلب يشارك عبدالوهاب غرفته لينام آمنا ويأكل الأرز مع ملائكته..
ويروي عبدالمطلب عن المرة التي ضل فيها طريقه في صحراء العراق خمسة أيام عندما سافر مع فرقة عبدالوهاب عام1930 ومكث ثلاثة أيام بلياليهم بلا قطرة ماء أو لقمة طعام حتي التقي بعد شبه إغماءة بإحدي القوافل التي أنقذته وعادت به إلي بغداد ملتقطا أنفاسه بصعوبة لمعرفته أن هناك من انقطعت أنفاسه تماما ــ محمد عبدالوهاب ــ لتخوفه علي مبلغ الثلثمائة دينار التي كان قد أعطاها إليه للمحافظة عليها لحين بلوغهما خزينة الفندق..
وقد ظل عبدالمطلب حريصا علي ارتداء الطربوش كعلامة مميزة لشخصيته حتي عام1960 ولم يخلعه من تلقاء نفسه وإنما الذي خلعه له هو الموسيقار محمد عبدالوهاب عندما كان مشتركا مع المجموعة في غناء نشيد قولوا لمصر في عيد الجلاء علي مسرح نادي القوات المسلحة بالزمالك, وقد ظهر جميع الفنانين علي المسرح من غير طربوش, فما كان من محمد عبدالوهاب إلا أن التقطه من فوق رأسه بقوله: اشمعني انت اللي بطربوش.
عبدالوهاب المنتبه دوما بحسه الفني الاستثماري للقيمة الجماهيرية في المطربين الواعدين علي الساحة قدم فيلما من إنتاجه تاكسي حنطور عام1945 ليلعب بطولته محمد عبدالمطلب ــ الذي لم يتقاض أجرا عليه ــ أمام الوجه الجديد سامية جمال من إخراج أحمد بدرخان, وقام عبدالوهاب بنفسه بتلحين أغاني الفيلم وكان أشهرها يا نايمة الليل وأنا صاحي صباح الخير علي عيونك ده قلبي بيدعي صباحي إلهي ربنا يصونك وفايت وعنيه في عنية شافني ماسلمشي عليه..
وقدم بعدها عبدالمطلب فيلمه الثاني الصيت ولا الغني من إنتاجه وإخراج حسن الإمام وذلك في عام1946, ثم فيلمه الثالث5 شارع الحبايب من إنتاجه أيضا وإخراج السيد بدير الذي عرض في12 أبريل1971.
لحن له عبدالوهاب العديد من أغانيه ــ التي بلغت ما يقرب من مائة أغنية ــ منها البحر زاد... واعمل معروف يا أبوعود ملفوف ياللي خدودك بنور مشطوف..... والدهر ليه قاسي علي.... ياما سهرت الليل شاكي..
وعندما كان عبدالمطلب يشرح طريقة معاملة عبدالوهاب المادية يسوق علي ذلك مثالا عندما كان يعمل معه مذهبجيا وطالبه بعلاوة خمسين قرشا في الشهر, فقال له عبدالوهاب: لا.. أنا حاعطيك علاوة لمدة سنتين.. وتعجب عبدالمطلب هاتفا: مش معقول!! فأضاف عبدالوهاب: وهخليك كمان تسجل ست أسطوانات بصوتك لشركة بيضافون مقابل مبلغ12 جنيها..
وسعد عبدالمطلب سعادة لا تقدر لأنه سيقبض12 جنيها مرة واحدة, لكن عبدالوهاب سرعان ما استدرك قائلا حتي لا يتمادي طلب في فرحته: انت ستقبض تلك العلاوة علي ستة أقساط, كل قسط جنيهان.. ويعلق عبدالمطلب: وكنت كلما تأخرت مرة عن حضور البروفات يعنفني عبدالوهاب أشد التعنيف: أيوه يا سيدي بقي أنا علشان ما أعطيتك علاوة لمدة سنتين تقوم ترمي طوبتي وتديني الطرشة؟!.
طلب صاحب البصمة الشعبية الذي سار علي دربه شفيق جلال ومحمد رشدي والعزبي وغيرهم وغيرهم من الناس المطربين.. من خلع الجلباب والطاقية وارتدي الاسموكنج وغني للأمراء والملوك واستمع له الملك محمد الخامس والملك فيصل والملك الحسن والحبيب بورقيبة, والرئيس أحمد بن بيللا وهواري بومدين, وزار جميع البلاد العربية وكان ملك الغناء في إذاعة القدس وعلي مستوي فلسطين, وغني علي مسارح أمريكا وروما ولندن, ونال وسام العلوم والفنون في عيد العلم عام1964 من الرئيس الراحل عبدالناصر, وجائزة الجدارة في عيد الفن عام1979 من الرئيس الراحل محمد أنور السادات, وأقيم له تمثال نصفي قبل وفاته ليوضع في بهو المعهد العالي للموسيقي العربية الذي تتلمذ فيه في بدء حياته بجوار تماثيل الخالدين..
__________________
مع تحيات سمير عبد الرازق
|