ومهما يكن الأمر من شيء، فلقد كان الفنان رشيد القندرجي متمكناً من إستخدام هذا الأسلوب ، ومثالا على ذلك عند سماعنا لمقام النوى لهذا الفنان المبدع فهو يسترسل عند تحرير مقام النوى والقطع والاوصال لحد الميانة الاولى لهذا المقام بإستخدام الصوت الطبيعي (آلاجغ) ومن ثم يغيير طبيعة الصوت الى ما يسمى بالزير للصعود ومن ثم وبراحة ويسر كبيريين وبأمكانية الأستاذ المُتمكن يرجع الى الصوت الطبيعي لعمل التسليم .
أن عملية الانتقال من وضع طبيعي للصوت المنتج إلى وضع أخر وهو ما أشرنا اليه بإصطلاح (الزير) وبالعكس تنم عن مقدرة وكفاءة عالية كان يتمييز بها المقرء رشيد القندرجي.
إن هذا الموضوع يقودنا الى موضوع أخر الا وهو التمكن التام من امتلاك ناصية ومسالك النغم والسيطرة المطلقة على المسارات اللحنية للمقامات العراقية فأن ماهو شائع ومتداول عن أن رشيد القندرجي قد قرء مقام الأبراهيمي بأربعة وعشريين شعبة متفوقاً على أستاذه أحمد الزيدان والذي غناه بأربعة عشر شعبة17 وللحقيقة لا بد من التقصي والبحث عن إمكانية وجود هكذا تسجيل لهذا المقام بصوت رشيد القندرجي متضمناً الأربع والعشريين شعبة . ومهما يكن الأمر من شيء فعند سماعنا لتسجيلات هذا المُقري الفذ لمقامي الحليلاوي والباجلان، ومن المعلوم بأن هذيين المقامين متشابهيين لدرجة كبيرة جدا نجد أمكانية السيطرة المطلقة على النغم في تحديد هوية وشخصية المقامين المذكورين، علماً بأن ما متعارف عليه من أن هذا الفنان كان لا يقرأ النوطة الموسيقية أو العزف على آلة موسيقية، أضف إلى ذلك اتساع دائرة معرفته بالمقامات العراقية و تمكنه من أداءها وتسجيلها جميعاً18، كما ويعتبر لدى خبراء المقام العراقي من الطبقة المتقدمة من قارئ المقام .
إن إبراز الشخصية أو النكهة البغدادية في قراءة المقام لدى هذا الفنان تبقى سمة متميزة، وصوته الطبيعي شجي وذو عذوبة نادرة يساعد على إبراز هذه الشخصية، ولو قُدّر لهذا الفنان إمتلاك مدى واسع وعريض في حنجرته يُغنيه عن إستخدام الصوت المفتعل (الزير) لربما ترك لنا من رصيد تسجيلاته الشيء النادر والعجيب.
كان الفنان رشيد القندرجي أميناً على ما قد تعلمه من اساتذتهِ وما هو متوارث عند قراءة المقام، لذا يصلح أن نقول بأنهُ كان رائداً لمعسكر المحافظيين من قرء ومعجبي المقام العراقي والتي كانت ترى أي خروج عن أصول ما هو موروث ومتبع بمثابة جُنحة كبيرة لا تُغتفر، وعلى ما يظهر بأن هناك نوع من التوتر والتشاحن قد حصل بين هذا المعسكر والتجديدات التي كان يقوم بها مقُرء المقام العملاق محمد القبانجي، فلقد كان القبنجي متمكناً من قراءة جميع المقامات، وبحكم الأستاذية ومنحى روح التطور والموقع الاجتماعي المتميز الذي كان يتميز بهِ الأستاذ محمد القبانجي عن أقرانه من قراء المقام، راح يجدد ويضيف ويخلق مقامات لم تكن متداولة في ساحة قراءة المقام في ذلك الوقت لدرجة بأن رشيد القندرجي أشتكى من ذلك بمقولته (.. إن القبانجي بدأ يغني حسب مزاجه مقامات ليس لها وجود ولم نسمعها من أساتذتنا.)19.
يقول خبير المقام العراقي الشيخ جلال الحنفي (...لقد كانت فكرة التَجديد في المقام قد علقت بذهن القبنجي وجالت في مدار رغبته بعد عودته من مؤتمر القاهرة عام 1932 فوجدت نظرته هذه لدى القوم معارضةً شديدة وأنشأت بينه وبين مشاهير قراء المقام العراقي من جماعة (أحمد الزيدان) خاصة خصومةً بلغت أقصى درجات الحِدة، .....، وقد حاولت أن أجمع بين ( رشيد القندرجي) وبين ( محمد القبنجي) فأعياني ذلك، ) 20
لكن رغم ذلك كانت للأستاذ رشيد القندرجي تجديداته وإضافاته المتميزة في ما هو متوارث من هذا الفن الجميل وعلى ذمة الحنفي انه أدخل نغمات العمر كله و المكابل والقريه باش والعلزار في مقام الحديدي وأدخل في مقام الكلكلي نغمة السيرنك ونغمة العلزبار وأدخل في مقام الطاهر نغمة من العجم ومن الحسيني وأدخل نغمات كثيرة في مقام الإبراهيمي21.
وهروباً من النكران الفني والفقر المادي العائلي والشخصي والعقوق الاجتماعي ومن فرط حساسيته ورهافتها عمد إلى الكحول لتهدي همومه وتسكن مواجعه، عُين خبيرا للمقام العراقي في دار الإذاعة العراقية ببغداد إلى يوم وفاته22 وذلك في 8 آذار عام 1945.
إن عملية رد الاعتبار لهذا الفنان وجمع تراثه الغنائي وإعادة تسجيله بشكل يتناسب والتطورات التكنولوجية الحديثة تصبح من المهمات الضرورية جداً بل من أولى واجبات المسئولين عن الحركة الثقافية في العراق ونحن نشاهد انحسار واختفاء المقام وإن ظنت الناس بأنهُ بُعث من جديد..فانههُ لم يبعث من جديد مالم يتدارك المسئولين عن الواقع الثقافي في العراق أمر الاعتناء به وتدريسهُ بشكل منهجي ونظامي وإعادة تسجيل جميع التراث ألمقامي لحفظ هذا التراث وجعله مُتيسراً للأجيال القادمة.
...........................
الهوامش:
1. ص 18 من كتاب المقام العراقي وأعلام الغناء البغدادي للشيخ جلال الحنفي، الطبعة الثانية لسنة 2000م. الدار العربية للموسوعات- بيروت، لبنان.
2. و 3. المصدر السابق ص 65.
4. ص 132 من كتاب المقام العراقي للحاج هاشم محمد الرجب، الطبعة الثانية لسنة1983م . مكتبة المثنى – بغداد.
5. ص 194 من كتاب الطرب عند العرب لعبد الكريم العلاف، الطبعة الثانية لسنة 1963م. من منشورات المكتبة الأهلية- بغداد.
6. ص 141 من كتاب السبعة الكبار في الموسيقى العربية لفكتور سحاب، الطبعة الأولى لسنة 1987م. دار العلم للملايين-بيروت.
7. ص 113 من كتاب الشيخ جلال الحنفي المذكور سابقاً.
8. ص 133 من كتاب الرجب المذكور سابقاً.
9. ص 29 من كتاب مقدمة في الموسيقى العربية للشيخ جلال الحنفي. بغداد 1989م.يقول الشيخ جلال الحنفي (فلقد أدركنا المقام العراقي وله أكثر من مدرسة في بغداد أشهرها ... مدرسة ابن زيدان ثم مدرسة رباز ومدرسة ثالثة اخرى) انهُ من المؤسف حقاً لتاريخ المقام العراقي أن لا نقف على خصائص ومميزات هذه المدارس رغم جهود الشيخ جلال الحنفي المحمودة بذكرها فأنه لم يتطرق لشرح خصائصها ومميزاتها ودرجة الاختلاف بينها.
10. ص 190 من كتاب العلاف المذكور سابقاً.
11. ذكرهُ الشيخ جلال الحنفي (.... من أن إسرائيل هذا كان من الطبقة المتقدمة بين مغني المقام في بغداد ولاسرائيل هذا نكات كثيرة وأخبار لا محل هنا لذكرها) راجع ص 41 من كتاب المقام العراقي وأعلام الغناء البغدادي للشيخ جلال الحنفي،الطبعة الثانية لسنة 2000م. الدار العربية للموسوعات- بيروت، لبنان.
أما معلومة إستخدام إسرائيل هذا للصوت المفتعل أو الزير فلقد استقيناه من الُكتيب المُرفق للقرص المدمج والخاص برشيد القندرجي والصادر من al sur Media عام 1996م باريس. ص 38.
12. ص 10 التحليل الطبقي والمجتمع العراقي ، من مقالة لحنا بطاطو والمنشورة ضمن كتاب المجتمع العراقي ،حفريات سوسيولوجية في الإثنيات والطوائف والطبقات – معهد الدراسات الإستراتيجية . الطبعة الأولى – بيروت.
13. مع حديث للفنان الراحل سليم شبث من برنامج المقام العراقي والمذاع لحلقتين ليومي 24/4/1979 و 8/5/1979 من دار الإذاعة الإسرائيلية.
14. راجع ( صنعةُ الألحان وأقتران نغمها بحروف الأقاويل) ص 1093 من كتاب الموسيقى الكبير للفارابي، تحقيق وشرح غطاس عبد الملك خشبة. دار الكاتب العربي للطباعة والنشر بالقاهرة.
15. ص 259 من كتاب لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث، الجزء الثالث، الدكتور علي الوردي. دار كوفان للنشر- لندن 1992.
16. ص 25 من كتاب مقدمة في الموسيقى العربية للشيخ جلال الحنفي. بغداد 1989م.
17. ص 66 من كتاب المقام العراقي وأعلام الغناء البغدادي للشيخ جلال الحنفي،الطبعة الثانية لسنة 2000م. الدار العربية للموسوعات- بيروت، لبنان.
18. يتساءل الراحل الحاج هاشم محمد الرجب في كتابه من تراث الموسيقى والغناء العراقي ص 294 والصادر في بغداد لعام 2002 عن دار الشؤون الثقافية عن أن رشيد القندرجي قد (سجل جميع المقامات على الاسطوانات عدا ثلاثة مقامات هي الحسيني والبنجكاه والبهرزاوي ولا نعلم ما هو السبب؟) ولربما نجد جواباً على هذا التساؤل عند الشيخ جلال الحنفي،يقول الشيخ جلال ص 27 من كتابه مقدمة في الموسيقى العربية (.. فلقد رفض " رشيد القندرجي" أن يغني لي الأورفة والحكيمي وبعض المقامات الصغيرة وهو يعرفها جيداً وإنما كانت هناك أنفةٌ مات وهي فيه.)
19. ص32 من كتاب أعلام المقام العراقي ورواده، كمال لطيف سالم . الطبعة الأولى 1985م. مكتبة النهضة-بغداد.
20. ص25 من كتاب مقدمة في الموسيقى العربية للشيخ جلال الحنفي. بغداد 1989م.
21. ص 66 من كتاب المقام العراقي وأعلام الغناء البغدادي للشيخ جلال الحنفي،الطبعة الثانية لسنة 2000م. الدار العربية للموسوعات- بيروت، لبنان.
22. ص 134 من كتاب المقام العراقي للحاج هاشم محمد الرجب، الطبعة الثانية لسنة1983م . مكتبة المثنى – بغداد.
المصدر:
http://www.almothaqaf.com/index.php?...519&Itemid=777