هناك نوعان من الغناء قبل ام كلثوم
يقف بينهما سيد درويش ظاهرة جديدة كانت في ذلك الوقت
تشكل شيئا قائما بذاته مستقلا عن سياق الحياة الموسيقية
والغنائية:
كان تراث القرنين الثامن عشر والتاسع عشر , الذي توج
بأعمال عبده الحامولي ومحمد عثمان والشيخ المسلوب ,
وكامل الخلعي وسلامة حجازي وداود حسني (مع مطلع القرن العشرين).
وهذا بقي اسير الصالونات القادرة على استئجار العازفين
حين لم تكن الاسطوانة قد شاعت شعبيا بعد,
والنوع الاخر من الغناء الشائع الذي يمكن تسميته
بغناء الكبريهات , اي انه ذلك النوع من الغناء الذي
لا يهدف الا الى(الفرفشة)الرخيصة واثارة اكثر
مشاعر المستمع غريزة وبدائية وانحطاطا .
ولو توقفنا عند منيرة المهدية, اعظم واشهر الاصوات
النسائية قبل ام كلثوم (الى جانب فتحية احمد) لوجدنا التجسيد الكامل لهذا النوع من الغناء في عدد كبير
من اغانيهما .
واذا كان شعر احمد رامي في اخر ما غنت له ام كلثوم
(يا مسهرني ) يبدو عاديا وسطحيا , وشيئا مما تجاوزه الزمان , ولم يعد يعبر عن احاسيس الانسان العربي
في هذا العصر , فان احمد رامي نجح في الزمان القديم
بمبادرة من ام كلثوم نفسها في نقل كلام الاغاني من الابتذال
والسوقية والتفاهة , الى اطار النظافة والتعبير الفني الراقي
عن احاسيس النفس البشرية ....
في الوقت الذي كان فيه فنان كبير اخر هو محمد عبد الوهاب
قد التصق بالشاعر الكبير احمد شوقي ....
ودخل كل من شوقي ورامي (وهما من كتاب الشعر الكلاسيكي الفصيح ) في عالم التخصص لكتابة الاغاني باللهجة المصرية العامية ,
فكان ممكنا , في ذلك العصر السحيق (قبل نصف قرن)
ان نستمع الى شعر غنائي راق من مستوى في الليل لما خلي
وبلبل حيران , لا نحد اليوم في الشعر الغنائي العربي عموما
ما يوازيهما في المستوى والجمال الفني.
ولم يكتفي كل من ام كلثوم وعبد الوهاب بدفع الشعر
الغنائي باللهجة العامية الى الامام ,
بل اندفعا وراء كثير من عيون الشعر العربي الكلاسيكي
قديمه وحديثه , فسمعنا كثيرا من قصائد شوقي
بصوت ام كلثوم (سلوا قلبي , ولد الهدى, نهج البردة , النيل) وبصوت عبد الوهاب (مضناك,علموه, يا ناعما ,
يا جارة الوادي , ردت الروح ) كما سمعنا بصوتهما نماذج رائعة من الشعر العربي القديم(ابو فراس الحمداني ومهيار الديلمي وغيرهما) ويجب ان لا ننسى ان صوت ام كلثوم
ارتبط لفترة غير قصيرة بشعر بيرم التونسي ,
ابي الزجل المصري العظيم.(الياس سحاب)
|
العرض المتطور
