كعادتكم ، تطرحون موضوعاتٍ ثرية و جديرة بالنقاش ،،
فاسمح لي أن أوجـِزَ وجهة نظري في نِقاطٍ موجزة ،
تفتقدُ إلى التأطير و الإحاطة و اتساع التناول ،،
آملاً أن يتناول أعضاء المنتدى الأفاضل ،
كافة أوجهِ الموضوع ،،
فالطرح له أبعاد إجتماعية و نفسية و سياسية و تاريخية ،،
العذاب في فن الغناء الشرقي ( تحديداً العاطفي / العربي )
هو حالة حاضرة بقوة في مشهد الأغنية
( زمنياً ، في مرحلة الغناء الأصيل )
ـ طرحكم يا سيدي ،، يحتملُ تناوله في ( دراسة مُوَسَّعة ) ،
فالعذاب و اللوعة و الشجن ، سِمَة ٌ أساسية في جًلّ أغنياتنا ، ومعاني راسخة تلقي الكلماتُ ظلالـَها على العمل الغنائي ككل
ـ إذا تناولنا الأمر من منظور ( إجتماعي ) ،، فالمراة ( الأنثى ) التي تمثل الموضوع الرئيسي في الأغنية ،، كانت ( عَزيزةً و مُفتـَقدة ) ،،
مختبئةً وراء جدران سميكة ، من العادات و التقاليد التي تحجبها عن الرجل ،،
و لم تكن ( في الفترة المشار إليها ، و المُعَوّلُ عليها في أصيل الغناء ) قد انكشفت بهذا الزخم العصري بَعدُ !
ـ نفسياً ،، قد يتوائم مفهوم ( الإعلاء و الإسقاط )
على المعاني التي تدور في فضاءها الأغاني ،،
إسقاط دافع الرغبة ، و إعلاء(الضمير ) ليكون
حباً و عِشقاً ،،
فالحرمان العاطفي / الجنسي هو ( كلمة السر المسمومة ) ،
التي لا تشجع الباحثين على الإقتراب منها
أما الشبع العاطفي في الغرب ،، و اختلاف السلوك ،،
و إتاحة العلاقات ، جعل لأغانيهم زخماً آخر ،
و فضاءاتٍ أكثر رحابة
ـ هناك قوة دَفع ( حُزنية ) قديمة رسخت في أشعارنا منذ الجاهلية ،، و جعلت من ( تابو ) الأنثى ، مناحة ً لا تنقطع حتى يومنا هذا ،، و لم يبرز مشهد ( الحب المتكافيء ،، المتفائل ،، المبتهج )
إلا قليلاً ، فالمَيلُ للمأساوية هو السائد
منذ عبلة و ليلى و بثينة إلخ
ـ إذا كانتالأفلاطونية ( التي أشار إليها أستاذنا الآلاتي )
مرحلة مؤقتة يمر بها الإنسان ،،
فهى مستدامة في أغانينا ،،
نستلذ بمعانيها ، و نجلدُ بها قلوبنا و ضمائرنا ،،
كأنها حالة ( مازوكية ) غنائية جماعية ،،
بها ، تـَشـَكـَّل وجداننا و انطبع بها ،، فأصبحت الأغنية تعبر ( في أغلبها ) عن انكسار و انسحاق و انهيار و لوعة العاشق المتيم الهائم المظلوم إلخ
ـ عن تـَشـَكـُّل ِ الوجدان ، و تطبعه بهذا الطابع
( السنتمنتالي ) المُغرِق في العواطف ،
فالأغنية كانت بمثابة إعلان واضح للمستمع ( الغـَرير )
بأن الحُب يكون هكذا ،،
للدرجة التي جعلت من الكثيرين يمشون على كتالوج عبد الوهاب
و ام كلثوم و حليم و فريد و نجاة إلخ ، في الحب ،،
و الحب الخالي من المشاكل ( لوعة و أسى و ضنى و فراق )
ليس هو الحب النموذجي الجدير بأن يسكن القلب
و يتوغل في الروح !
لابد من التشرد و ( البهدلة ) و المَسكنة
ـ أود فقط أن أستثني ( المشهد الفيروزي ) الذي تـَرَاوح بين تلك الحالة ،،
و بين روح أخرى أميَلُ إلى الرؤية الغربية للعلاقة
( ربما لتأثر الرحابنة بالغرب ) ،،
و لسبب أساسي آخر ( أسميه جغرافياً ) ،،
ألا و هو عبقرية الطبيعة في لبنان ،، فكان مشهد الحب
في الأغاني الرحبانية ، محاطاً بتجليات الطبيعة من :
غابة و شجر و مطر و زهور و برد و نهر
و نبع و جسر و بحيرة و تل و جبل إلخ
ـ المفاهيم ( القـَدَريّة ) الراسخة في وجدان الشعوب العربية
( لن أتطرق إلى جذورها البيئية و العقائدية ) ،،
كانت سبباً في تنحية إرادة الفرد ( المُحِب ) ،
فهو المسلوب المفتون المتيم عشقاً ، و لا حول له و لا قوة ،،
حتى أن بعض معاني الأغاني يدور حول
( الزمن ، و الدنيا و القدر و الظروف و السنين )
التي تسببت في الفراق و الضياع و الوداع إلخ
كما أن انهيار ارادة العاشق ( المُسبَقة )
دفعت ببعض الأغاني للمعنى : ( هاتوا لي حبيبي ) !
ـ هناك منهج نقدي يتناول الحقول الدلالية للألفاظ
و اللغة للعالم اللغوي ( دوساسير ) ،،
يصلح تماماً لموضَعَةِ و تحليل المعاني السائدة في أغانينا ،
و التي ( لو أتيح لي الوقت الكافي )
فسوف أتوخى هذا المنهج القيِّم في سبر أغوار
غوامض هذه الثنائية التي تغلف أغانينا العاطفية ،
و باختصار ،،
فلنتأمل هذه الألفاظ التي تسود تلك الأغنيات :
ـ كـَتـَبة ( الأغاني ) يُحَلقون في هذه السماء الكابية
باعتبارها المتحدث الرسمي عن الحُب ،،
و ما تطرقهم لفضاءات أخرى ( للأنثى ) إلا استثناء ً من القاعدة
ـ حتى ( فنيـّاً ) ،، دارت القافية الغنائية في دورات
( مغلقة ) من الألفاظ ،، كل لفظة تؤدي إلى التالية
( بالتبعية ) و الباقي حَشو ،،
على سبيل المثال لا الحصر :
الشموع ، الدموع ، الضلوع
الحبيب ، الطبيب ، الغريب
الألم ، الندم ، العدم
السراب ، الضباب ، الغياب
الروح ، النوح ، البوح
قلبي ، ذنبي ، حبي
الأيام ، الأحلام ، الأوهام
عني ، ظني ، ، خانني
ليل ، ميل ، ويل
أنين ، حنين ، سنين
ـهذه الثنائية المكررة ( العاشق المًعَذب و المعشوقة الهاجرة
أو الغادرة أو التـَئلانة أو
( المِطنشة أو المستهبلة ) ،،
على اتساع خيال شعراءها ،، إلا أنها خلفت لنا
وجداناً عليلاً كليلاً متهافِتاً ،، يؤثر بطريقة غير مباشرة
في رؤيتنا للحياة و تفاعلاتها بشكل عام ،،
أمثلة طربية :
ـ فريد الأطرش : حالة ( عذاب ) ترتدي ( بَدلة ) و تمسكُ عوداً ،، و اسمها ( وحيد )
ـ عبد الحليم : اليتيم المظلوم المُعَذب المسكين المكلوم الشاحب المريض
ـ نجاة : الضعيفة الرهيفة التي شـَفـَّـت وجداً و شـَحُبَت عشقاً و تلوعت هجرانا ،،،،، إلخ
ـ الوجدان العربي المتلقي لفن الغناء ، إستساغ هذه الثنائية السنتمنتالية بجدارة ، و يحتاج إلى زمن طويل لينفلتَ
من مدارها
( شخصياً ،،، واقعٌ في مَدارِها بامتياز )
ما كتبته ، في ظني هو ( قاعدة ) تقبل استثناءات كثيرة ،،
و لكن بنية الحزن و العذاب في أغانينا ،
تظل مسيطرة على أجوائها الإنفعالية
ـ هذا الموضوع القيّم يتطلب بالضرورة :
مقارنة موضوعية بين منطلقات الأغنية العربية ، و الغربية ،
و كذا التحول الذي طرأ على الأغنية منذ السبعينات
في عالمنا العربي
فليت وقتي يتسع للتفاعل مع موضوعاتك القيمة الكثيرة
يا دكتور ثروت ،،
و التي تحتاج ينابيعها إلى وعاءٍ أوسع من وعاء وقتي الضئيل