عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 16/02/2025, 08h21
الصورة الرمزية عثمان دلباني
عثمان دلباني عثمان دلباني غير متصل  
ابوهنية
رقم العضوية:42597
 
تاريخ التسجيل: June 2007
الجنسية: جزائرية
الإقامة: الجزائر
المشاركات: 1,570
افتراضي رد: دراسة في متغيّرات الوعي الجمالي الموسيقي-د. محمد عزيز شاكر ظاظا

الحلقة الثانية من:
"دراسة في متغيرات الوعي الجمالي الموسيقي"
يتم تناول العلاقة بين الأيديولوجيا والوعي الاجتماعي (بما في ذلك الوعي الجمالي) في المجتمعات العربية والإسلامية من خلال إحدى العديد من المقاربات الاستقرائية التاريخية كما يلي:
في القرن السابع الميلادي، كانت شبه الجزيرة العربية تحت تأثير إمبراطوريتين عظيمتين: الإمبراطورية الفارسية والإمبراطورية البيزنطية. كان كل من هذين الإمبراطوريتين يسيطر على ثروات وموارد شعوب المنطقة، مدعومًا بجيش قوي وحضارة مادية وروحية متينة. كانت الفنون (بما في ذلك الرسم، والنحت، والموسيقى، والمسرح، والتشريع، والأدب، والمعتقدات) تشكّل البنية الفوقية (أو الجانب الروحي) لقوة هاتين الإمبراطوريتين.
أدت قوة الإمبراطورية البيزنطية إلى تغييرات كبيرة في الحياة السياسية والاقتصادية لشبه الجزيرة العربية. فقد أثرت تدمير المدن الكبرى في سهول العراق، مثل بابل وآشور قبل قرون، على الممالك العربية التي كانت قد مدّت سلطتها على الطرق التجارية الفينيقية. وعندما فتح الرومان الطريق التجاري البحري عبر البحر الأحمر في القرن الأول الميلادي، تسبب ذلك في انهيار تجارة القوافل الجنوبية، التي كانت العمود الفقري للممالك العربية الجنوبية. ازدادت الأمور سوءًا عندما انتهى نفوذ الأنباط في الشمال بعد أن ذبح الرومان سكان تدمر عام 272 ميلادية. لم تستطع الممالك العربية الإفلات من الهيمنة الاقتصادية والسياسية، مما أدى إلى هجرات يومية وتخلي عن المدن الكبرى التي باتت تبكي بُناتها. وعند ولادة النبي محمد، كانت قريش تعيش على هامش التاريخ، باقتصاد ضعيف يعتمد على التجارة بين الشمال والجنوب (رحلتي الشتاء والصيف)، وتربية الأغنام والإبل، والغزو. كان اقتصادهم في الغالب مكتفيًا ذاتيًا، وكان دينهم وثنيًا، وكان وعيهم الاجتماعي والجمالي ينعكس في فن الخطابة (وخاصة الشعر) والعادات والأعراف والتقاليد القبلية السائدة.
يمكن توقع أن أي دعوة لتغيير أوضاع شبه الجزيرة العربية وتحريرها من سيطرة الإمبراطوريتين العظيمتين ستسعى إلى تفكيك جميع أسس الأيديولوجيا السائدة بمختلف مظاهرها ورموزها.
وهذا ما حدث بالفعل.
جعل الإسلام العلاقة بين المؤمن وربه مباشرة، دون تماثيل، أو رسومات، أو رفاهية، أو زخرفة مفرطة، أو أيقونات، أو لوحات في أماكن العبادة، ودون أدوات موسيقية في الممارسات الدينية (باستثناء الأذان بصوت جميل). كان تحطيم الأصنام والتماثيل في الواقع تدميرًا لرموز المعتقدات الدينية الوثنية. أما استبعاد الفنون المختلفة وعدم استخدامها كوسائل لنشر الرسالة أو لممارسة الشعائر، فقد كان في جوهره استبعادًا لمظاهر الأيديولوجيا الفارسية والبيزنطية. فبينما كان المسيحية تعتمد على مفهوم الثالوث (الأب، الابن، والروح القدس) وما ينبثق عنه من رموز ومعانٍ—كقصص الصلب، والعشاء الأخير، والإنتاج الفني الواسع من لوحات السيدة العذراء، والأيقونات، والمذابح، والقداديس، والترانيم الدينية، والفنون الموسيقية والمسرحية داخل الكنيسة—فإن الإسلام اكتفى بالأذان بصوت جميل لتحديد أوقات الصلاة، وبمكان للعبادة يجمع المؤمنين (المسجد)، وبمحراب بسيط يشير إلى اتجاه الكعبة، وبنية للصلاة.
وعلى الرغم من أن القرآن لا يحتوي على آيات تحدد موقفًا صريحًا من الموسيقى والغناء، فإن الأحاديث الصحيحة تشير إلى التسامح الذي أبداه النبي محمد تجاههما. وقد سُمح للموسيقى بأن تتطور وفق قوانينها الداخلية ووظائفها الاجتماعية دون تدخل ديني مباشر من المؤسسات الدينية [انظر رقم 1].
وبمجرد أن اشتد عود الإسلام وترسخت دعائم الإمبراطورية الإسلامية، مُحرّرة من سيطرة الإمبراطوريتين الفارسية والبيزنطية، أصبح موقف الخلفاء والقادة الدينيين تجاه الفنون أكثر إيجابية، لا سيما تجاه الموسيقى والغناء، بينما بقي الموقف السلبي تجاه الرسم والنحت قائمًا حتى القرن التاسع عشر. فما سبب هذا التمييز في الأحكام؟
يقول الباحث أنور الرفاعي في كتابه تاريخ الفن عند العرب والمسلمين:
> "الفن المكاني (كالتماثيل) يشير إلى منطقة مكانية واضحة تثير أعظم الشكوك والريبة في النفس البشرية، وتستفزها باستمرار. وهو لا يعبر إلا عن الحالة المقصودة لذاتها. في المقابل، فإن الموسيقى والغناء الشعبي يعبران عن النفس البشرية والوعي الجماعي للأمة. لقد كان وجود التماثيل والآثار عند العرب القدماء يهدف إلى تجسيد الآلهة والمعتقدات الدينية، في حين أن الغناء والموسيقى (وخاصة الفلكلورية) يجسدان ويعبران عن الهوية الإنسانية والحياة اليومية."
كانت محاكاة قدرة الله الخالقة تُرى دائمًا بنوع من الحذر، وكان الفن المكاني هو الذي يذكّر بهذه المحاكاة، خاصة عندما يتعلق الأمر بتصوير الكائنات الحية (البشر والحيوانات). أما الأصوات الموسيقية، والشعر، والأغاني، فمادتها الأساسية هي الصوت، وهي غير موجودة في الطبيعة بشكل محسوس. لذلك، إذا لم يقترن الغناء والموسيقى بالخمر أو الفجور أو الكلمات البذيئة، فإنهما يظلان في مأمن من الشبهات حتى لدى أكثر المؤمنين تشددًا. (ولم يكن انتقاد القرآن للشعراء بسبب كونهم شعراء، بل لأنهم كانوا يروجون للشرك والوثنية) [ انظر رقم 2].
على أي حال، لا تزال مسألة موقف الشريعة الإسلامية من الفنون مطروحة حتى اليوم، تتراوح بين الحياد والرفض والقبول، وفقًا لاجتهادات العلماء الدينيين أنفسهم. فهناك العديد من المراكز الدينية التي تصدر فتاوى حول: الموسيقى، الأدب، السينما، تنظيم النسل، زراعة الأعضاء، الديمقراطية، الزواج المؤقت، القضايا السياسية، بل حتى دوران الأرض من عدمه، وغيرها.
ساعدت الفترات المستقرة خلال الخلافات الأموية والعباسية، والازدهار الناتج عنها، واهتمام الخلفاء بالعلوم والترجمة والفلسفة، في خلق بيئة ملائمة لازدهار الموسيقى والغناء. وقد ظهرت أعمال الفارابي، وابن سينا، وابن رشد في مجال نظرية الموسيقى والجماليات. كما أبدى الصوفيون (مثل إخوان الصفا) والعديد من الفلاسفة والعلماء والأئمة اهتمامًا بالموسيقى، مما يعكس الانفتاح الاجتماعي والوعي الجمالي العام في تلك الفترات.
لم يكن الاهتمام بالموسيقى نظريًا فحسب، بل كان رياضيًا أيضًا. وقد نشأت أجواء فكرية منفتحة في بغداد، ودمشق، والأندلس، والمغرب، سمحت بمناقشة القضايا الفنية والجمالية والفلسفية، بل وحتى الأيديولوجية الأكثر حساسية.
لكن بعد منتصف القرن التاسع الميلادي، بدأ الانحدار بسبب عوامل داخلية كالثورات، والحروب الصليبية، والغزوات المغولية والسلاجقة. ولم يتغير الوضع إلا في القرن التاسع عشر، مع تأثر المجتمعات العربية والإسلامية بالظروف الاجتماعية والثقافية الحديثة.
وعلى أية حال: لا تزال قضية موقف الشرع الإسلامي من الفنون تطرح إلى اليوم، وتتراوح ما بين الحياد، والسلب، والإيجاب، وذلك حسب قناعات رجال الدّين أنفسهم، و ( ....ضمن ما يسمى بالاجتهاد، هناك مراكز دينية متعددة ومتنوعة تصدر فتاويها تجاه: الموسيقى، الأدب، السينما، تحديد النسل، زراعة الأعضاء، الديمقراطية، زواج المتعة، القضايا السياسية، بل وحتى دوران ( أو عدم دوران ) الكرة الأرضية .. الخ ) [ انظر رقم 3] .
---------
[1]- لقد كانت مكانة الموسيقى فريدة في الحضارة الإسلامية . وقد أحصي عدد الكتب التي عنيت كلياً أو جزئياً بالموسيقى ( حتى القرن السابع عشر لا أقل من 353 كتاباً ، بقي معظمها مخطوطاً ، وضاع قسم منها .
وقد ذكر جورج فارمر هذه الكتب في كتابه ( مصادر الموسيقى العربية ) الذي ترجمه إلى العربية الدكتور حسن نصّار بتكليف من الإدارة الثقافية لجامعة الدول العربية ونشرته : مكتبة مصر ( 3 شارع الفجالة ـ القاهرة) .
[2]- أول صورة رسمت لحاكم إسلامي كانت للسلطان العثماني سليم الثالث المتوفى سنة /1808 /، وتلاه محمد علي باشا. وأفتى الإمام محمد عبده بإباحة التصوير عام / 1903 / م، ومن الغريب أنه كانت تـُرسمُ صورا للنبي (ص) والإمام علي وولديه الحسن والحسين مع إحاطتها بهالات التقديس في إيران. المصدر مجلة العربي، العدد / 193 / عام / 1974 /.
[3]- انظر الملف الفقهي القيِّم الوارد في نهاية البحث، الذي أعدّه الدكتور عبد الحليم عويس و تناول فيه موضوع الغناء والموسيقى بين التحليل والتحريم، و نشر في جريدة الشرق الأوسط في سبع حلقات يومية بدءاً من يوم السبت 5 . 2 . 1983 .
في الحلقة الثالثة سنناقش الموسيقى تحديدًا.
__________________
ما ندمت على سكوتي مرة، لكنني ندمت على الكلام مرارا. عمر بن الخطاب

FACEBOOK - ATHMANE
رد مع اقتباس