عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 06/09/2011, 14h12
الصورة الرمزية starziko
starziko starziko غير متصل  
مواطن من سماعي
رقم العضوية:510608
 
تاريخ التسجيل: April 2010
الجنسية: مغربية
الإقامة: المغرب
المشاركات: 129
افتراضي رد: الوظائف الروحية لفن السماع في المجتمع المغربي

.

3 ـ السماع المجرد كأداة في التربية الروحية :

أما إذا انتقلنا إلى سماع القوم ، فإننا سنجد أن الوظائف الروحية التي أسندت للطرب في الزاوية جعلت السماع ركنا من أركان الطريق ، يقول الدلائي : "أما القوم ، أعني الصوفية ، فالسماع عندهم ركن من أركان الطريق ومورد رائق لأهل النهاية والتحقيق ، لأنه يهيج الأشواق ويفتح باب الأذواق ويوسع دائرة التلاق" . فالسماع عند القوم وجه من أوجه الذكر ، ومن ثمة ما يعتبر أداة من أدوات تطهير القلوب وتصفيتها من جنابة الغفلة وعلل النفس وحظوظها الدنية ، يقول الشيخ الحراق :

فطهر بماء الذكر قلبك جاهدا *** بصدق اللجا واغسله من كل علة

بل إن السماع صار وسيلة من وسائل التربية ، من خلاله يتوسل بالطرب ، بوصفه مصيدة للنفوس ، وذلك من أجل إخراج هذه النفوس من غفلاتها والرقي بها في مدارج السلوك ومنازل السير نحو معرفة الحق سبحانه . ولعل أسطع مثال على التربية عبر السماع ، تلك الحكاية التي أثبتها لنا التهامي الوزاني في كتابه "الزاوية" ، حيث نقرأ : "وسمع سيدي محمد الحراق المطربين يغنـون بقصيـدة ـ الصبح كشريف أرخى ذيل أيزارو ... ـ ، فطرب لها طربا عظيما وتواجد إلى أن كانت العمامة ترتفع عن رأسه مقدار ذراع ، ثم خلع على المطربين وأحسن إليهم ، فلما كان بعد ثلاث بعث وراءهم وعرض عليهم قصيدته التي هي على وزن ـ الصبح كشريف ارخى ذيل ايزارو ـ والتي في أولها :

صاف الحبيب تظفر ببديع أنوارُ *** وتـحــوز مـــن بـهـــاه إيــمــارا


فقرأوها عدة مرات وأداروها على أوزان القصيدة السابقة ، فإذا بمعانيها أجل وألطف من معاني سابقتها ، فأمر بإحضار آلات الطرب ، فأحضرت وطفق المنشدون يرددون هذه القصيدة في ألحان شتى ، وقد أعجب بها العلماء والأدباء والصوفية على حد سوء ، فأمر الشيخ أن يقام إكرام للفقراء دام ثلاثة أيام شكرا لله الذي ألهمه إلى هذه القصيدة " .

إن الشيخ الحراق ، على منوال أرباب الأحوال المتمسكين برسوم الشريعة والمتمكنين من أذواق الحقيقة ، ما كان ليطرب للمعاني الغزلية الحسية المبثوثة في برولة "الصبح كشريف ارخى ذيل ايزارو" ، ثم ما كان أيضا لينقدح حاله وتهتاج مواجيده ، فقط بسبب طرب الأصوات ونغمات المعازف والآلات ، بل إن الحال الذي اهتاج في باطن الشيخ كان ثمرة فهمه الإشاري لما انطوت عليه البرولة من دلالات ذوقية ، فأصبحت بذلك النغمات حاملا لطيفا لتلك النفحات الإشارية التي حركت سواكنه وقدحت أسراره الكامنة ، وهذا هو "التلقي" الصوفي من حيث هو "أخذك ما يرد من الحق عليك" ، كما أنه "سماع إلهي" وهو غير السماع الطبيعي الذي يكو بالنغمات والألحان انبجست من خلاله ، وعلى مرآة برولة "الصبح كشريف ..." ، دلالات رائقة وحقائق فائقة نابعة من صلب تجربة الشيخ الحراق المتوهجة في الحب الإلهي ، ولا يلزم أن يكون ما فهمه الشيخ موافقا لمقصود الناظم ، لأن "المحترق في حب الله تعالى *كما قال أبو حامد الغزالي* وجده بحسب فهمه ، وفهمه بحسب تخيله ، وليس م شرط تخيله أن يوافق على مراد الشاعر ولغته ، فهذا الوجد حق وصدق" . بل يضيف أن "الذي غلب عليه حب الله تعالى ، فلا تضره الألفاظ ، ولا تمنعه عن فهم المعاني اللطيفة المتعلقة بمجاري همته الشريفة " ، فهذا السماع الإلهي هو سماع الأكابر "الذين يتواجدون من حيث كامنات سرائرهم لا من حيث قول الشاعر ومراد القائل " كما أكد ذلك صاحب حل الرموز .

هكذا نفهم أن تواجد الشيخ عند سماعه المطربين يتغنون ببرولة "الصبح كشريف ارخى ذيل إيزارو " كان ثمرة تلقيه الصوفي للبرولة ، وسماعه الإلهي لها ، ومن ثم فهمه الإشاري لمدلولاتها ومعانيها ، وهذا هو ما حذا به إلى معارضتها ببرولة "صاف الحبيب تظفر ببديع نوارو" والتي أودع فيها بعض فتوحاته الإشارية التي فهمها ، ذوقا ، من البرولة الغزلية "الصبح كشريف ارخى ذيل ايزارو" وإن من شأن تأمل مقتضب في البرولتين أن يعضد ويدعم ما نقول.

فبرولة "الصبح كشريف ارخى ذيل ايزارو " برولة غزلية تصور بتشخيص أدبي جميل ، بهاء الصبح وهو ينبلج من رحم الليل ، بينما تنقل برولة الشيخ الحراق "صافي الحبيب ..." موضوع الغزل من التشبيب بضوء الصباح كأثر كثيف لزمن حسي فزيقي إلى التغني بأنوار المحبوب بماهي أنوار بديعة لطيفة لمحبوب مطلق البهاء ، إننا ننتقل مما هو حسي شبحي كثيف نسبي ، إلى ما هو معنوي روحي لطيف مطلق ، وبين ثنايا وخيوط برولة الشيخ الحراق يسري هذا التصويف من خلال تحويل موضوع الغزل من الطبيعة إلى خالقها ، ومن جمالها الحسي الظاهر إلى جمال مبدعها المتجلي فيها ، إنه يرد الفرع إلى الأصل النوراني ، ويرسم طريق تأهيل المريد للانتقال من رؤية الظل إلى مشاهدة النور ، من خلال الحض على الذكر والصدق في المحبة ، وهو ما يكشف بجلاء على البعد التربوي الصوفي ، والتأهيلي الروحي ، الذي تضطلع به هنا المعارضة ، والتي اتخذت الموسيقى أداة من أدواتها ، من هنا نفهم الفرح العارم الذي استولى على اشيخ وهو يرى كيف أن نصه الصوفي الفائض بالدلالات الصوفية "ينسخ" ويلغي نصا غزليا حسيا تشبيبيا ، يتغنى بالجمال الحسي لذاته . على أن الشيخ بهذا المنهج في المعارضة ، كان ينشر طريقته الصوفية ، ويبث في الناس عبر النغم ، بما هو مصيدة للنفوس ، التغني بالذكر حتى يتعلقوا به فيتخلقوا بمحبة المذكور ليتحققوا بشهوده . ولا ضير في هذا المنهج التطهيري التأهيلي أن يتغنى المطربون ، في البدء ، بالأذكار ومعانيها دو أن يفقهوها ، إذ لا يوجب الذكر المصحوب بالغفلة الابتعاد أوالتخلي عن الذكر إذ " غفلتك عن وجود ذكره أشد من غفلتك في وجود ذكره " كما يقول ابن عطاء الله في حكمه ، ثم إن المداومة على الذكر قد ترقي صاحبها إلى أطوار القرب ، ويفصل ذلك الشيخ الحراق ، العطائي الذوق ، في رسائله فيقول : "إذا ذكر الذاكر بلسانه والعقل مشغول بأموره من من كل مأكول أو مشروب وغيرهما ، فلا يسمع ذكر اللسان . ولكن إذا دام الإنسان على الذكر ربما وجد العقل فراغا في بعض الأوقات فسمعه ، وإذا سمعه تذكر وطنه الأصلي وعالمه النوراني ، فصار بحكم القهر إليه وترك الجسم مهملا لا يبالي به , فإذا دام الجسم على ذلك الحال تبعه على ما هو عليه لانحيازه إلى حمى الله ، وصار الجسم بعد أن كان متبوعا تابعا ، وصار العقل بعد أن كان متبوعا تابعا ، وظهرت على الجسم أحوال العبودية وظهرت على العقل أنوار الربوبية ، ولا يزال الأمر كذلك حتى يحصل الوصول ويصير الجميع كلا واحدا ، وقد كان الله ولا شيء معه " .


إن هذا لاإدراك العالي لأحوال النفس ولتقلباتها حسب أطوار الذكر هو الذي حكم نهج الشيخ في معارضته لبرولة "الصبح كشريف ..." بل وفي كل معارضاته التصويفية للصنائع الآلية . لذلك لم يعبأ بذلك الذي أراد أن ينكت عليه حين بادره قائلا : "يا سيدي محمد الحراق ، لقد قيل لنا إن كلامك ابتذل حتى أصبح يقال في أوكار الفجور والفساد ، " ، إذ أجابه الشيخ جواب المتيقن من نهجه والعارف لمقصده : "ليس بابتذال ، ولكنه كلام أرضى الجميع ، وإنى أحمد الله على أن صلح لهم كلامي حتى صاروا يتغزلون به لجلب السرور " . وقد سبق معنا أن جلب السرور هذا ليس سوى لحظة من لحظات اللإيقاع بالنفس بغية تطهيرها وترقيتها .

انطلاقا من هذا المثال الساطع، يتبين لنا الدور الروحي الذي يستعمل فيه السماع من لدن القوم ، حيث يضطلع بوظيفة تطهيرية وتأهيلية للفرد تتغيا تحريره من أسر نفسه ورعونتها وتوجيه قلبع الصقيل نحو قبلة الحق وجماله المطلق ، وهذه الوظيفة هي واحدة من جم الوظائف المسندة للسماع في السياق الصوفي ، والتي تتعدد بتعدد الأحوال والمقامات والأوقات ومنازل السير إلى الله سبحاه.
رد مع اقتباس