@ بعد فراغه من صلاة العشاء فى مسجد القصر , خرج الرشيد كعادته وحده يتجول فى حدائق القصر ,يتنسم هبات من هوائها النقى المشبع بعبير الأزهار قبل أن يصعد إلى مجلسه . سار بضع خطوات توقف بعدها مكانه وهو ينظر حواليه كأنه يبحث عن شئ يفتقده . شعر أنه فى حاجة لأن يستريح بعض الوقت . جلس على أقرب مقعد صادفه مسندا ظهره عليه فى استرخاء ثم أطلق لخياله العنان وهو ينظر إلى صفحة السماء الصافية يزينها هلالا فى أيامه الأولى ..
وبينما هو سابح فى تأملاته وأفكاره مال برأسه ليرى حاجبه الأكبر الفضل بن الربيع قادما من بعيد متخذا طريقه ناحيته بعد أن التقطت أذناه وقع خطواته وهو يمشى على استحياء كارها أن يقطع على أمير المؤمنين خلوته وانفراده بنفسه ,لما رآه على تلك الحال وأدرك بذكائه أن مولاه فى لحظات تأمل . رآه الرشيد مترددا فى القدوم ناحيته نادى عليه وهو يشير إليه بيده .............
ــ مالك يا ابن الربيع تقف مكانك بعيدا هكذا . تعال اجلس هنا إلى جوارى ..
إمتثل وهو يتمتم كلمات الشكر والثناء ثم جلس صامتا فى انتظار أن يأذن له بالكلام بينما استأنف أمير المؤمنين تأملاته وهو يدق عصاه على الأرض فى ملل دقات رتيبة متتابعه . بعد برهة من الزمن جاءه صوته .............
ــ إيه يا أبا العباس ،أقرأ كلاما مسطورا على صفحة وجهك , أليـس كذلـك ؟.
ــ بلى يا مولاى ... إذا أذنت لى ..
ــ تكلم هات ما عندك ..
ــ فى الحقيقة يا مولاى كنت مترددا أن أفاتحك فى هذا الأمر كى لا أثقل عليك وأزيد الهموم والمواجع . لولا أنه يمس سلامة مولاى و.... وأمن البلاد ..
ــ تكلم يا ابن الربيع هات ما عندك فما عادت هنالك هموم تثقل القلب بعد أن فقدت ولدى أحمد ,أعز أبنائى وأتقاهم وأحبهم إلى قلبى . بعد أن خرج منذ أكثر من خمسة أعوام هائما على وجهه زاهدا فى حياة القصور . ظللت طيلة هذه السنوات الطوال لا أعلم عنه شيئا حتى أتانى من يخبرنى بوفاته . ليت هذا النعى لم يأت وتركنى أتصور أن ولدى لا يزال على قيد الحياه . كنت آمل أن ألقاه مرة أخرى ..
ــ معذرة يا مولاى , ما الذى جعلك تذكره بعد كل هذه السنين ؟.
ــ لا أدرى والله يا أبا العباس ,رأيتنى فجأة أتذكر كلمات رسالته التى جائتنى منه وما كانت تحمله من موعظة غاليه ..
نظر إلى السماء وهو يهز رأسه قائلا .............
ــ إيـه .... نصحتنى والله يا ولدى ..
ثم أردف قائلا بعد أن مسح براحة يده دمعة فرت من عينه رغما عنه وهو يشيح بوجهه جانبا .............
ــ لأى أمر جئتنى يا ابن الربيع ؟.
ــ أتذكر يا مولاى أمر يحى بن عبد الله الطالبى الذى تحدثت معك فى شأنه منذ أعوام . وعن مؤامراته التى كان يديرها فى الخفاء طمعا فى كرسى الخلافه ؟.
ــ أجل , كيف أنسى , وأذكر أنى عهدت بأمره لوزيرنا الفضل بن يحى البرمكى وأمرته أن يضعه فى السجن ويجعله بمعزل عن قومه وأنصاره . راودتنى نفسى أيامها أن أجهز عليه وأريحها مؤنته غير أنى اكتفيت بحبسه وعزله . لكن ماذا تريد أن تقول ؟.
ــ معذرة يا مولاى علمت منذ أيام أنه ليس فى محبسه وبالأمس تأكدت من هذا الأمر بنفسى ..
ــ ليس فى محبسه . ماذا تعنى . هل فر منه ؟.
ــ لا يا مولاى لم يهرب من محبسه ,لكنه يعيش حرا طليقا فى مكان آخر ..
ــ خارج السجن ؟.
ــ أجل يا مولاى , يعيش آمنا معززا مكرما فى كنف واحد ... واحد من أقرب المقربين إلى قلبك ..
ــ من يكون هذا الذى ثكلته أمه ؟.
ــ الوزير الذى عهدت إليه بأمره ..
ــ تقصد .. الفضل بن يحى البرمكى ؟.
ــ أجل يا مولاى ..
إنتفض الرشيد قائلا ............
ــ أأنت على يقين مما تقول يا ابن الربيع ؟.
ــ لما علمت بذلك من أحد رجالى المخلصين لم أصدق مثلك فى بادئ الأمر . غير أنى لم آت إلى هنا إلا بعد أن تأكدت بنفسى من صحة الروايه ..
قاطعه الرشيد متسائلا ...............
ــ تعنى أنك رأيته بنفسك ؟.
ــ أجل يا مولاى رأيته بعينى رأسى هاتين يرتع فى قصر الفضل بن يحى ..
بدا على الرشيد أنه غير مصدق لما يسمعه فاستأنف الفضل قائلا ............
ــ ما جئتك إلا بالحقيقة لا شئ غيرها يا أمير المؤمنين . وعلى أية حال سله بنفسك وإنى لعلى يقين أنه لن يستطيع الإنكار إن واجهته بها ..
أطرق الرشيد برهة يقلب الأمر فى رأسه وأخذ يقول لنفسه .......... الويل لك أيها الفارسى اللعين . أبلغت بك الإستهانة بنا وبأوامرنا هذا الحد .
ثم رفع رأسه مطلقا نظره إلى بعيد , وبدا عليه أنه نوى فى نفسه أمرا ..
@ إستأذن الفضل مجاهدا فى إخفاء سعادته وسروره خلف قناع مصطنع من الأسى ,تاركا الرشيد نهب هواجسه وأفكاره الحائره . توجه من فوره إلى حيث كانت تنتظره على أحر من الجمر مولاته " زبيده " فى قصرها المسمى دار القرار لتعرف منه ما كان من أمره هذا المساء فى لقائه مع زوجها أمير المؤمنين ..
كان يحدث نفسه وهو فى الطريق إليها.......... ما أثقله من حمل حملتنيه مولاتى زبيده , على كل حال يكفي ما قمت به اليوم مما كلفتنى به. مالى أنا والشأن الآخر فلأتركه لها. من غيرها يجرؤ على كشفه لأمير المؤمنين ؟. أجل إنها كفيلة به ..
فى السنوات الماضية جرت لقاءآت عديدة بينهما حيث يجمعهما هدف واحد هو القضاء على البرامكه واستئصال شأفتهم بعد أن زاد نفوذهم وعلا سلطانهم وأحكموا قبضتهم على مقاليد الأمور فى دولة الخلافه , متكئين على حب الرشيد لهم وثقته المفرطة فيهم ..
والفضل بن الربيع شأنه شأن أبيه الراحل يطمح فى أن يكون الرجل الأول فى بلاط الرشيد وصاحب الكلمة العليا والأمر والنهى من بعده . إلا أن الأخوين الفضل وجعفر أبناء يحى البرمكى كانا يقفان عقبة كؤود فى طريق طموحاته وتحقيق أحلامه بالسلطة والوزاره ..
أما زبيده الهاشميه أحب زوجات الرشيد إلى قلبه وأقربهن إليه منزلة لتدينها ورجاحة عقلها وفراستها من ناحيه ولجمالها الأخاذ ونضارتها من ناحية أخرى . كانت تحمل فى صدرها حقدا شديدا على كل البرامكه خاصة فتاهم المدلل الوزير جعفر بن يحى لمواقفه السابقة من ولدها محمد الأمين ولى العهد وتحديه له . وإصراره على أن يأخذ البيعة لأخيه غير الشقيق عبد الله المأمون إبن الجاريه على أن يصبح وليا للعهد من بعده للصداقة الحميمة التى كانت تربطهما معا برباط وثيق وتجمعهما معا سهرات اللهو والسكر والعربده ..
كانت تود أن تكون البيعة لولدها فحسب حتى تكون من بعده لأحد أبنائه لا لأخيه غير الشقيق . لهذا ظلت هى والفضل بن الربيع يترقبان فرصة مواتية يوقعان فيها بالأخوين وباقى عائلة البرامكه . ظلا يعملان معا فى الخفاء لجمع المعلومات عنهما حتى توصلا أخيرا إلى ما يوصلهما إلى هدفهما الذى أصبحا قاب قوسين أو أدنى من تحقيقه بعد أن كان يبدو من قبل أمرا مستحيلا ..
@ لدى اقترابه من أسوار القصر لمحته إحدى وصيفات زبيده . كانت مكلفة بمراقبة الباب الرئيسى من إحدى الشرفات . أسرعت فى الحال لتخبر مولاتها . أمرتها أن تسمح له بالدخول عليها فى الحال وأن تنبه الحراس إلى ذلك . لدى دخوله بادرته فى لهفة قبل أن يلقى التحية عليها .............
ــ هيه ماذا فعلت ,هل قابلت أمير المؤمنين ؟.
ــ أجل يا مولاتى ,إنى قادم من عنده الآن ؟.
ــ هل أخبرته بكل شئ كما اتفقنا ؟.
رد متلعثما فى خبث ...............
ــ فى الحقيقة يا مولاتى لم أجسر على إبلاغه إلا بأمر العلوى ..
ــ والأمر الآخر , إنه الأهم . كان أجدر بك يا كبير الحجاب أن تخبره به أولا فهو الضربة القاضية التى ستهوى برأس ذلك الفتى المدلل ..
ــ حاولت عدة مرات فى هذا اللقاء أن أفاتحه فى هذا الأمر الجلل ولو تلميحا , إلا أننى تهيبت يا مولاتى . كلما هممت بالكلام انعقد لسانى وأخذتنى الهيبة من أمير المؤمنين , حتى أنه لاحظ ذلك وسألنى عما بى . فتعللت أنى أشعر بدوار مفاجئ وآلام تدق فى رأسى ..
هزت رأسها قائلة ..............
ــ كنت أتمنى أن تحيط أمير المؤمنين علما بهذا الأمر ,لكن .... يبدو أنك على حق فيما قلت . أمر كهذا يحتاج إلى أن أقوم به بنفسى , الصدمة ستكون كبيرة على أمير المؤمنين وسيكون رد فعله عنيفا ومدمرا وهذا هو ما نريده فى نهاية الأمر . حتى يفيق من غفلته ويعرف حقيقة هؤلاء الموالى الفرس الذين وضع فيهم ثقته المطلقه ,أليس كذلك يا كبير الحجاب ؟.
ــ بلى يا مولاتى ,ليس أمامنا غير ذلك ..
ردت وهى تهم بالوقوف إيذانا بانتهاء المقابله .............
ــ لا عليك أنت .. سأقوم أنا بنفسى بتلك المهمة الصعبه . بعد الغد إن شاء الله أخبره عقيب فراغه من أمر العلوى وتأكده من تواطئ الفضل بن يحى معه وتهريبه إياه خارج السجن ..
@ بدأت الحكاية منذ عقد الرشيد لأخته العباسه على الوزير جعفر البرمكى , قيل وقتها أنه اضطر لذلك حتى يحل له النظر إليها فى مجلسه , على ألا يعاشرها معاشرة الأزواج ,حذره من أن تسول له نفسه أن يقربها أو يختلى بها . كذلك شدد على أخته العباسه وإلا كان مصيرهما سيف الجلاد الذى لا يرحم . أمر عجيب فرضته التقاليد العربية التى تأبى أن تتزوج هاشمية من الأشراف إلا بمن يماثلها فى الشرف والنسب والعروبه . وجعفر رغم منزلته وقدره عند الرشيد هو وعائلته كلهم جميعا إلا أنهم فى نهاية الأمر ليسوا أكثر من فرس من بلاد العجم ..
مع مرور الأيام لاحظت زبيده بذكاء الأنثى وبما كان لديها من فراسة أن العلاقة التى تربط بينهما أكبر وأعمق من أن تكون علاقة زواج صورى . لاحظت ذلك من النظرات التى كان يتبادلها الزوجان وكذلك لغة العيون التى كانت تدور فى صمت بينهما فى مجالس السماع والأنس . شعرت أن فى الأمر شيئا مريبا ,أخذت تتحسس أخبارهما عن طريق عيونها من الجوارى والخدم المندسين من حولهم فى كل مكان ,حتى تأكدت أنهما يلتقيان سرا بعيدا عن عيون الرشيد لقاءات متعددة وأن هذه اللقاءات أثمرت "ولدين" قاما بتهريبهما إلى مكان آمن بعيدا عن عيون الرشيد وجواسيسه . لم تجد العباسة مكانا أكثر أمنا من بيت لأحد أتباعها المخلصين فى ضاحية بعيدة فى إحدى شعاب مكه . بذلك تتمكن من زيارتهما كل حين متعللة بأنها ذاهبة لزيارة البيت الحرام ..
علمت الأميرة زبيده بكل ذلك فأرسلت للفضل بن الربيع وأخبرته. إتفقا فى هذا اللقاء على أن يرقب تحركات العباسه وأن يتبعها بنفسه إلى مكة فى أول زيارة تقوم بها , أكدت عليه مولاته زبيده أن يستوثق بنفسه من هذه الأمور وأن يتأكد من وجود الصغيرين ولدى العباسه وجعفر فى مكمنهما ....... "أنظرهما بعينى رأسك قبل أن أبلغ أمير المؤمنين" ..
أخذ الفضل يترقب عن طريق عيونه ميعاد سفر العباسة إلى مكه حتى علم أخيرا أنها عزمت على السفر سرا . شد الرحال هو الآخر وراءها إلى هناك متعللا أمام أمير المؤمنين أنه ذاهب إلى مكه لزيارة صديقه الشافعى ودعوته للحضور إلى بغداد . لم يرجع من رحلته إلا بعد أن رأى الولدين بنفسه وتأكد من زيارة العباسة لهما سرا فى دار تقع فى أطراف مكه ..
فى تلك الرحلة القصيرة الخاطفة التقى بصاحبه الشافعى فى داره وجلس إليه وهو يلقى دروسه وسط حشد كبير من الناس على اختلاف ألوانهم وقد وفدوا إليه من شتى البقاع لسماع علومه والأخذ عنه . لم يخبره عن السبب الحقيقى لحضوره إلى مكه إلا أنه ألمح إليه لما سأله عن أحوال الخلافة قائلا ..........
ــ كل شئ يجرى على ما يرام إلا أن هنالك أمورا خطيرة لا يستطيع أن ينطق بها فمى الآن لأى أحد. إنما كل ما أستطيع أن أخبرك به أيها الصديق أن الطوفان قادم لا محاله ,أحداثا جسام سوف تشهدها البلاد فى الأيام القليلة القادمه . أظن أن التاريخ سيتوقف أمامها طويلا . أيام وستعلم كل شئ بنفسك ..
لدى عودته زف البشرى إلى مولاته زبيده وأخبرها بكل ما رآه هناك وأعلمها أن الولدان يعيشان فى مكه . أخبرها بمكانهما الذى يختبئان فيه فى إحدى الضواحى بعيدا عن العيون واتفقا فى هذا اللقاء أن يذهب للرشيد وينقل إليه كل ما فى جعبته من أسرار . غير أنه تراجع ولم يفعل واكتفى بقصة يحى بن عبد الله العلوى وما كان من أمر الفضل بن يحى البرمكى معه ,ولم يجرؤ على إخباره بأمر جعفر والعباسه كما تقدم ..
@ فى غرفتها أخذت تروح وتجئ عاقدة يديها خلف ظهرها وهى تستعيد فى رأسها ما سوف تقوله فى الغد لأمير المؤمنين . إلا أنها لم تطق صبرا لانتظار الغد وعزمت على أن تذهب إليه من فورها . بدأت تعد نفسها لهذه المقابلة المهمة فارتدت أجمل ثيابها وتزينت بأغلى حليها وتعطرت بأفخر وأطيب ما عندها من طيب ثم نادت على وصيفتها وكاتمة أسرارها لتكون برفقتها واتخذت طريقها إلى قصر أمير المؤمنين بعد أن وضعت النقاب على وجهها ..
أثناء هبوطها الدرج الموصل إلى حديقة قصرها استوقفتها إحدى الجوارى وهى تسير فى خطوات متلاحقة من الجهة المضادة قائلة ............
ــ عفوا مولاتى ..
ــ من . سميه ؟. ماذا وراءك أيتها الجاريه ؟.
ــ مولاتى رسالة جاءت للتو من حراس الأبواب الخارجية للقصر أن مولاى أمير المؤمنين فى طريقه إلى هنا ..
دون أن تعقب على حديث الجارية قفلت أدراجها راجعة إلى غرفتها تنتظر قدوم الرشيد وهى فى عجب من مجيئه إلى قصرها فى هذا الوقت المتأخر من الليل . دخل عليها فلاحظت تجهمه وقرأت علامات الضيق على جبينه . بادرته محيية ومرحبة وهى تبالغ فى إبداء سرورها من مقدمه عليها . بعد أن اتخذ مجلسه على السرير بادرها قائلا ..............
ــ أسمعت بما جرى يا ابنة العم ؟.
ــ خيرا إن شاء الله يا أمير المؤمنين ؟.
أجابها وعلى شفتيه ابتسامة ساخره وفى صوته مرارة ............
ــ خير . أى خير يا ابنة العم بعد أن جاءتنى الخيانة من أخلص رجالى وأحبهم إلـى قلبـى .
تساءلت فى دهشة مصطنعة كأنها لا تعلم شيئا ...................
ــ ماذا تقول ؟. لم أفهم بعد يا أمير المؤمنين ؟.
ــ أجل إنها الحقيقه ,ذلك الفارسى اللعين الذى أعطيته كل ثقتى إرتكب جناية وفعلة شنعاء . ما كنت أتصور أبدا فى يوم من الأيام أن تبدر من مثله ..
ــ أى رجالك تعنى ,وما الذى ارتكبه هذا الأحمق ؟.
ــ لن تصدقى إذا قلت لك . إنه الفضل بن يحى البرمكى الذى لم أناديه يوما هو وأخيه جعفر إلا يا أخى . علمت قبل قليل أنه أطلق سراح العلوى دون أن يخبرنى مع أنى نبهته مرارا ألا تغفل عينه عنه فى محبسه . إننا لم نأت به من بلاد الديلم إلا بالسياسة والحيله وأخاف أن يتمكن من العودة إلى هناك مرة أخرى ويرفع علينا راية التمرد والعصيان وتضيع الخلافة وتخرج البلاد من أيدينا ..
توقف الرشيد عن الكلام وهو يلمح بركن عينه ابتسامة ساخرة ترتسم على شفتيها . لم يتصور أن يكون هذا رد فعلها على ما سمعته منه . سألها فى دهشة ...........
ــ ماذا دهاك يا امرأه . أراك تبتسمين فى سخرية وتهكم ؟.
ــ ومالى لا أبتسم بعد أن سمعت منك ما سمعت .
سألها فى سخط وتبرم مستنكرا ............
ــ وهل فيما قلت ما يدعو للتبسم والضحك ما الذى دهاك يا ابنة العم ؟.
ــ كنت أحسبك ستخبرنى بالنبأ العظيم ..
ــ وأى نبأ أعظم من هذا يا ابنة العم . هل تعلمين شيئا لا أعلمه ؟.
ــ شئ ؟! بل أشياء . أنا أعلم ما هو أدهى مما قلت .... بل وأمر ..
تحجرت عيناه فى مقلتيهما قبل أن يبادر متسائلا ...................
ــ أدهى وأمر ؟. أى طامة تلك ؟. تكلمى يا امرأه فإنى فى حيرة من أمرى , أنا ما جئتك إلا من أجل الرأى والمشوره ..
نظرت إليه نظرة حادة كأنها سهم وانطلق لسانها يقول فى جرأة وجسارة من يملك الحقيقة المجردة والبرهان الدامغ . لم يكن يجرؤ على مثل ذلك بين يدى الرشيد من أهل المعمورة سواها لمنزلتها الخاصة عنده ولثقته من رجاحة عقلها وإخلاصها له ..
ــ سأخبرك عساك تفيق من غفلتك وتعرف حقيقة هؤلاء الفرس الموالى الذين أطلقت أيديهم فى الحكم ومكنت لهم . أنسيت أباهم الذى كنت تناديه يا أبت والذى أعطيته يوما خاتمك . أنسيت ما قلته له عندما أخرجته من السجن عقيب توليك إمارة المؤمنين وقلدته الوزارة . كم من مرة حذرتك من أفعالهم , وفى المقابل كنت لا أرى منك إلا السخريه واتهامك لى بالتجنى عليهم والغيرة منهم ..
إندفعت فى هجومها غير هيابة ولا وجلة وهى تسرد عليه فى ثقة حكاية جعفر وشقيقته العباسه . كان يستمع إليها ذاهلا لا يكاد يرى أمامه من هول ما يسمع وقد أخذ الغضب منه مأخذا عظيما شاعرا بالأرض تميد به من تحته . حتى إذا انتهت من كلامها مرت لحظات من السكون كأنه سكون المقابر جاءها بعده صوت الرشيد من أعماق صدره متحشرجا كأنه يحادث نفسه ............. وامصيبتاه رحماك يا ربى أية مصائب تلك التى حلت علينا . يا لفضيحتنا بين العرب والعجم . أيفعل بى ذلك من كنت أسميه أخى . كيف سولت له نفسه أن يفعل ذلك فى إبنة خليفة من خلفاء الله ؟. والله لأمحون هذا العار بالدماء ... أجل : من لم يؤدبه الجميل .. ففى عقوبته صلاحه ..
@ بضعة أيام مرت على هذه الأحداث الجسام , روعت بعدها أمة الإسلام كلها بزلزال رهيب ضرب أرجاءها . صحت بغداد لترى فتاها المدلل ,فخر شبابها جعفر ورأسه منصوبة على رأس الجسر الأوسط وأشلاء جسده على الجسر الأعلى والأسفل . لحق به الكثير من أهله الذين تهاوت رؤوسهم تحت ضربات سيف الجلاد مسرور . ومن كتبت له النجاة منهم وأفلت من هذا السيف كان مصيره الحبس حتى الموت صبرا ..
كان فى مقدمة المحبوسين أبو البرامكة وكبيرهم ومربى الرشيد ومؤدبه يحي بن خالد ومعه أكبر أبنائه الفضل . أغلق باب الشفاعة والرجاء فى تلك الأيام العصيبه , لم يجرؤ إنسان مهما تكن منزلته أو درجة قربه أن يفتح فمه بكلمة رجاء أو شفاعة لأحد منهم . بعد أن أرسل الرشيد مناديا ينادى فى المدائن والثغور أن لا أمان لبرمكى وكتب إلى ولاته فى البلاد بجمع أموالهم وغلاتهم ومتاعهم ..
ولما طال حبس الشيخ الهرم الذى قلده الرشيد يوما خاتم الدوله سمحت امرأته لنفسها ذات يوم وذلك حوالى منتصف العام الهجرى الثانى والتسعين بعد المائه أن تذهب إلى الرشيد وهى تتوكأ على عصاها ترجوه وتلح فى الرجاء . لما كان لها من مكانة وزلفى عند أمير المؤمنين وما لها من حق عليه . فهى أمه من الرضاع . رآها الرشيد فقام إليها محتفيا ومحييا قائلا لها وهو يقبل رأسها ............
ــ أهلا أم أمير المؤمنين ..
ردت فى صوت مختنق متهدج بينما تحاول مسح الدمع من عينيها ................
ــ يا أمير المؤمنين , لقد ربيتك وأخذت لك الأمان من دهرى . واليوم أتيتك راجية أن تصفح عن ظئرك يحى وأبوك بعد أبيك وأن تطلقه من محبسه ..
ــ أماه ..... قدر سبق ... وقضاء حم ... وغضب من الله نزل ..
ــ يا أمير المؤمنين ,تعلم أنى لم آت إليك من أجل ولدى الذى حكمت عليه بالموت . ولا من أجل ولدى الآخر الذى حبسته مع أبيه . لكن أتيت إليك هذه المرة متوسلة أن تعفو عن الشيخ الذى باتت أيامه فى هذه الدنيا قليله ..
ــ أماه . من يرد غير مائه يصدر بمثل دائه . لله الأمر من قبل ومن بعد ..
@ بضعة أشهر مضت على هذا اللقاء إنتقل بعدها يحي بن خالد البرمكى إلى جوار ربه ومن بعده ولده الفضل . وفى غرة جمادى الأولى للسنة الثالثة والتسعين بعد المائة الأولى للهجره رحل خليفة المسلمين هارون الرشيد هو الآخر إلى جوار ربه وهو فى حوالى الخامسة والأربعين من عمره . تولى من بعده ولى عهده ولده محمد الأمين . كان الشافعى قد لقيه من قبل بضعة مرات هو وشقيقه المأمون وهما فى سن الصبا فى حلقة إمام دار الهجره مالك بن أنس عندما كان يتلقى العلم على يديه . والتقى بهما مرة أخرى قبل تسع سنوات فى بغداد بعد نجاته من محنته الكبرى وهما غلامين فتيين مع مؤدبهما أبى عبد الصمد ..
وقصة هذا اللقاء الثانى أنه بينما كان الشافعى ذات يوم جالسا وحده فى الدار التى أسكنه فيها القاضى محمد بن الحسن مستغرقا فى تدوين أوراق أمامه إذ سمع طارقا يطرق الباب لا يكف يده . قام ليجد أمامه سراج خادم الرشيد وهو يقول له معتذرا بعد أن حياه ...............
ــ معذرة أيها الشيخ الجليل ..
ــ ماذا وراءك يا سراج ؟.
ــ أمير المؤمنين فى انتظارك..
إرتدى عباءته وأغلق باب الدار وانطلق بصحبة خادم الرشيد إلى قصر الذهب . لدى دخوله مجلس أمير المؤمنين قام إليه محييا ومرحبا ثم قال له ..........
ــ يا أبا عبد الله ,هذا ولدى محمد الأمين ولى العهد من بعدى . وهذا ولدى عبد الله المأمون ولى العهد من بعده ..
قالها وهو يشير إليهما أن يتقدما ليسلما على الشافعى , ثم أردف قائلا بعد أن قاما وسلما عليه ...................
ــ وهذا هو الشيخ أبى عبد الصمد مؤدبهما , وإنى أرسلت إليك اليوم لتوصيه ..
قال الشافعى بعد أن أقعد الشيخ أمامه ..............
ــ ليكن أول ما تبدأ به من إصلاح أولاد أمير المؤمنين إصلاح نفسك . فإن أعينهم معقودة بعينك والحسن عندهم ما تستحسنه أنت والقبيح عندهم ما تركته . علمهم كتاب الله ولا تكرههم عليه فيملوه ولا تتركهم منه فيهجروه . ثم روهم من الشعر أعفه ومن الحديث أشرفه . ولا تخرجهم من علم إلى غيره حتى يحكموه , فإن ازدحام الكلام فى السمع مضلة للفهم ..
يتبع.. إن شاء الله............................
__________________
أحرث حقول المعرفه
لتقطف سنبلة الفهم
التى بذرتها