صبرى مدلل
صبري مدلل .. الصوت الذي سكت...من الإنشاد الديني إلى الغناء التراثي برحيل شيخ المطربين صبري مدلل,تكون الساحة الغنائية العربية قد خسرت حارساً وحافظاً مهماً للتراث الغنائي العربي عامة والحلبي خاصة,ومؤدياً متقناً له,فصبري مدلل يمثل بحق ذاكرة قوية لتراثنا الغنائي العربي,استوعبه استيعاباً كاملاً,وقدمه بصوته القوي الجميل,ونشره ليس في الوطن العربي فقط,بل في أنحاء العالم فكان الفنان الراحل سفيراً فوق العادة لهذا التراث الفني العظيم
وإذا كان المسجد هو المدرسة التي تخرج منها كبار الملحنين العرب أمثال زكريا أحمد وأبي العلا محمد وسلامة حجازي,فإن صبري مدلل لم يشذ عن هذه القاعدة,فمنذ صغره كان يحضر حلقات الذكر,وكانت تشده الأناشيد الدينية فيها,كما كان يبهره الأذان فيذهب إلى الجامع ليسمعه عن قرب,وكان يحلم أن يؤدي الأذان,وفي العاشرة من عمره تحقق حلمه,فقد سمعه شيخ الجامع,وأعجب بجمال صوته,فسمح له أن يؤدي الأذان,وفي سن الخامسة عشرة من عمره,أصبح مؤذن جامع العبارة,وتعرف على عمر البطش,وتعلم على يديه الموسيقا والغناء,فأتقن القدود والموشحات الحلبية,كما تتلمذ على أيدي علي الدرويش وابنه نديم وبكري الكردي,وما لبث أن أصبح مؤذناً للجامع الأموي الكبير في حلب,ووجد في الإنشاد الديني مجالاً رحباً لإظهار مواهبه في الغناء.
وفي عام 1945 أخذه معلمه عمر البطش إلى إذاعة حلب,فانضم إلى الكورس مردداً,كما كان يؤدي الغناء الإفرادي,فيغني القدود والموشحات,لكن والده لم يرض عن ذلك,فترك صبري الإذاعة واستعاض عنها بتأسيس فرقة للإنشاد الديني عام ,1954وانخرط في الفرقة كبار المنشدين في حلب أمثال حسن الحفار ومحمد وعمر صابوني وفؤاد خانطون وغيرهم,وقدمت الفرقة الكثير من الحفلات في مختلف المناطق السورية,واستمرت الفرقة دينية لمدة عشرين عاماً,وفي عام 1975 شهدت قفزة نوعية,حيث أدخل صبري مدلل إليها فرقة موسيقية,وبدأ بتقديم الغناء التراثي الطربي إلى جانب الإنشاد الديني.
وكان في ذاك العام يزور حلب الباحث الفرنسي كريستيان بوخيه,وسمع الفرقة في إحدى حفلاتها,فأعجب بها,ودعاها إلى باريس لإحياء عدة حفلات لتبدأ الفرقة بذلك مسيرتها العالمية,وفي عام 1985 قام صبري مدلل بقفزة جديدة في فرقته,فتوسعت في عدد أفرادها وامتد أداؤها إلى كل ألوان الغناء العربي,وأدخل إليها الرقص الشعبي الحلبي مثل رقص السماح والمولوية والسيف والترس واللعب بالبنود,وفي ذاك العام سمع الفرقة وشاهدها الباحث الموسيقي السوري حبيب توما المقيم في أوروبا,فأعجب بها وبأداء صبري مدلل,فدعاه مع فرقته للاشتراك بمهرجان الفن الآسيوي في هونغ كونغ,وتتالت بعدها مشاركة الفنان الراحل وفرقته في مهرجانات وجولات أوروبية,وشملت جولاتها فرنسا وألمانيا وهولندا وبلجيكا والنمسا وسويسرا واليونان.
وعلى الصعيد العربي شارك صبري مدلل وفرقته في العديد من المهرجانات الكبيرة,ففي عام 1994 شارك في مهرجان بيت الدين في لبنان,وفي عام 1996 شارك بمهرجان جرش في الأردن,وفي تونس شارك أكثر من مرة بمهرجاني المدينة وقرطاج,وفي نفس العام 1996 شارك في المؤتمر والمهرجان الخامس للموسيقا العربية في القاهرة,ويومها كتب عنه جمال الغيطاني في يومياته في صحيفة الأخبار القاهرية يقول: (ثمة شيء في صوته وهيئته يذكرنا بصالح عبد الحي,لكنه أكثر حيوية,وإذا كان صباح فخري امتداداً معاصراً للغناء التراثي القديم,فإن صبري مدلل هو التراث نفسه يمشي على قدمين,ويتنفس برئتين,ويشدو بحنجرة قوية متمكنة رائعة الجمال).
أما آخر مشاركات صبري مدلل العربية,فكانت في مهرجان القرين بالكويت عام 1998 فأبهر الكويتيين بأدائه الرائع,وتحدثت عنه الصحف الكويتية مطولاً,من ذلك ما كتبه عبد المحسن الشمري في صحيفة القبس,ومما قاله : (صبري مدلل الذي عجنته الأيام بحب الفن والغناء الأصيل,قدم لجيل هذه الأيام من أصحاب الأصوات اللاهثة درساً في الأداء).
وعلى الصعيد المحلي فإن مشاركته بمهرجان الأغنية السورية مع فرقته عام ,1998عندما قدم أولاً وصلة من القدود والموشحات الحلبية,ثم قدم لوحة المولوية كاملة,وحملت مشاركته عنوان (سهرة حلبية) وكانت أجمل أيام المهرجان وفي عام 2000 كرمه المجمع الموسيقي العربي في مؤتمره السادس الذي انعقد في دمشق وقدمت له التكريم الدكتورة نجاح العطار نائب رئيس الجمهورية,وكانت وقتها وزيرة الثقافة.
وعلى الصعيد الشخصي فقد تعرفت على صبري مدلل منذ نحو خمسة عشر عاماً,وكان لي شرف المشاركة معه ببرنامج (خليك بالبيت) في نيسان عام .1998
***
شهادات
خلوق ومهذب
صباح فخري:
صبري مدلل رحمه الله أخ وزميل عزيز وهو أكبر مني, كان من الجيل الذي قبلنا, عملنا معاً في إذاعة حلب ضمن الكورس وهو استاذ كبير ومتمكن من الايقاعات والنغمات, وحافظ لكثير من التراث الغنائي العربي مثل الموشحات والأدوار والقصائد. وهو ابن صنعة متمكن من صنعته, استمر في الغناء حتى مابعد الثمانين من عمره, وهذه حالة نادرة.
أبو أحمد رجل بسيط وطيب وكان يتمتع بخفة دم ومتواضع وكانت تربطني به علاقة جيدة غير باقي الزملاء.
رحمه الله واسكنه فسيح جنانه
خسارة للفن
ابراهيم جودت:
عملنا معاً في إذاعة حلب ضمن الكورس لعدة سنوات وتعرفت عليه شخصياً ضمن الكورس. كان من الأصوات الجميلة جداً والمتمكنة ثم عمل مؤذناً في جامع العبارة, بعدها انتقل إلى الغناء, كان فناناً متميزاً وقوياً بالنغمات والأوزان وعلى الصعيد الشخصي, كان إنساناً خلوقاً ومهذباً. ومهما تحدثنا عنه لانوفيه حقه, رحيله خسارة لفن الغناء الأصيل, ولنا نحن كفنانين .. رحمه الله.
حافظة خطيرة
أمين الخياط:
صبري مدلل رحمه الله من الفنانين المخضرمين المهمين, تعرفت عليه منذ نحو سبع عشرة سنة. في الجانب الإنساني كان رقيقاً شفافاً, لايحمل أي حقد للناس ومحباً وودوداً لمن حوله.
وفي الجانب الموسيقي كان متمكناً من فنه تمكناً غير عادي في المقامات والنغمات ولديه حافظة خطيرة.
فهو يحفظ الكثير الكثير من الأدوار والموشحات والقدود الحلبية وله حضور متميز, واللافت للنظر أنه استمر في الغناء مابعد الثمانين من عمره. وهذه حالة نادرة بين المطربين.
رحم الله صبري مدلل وأتمنى من الجيل الجديد أن يتخذه قدوة وأن يحتذي به وأن يبقى لنا رمزاً ومثالاً.
أسلوب خاص
عبد الفتاح قلع جي:
خسرت الحياة الفنية الموسيقية والغنائية برحيل صبري مدلل واحداً من أكبر أعلامها المبدعين.
تميز صبري مدلل بصوته القوي, وحفظه الواسع للتراث وقدرته الفائقة على التصرف في اللحن , والجمع بين الطرب والتعبير, وبراعته في الألحان الكبيرة والدارجة حسب مناخات الحضور كما تميز أيضاً بأسلوبه الخاص في اللحن والأداء شكلاً ومضموناً, وإنه بلباسه التقليدي وطربوشه الأحمر وحركات جسمه الجليلة, تشعر وكأنه يطير في فضاءات النغمات التي يؤديها بأشكال مبدعة مختلفة حتى لتحس بأن جسمه كله قد تحول إلى ايقاع, وأنه يختزل المقامات في الروح والجسد معاً.
هذا الاسلوب الخاص والمنفرد يظهر أيضاً في تناوله لقصائد وأغاني الأعلام مثل أم كلثوم وغيرها حتى لتشعر بأن اللحن الذي يجيد التصرف فيه بأسلوبه ما خلق إلا هكذا, وهكذا الكبار يرحلون وتبقى الأصوات الكبيرة والذكريات العظيمة خالدة أبداً.
ظاهرة غير عادية
سهيل عرفة:
فقد احتفظ بقدرته على الغناء والوقوف على المسرح لساعات طويلة حتى مابعد الثمانين من عمره محمد عبد الوهاب كان دون سن الستين عندما توقف على الغناء , وتحول الى التلحين استطاع أن ينشر التراث الغنائي في العالم من خلال جولاته على الكثير من الدول الاوروبية . كما زار العديد من الدول العربية
رحمه الله.. ورذا كان قد رحل عنا بجسده , فسيبقى بينننا بروه وصوته فهو أحد حملة لواء التراث العربي مثل صباح فخري . هو أحد التلاميذ النجباء لعمر البطش وبكري الكردي.
والمعروف أنه اشتهر متأخراً مع أنه بدأ مسيرته مع الغناء من الخمسينات.
***
في موشح الوداع تسعة عقود من عمر شيخ المطربين, وأيقونة الإنشاد الديني (صبري مدلل) ابن المدينة العريقة في شتى مناحي الفنون (حلب المحروسة).
رحلة بدأها مؤذناً في جامع (قسطل الحجارين) في ثلاثينيات القرن الماضي.. وانتقل صوته الساحر بالآذان عبر مساجد عدة منها جامع العبارة, وأهمها الجامع الأموي الكبير, حيث كان يحلو للشيخ صبري أن يجلس أسفل المئذنة وهو يسفح نظراته المتأملة في باحة الجامع الواسعة.. تحط فيها أسراب الحمام الوديعة, وتتناثر هنا وهناك حلقات المنشدين, أو المتحلقين حول شيخ يسألونه ويستفتونه في أصغر الأمور.
يجلس الشيخ صبري.. وطربوشه الأحمر يهتز مع حركة رأسه الدائبة, وكأن الطرب كان يشمل كيانه كله وليس صوته وحنجرته فحسب.
نشأ صبري مدلل موسيقياً على يد العلامة عمر البطش, ومنذ مطلع الثلاثينيات كان صبري مدلل يتلقى دروس الموسيقا لدى الشيخ عمر البطش وكانت أجرة كل دقيقة درسية (نصف ليرة سورية), ولكن الشيخ عمر قرر تلقينه الدروس مجاناً نظراً لتفوقه وتميزه.
وكان لقاؤه بعد ذلك بالمطرب والملحن الكبير بكري الكردي, ثم محمد خير وصباح فخري, وسلسلة لا تنتهي من رجالات الطرب والإنشاد الديني والذكر الصوفي.
ومنذ أواسط الخمسينيات شرع صبري مدلل في التفرغ للمدائح النبوية من خلال فرقة أسسها لهذا الغرض.. وبدأ يلحن وتتوسع فرقته وتتبلور ميزاتها, وتخرج من هذه الفرقة أصوات ساحرة في مجال الإنشاد منها حسن الحفار وعبد الرؤوف حلاق.
وكان لابد لهذه الفرقة أن تخرج من نطاق المحلية إلى النطاق العربي والعالمي, فرأينا الشيخ صبري وفرقته يجوبون أقطار العالم, وهو يحمل طربوشه المتميز وينتقل عبر القارات يهز المشاعر بأدائه الساحر الصادق الذي ينفذ إلى الوجدان ويحرك كوامن الحس الإنساني.
ترك الشيخ صبري أكثر من ثلاثين لحناً في التواشيح الدينية لعل من أشهرها:
- أنا الإسلام رباني.
- إلهنا ما أعدلك (من شعر أبي نواس).
- أحمد يا حبيبي.
- بلبل الأفراح غرد.
- ظهر الدين المؤيد.
- على بيت الله.
- يا نبي سلام عليك.
- ميلاد أحمد.
ولقد كانت رحلات الشيخ صبري إلى مسارح العالم الكبرى القاهرة وباريس وبرلين وسواها مناسبة نقلت هذا الفن الأصيل إلى أنحاء العالم.
رحمك الله يا أبا أحمد.. أيها الشيخ المدلل الذي حمل في صوته وملامحه صورة التراث.. وبقي بيته في حي (الجلوم) العريق منطلقاً تخرج منه الفنانون والمنشدون ونشروا وهجهم الفني عبر العالم.
***
|