المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : لمالوف القسنطيني.. هل أصوله يهودية؟


تيمورالجزائري
14/05/2011, 14h55
بقلم :رشيد فيلالي *

ثمة جريمة فنية خطيرة ارتكبت ولا تزال ترتكب في حق تاريخنا الثقافي أمام صمت غامض وتواطؤ مدفوع الثمن لبعض الباحثين، ونؤشر على صفة الباحثين التي يتخفون خلفها بالأحمر، وذلك لكونهم شاركوا رفقة بعض الفنانين في حبك مؤامرة دنيئة، مفضوحة الأهداف، حيث تشوه حقائق أضحت أشبه بالمسلمات، وتتعلق بأصول الموسيقى العربية الأندلسية وطابع المالوف القسنطيني منها على وجه الخصوص، والذي يعتبر كما هو معروف الآن إحدى المدارس الثلاثة بالجزائر إضافة إلى المدرسة العاصمية التي تسمى بالصنعة والمدرسة التلمسانية وتسمى الغرناطية، علما بأن المدرستين العاصمية والتلمسانية أصلهما تحديدا من غرناطة بينما مدرسة قسنطينة تعود إلى إشبيليا التي تعد حاليا عاصمة منطقة أندلوثيا (الأندلس) بإسبانيا في الوقت الراهن.



المثير في هذه القضية أن اليهود من ذوي الأصول القسنطينية المنتشرين حاليا بمختلف مناطق العالم، وخاصة بفرنسا، يمارسون شتى أنواع التزوير الثقافي والتحريف الفني عن طريق إشاعة أفكار مغلوطة لا صلة لها بالحقيقة، أو إذا أردنا ألا نبخسهم حقهم نقول إنهم يضخمون الحقيقة على نحو يخدم توجهاتهم الإيديولوجية، على اعتبار أن ذلك يساهم بشكل كبير في ترويج دعاية كونهم »شعب الله المختار« الذي يقف خلف كل إبداع جميل وابتكار باهر وفن أصيل وعلم جليل، لكن المحقق المدقق والباحث الجاد الحيادي سرعان ما يفضح مثل هذه المبالغات والشطحات الوهمية التي لا تصدر سوى من النفوس المريضة بعقدة العظمة والغرور.

المالوف.. من التراتيل المقدسة لدى اليهود
لقد اعتاد المغني اليهودي المعروف، أونريكو ماسياس، واسمه الأصلي »غاستون غريناسيا«، على القول في كل الحوارات التي أجريت معه، بحيث أضحى ذلك من اللازمات المتكررة على لسانه، أن أستاذه "ريمون ليريس" الذي اغتالته يد الثورة في "سوق العصر" بتاريخ 22 جوان 1961 بسبب تعاونه مع منظمة OAS الدموية، يعد أعظم شيوخ فن المالوف القسنطيني بلا منازع. وعن أسباب إحرازه مثل هذه المكانة الرفيعة والمتميزة، يؤكد أيضا ابنه الدكتور (الطبيب) جاك ليريس أن أهم إنجاز اضطلع به الشيخ ريمون بتمكن مطلق هو قيامه بحوصلة لكل التيارات الموسيقية التي شاعت لدى شيوخ المالوف في عصره، بحيث أعطاها وحدة متناسقة ومنسجمة إلى حد مذهل، علما بأن الشيخ ريمون إعتاد منذ صغره على حضور "المرابع" والحلقات الفنية التي كان يعقدها رواد "المالوف" بمنطقة رحبة الجمال وسط مدينة قسنطينة، وبالتحديد في المبنى الذي يطلق عليه اسم "الفندق"، كونه فضاء وجد لاستقطاب الشباب من العزاب، وفيه تشيع ثقافة ذات منحى خاص يسوده الانغماس في ملذات الحياة كتعاطي الغناء مثل المالوف والحوزي إضافة إلى الإدمان على المخدرات والمسكرات عموما.

ومن الذين أشاعوا أيضا مثل هذه المعلومة الخاطئة إضافة إلى أونريكو ماسياس وابن ريمون جاك ليريس، نجد ابن قسنطينة الذي يقيم حاليا بفرنسا، وهو توفيق بسطانجي، هذا الفنان الذي كان جده أحد أبرز شيوخ المالوف بفندق المدينة، وهو من تتلمذ على يديه ريمون، قام بإعداد وإصدار أول تسجيل غنائي بصوت ريمون الأصلي، ولم يكتف بذلك حيث راح يقوم رفقة الفنانين اليهود بعمل دعائي في هذا الاتجاه واسع ومطروز بإتقان شديد يصعب فك وتحديد خلفياته المشبوهة بسهولة.
ومن الذين حققوا كذلك نجاحا كبيرا ضمن هذا المجال على الأقل وسط اليهود، والجالية المغاربية بفرنسا، نجد اسم أندريه الطيب وهو من مواليد قسنطينة وأحد أقرب تلاميذ ريمون إليه، وكان هذا الرجل من المنشدين أيضا بمعبد قسنطينة اليهودي، وحاليا ينشد بالمعبد اليهودي بمدينة مونبليه الفرنسية، إضافة إلى احترافه غناء المالوف رفقة فنانين يهود آخرين يسيرون على نفس هذا الدرب. والغريب في الأمر أن المغني أندريه الطيب يجتهد عبر كتاباته وطروحاته التي اعتاد على نشرها وإذاعتها عبر موقعه على شبكة الأنترنيت أن أصل المالوف من التراتيل المقدسة (piyyutim) التي كانت تعزف أثناء أداء صلوات يوم السبت بفلسطين ثم في بابل وإسبانيا (الأندلس) قبل أن تنتقل بعدها إلى المغرب العربي، ومنها الجزائر، وحاليا يصعب حسب هذا المغني اليهودي الفصل ما بين الإبداع اليهودي والعربي ضمن غناء المالوف، لكن بالإمكان قراءة ما بين سطور كلام هذا المغني لإدراك المعنى، وهو أن اليهود لهم الفضل الأكبر في تطوير المالوف والحفاظ على مقاماته الباقية، والتي لا تتعدى اليوم 12 مقاما (نوبة) بعد ضياع الاثنتي عشرة نوبة الأخرى، كما أن بعض المقامات على غرار "البياتي" يستحيل أداء الغناء وفقه بنفس جودة الغناء اليهودي، باعتبار أن هذا المقام هو مقام الشجن والحنين، وبالتالي فإنهم أجود من يؤديه وبالامتياز المطلوب، وشخص مثل الشيخ ريمون إستطاع أن يرتقي بصوته على زعم اليهود إلى مستويات صوتية تعتبر ذروة في الإبداع الغنائي، حتى أن إحدى الروايات التي يسردها توفيق بسطانجي تكشف بأن الشيخ ريمون عندما يغني ويبث صوته في المذياع أو يقدم في التلفزيون إبان الخمسينيات تصبح أحياء وشوارع قسنطينة خالية من المارة حيث يقصدون المقاهي لسماع صوت ريمون، وقد تمكن، يضيف بسطانجي قائلا، أحد الشغوفين بأداء هذا الفنان الغنائي من تسجيل العديد من حفلاته التي اعتاد على تنظيمها بـ "كلية الشعب" عن طريق إخفاء الميكروفون والمسجل بين ورود المزهرية التي كانت توضع أمامه لتزيين مجلسه، وفيما بعد تم بيع هذه التسجيلات إلى ابنه الدكتور جاك ليريس وطبعت ضمن أقراص مضغوطة وجرى من ثَم إنقاذ تحف فنية نادرة من الضياع...

قسنطينة مدينة نجمة داوود!


والجدير بالذكر أن كل المهتمين بالمالوف من الفنانين ذوي الأصول اليهودية وحتى من الباحثين الجزائريين والقسنطينيين يريدون تأكيد صحة الكثير من المزاعم و"الأساطير" عن طريق توظيف أسانيد ضعيفة وشهادات مشبوهة أو مفبركة لدوافع إيديولوجية كما أشرنا أعلاه أو لدوافع مادية وحتى مجاملاتية! والنتيجة نشر حقائق مغلوطة ومزيفة، إذ كيف يمكن تصديق الإدعاء بأن أفضل وأحسن أصوات المالوف قديما وحديثا هي أصوات المغنيين اليهود، وعلى رأسهم طبعا الشيخ ريمون ليريس وهو ابن يهودي من باتنة وأم فرنسية كاثوليكية تم تبنيه بعد وفاة والده من طرف عائلة يهودية من قسنطينة.
وهناك أصوات أخرى يهودية توضع في نفس الخانة على غرار لورون النقاش، رونيه ليفيه، بول أتالي، سيلفان غريناسيا (والد أنريكو ماسياس) وكان عازف كمان في فرقة ريمون، وسيمون تمار التي قتلها زوجها بسبب إحساسه بالغيرة، حيث اتهمها بأنها كانت على علاقة عشق محرمة مع عربي، وكانت قد زارت قسنطينة بعد الاستقلال وتم تكريمها من بعض الأوساط المحلية، حيث أهديت لها ألبسة تقليدية فاخرة، هي التي ترتديها في صورتها المنشورة على أغلفة أشرطة كاسيت التي تحمل أغانيها. هناك أيضا المغني إدموند أتلان، وراوول ريناسيا وأونريكو ماسياس المولود بقسنطينة والذي عمل مراقبا في مدرسة ثم معلما وكان عازف ڤيثارة في فرقة ريمون، ويوجد كذلك المغني ريمون نقاش وراوول نقاش وغيرهما.
أما الأسماء المعروفة من مغنيي المالوف المشاهير، سواء منهم القدماء أو الذين مازالوا على قيد الحياة، فإنهم لا يذكرون من طرف مؤرخي المالوف من اليهود إلا القليل منهم أمثال الحاج محمد الطاهر الفرڤاني، كمال بودا، حمدي بناني، سليم فرڤاني، محمد سقني وتوفيق بسطانجي، أما الشيخ الدرسوني والشيخ التومي رحمه الله، وحمو الفرڤاني، والمرحوم بن طوبال والمرحوم حسن العنابي، وحتى الذين جاءوا من بعدهم، مثل الشريف زعرور، ذيب العياشي وخلفة مبارك فلا ذكر لهم إطلاقا عند هؤلاء، والسبب واضح وجلي، حيث أن هؤلاء جميعا ومن حذا حذوهم يعتزون بالبعد العربي الإسلامي لتيارهم الفني مع اعترافهم في الوقت نفسه بإسهامات اليهود في هذا المجال، لكنه إسهام يوضع في مكانته الحقيقية من دون تضخيم لدورهم مثلما يطمح إلى إقناعنا به البعض ويلح في جرأة غريبة على ذلك!!
ومن دون شك ثمة من يتساءل بعد قراءة السطور السالفة عن دوافع التطرق إلى مثل هذه المواضيع في الوقت الراهن، وهل هي من الأولويات الواجب طرحها الآن؟ والجواب على ذلك بالمختصر المفيد هو أن الدور الذي أضحى يلعبه الآن يهود قسنطينة على المستوى الدولي إضافة إلى الحقائق الجديدة التي تطلعنا بها وسائل الإعلام بما فيها الإسرائيلية نفسها، وكذا الأحداث الأخيرة بلبنان وفلسطين والعدوان الصهيوني عليهما والتواطؤ الدولي الخطير على ذلك، كل هذا يتطلب مزيدا من الوعي، فالرهانات الحالية ذات وزن استراتيجي لا يحتمل غض البصر عنه أو مقابلته بسياسة انفتاح عمياء، إذ كيف نفسر هذا الانجذاب الجارف من طرف اليهود إلى كل ما هو قسنطيني ومحاولة تبنيه بكل الوسائل إلى درجة أن كل مواقع قسنطينة تقريبا على الإنترنيت تحمل نجمة داوود وكأنها مدينة يهودية مع أن هذا التيار الديني كان يمثل أقلية داخل المدينة مثلها مثل بقية الأقليات الأخرى المسيحية، مثلا صحيح أن وجودهم بعاصمة الشرق يعود إلى آلاف السنين، وربما إلى الألف الميلادية الأولى، أي منذ زمن سيدنا سليمان عليه السلام حسب زعمهم، إلا أنهم اختاروا أن يكونوا في صف المستعمر الفرنسي عام 1962 الذي منحهم كما هو معروف الجنسية الفرنسية وفق مرسوم كريميو الصادر عام 1870، وكريميو هو وزير العدل الفرنسي، ويهودي الديانة، والأخطر من هذا ما ذكرته صحيفة "معاريف" الإسرائيلية في عددها الصادر بتاريخ 14 ماي 2005 حيث كشف تقرير نشر بها تفاصيل حول مساهمة الموساد في تفجيرات إجرامية نفذت بالمدينة القديمة عام 1956 وخلفت العديد من الضحايا الأبرياء، كما لا يخفى أيضا أن يهود قسنطينة (؟) كانوا قد نظموا ملتقى وعددهم ألفي يهودي عقد بنزل "هلتون" بتل أبيب، وكان من بين المشاركين في فعالياته الرئيس الإسرائيلي شخصيا، موشيه كاتساف، والمتحصل على جائزة نوبل كوهين طنوجي إضافة إلى المؤرخ المعروف بن جامان ستورا والمغني أونريكو ماسياس، وهناك مصادر تؤكد على طلب المجتمعين على تعويضهم عن ممتلكاتهم المقدرة حسبهم بـ 144 مليون دولار، والتي تركوها عقب هجرتهم إلى فرنسا إبان الاستقلال. علما من باب التذكير أن التجمع المشار إليه نظم بتاريخ 27 و 28 مارس 2005، والسؤال المطروح لماذا هذا التاريخ بالذات، ولماذا تأخر هذا الاجتماع إلى غاية الآن، وهل هناك دوافع خفية لمثل هذه التحركات المشبوهة على اعتبار أن هناك أعدادا غفيرة من السياح الفرنسيين اليهود صاروا يتوافدون على قسنطينة بكثرة غريبة خلال السنوات القليلة الأخيرة، فضلا عن حملات التشويه المنتظمة عبر شبكة الأنترنت وغيرها من وسائل الإعلام التي يسيطرون عليها بقوة في غياب مع الأسف البالغ حملات مضادة لصد موجات التشويه والتزوير المنتظم وفق خطط محكمة ونافذة، وتواطؤ لمثقفين بلا ضمير .

تيمورالجزائري
22/09/2012, 16h14
فرنسا وتهويد الموروث الثقافي الجزائــــري ـ المالوف القسنطيني أولا ـ (http://www.djazairnews.info/analyse/38-2009-03-26-18-28-54/37975-2012-04-24-16-51-46.html)



الثلاثاء, 24 أبريل 2012 17:50
http://www.djazairnews.info/images/stories/25-04-2012/violon_de_montmartre_by_dresch-d337pq8.jpgبدأت حركة اليهود الجديد من فئة الأرجل السوداء الحاقدة على مختلف الموروثات الثقافية الجزائرية باللهث والبحث والتزوير والاحتيال من أجل تهويد الموروث الثقافي الموسيقي، بداية بالمألوف القسنطيني الجزائري أولا ثم إلى الميادين المعرفية والحرفية (الملابس - الحلي ـ الطبخ ـ الخراطة ـ النجارة ـ والنحاس)


تعرف الموسيقى الأندلسية بذلك النغم المتميز القادم إلى الجزائر من شبه الجزيرة الأيبيرية (اسبانيا) التي أطلق عليها المسلمون (أيام عزهم) جزيرة الأندلس في الفترة الممتدة من عام 711 إلى عام 1422م، تلك الجزيرة التي تضم أقاليم (طليطلة ـ قرطبة ـ غرناطة ـ مريم) غربا وهي غير (اندلوسيا) جنوبا، تلك الموسيقى المركبة من الإيقاع المحلي والنغم الأمازيغي والموشح العربي الزريابي الأصيل، الذي أخذ مكانة مرموقة في الذاكرة الفنية الأندلسية الأمازيغية البربرية الزنجية، وغيرها من الأجناس البشرية التي جمعتها شبه جزيرة الأندلس، والتي أفرزت ذلك الموروث الثقافي الموسيقي المتجدد بشقيه الديني والديواني والدنيوي طيلة ثمانمائة (800) عام بالأندلس وأكثر من ستمائة (600) عام بالشمال الإفريقي· التي انتشر فيها بشكل يسترعي الاهتمام (الجزائر ـ المغرب ـ تونس ـ ليبيا ـ موريتانيا) بعد سقوط غرناطة وهجرة المسلمين عربا وعجما عام 1492م· حيث عرفت تلك الهجرات كذلك نحو بلدان مشرقية (مصر ـ سوريا) إضافة إلى تطور وتنوع الموسيقى الأندلسي (الموشح) ارتباطا بالشعر والكلمة العربية المعبرة، إلى جانب الإسبانية والنظم المحلي الديني والديواني والدنيوي وفق منوال (من أيام الفلاح إلى الليالي الميلاح) تحولت من خلاله تلك الموسيقى وظهرت في أشكال موسيقية (الآلي ـ الحوزي ـ الغرناطي ـ الصنعة ـ العروبي ـ المألوف) وكذلك في وصف غنائي عرف بموسيقى (البيض ـ الكحل والوصفان ـ اليهود ـ الربايبي ـ الطرز) إلى غير ذلك من النعوت والأوصاف التي أصابت مسار الموسيقى الأندلسية أفقدتها أكثر من ثلاث عشرة (13) نوبة·
تلك الموسيقى الراقية وذلك الفن الحضاري المتميز الذي لم تسايره البحوث والدراسات العلمية الأكاديمية منذ ذلك العهد إلى الألفية الثالثة، رغم توفر الوثائق والتدوينات لذلك الفن الراقي بالمكتبات ومراكز الدراسات الإسبانية، ذلك الموروث الثقافي الموسيقي الحضاري الذي مازال عرضة للتبديد والتشويه والمتاجرة به في فضاءات الدعة والخلاعة والمجون من قبل الجهلة الدجالون الأميون وأنصاف العازفين بالتقليد، أفقدته تلك المكانة المرموقة والقداسة الفنية في مجالس السادة والقادة ومحافل العلماء والأدباء بدواوين وبلاطات الأمراء، ومواسم مشايخ الطرق الصوفية وذكرى الأعياد الدينية (المولد النبوي الشريف) ومواكب الحجاج والاحتفالات العائلية (الأعراس ـ الختان ـ العقيقة) ذلك الفن وتلك الموسيقى التي جمعت بين المهاجرين والحضر البلديين بالمدن والحواضر التاريخية (وهران ـ تلمسان ـ الجزائر ـ البليدة ـ بجاية ـ عنابة ـ قسنطينة) من (قوط ـ موريسك ـ يهودـ عرب ـ أمازيغ ـ بربر) وغيرهم من وجدوا في المجتمع الجزائري حظوة حسن الاستقبال والضيافة وروح التسامح وعلاقات التعايش الاجتماعي، ساعدهم على ممارسة مختلف النشاطات التجارية والحرفية والثقافية والشعائر الدينية والمذهبية، ومختلف فنون الفكر الثقافي الموسيقي الذي تمخضت عنه العديد من المدارس الموسيقية التقليدية الشعبية المزعومة، التي زادته تفكيكا وتشرذما بالأقطار المغاربية (المغرب ـ الجزائر ـ ليبيا ـ تونس ـ موريتانيا) حصرته في الضرب المبرح على الطبلة والطار، والخدش على العود والكمان وأوتار القيتار، ونسب ذلك الهدير إلى قرطبة وغرناطة وأشبيليا وإلى عرب ويهود جزر البليار، وغيرها من المدارس الموسيقية الأندلسية المزعومة التي أفرزتها الدراسات الاستشراقية المتأخرة التي ظهرت مع الحرب العالمية الثانية من قبل بعض الأفراد من الحركة الإستشراقية التي ركزت في دراستها الميدانية الهادفة على التسجيلات الموسيقية الغنائية التي أشتهر بها المغنون اليهود، بعد الثلاثينات والأربعينات من القرن العشرين، وهي الفترة التي أخذ فيها مصطلح الموسيقى الأندلسية الظهور على الساحة الفنية من جديد بالأقطار المغاربية والتي عرفت بأغاني (تايهوديت أو الموسيقى اليهودية) كانت تؤدى بالعربية والأمازيغية والعبرية والإسبانية والخليط من اللهجات الأخرى التي انفرد بها المغنون اليهود أمثال: الشيخ ريمون ليريس (مواليد قسنطينة 1912 - 1961) وسليم الهلالي (مواليد عنابة:1923 - 2005) وسلطانه داوود رينات (مواليد تيارت: 1918 - 2008 ) وفي المغرب ظهر سامي سالمون أمزلاج (1922 ـ 2008) وزهرة الفاسية (1900 ـ 1995) وفي تونس ظهر الشيخ العفريت إسرائيل روزيو (1897 - 1939) وحبيبة مارقريت مسيكة (1903 - 1930) وغيرهم كثر من الذين زادوه تشتيتا وتفكيكا وانحرافا عن الجادة الأصلية أدخلت ذلك الموروث الموسيقي الأندلسي في الألفية في الثالثة صراعات حقيقية حول تحديد صاحب الحق وتعيين الوارث الشرعي والأقرب لنوع وطبع الطرب الأندلسي، في الأقطار المغاربية والشمال الإفريقي، قبل أن يتحرك الآخرون من بلدان البحر الأبيض المتوسط للمطالبة بإيقاع أو طبع أو مقام أو بنوبة كاملة، من ذلك التراث الثقافي الأندلسي العربي الزريابي الأصيل، الذي بدأت حركة اليهود الجديد من فئة الأرجل السوداء الحاقدة على مختلف الموروثات الثقافية الجزائرية باللهث والبحث والتزوير والاحتيال من أجل تهويد الموروث الثقافي الموسيقي، بداية بالمألوف القسنطيني الجزائري أولا ثم إلى الميادين المعرفية والحرفية (الملابس - الحلي ـ الطبخ ـ الخراطة ـ النجارة ـ والنحاس) ذلك التراث الذي زادت فجوته إتساعا· أحاطت ذلك الجزء الهام من الموسيقى الأندلسية للطبوع الاشبيلية (حمص الأندلس) الذي ارتبط بأحد أعرق المدن التاريخية حضارة وفنا وعمارة، إنه المألوف، نوع من الموسيقى الكلاسيكية غير المقيدة بالأوزان وصياغة القوافي المتأصل والمتجذر في مدينة قسنطينة دون سواها، اللهم إلا بعض المقاطع القليلة المحصورة في المدن الجزائرية أو الأقطار المغاربية، وغالبا ما ارتبط هذا النوع من الغناء والموسيقى (في أيام عزه) بالطرق الصوفية (العساوية) والمدائح والأشعار الخاصة بالمولد النبوي الشريف متعديا إلى الأفراح والمناسبات المتعلقة بمشايخ الطرق الصوفية المحلية كما شمل المألوف الاشبيلي الأندلسي المغاربي (القسنطيني) العرب والأمازيغ واليهود وسكان الأحواز وكل من جمعتهم تلك المدينة التاريخية من مهاجرين وحضر وما عرفوه من حسن استقبال وضيافة وإقامة ومعاشرة دفعت بالوافدين إلى ممارسة نشاطاتهم التجارية والحرفية ومختلف فنون الغناء والموسيقى خاصة ''المألوف'' بحيث كان لا ينتهي الاستفتاح بالمسجد والزاوية حتى يكون ألبياتي بالمعبد اليهودي، وذلك قبل طمسه وإتلافه وتفتيته بين الأميين وإنصاف العرب والجهلة الحشاشين من اليهود وغيرهم من الأقنان الذين (فرتنوه) لدرجة حبسه أو وقفه، بل توريثه للمعتوهين من أفراد الآدمية، مما دفع باليهود الجديد بالضفة المقابلة من المتوسط للادعاء والتحرك بأن ''المألوف'' القسنطيني الجزائري يرجع إلى أصول يهودية خاصة ''مقام البياتي'' الذي كان يعزف حسبهم بالمعابد اليهودية ببابل وفلسطين، والمربتط بمختلف قصائد الأدب الوجداني الداعي إلى التذكر والحنين بالأفراح والأطراح الملازمة للهجرات والمعاناة اليهودية وملاحقاتهم المتكررة من قبل المتدينين المسيحيين باعتبارهم (قتلة الأنبياء)·
حيث عرف اليهود العديد من الهجرات هروبا من الخطر الداهم نحو الجزائر كانت من إيطاليا عام 1342م ومن الاراضي المنخفضة (هولندا ـ بلجيكا ـ لوكسانبورغ) 1350م وانجلترا 1422م وفرنسا .1403 كانت كلها نحو الجزائر، إلا القليل نحو الأقطار المغاربية الأخرى، ذلك إلى جانب هروبهم من الحروب الاستبدادية الكبرى التي عرفتها شبه الجزيرة الأيبيرية وجزر الباليار وما يورقه عام .1287 كما تكثفت الهجرات اليهودية مع سقوط غرناطة 1496م ثم توافدت العائلات اليهودية النافذة سياسيا وتجاريا من مدينة ليفورن مع بداية القرن السابع عشر الميلادي إلى أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، نظرا لما وجدوه في الجزائر من تعايش سلمي حضاري (تلمسان ـ وهران ـ معسكر ـ الجزائر ـ قسنطينة···) مازالت المقابر المعابد تشهد عليهم أولهم، إلا أن اليهود وكعادتهم لا يقرون بالمعروف، لدعوة يعرفها حخاماتهم وأحبارهم جيدا، ذلك الموروث الجزائري القسنطيني الذي مازال يروج له اليهود الجدد أمثال موريس المديوتى، وجاك ليريس، وأندري الطيب وانريكوماسياس، وغيرهم من تجار المألوف القسنطيني هناك، والمتواطئين والمندسين بين جدران مدينة الجسور المعلقة هنا، بدعوى إحياء تراث الأجداد ـ اليهود ـ والتي من بينها أعمال الشيخ ريمون ليريس الذي روجت له الإذاعة الاستعمارية بقسنطينة عام 1490م وعده من الذين سجلوا ودونوا وغنوا بل أنقذوا '' المألوف'' من الإهمال والضياع الكلي لموروث قسنطينة الأصيل، والذي بفضله أخذ المألوف شهرة مغاربية وعربية وعبرية وفرنسية على غرار المرجعيات اليهودية الأخرى· وما قامت به من بحث وتدوين وأداء، وأعمال علمية كبرى تمثلت في كتاب (مجموع الأغاني والألحان من كلام أهل الأندلس) للفنان اليهودي أيدمون ناطان يافيل الذي طبع بالجزائر عام 1942م، جمعت فيه أربعة عشر (14) نوبة· (الولود بقصبة الجزائر عام 1874 - 1928) مضافة لما قدمه الباحث الفرنسي (جيل الرواني) في موسوعته (الموسيقى العربية المغاربية) يحدث ذلك في تراثنا العريق وفي الألفية الثالثة وعصر العولمية والتطور المذهل لوسائل البحث والتكنولوجيا وفتح خزائن المكتبات البحثية المتخصصة والحافظة لتراث الشعوب، بمختلف اللغات ومختلف التخصصات لدراسة وبحث بل نفض الغبار على الموروث الثقافي الجزائري المهاجر والمسلوب والذي مازال يكتسيه الإهمال والنسيان من أهله والتعرض إلى التهويد والفرنسة و·· من غيره، والجامعات ومراكز البحث والمعاهد المتخصصة تزخر بالكفاءات العملية العارفة للمقاصد التراثية (اليوم تهويد المألوف التوراثي وغدا تهويد الموروث التراثي) والشعب الجزائري يقترب من احياء الذكرى الخمسينية التاريخية لاسترجاع السيادة الوطنية بتقديم وتقييم الحصيلة المعرفية والفنية العلمية المنجزة 1962- 2012م·

عمر بن عيشة

تيمورالجزائري
22/09/2012, 16h32
الباحث فوزي سعد الله لـ ''الجزائر نيوز'': الفرفاني، بناني، شاعو يغنون لليهود في فرنسا سرا (http://www.djazairnews.info/dialogue/49-2009-03-26-18-36-48/20866-2010-10-13-20-29-20.html) الأربعاء, 13 أكتوبر 2010 21:25 http://www.djazairnews.info/images/stories/14-10-2010/fawzi.jpgيرى الباحث فوزي سعد صاحب كتاب ''يهود الجزائر·· مجالس الغناء والطرب'' الصادر حديثا عن منشورات ''قرطبة'' بالجزائر، أن علاقة يهود الجزائر بالغناء المحلي الجزائري، لم تكن طابو، لكنها تحولت إلى ذلك بفعل أسباب تاريخية معقدة، ويرى أن عودة بعض الفنانين اليهود إلى الغناء بعد انقطاع طويل يعود إلى أسباب كثيرة لا تخلو من التجارة، بعد أن أصبح هذا النوع من الغناء موضة في أوروبا، ويؤكد أن ارتباطهم بهذا النوع من الغناء وجداني ولا علاقة له بالسياسة: منتجين وإن نبغ بعضهم
حاوره: الخير شوار
وأنت الباحث في علاقة يهود الجزائر بـ ''مجالس الطرب'' المحلي، لماذا تحوّل هذا الموضوع إلى طابو؟ هل هي جناية السياسة على الفن؟
علاقة اليهود بمجالس الطرب الجزائرية لم تولد طابو كما تقول، بل تحولت إلى طابو لأسباب تاريخية·
اليهود والمسلمون كانوا يغنون مع بعض في نفس المجالس، في نفس الأجواق الموسيقية، في نفس المدارس والجمعيات الموسيقية على غرار ''المطربية'' و''الأندلسية'' و''الجزائرية - الموصلية''، وحتى في جوق الإذاعة والتلفزيون، مثلما غنوا منفصلين عن بعضهم داخل أوركسترات خاصة بكل طائفة على حدة· المْعَلَّمْ اليهودي بن فَرَاشُوا تتلمذ على يد المسلم الشيخ المْنَمَّشْ في النصف الثاني من القرن 19م دون أن يكون اختلاف الديانة حاجزا بينهما، وتعلم المْعَلَّمْ يافيل ابن الشّباب، اليهودي هو الآخر، أصول الطرب الأندلسي، حسب أسلوب ما يُسمى بمدرسة ''الصنعة'' الخاصة بمدينة الجزائر، على يد المسلم الشيخ محمد بن علي سفنجة الذي توفي سنة 1908م، مثلما درَس مسلمون الغناء الأندلسي على يد مْخِيلَفْ بوشَعرة ولاَهُو صِرُورْ ومُوزِينُو (إسمه الحقيقي شاؤول دوران) وألفريد لبراطي -(Alfred Lebrati) المعروف بـ: المْعَلَّمْ السَّاسِي وغيرهم·
وإذا عدنا إلى الماضي القريب، توجد، على سبيل المثال،أغنية من نوع ''التَّانْغُو'' الأرجنتيني معروفة هي ''أنا الوَرْقَة المسكينة، اللِّي سقطتْ من العَرْفْ، اَمْسَاتْ يابسة وحزينة، رَانِي هَايْمَة مَا نَعْرَفْ···'' للمغني اليهودي الشهير لِيلِي بونيش· أغلب الناس يجهلون أن صاحب كلماتها هو الحاج مصطفى كشكول وملحنها هو مصطفى اسكندراني عازف البيانو الغني عن التعريف، وهي إذن ثمرة تعاون فني بين مطرب يهودي وفنانيْن مسلميْن والثلاثة من مدينة الجزائر· ويكفي أن تسمع أغاني بونيش، إبن حيّ ''جَامَعْ اليْهُودْ'' في قلب القصبة الذي توفي سنة 2008م، لتعرف عمق الصداقة والإحترام الذي كان يكنه لفنانين مسلمين كالحاج مْحمد العنقاء ومصطفى اسكندراني وآخرين، ولم أسمع إلى اليوم أي أحد يطعن في ليلي بونيش سواء في أوساط المسلمين أو اليهود·
هذه أمثلة أسوقها لأقول بأن ممارسة اليهود للغناء الجزائري، الحضري بشكل أساسي، كان أمرا طبيعيا ولا غرابة فيه· بل حتى الأحداث السياسية الكبيرة التي أثرت على العلاقات بين المسلمين واليهود في الجزائر كأحداث قسنطينة في الرابع أوت 1934م وأحداث اغتصاب فلسطين في 1948م، ثم اعتداءات، بل ''مجزرة'' على حد تعبير المؤرخ الفرنسي جيلبير مينييه (Gilbert Meynier)، اليهود على المسلمين في قسنطينة في عيد الفطر سنة 1956م وموقف الطائفة من الثورة التحررية وغيرها لم تُحدِث القطيعة بين الطرفين وإن أثَّرتْ بعض الشيء على الثقة بينهما· ولا يجب أن ننسى أن مطربة يهودية مثل أليس الفيتوسي (Alice Fitoussi) بقيتْ في الجزائر، في حي الأبيار، بعد الاستقلال إلى غاية وفاتها، لأن هذه المطربة، التي تنحدر من أسرة يهودية محافظة من مدينة برج بوعريريج، لم تكن تعرف وطنا آخر غير الجزائر· وكانت سيمون الطَّمَّار (Simone Tammar) تتردد بشكل شبه منتظِم على مدينة قسنطينة بعد استقلال الجزائر لتغني مع أصدقائها من الفنانين المسلمين المعروفين في هذه المدينة إلى غاية وفاتِها، بل قتْلِها من طرف زوجها في فرنسا لأسباب عائلية، في النصف الأول من ثمانينيات القرن الماضي· كما يجهل الكثير أن الفنان رْوِيمِي الشهير بـ ''بْلُونْ بْلُونْ'' (Bland Bland) غنى في كاباريه ''الكُتُبِيَّة'' في شارع ديدوش مراد في العاصمة الجزائرية في بداية السبعينيات رغم كل ما كان يقال في الإعلام الغربي عن تشدد الرئيس هواري بومدين إزاء اليهود··
وكيف حدث التحول؟
الموضوع تحول إلى طابو عندما لم يعد يوجد يهودا تقريبا ولا فنانين يهودا في البلاد، ما أدى إلى نسيان الماضي الفني المشترك من جهة وكأنه لم يكن، خصوصا لدى الأجيال التي لم تعاصر آخر جيل من الفنانين المَوْسَوِيِّين في البلاد· ومن جهة أخرى، خربتْ، الكوارث التي أحدثتها الصهيونية في فلسطين وفي لبنان وغيرهما، العلاقات بين العرب والمسلمين بشكل عام من جهة، واليهود من جهة أخرى· لهذا كله، أصبح من الصعب التمييز بين اليهودي والصهيوني خصوصا بعد أن التحق يهود بالصهيونية جهرا على غرار الفنان غاستون غريناسية المعروف بـ ''أنريكو ماسياس'' الذي غنى للجيش الإسرائيلي بعد هزيمة حرب 1967م وقبله في الجزائر الفنان ريموند ليريس مغني المالوف الذي يشتبه في تعاونه مع الاستعمار ضد الثوار الجزائريين وحتى في انخراطه في المؤامرات الإسرائيلية المعادية لاستقلال الجزائر في آخر سنوات الثورة التحريرية· أحداث كهذه حولت اليهودي بشكل عام في المخيال الشعبي وحتى لدى الكثير من السياسيين إلى خائن حتى أصبح مجرد الاستماع لغناء الفنانين اليهود جزائريي الأصل أو الحديث عنهم أمرا مشبوها لدى بعض الجزائريين· الحاج محمد الطاهر الفرقاني وحمدي بناني وسليم الفرقاني، وحتى عبد القادر شاعو، وآخرون لم يتوقفوا أبدا عن الغناء مع اليهود ولليهود في فرنسا، لكن دون الجهر بذلك نظرا لحساسية الموضوع·
الكثير من الفنانين اليهود الجزائريين، إعتقد البعض أنهم فارقوا الحياة منذ عقود طويلة لحظة ''الرحيل''، لكنهم عادوا فجأة في السنين الماضية، ما سر هذه العودة في رأيك؟
هذا صحيح، ساد الاعتقاد أنهم في عداد الموتى، لأن أغلبهم توقف عن الغناء بشكل كلي أو جزئي بعد الرحيل إلى فرنسا ولم يعد الناس يسمعون لهم إنتاجا جديدا، مما أدى إلى نسيانهم· وكان جزائريون آخرون يرفضون أن يسمعوا غناءهم، بما فيه القديم منه المسجل في الجزائر في عهد الاحتلال، لأسباب سياسية تعود إلى الاضطهاد الإسرائيلي المسلط على الفلسطينيين في الشرق الأوسط ولموقف الطائفة اليهودية المتخاذل أو حتى الخائن في العديد من الحالات إزاء الثورة الجزائرية· مثل هذه الأسباب حولت هؤلاء الفنانين اليهود إلى ما يشبه أطلال تاريخ تعبر عن زمن غابر ولو أنهم كانوا ما زالوا أحياء يرزقون· ويمكن ذكر بعضهم: ليلي بونيش، مثلا، توقف عن الغناء بعد زواجه من كُونْتِيسَة (comtesse) الثَرِيَّة، المْعَلَّمْ زُوزُ وإِيبِيهُو بن سْعِيدْ إعتزلا وكان مُسنَّيْن وسرعان ما توفيا في مدينة نيس، بجنوب فرنسا، في بداية السبعينيات، وتفرغ موريس المديوني عازف البيانو والصديق السابق لِبْلاَوِي الهُوَّارِي للتجارة في مدينة مرسيليا بعد تجربة فاشلة في إسرائيل ومحاولات فنية غير مثمرة في الكباريهات والمقاهي في فرنسا· كما تحول أنريكو ماسياس إلى أغاني المنوعات الفرنسية منذ نجاحه الجماهيري بأغنية ''تركتُ بلدي'' (J'ai quitté mon pays) بعدما تلقى تكوينا في المالوف إلى غاية رحيله عن الجزائر وعزفه في الأوركسترات الجزائرية في باريس طيلة السنوات الصعبة التي أعقبت الرحيل· أما ليلي العبَّاسي وسيلفان غريناسيا، والد أنريكو ماسياس، عازف آلة الكمان آلتو المعروف، وبْلُونْ بْلُونْ، وروني بيريز، ومغنيَّيْ المالوف إيدمون عَطْلاَنْ وألكسندر جودا النقاش وغيرهم فلم يتمكنوا بشكل عام سوى من الغناء في الأعراس وحفلات الـ: ''بَارْ مِيتْزْفَاه'' اليهودية وفي المقاهي والكباريهات لكسب القوت، ونادرا ما نجح بعضهم في اختراق استوديوهات الإذاعات والقنوات التلفزيونية الفرنسية واستوديوهات التسجيل على الأسطوانات، لا سيما وأنهم كانوا يغنون فنا عربيا في بيئة اجتماعية أوروبية لا تتذوق الطرب الشرقي·
وماذا عن العودة إلى الغناء؟
عودة البعض منهم إلى واجهة الأحداث الثقافية تعود إلى منتصف الثمانينيات، وكانت هذه العودة خاضعة لعدة تجاذبات: تجارية للكسب من الغناء الشرقي العربي الذي بدأ الجمهور الفرنسي يُظهر بعض التفتح، عليه بنظرة استشراقية هاوية للإِيكْزُوتِيزْمْ، بعد وصول الاشتراكيين إلى السلطة وتنامي تأثير الجالية العربية المهاجرة في سوق الغناء الفرنسي من جهة، وأيضا لأسباب سياسية من جهة أخرى إذ وظف غناء هؤلاء الفنانين اليهود في سياق التفاوض، الذي كان لا يزال سريا آنذاك، بين الفلسطينيين وإسرائيل، من أجل السلام قبل أن تقوم الصهيونية بمحاولة توظيفه التي لا تزال متواصلة ومصحوبة بما يشبه إعادة كتابة التاريخ الفني، والثقافي بشكل عام، في العالم العربي بما يُسْمِنُ دورَ الطوائف اليهودية العربية في النهضة الثقافية العربية وحماية التراث الثقافي العربي· ولم يقتصر الأمر في هذا المجال على الغناء في الجزائر بل تعداه إلى دور هذه الطوائف في العراق واليمن ومصر ولبنان وتونس والمغرب·· إلخ· وشمل ميادين أخرى كالمسرح الذي أصبحت ريادة ظهوره حديثا في البلاد العربية تُنسبُ إلى يهودي من مدينة الجزائر يُسمى آبراهام دانينوس (Abraham Daninos) كان من الخونة الذين التحقوا بجيش الاحتلال منذ انطلاق حملة الجنرال دوبورمونت من مدينة تولون في جنوب فرنسا في صائفة 1830م· والمشكلة تكمن في أن هذه الأطروحة أطربتْ بعض الجزائريين بدغدغتها لحسهم الوطني كرواد للمسرح العربي الحديث بدلا من مارون النقاش اللبناني، وأغرتهم بتبنيها دون تحقيق وتمحيص·
من خلال إعادة كل من الفنانة سلطانة داوود المعروفة بـ ''رينات الوهرانية'' 'oranaise) (Reinette l وليلي بونيش إلى الواجهة وتكريمهم حتى من طرف المركز الثقافي الجزائري في باريس، نجح المنتجون، بمساعدة وسائل الإعلام، في اللعب على وتر الحنين وإعطاء نفس جديد لغناء يهود الجزائر في فرنسا إما بإعادة إنتاج الأسطوانات القديمة بعد تنظيفها من الناحية التقنية وإصدارها في أقراص مضغوطة أو بإعادة تسجيل الأغاني القديمة بأصوات أصحابها وهم في آخر العمر· وبهذا النجاح، تشجع آخرون ودخلوا الساحة الفنية من جديد بتسجيلات قديمة - جديدة وبإحياء الحفلات مثلما هو شأن رُونِي بِيرِيزِ (René Perez) وبْلُونْ بْلُونْ وألكسندر جودا النَّقَّاشْ وأبنائه، ولِينْ مُونْتِي (Line Monty) التي كان آخر ظهور فني لها قبل وفاتها في قاعة معهد العالم العربي في باريس قبل سنوات، والإخوة عتَّالِي (Attali) في مرسيليا ولُوكْ الشَّرقِي (Luc Cherki) الذي غنى قبل بضع سنوات فقط ضمن فرقة ''الغُوسْطُو'' (El Gusto) الجزائرية تحت قيادة محمد الهادي العنقاء·· إلخ·
عودة إلى علاقة الفن بالسياسة، ما سر ارتباط هؤلاء الفنانين بهذا النوع الموسيقي المحلي، والكثير منهم إختار في لحظة تاريخية إنتماء حضاريا آخر، إنطلاقا من قانون ''كريميو'' سيء الصيت؟
أعتقد أن هذا الارتباط لا علاقة له بالسياسة· في نظري، هو ارتباط وجداني نابع من انتمائهم الثقافي العميق للجزائر والذي لم ينجح مرسوم ''كريميو'' في محوه وإلغائه بعد أكثر من قرن من صدوره·
هؤلاء، بشكل عام، جزائريون في عاطفتهم، في مخيالهم، في أذواقهم الموسيقية والجمالية وحتى في الكثير من عناصر هويتهم، وإن اختلف الانتماء الروحي· التوظيف السياسي يأتي في المرتبة الثانية ولم يقبل بالمشاركة فيه سوى القليل من بين أهم هؤلاء المغنين مقابل امتيازات تسمح لهم بتحقيق الشهرة والمكاسب المالية· ليلي بونيش مثلا بقي يرفض اعتبار أن الغناء الأندلسي غناء ''يهودي - عربي'' (judéo-arabe)، كما أصبحت الدعاية الصهيونية ووسائل الإعلام الغربية تروج لذلك، وقال إنه غناء عربي وكفى· ورفضت سلطانة داوود الغناء في إسرائيل إحتراما لأصدقائها المسلمين·
الكثير من هؤلاء الفنانين أناس بسطاء ومتواضعي الحال ماديا، والبعض منهم يهمهم أكثر أن يعثروا على فرص تُشهرهم وتحسن مستواهم المعيشي أكثر من اهتمامهم بالبعد السياسي أو بـ: مَاذا وكيف وأين يغنون؟·
ومن بين الذين دخلوا اللعبة السياسية أنريكو ماسياس الذي أصبح يقدم نفسه كشيخ من مشايخ المالوف بعد أن ''شيَّخَ'' صهره ريموند ليريس الذي لم يُعرف أبدا إلى غاية مقتله في 1961م بهذا اللقب الكبير في قسنطينة الذي اعتقد أنه أكبر من حجمه رغم نبوغه في المالوف· وما لا يعرفه الناس هو أن الفنان القسنطيني توفيق بستانجي تعب في تلقين ماسياس عدد من أغاني المالوف تُعتبر في قسنطينة من الأبجديات على غرار ''قم ترى براعم اللوز، تندفق عن كل جهة''، ومع ذلك كان أداؤه لها يتضمن العديد من الأخطاء اللغوية والشوائب الفنية الأخرى·
من الذي خدم الآخر أكثر؟ يهود الجزائر أم الموسيقى الأندلسية؟
ماذا لوقلبنا السؤال إلى هذه الصيغة: ''مَن خدم الآخر أكثر الفنان الجزائري إيدير أم الموسيقى الغربية؟ الفنان الصافي بوتلة أم الموسيقى الغربية؟ الموسيقار محمد إيقربوشن أم الموسيقى الكلاسيكية الغربية؟
أعتقد أن الموسيقى لغة عالمية ملك لكل البشر قبل كل شيء تنمو وتتطور وفق ما يشبه ''الأُوسْمُوزْ'' الذي يحدث داخل الخلايا، أي بالتبادل والتلاقح·
الفنانون اليهود غنوا التراث الجزائري الذي كان تراثهم بحكم انتمائهم للجزائر، وذلك إلى غاية تخليهم لسبب أو لآخر عن هذا الانتماء· بعضهم لمع والبعض الآخر بقي مغمورا· كان من بينهم نجوم مثلما تَطفَّل آخرون على هذا الغناء لكسب لقمة العيش بالضبط مثلما يحدث بين الجزائريين المسلمين وفي كل المجتمعات·
لكن أن يقال أنهم رواد هذا الغناء الجزائري أو أي نوع من أنواع الغناء في الجزائر أو أن دورهم كان أهم من دور المسلمين فيه فإن أقل ما يمكن الرد به هو أن هذا الكلام غير صحيح· وفي حقيقة الأمر، كانوا مغنين مقلدين للمسلمين وتلاميذ لهم ولم يكونوا منتجين وإن نبغ بعضهم· أبرزهم وأكثرهم أهمية في تاريخ الجزائر المعاصر هم بن فراشو والمعلم يافيل وموزينو وبوشعرة ولاهو صرور واللَّجَّام والمعلم السَّاسي وقد تكونوا جميعهم على يد الشيخ المنمش أو الشيخ سفنجة أو ابن التفاحي أو محي الدين الأكحل أو لِيُعلِّموا بدورهم ما تعلموه ليهود ومسلمين في مدارس الجمعيات وفي المعهد الموسيقي البلدي لمدينة الجزائر وفي مجالس الطرب الأخرى كالحفلات والأعراس· وأنا لا أتحدث عن أغاني المنوعات بل أتحدث عن الأساس وهو الغناء الحضري الأندلسي بروافده ومشتقاته كالحوزي والعروبي والزنداني حتى الشعبي العاصمي· لاحظ أن الفنانين الجزائرين المسلمين الذين استقروا في فرنسا أسسوا عشرات الجمعيات الموسيقية وفتحوا المدارس لتعليمها ويمارسون هذا الغناء في مختلف المدن الفرنسية وفي كبريات القاعات وأكثرها شهرة، فيما تنطفئ يوما بعد يوم شعلة الطرب الأندلسي في الوسط اليهودي في فرنسا كلما انطفأ فنان من فناني هذه الطائفة الذين رحلوا عن البلاد بعد الاستقلال·
لك أكثر من كتاب يتناول موضوع ''يهود الجزائر''، ما سر الاهتمام بهذا الموضوع الملغم؟
الموضوع ليس ملغما وإنما لغمناه بالجهل وبسوء التعامل مع المشكلة الصهيونية· أنظر إسرائيل اليوم قررت إدخال اللغة العربية رسميا وإجباريا في التعليم الإبتدائي بينما ألغينا نحن اللغة العبرية من الجامعات منذ عقود ولما تفطننا لهذا الخطأ وتقرر العودة إلى تعليمها في جامعة الأمير عبد القادر في قسنطينة قبل عام على ما أعتقد، سمعتُ وقرأتُ أن هناك من اعتبر القرار تطبيعا·
إسرائيل أصبحت تنتج النظريات في المجال الثقافي العربي مثلما هو حال أعمال البروفيسور شموئيل موريه في الأدب والمسرح العربي وإيدوين سيروسي وآمنون شيلواح في الموسيقى العربية التي مارسها اليهود، وكذلك روفين سنير وغيره، بينما نكتفي نحن بتبني هذه الأطروحات، أحيانا بسذاجة، خصوصا إذا دغدغت عواطفنا لغايات قد نكتشف أبعادها وخطورتها بعد عقود، عليك بمقارنة عدد الذين يتقنون اللغة العربية من يهود إسرائيل مع عدد الذين يتقنون بل يعرفون فقط اللغة العبرية في الجزائر· أعجبني كثيرا ما كتبه المرحوم بن يوسف بن خدة في كتابه حول ''جذور أول نوفمبر''
er Novembre)1 (Les origines du إذ قال إن التاريخ إن لم تكتبه أنت وأنا فسيتكفل به الغير، ولن يكتبه بالضرورة حسب مصالحنا وكما تمليه الحقائق التاريخية، بل قد يوجهه كما يشاء لتحقيق أغراضه الخاصة·
لديك اهتمام خاص بالموسيقى الدينية الجزائرية·· لماذا في رأيك ''انقرض'' هذا النوع الجميل، هل هي ''الوهابية'' التي قضت على كل خصوصية جزائرية؟
ليس من العدل مسح ''الموس'' في الوهابية رغم عيوبها المتعددة، الموسيقى الدينية كانت ولا تزال محترمة حتى في أوساط وهابيي جمعية العلماء المسلمين في عهد الاحتلال· أعتقد أن ''الاشتراكية ذات الطابع الجزائري''، مثلما كنا نسميها، والذهنية اليسارية التي كانت متعطشة غداة الاستقلال لوضع أسس جزائر ''عصرية'' بأي ثمن وإحداث القطيعة مع ''التخلف'' أدت إلى رمي الرضيع مع المياه الوسخة بعد الانتهاء من غسله· كما ساهم في هذه الوضعية الفكر الإصلاحي لجمعية العلماء المسلمين الذي حارب أحيانا بطريقة عشوائية الطرقية والزوايا التي رغم عيوبها الكثيرة قدمت خدمات ثقافية واجتماعية·
وبشكل عام، إستعجال التقدم واللحاق بركب الأمم غداة الاستقلال أدى إلى إهمال جوانب كثيرة من مقومات هويتنا· ولا تزال هذه الأخطاء متواصلة بالإهمال واللامبالاة وضعف الإحساس بالمسؤولية لدى من كُلِّفوا بالمسؤوليات· في سنة 1999م، أراد الشيخ أحمد سري عميد الغناء الأندلسي في الجزائر تحضير مجموعة من الشباب الهواة من بينهم أعضاء في المجموعة الصوتية ''نغم'' للإحتفال بالمولد النبوي الشريف في ضريح سيدي عبد الرحمن الثعالبي في القصبة بتلقينهم بعض المدائح لسيدي محمد إبن الشاهد وغيره على الطريقة المحلية الأندلسية الأسلوب، لم ينجح في نهاية المطاف حتى في الحصول على غرفة أو قاعة لإجراء التمرينات والتدريبات الصوتية للتلاميذ واضطر للتحضير في كنيسة القلب المقدس (Sacré Coeur) في أعالي شارع ديدوش مراد بفضل كرم قسيس هذا المعبد المسيحي زاد الله في فضله·
هل من مشروع كتاب في الأفق، يتناول هذا التراث الموسيقي الديني في الجزائر؟
- أنا بصدد تحضير كتاب باللغة العربية حول الغناء الأندلسي في الجزائر بمختلف مدارسه: الصنعة، الغرناطي والمالوف، في جوانبه الدنيوية والدينية· وبالتزامن مع ذلك، أحضِّر كتابا آخر باللغة الفرنسية حول الجاليات الأندلسية في الجزائر منذ سقوط غرناطة بشكل خاص وكيفية إدماجهم في الجزائر من طرف السلطة العثمانية· وهذا يقودني إلى التعرض إلى تأثير فكرهم الصوفي على سكان الجزائر ككل آنذاك من خلال الزوايا والطرق الصوفية· الناس في الجزائر نسوا أن سيدي منصور في بولوغين وسيدي مجبر في بوزريعة وسيدي الكبير في البليدة مثلا أندلسيون·
كتبت عن الجزائر العاصمة ومفاصلها العمرانية والتاريخية، أنت تعيش فيها، فكيف تقرأها الآن وأنت بعيد عنها؟ هل تبدو لك الصورة أجمل أم أبشع؟
بكل صراحة أبشع، لأن الأمور في بلادنا في تدهور وليس في تطور· أتذكر أن بوتفليقة صُدم لما زار شارع العربي بن مهيدي في سنة 1999م/2000 على ما أعتقد، وتأسف بعبارات قوية أمام الكاميرات عما كان عليه هذا الشارع في عهد الاحتلال والسنوات الأولى التي تلت الاستقلال وكيف أصبح·· أعتقد أنه لو زاره اليوم لمات قبل أن تنتهي عهدته الحالية·
عاصمة طفولتنا كانت أفضل وأجمل وأنظف من عاصمة شبابنا، وعاصمة شبابنا كانت أحسن من عاصمة نهاية شبابنا، وحسبما تسير عليه الأمور في البلاد، أتوقع لها أن تؤول إلى الأسوأ خلال العقد المقبل على الأقل، وقد تنهار أجزاء هامة من معالمها ونضطر إلى إعادة البناء وتضييع أموال وتراث ستحاسبنا عليه الأجيال القادمة·
الباحث في سطور
كاتب صحفي جزائري، إشتغل طويلا في الصحافة الجزائرية واشتهر بروبورتاجته التي تتناول الجزائر العاصمة، من زوايا عمرانية وتاريخية وثقافية مختلفة·
إشتغل على موضوع، يهود الجزائر منذ تسعينيات القرن الماضي، وأصدر في هذا الصدد ثلاثة كتب الأول ''يهود الجزائر·· هؤلاء المجهولون''، والثاني ''يهود الجزائر·· موعد الرحيل''، وأخيرا ''يهود الجزائر·· مجالس الغناء والطرب''، الصادر حديثا عن دار قرطبة بالجزائر، وعرف عن الباحث فوزي سعد الله اهتمامه الكبير بالتراث الموسيقي الجزائري، بما فيه الديني·

تيمورالجزائري
22/09/2012, 16h48
http://ouledsidi.com/wp-content/uploads/2011/10/Cheikh-Raymond.jpg (http://ouledsidi.com/article-en-arabe_alaune/%d9%87%d9%84-%d8%a3%d9%86%d8%aa%d8%ac-%d8%a7%d9%84%d9%8a%d9%87%d9%88%d8%af-%d8%a7%d9%84%d8%aa%d8%b1%d8%a7%d8%ab-%d8%a7%d9%84%d9%81%d9%86%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d9%86%d8%af%d9%84%d8%b3%d9%8a-%d8%a7.html/attachment/cheikh-raymond)
تعيد وفاة الفنان اليهودي جزائري الأصل، روني بيريز، إلى السطح قضية العلاقة بين يهود الجزائر وبين التراث الفني الغنائي الجزائري، وبخاصة منه التراث الفني الأندلسي (النوبة بمسمياتها الثلاثة : المالوف في الشرق، والصنعة في العاصمة والوسط، والغرناطي في تلمسان). فما هي طبيعة هذه العلاقة ؟ وما مدى التأثير الذي تركه يهود الجزائر على الفن الجزائري ؟ وما مدى صحة ما يقال هنا وهناك، من أن التراث الفني الغنائي الجزائري، وبخاصة الأندلسي منه، هو من إنتاج يهودي ؟

بعد الدراستين اللتين أصدرهما الزميل والباحث فوزي سعد الله، الأولى تحت عنوان « يهود الجزائر هؤلاء المجهولون » والثانية تحت عنوان « يهود الجزائر موعد الرحيل »، أصدر هذا الباحث في السياق نفسه دراسة جديدة عن دار قرطبة تحت عنوان « يهود الجزائر مجالس الغناء والطرب ». جاء الكتاب في 450 صفحة من القطع المتوسط، مدعما بالصور وعشرات المراجع والوثائق. ويعتبر هذا الكتاب وثيقة مهمة في بابه، حيث إنه يسترجع التاريخ الفني لليهود في العالم العربي الإسلامي عموما وفي الأندلس ثم في الجزائر والمنطقة المغاربية/المغرب الإسلامي على وجه الخصوص.
لم يسبق أن أثارت ممارسة اليهود للموسيقى الجزائرية الاهتمام والجدل اللذين أثارتهما خلال السنوات الأخيرة. مساراتهم، وزنهم على الساحة الفنية المحلية، علاقاتهم بزملائهم من المسلمين، أهمية إنتاجهم الموسيقي والغنائي في مجمل التاريخ الموسيقي الجزائري في القرون الخمسة الأخيرة على الأقل. والحيرة أحيانا في تقويم أعمالهم وتصنيفها ثقافيا وقطريا. كل هذه المسائل طرحت نفسها بحدة على الجزائريين منذ نهاية تسعينيات القرن الماضي. وكلها أيضا وردت في سياق ما بعد اتفاقيات أوسلو 1993 بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل.
ومن بين ما حفز النقاش حول هذا الموضوع تصريحات رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة حول « دور الطائفة اليهودية الجزائرية في الحفاظ على التراث الموسيقي الجزائري »، وذلك خلال الزيارة التي قام بها في بداية عهدته الأولى إلى مدينة قسنطينة. وكذلك الغليان الإعلامي السياسي الذي ساد في تلك الفترة، ثم بعدها في سنة 2007 بخصوص إمكانية زيارة المغني اليهودي الفرنسي من أصل جزائري « غاستون غريناسيا » الشهير بـ »أنريكو ماسياس » والشهير أيضا بصهيونيته، لمسقط رأسه قسنطينة، حيث ترافق هذا الحدث بزيارة العديد من الأقدام السوداء من اليهود إلى تلمسان للترحم على ضريح رجل الدين « الربي عنقاوة » المدفون هناك.

الفن اليهودي والهوية الإسرائيلية

الحدثان بزخمهما الساسي والإعلامي وبغض النظر عن ملابساتهما، نفضا الغبار عن موضوع اليهود والموسيقى الجزائرية وأخرجاه من دائرة الماضي المكبوت على ضفتي المتوسط إلى واجهة النقاش. وتباينت المواقف بين مبالغات وتضخيم لدور اليهود في مسار التراث الموسيقي الجزائري، ذهبت إلى حد تقديمهم كمنقذين لهذا التراث من الضياع، وبين تقزيم لهذا الدور حد الجزم بتشويه « هؤلاء العبريين » لهذا التراث لأسباب عدة من بينها « عدم تحكمهم في اللغة العربية » خصوصا منذ احتلال فرنسا الجزائر سنة 1830 والتحولات الثقافية التي فرضت على البلاد إلى غاية رحيل الاستعمار العسكري سنة 1962.
وبين هذه المواقف وتلك، تتضارب أطياف من الآراء في ظل غياب أي بحث واف خاص بهذا الموضوع، لا في الجزائر ولا خارجها، باستثناء المقالات والبحوث المتفرقة والمحاضرات التي ألقيت هنا وهناك في ندوات وملتقيات مرتبطة بالدراسات اليهودية والتي نشرت عادة في مجلات أنجلوسكسونية وإسرائيلية متخصصة. أما أبرز الدراسات والبحوث التي أعدها حتى الآن يهود وإسرائيليون حول علاقة اليهود بالغناء العربي بشكل عام، فلم تهتم كثيرا بغناء الفنانين اليهود في الجزائر، خاصة أنهم بقوا في أغلبهم، حسب رأي فوزي سعد الله، بعيدين عن الأيديولوجية الصهيونية. كما إن بعدهم الجغرافي عن إسرائيل، كجزائريين قبل 1962، ثن كفرنسيين بعد الاستقلال (كثيرٌ من اليهود أو أغلبهم رحلوا عن الجزائر بعد الاستقلال) وأيضا لبعدهم الثقافي عن الهوية الأشكينازية الغربية التي تطغى على الدولة العبرية، باعتبارهم عربا وشرقيين أساسا، قد يكون لذلك كله دورٌ في عدم الاهتمام الكافي بهم إعلاميا وعلميا. وفوق ذلك كله، ركز البحث العلمي الإسرائيلي في المجال الثقافي الموسيقي، على دراسة المشاكل الداخلية للدولة العبرية قبل كل شيء، فجاءت البحوث والدراسات اليهودية الإسرائيلية الأنجلوسكسونية، لمعالجة مشاكل الهوية الثقافية داخل المجتمع الإسرائيلي وسد الشرخ الواسع والخطير بين اليهود الأشكيناز/الأشكينازيم (الغربيون)، واليهود السيفاراد/السفرديم (الشرقيون)، وخاصة العرب منهم الذين يُطلق عليهم أيضا باللغة العربية « الميزراحيم » أي الشرقيين.

محاولات تهويد الفن الجزائري

يأتي كتاب فوزي سعد الله، سدا لفراغ يقول الباحث إنه لا يحق تركه للغير يعبثون به وفق أهوائهم التي قد لا تصب بالضرورة في مصالح الجزائر. وبدأت فعلا قراءاتٌ صهيونية لتاريخ ممارسة اليهود للغناء الجزائري، تفرض نفسها تدريجيا منذ سنوات على الساحة الدولية، في الوقت الذي « طال فيه انشغال البلد بمآسيه الداخلية التي لا يبدو بعد أنها تنوي الاتجاه إلى مسرى الأمان الدائم ». ويمكن القول إنه من غير المعقول أن يُطلق النفير للتحذير من محاولات تهويد جوانب من الثقافة الجزائرية، جون أن يترجم ذلك عمليا إلى حراك ثقافي عملي جاد، لمواجهة التحدي. ولا يكفي القول إن اليهود يستولون على التراث الموسيقي الجزائري ويقدمونه للعالم على أنه تراث ثقافي يهودي ليتحقق تدارك المشكلة، لأن حماية التراث الوطني تبدأ بمعرفته والتعريف به، لأن المعرفة به تشحذ القدرة على النقد ولأن الجهل يزيد في قابلية هضم الأكاذيب مهما كانت ضخامتها، ويفتح الأبواب على مصراعيها للمناورات المشبوهة والطمس والتشويه. ولا شك أن هذا بالذات ما يعاني منه التراث الموسيقي الغنائي الجزائري أمام التحديات التي يفرضها المنطق الصهيوني، أي ضعف المعرفة بالتراث. إن القلق على التراث الموسيقي والثقافي بشكل عام، من « السطو » الصهيوني، الذي يدخل في إطار البحث المتواصل للدولة العبرية عن هوية جامعة لجميع مكوناتها الإثنية تضمن الانسجام الاجتماعي المفقود، لا يبدو أنه يقتصر على الجزائر فحسب، بل يشمل مختلف بلدان العالم العربي من اليمن إلى بلاد الشام والعراق حتى المنطقة المغاربية.

الفن والطابو الديني

ربما يرى البعض أن مجرد الخوض في هذه الموضوعات « اليهودية » يصب مباشرة في خدمة المصالح الإسرائيلية الصهيونية واليهودية العالمية، وأنه من الأفضل تجاهلها. والواقع، كما يقول الباحث، أن المصالح الإسرائيلية تضمنها آليات أخرى ومخططات لا تُرسم بالنظر إلى ما تعتقد أو لا تعتقد البلدان والشعوب العربية والإسلامية، ولا تستند في تحديد غاياتها واستراتيجياتها وأدواتها، إلى ما تحب أو لا تحب هذه البلدان والشعوب، بل لها محددات أخرى مستقلة إلى حد بعيد عن هواجس وهوس العرب والمسلمين، ولا تعبأ كثيرا بخطاباتهم الثقافية ولا السياسية. إن هذه المحددات تخضع لمصالح ولوبيات ومخططات إقليمية ودولية كبرى تتجاوز أحيانا حتى إرادة إسرائيل ومصلحتها، على حد تعبير الباحث.
وبالتالي فإن البحث والتنقيب في الموضوعات « اليهودية »، في علاقتها بالعرب والمسلمين، قد لا يزيد أو ينقص الكثير من الأشياء في حاضر الصهيونية والدولة العبرية بقدر ما يساهم في فهم الذات العربية والإسلامية في علاقتها بالآخر ماضيا وحاضرا. وهو ما قد يساهم في تمتين المناعة الثقافية والسياسية وفي وضع لبنات غد أفضل وأكثر تماسكا وصلابة.
إن ما جاء به الباحث من نماذج كثيرة ومتعددة لفنانين جزائريين يهود أسهموا فعلا في تسجيل التراث الفني والموسيقي والغنائي الجزائري والترويج له في الداخل والخارج، يؤكد فعلا دورهم الذي لا يمكن أن ينكر في هذا المجال. ومن المؤكد أن بعضهم أو ربما الكثيرين منهم، ما زالوا متمسكين بهذا التراث إلى اليوم حتى وهم يعيشون خارج الجزائر.

تأثر اليهود بالثقافة المحلية

غير أن ما سبق كله لا ينبغي أن يجعلنا نغفل عن حقيقتين تاريخيتين في غاية الأهمية : الحقيقة الأولى، وقد أكدها الباحث، هي أن المغرب الأفريقي بمعناه الجغرافي الواسع، كان يُغني هو الآخر كغيره من المجتمعات البشرية، قبل أن يدخل في الفضاء الإسلامي بفعل التحولات السياسية التاريخية. وإن كانت المصادر التاريخية خرساء تقريبا في هذا المجال. في الوقت نفسه، لا يحق لأي كان أن يُصور هذه البقعة من الأرض على أنها كانت لاشيء حتى جاءها الإسلام، كما تميل إلى ذلك بعض الاتجاهات الأيديولوجية والسياسية في الماضي البعيد كما في الحاضر، وكأن هذه المنطقة كانت « بلاد بلا عباد » على حد تعبير الباحثة اليهودية الفرنسية من أصل تونسي « لوسات فالانسي ». وحفظت لنا كتب التاريخ روايات متفرقة تصور لنا كيف أن الموسيقى كانت رائجة في أوساط متعددة لمختلف العصور من غرب الجزائر إلى شرقها، ومن شمالها إلى جنوبها، وأن الجواري والمغنيات والمغنين كانوا يتبارون في الإجادة والحفظ والإتقان. وورد أن الملك الجزائري يوبا الثاني أسس في القرن الثاني قبل الميلاد، أول معهد للتمثيل والموسيقى والنحت والتصوير في مدينة شرشال، وأن بلوغين (الغين هنا تُنطق بين الكاف والقاف كما نبه عليه الشيخ عبد الرحمن الجيلالي) بن زيري الصنهاجي أمر بإحضار آلات الأنس وأدواته بعد رجوعه من بعض غزواته. كما نقلت المصادر أن يوسف بن تاشفين الذي اشتهر بالتقشف والتشدد في الدين، قدم جارية مغنية من أصل مغربي هدية إلى المعتمد بن عباد الأندلسي. هذه كلها إشارات فصيحة عن وضع الموسيقى والغناء في الجزائر وفي المغرب الأفريقي والإسلامي بعد ذلك.

الحقيقة الثانية، هي أن هذا الوجود اليهودي في التراث الفني الموسيقي والغنائي الجزائري، ما هو سوى اندماج طبيعي لأفراد من غير دين المسلمين في ثقافة المسليمن. تماما كما رأينا يهود الجزيرة العربية يقرضون الشعر العربي حتى اشتهر بعضهم بذلك من أمثال كعب بن الأشرف الذي كان يُشبب في شعره بنساء المسلمين حتى آذى النبي صلى الله عليه وسلم فأمر باغتياله كما تقول مصادر السيرة والتاريخ، وهكذا كان. ولو لم يكن هذا اليهودي بارعا في قرض الشعر، لما تأذى منه المسلمون. وكذلك برع اليهود في تاريخنا الثقافي كفلاسفة أمثال موسى بن ميمون وغيره. وبرعوا في العديد من المجالات الأخرى الثقافية والسياسية وغيرها. وهذا لا يعني أنهم هم الذين أسسوا تلك المجالات أو أنهم يحتكرونها، بل على العكس من ذلك : إن عبقريات اليهود في مختلف المجالات عبر تاريخنا الطويل في الجزائر وخارج الجزائر، كانت قوة في الثقافة العربية الإسلامية على أساس تأثرهم بتلك الثقافة ومفرداتها، فهم لم يكونوا ينتجون ثقافة يهودية، بل كانوا يُنتجون، رغما عنهم، ثقافة عربية إسلامية. واليهودي الجزائري عندما يبرع في الموسيقى والغناء الأندلسي، فهو يبرع في شأن ثقافي جزائري أندلسي لا يهودي. بل إن اليهود في الجزائر، وهذا قد لا يعرفه الكثيرون، دخلوا حتى في مجال الموسيقى الدينية فكان كثيرون منهم مولعين حد الانبهار بالمديح الصوفي العيساوي على سبيل المثال لا الحصر، حيث ما يزال بعضهم يؤديه إلى اليوم في الديار الفرنسية. والمسألة هنا هي تماما كما يحدث عندما يذهب باحث جزائري ليدرس ويعيش في الولايات المتحدة الأمريكية، فمن الطبيعي أن يندمج ضمن الأجندة البحثية الأمريكية. المسألة طبيعية جدا، فلماذا نريد من اليهود أن يولدوا ويتربوا ويعيشوا في الجزائر، ويختلطوا بمفردات الثقافة الجزائرية، ثم لا يتأثروا بالموسيقى والغناء الجزائريين ؟ إن العكس هو الذي سيبدو غير طبيعي. وفي هذا السياق تأتي عبارة « سيمون الباز » أحد الفنانين اليهود البارزين في فرنسا من أصل مغربي، والتي نقلها عنه الباحث إجابة عن سؤال طرحه عليه الباحث التونسي محمود قطاط، حيث قال : »بالنسبة إلي، يهود المغرب مغاربة لا يميزهم شيءٌ عن المسلمين في مجال ممارسة الغناء والموسيقى ». فيما لا يتردد الباحث « إيدوين سيروسي » في تعميم هذه الظاهرة إلى جميع أقاليم العالم الإسلامي، بما يؤكد أن غناء الطوائف اليهودية كان ابن بيئته الاجتماعية الثقافية الإسلامية بكل خصوصياتها الإقليمية والمحلية، من الصويرة وتفيلالت في المغرب إلى بُخارى وسمرقند في آسيا الوسطى، ومن الجزائر وتونس وطرابلس إلى صنعاء وعدن وخُراسان في إيران.

الفن الجزائري ومنظومة الفقيه

لا شك أن المنظومة الفقهية التقليدية التي حرمت في الغالب ممارسة الموسيقى والغناء، كان لها أثرٌ كبيرٌ على عزوف الجزائريين عن هذا الجانب خاصة بعد الاحتلال الذي جاء بثقافة جديدة كادت أن تضيع أمام طوفانها، الثقافة الجزائرية الأصيلة. في هذا السياق ينقل الدكتور صالح المهدي عن الفنان محيي الدين باش تارزي، أن أهل الفن من شيوخ الدين الذين كان أغلبهم إن لم نقل كلهم من الصوفية، والذين كانوا خارج المنظومة الفقهية المنغلقة، شعروا بخطر ضياع فنهم في القرن الثامن عشر، وذلك بتخلي خيرة الشعب عن ممارسة الاحتراف الفني وتركوه بين أيدي العوام الذين تغلب عليهم الأمية، وأكثرهم من غير المسلمين. فدعا المفتي الحنفي الشيخ محمد بوقندورة، أشهر المجودين وعرض عليهم المشكل. وبعد نقاش طويل اقترح ثلة منهم إدخال كلمات القصائد المؤلفة في مدح الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، على الطبوع الغنائية الأندلسية، واقترح آخرون إنشاء ألحان جديدة على غرار ما قام به الملحن التركي المرحوم مصطفى العتري (1640 – 1711م) من تلحين غناء التسبيح الذي لا يزال متواصل الأداء في الأعياد والمآتم في أغلب البلدان الإسلامية. وتزعم هذه الحركة الفنية عدد من المفتيين الأحناف ومنهم المشايخ بن عمار وبن علي وبن الشاهد والقلاتي. وأمام هذا النجاح الباهر، تم تجاوز الطابو الفقهي وتواصلت التجربة وطبقت ألحان الطبوع الأندلسية على قصة مولد الرسول صلى الله عليه وسلم، وقصائد الشيوخ البوصيري وابن عربي وسيدي بومدين، وسيدي عبد الرحمن الثعالبي الذي تبنت طريقته الصوفية هذا الإجراء. ويقول الدكتور صالح المهدي، إن الشيخ عبد الحميد بن باديس نفسه، كان كثيرا ما يحضر حفلات فرقة قسنطينة للمداحين بل ويصحبها في تنقلها إلى العاصمة في مختلف المناسبات.
كما تم بعد الاحتلال الفرنسي، تجاوز الطابو الإثني عندما اندمج اليهود بكل سهولة مع المسلمين، ضمن الفرق الموسيقية والغنائية، حيث وجدنا كثيرا من العازفين اليهود ضمن فرقة الشيخ محمد سفينجة (ت 1908م)، من بينهم : المعلم موزينو، والمعلم لاهو سورور، وشالوم، غيرهم. وكان الشيخ محمد سفينجة كثيرا ما يشارك في حفلات المدائح والأذكار مع ابنه « سعدي » وكان للمفتي الحنفي الشيخ محمد بوقندورة، ولوع خاص بهذا المغني الممتاز. ومن ابرز ما قام به الشيخ سفينجة اشتراكه مع تلميذه اليهودي « إيدموند يافيل ولد مخلوف » والباحث الفرنسي « رواني » في ترقيم مجموعة 76 قطعة من التراث الأندلسي بين سنتي 1899م و1902م، بين توشيات وانقلابات ونوبات، قامت بنشرها أشهر دار للنشر في باريس تختص في الموسيقا، وهي دار « لودوك ». ونشر رواني موسوعته للموسيقى العربية سنة 1903م بعد قيامه برحلة إلى كل من المغرب وتونس والقاهرة ودمشق. وبعد وفاة الشيخ محمد سفينجة، استمر تلميذه « إدموند يافيل ولد مخلوف » في جمعه للتراث الموسيقي الجزائري عن المعلم « شاؤول دوران » المدعو « موزينو » و »سعدي » ابن الشيخ سفينجة، إلى أن وصل إلى 500 قطعة سجلها تحايلا باسمه في جمعية المؤلفين والملحنين الفرنسية « ساسام »، حيث ظل ينتفع بريع حقوقها مدى حياته. كما نشر يافيل كتابا بالعربية جمع فيه نصوص كل ما دونه عن فناني عصره، بقي المرجع الوحيد للتراث الغنائي الجزائري إلى ما بعد الاستقلال، على رغم ما فيه من أخطاء وتحريف، حتى أصدرت وزارة الثقافة مجموعة جديدة مراجعة ومحققة من طرف المتخصصين في المعهد الوطني للموسيقى. مع العلم أن جميع هؤلاء الفنانين، ومن بينهم محمد سفينجة، كانوا جميعا يتتلمذون على الشيخ « مرمش » (ت 1904م).

اليهود وفرق المداحين والمسامع

إذا كان الحضور اليهودي كثيفا إلى حد ما في جانب النوبة الأندلسية وبعض الطبوع المحدثة التي عرفوا بها وتسمت بـ »الغناء اليهودي العربي » الذي ظهر بعد الاحتلال الفرنسي ويكون أحيانا عبارة عن خليط من اليهودية والعربية والفرنسية، فإننا في مقابل ذلك كله، نجد أن اليهود لم يحتكوا كثيرا بظاهرة « المداحين »و »المداحات »و »الفقيرات » اللصيقة غالبا بالثقافة الدينية الإسلامية الصوفية، حيث لم نجد سوى أسماء قليلة من اليهوديات اللواتي كن في فرق « المسامع » من أمثال : المعلمة « تيتين » التي كانت تعزف على آلة البيانو وكثير من الآلات الأخرى ضمن فرقة المعلمة المسلمة « يامنة بنت الحاج المهدي » (ت 1930) التي تتلمذت على الشيخ « بريهمات » وسجلت بين 1905م و1928م حوالى 500 أسطوانة، ومدام « علوش » التي جاءت إلى العاصمة من مدينة المدية وكانت تعزف على آلة الكمانجة، و »أليس فيتوسي » وكانتا ضمن فرقة « مريم فكاي » و »فضيلة الدزيرية »، ضمن أسماء كثيرة اشتهرت في تلك المرحلة (مطلع القرن 20) من غير اليهوديات أمثال : خيرة شوشانة، خيرة جابوني، حليمة البغري، حنيفة بن عمارة، عائشة الخالدي. أما ضمن فرق المداحين في العاصمة فلم نجد أسماء يهودية، حيث اشتهر في نهاية القرن 19 ومطلع القرن 20 كل من : الشيخ محمد بن اسماعيل، ومن بعده ابناه علي وقويدر، والشيخ مصطفى الدرويش، ومحمد السعفي، وابن سلام، والمقايسي الذي استقر أحد أبنائه بتونس وكانت إحدى حفيداته شيخة الطريقة التجانية في تونس. والشيخ مصطفى الناظور الذي تخرج به الحاج محمد العنقة، والشيخ تيتيش والد الفنان بوعلام تيتيش وغيرهم. (راجع مجلة الثقافة، عدد 103، جويلية/أوت 1994، ص 173 وما بعدها).

سعيد جاب الخير

تيمورالجزائري
22/09/2012, 16h52
06
مايو
يهود الجزائر: مجالس الغناء والطرب كتاب لفوزي سعدالله (http://www.aranthropos.com/%d9%8a%d9%87%d9%88%d8%af-%d8%a7%d9%84%d8%ac%d8%b2%d8%a7%d8%a6%d8%b1-%d9%85%d8%ac%d8%a7%d9%84%d8%b3-%d8%a7%d9%84%d8%ba%d9%86%d8%a7%d8%a1-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%b7%d8%b1%d8%a8/)
م. بوطقوقة (http://www.aranthropos.com/author/admin/)

.http://www.aranthropos.com/wp-content/uploads/2010/05/yahood-alger-197x300.jpg (http://www.aranthropos.com/wp-content/uploads/2010/05/yahood-alger.jpg)
تغنَّى اليهود في الجزائر طيلة قرون بما تغنى به المسلمون في هذا البلد إلى غاية رحيلهم الجماعي مع اقتراب موعد تحرر البلاد من ربقة الاحتلال الفرنسي. وكان غناؤهم ابنَ بيئته، جزائريَّ القلب والقالب، شرقي الروح، عربي اللسان والمخيال.
ولم يحدث خلال مئات السنين أن أثارت ممارستهم للطرب الجزائري التعجب والاستغراب ولا حتى التساؤلات، لأنهم كانوا في بلدهم وفي أحضان ثقافتهم العربية الإسلامية التي لم تكن أبدا نقيضا لمعتقداتهم الدينية الموسوية.
ومن مفارقات التاريخ أن علاقة يهود الجزائر بالغناء والموسيقى المحليين لم تتحول إلى إشكالية مثيرة للجدل إلا بعد مرور عشرات السنين على رحيلهم عن البلاد…
وانطلق هذا الجدل حولها وسط زخم مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط وقرع طبول سلام اتفاقيات أوسلو حيث خرج من تحت رماد السنين فجأة فنانون يهود جزائريو الأصل ساد الاعتقاد لفترة طويلة أنهم فارقوا الحياة منذ أمد بعيد، ولم تبق من ذكراهم سوى بعض الأسطوانات الموسيقية القديمة التي يحتفظ بها عدد من العائلات الجزائرية الحضرية منذ النصف الأول من القرن العشرين أو حكايات شيوخ وعجائز تِلِمْسَانْ والجزائر وقَسَنْطِينَة وبِجَايَة وغيرها من المدن التي عاشت بها الطوائف اليهودية الجزائرية.
عادت هذه الوجوه الفنية اليهودية المنسية بقوة في ظل الظروف الإقليمية والدولية الجديدة إلى قاعات العروض الغنائية ووسائل الإعلام وإلى سوق الموسيقى الفرنسي بشكل عام بِحُكْمِ استقرارها في فرنسا بعد الرحيل. وترددت أصداء هذه العودة حتى في استوديوهات القنوات الإذاعية والتلفزيونية في إسرائيل، وحتى في مدرجات جامعاتها ومخابر مراكز بحوثها.
وشرعت تل أبيب في إقحام هؤلاء الفنانين في مشروعها الثقافي القديم الذي يعود إلى الخمسينيات من القرن الماضي والذي يقوم على تصنيع هوية موسيقية متوسطية لغنائها تكون بوتقة لصهر الفسيفساء الموسيقية الإسرائيلية المتضاربة الآفاق تدريجيا لتصبح هذه ‘المتوسطيةُ’ الهويةَ الجديدة الجامعة والرسمية لكل إثنيات وأعراق المجتمع الإسرائيلي.
وخيرٌ لإسرائيل، من وجهة نظر هذا المشروع، أن تكون متوسطية الهوية من أن تذوب في الثقافة العربية، غير المرغوب فيها إسرائيليًا، والتي تُعد ثقافة ‘العدو’ رغم أنها ثقافة جزء كبير من الإسرائيليين لانحدارهم من أصول عربية. فالصهيونية تعتبر نفسها نقيض العروبة ولم تدخر جهدا في محاربة الهوية العربية سواء في إسرائيل أو داخل أقطار العالم العربي بما في ذلك الجزائر.
وبمقتضى هذه السياسة الثقافية، أصبح بعض المطربين اليهود جزائريي الأصول يُقدَّمون إعلاميا كرُواد موسيقى الرَّايْ ومؤسسيها، ويُوصَف آخرون بأنهم ‘آخر’ شيوخ غناء المَالُوفْ الإشبيلي، ويتردد عن أسماء أخرى أن أصحابها كانوا أكبر أساتذة النوبة الأندلسية بأسلوبي مدينتيْ تلمسان والجزائر. ويُنسبُ لهم جميعا فضل حماية هذا التراث الموسيقي العريق من الزوال بممارسته وحفظه وتعليمه للأجيال الجديدة.
واستهوى هذا التوجيه المُسيَّس لثقافة كاملة بعضَ الجزائريين الذين غلَّبوا حرصَهم على التموقع في دائرة الانفتاح والتسامح على التخندق في خندق الحقيقة التاريخية. كما انجرَّ آخرون وراء هذه الأطروحات عن حسن نية، لكنهم لو استنطقوا التاريخ واستناروا بحقائقه لتغيرتْ نظرتُهم إلى الموضوع ولَكانت لهم مواقف أخرى أكثر إنصافا وموضوعية.
وفي رد فعلهم على الإفراط في تضخيم دور اليهود في الموسيقى والطرب الجزائرييْن، كثيرا ما انساق البعض الآخر وراء التفريط وإنكار ما قام به عدد من الفنانين اليهود في هذا المجال خصوصا منذ النصف الثاني من القرن 19م والعقود الأولى من القرن 20م، فأجحفوا كثيرا في حقهم، رغم أن الذين عاصروهم أو عرفوهم لا يزالون يذكرونهم باحترام وعطف وحنين…
هذا التضارب والغموض حول المواقع الحقيقية للطائفة اليهودية في ميدان الطرب الجزائري هو الذي أنجب فكرة إنجاز ‘يهود الجزائر، مجالس الغناء والطرب’. لذلك أراده مؤلفُه أن يكون جولة طويلة نسبيا عبر أغوار تاريخ الموسيقى والغناء في الجزائر تطمح إلى رد الأمور إلى نصابها وإعطاء ما للقيصر للقيصر وما لغيره لغيره، وإلى وضع حد للنظرة الأسطورية وحتى الغرائبية أحيانا لهذا الموضوع.
في هذا الكتاب، يعود فوزي سعد الله قرونا إلى الوراء ليطرق أبواب أعلام الغناء الحضري في المجال الجغرافي ـ الثقافي المغاربي الأندلسي ويستنطقهم، ويلاحقهم حيثما وُجدوا، ويقتفي آثار اليهود منهم منذ منصور اليهودي وداني الأندلسي في بلاطات الحُكم الأموي في قرطبة إلى ابن سهل الإسرائيلي الأندلسي وابن باجة وبن سَاشِيلْ، وإلى مَقْشِيشْ وبن فَرَاشُو وبُوخْشَيْمَة والمْعَلَّمْ يَافِيلْ والمْعَلَّمْ مُوزِينُو ومْخِيلَفْ بُوشَعْرَة و’ الشيخ’ السَّاسِي والمْعَلَّمْ سَعُودْ المَدْيُونِي وآبْرَاهَمْ الدَّرْعِي ومُورِيسْ الدَّرْعِي ومخلوف الرُّوشْ المعروف في تلمسان بـ ‘بْطَيْنَة’ والمْعَلَّمْ زُوزُو وحتى سلطانة داوود الشهيرة بـ ‘رِينَاتْ الوهرانية’، وكذلك لِيلِي العبّاسي ولِيلِي بُونِيشْ، وريموند لِيرِيسْ وسِيلْفَانْ غْرِينَاسِيَّة ونجله غَاسْتُونْ غريناسية المعروف بـ ‘أنْرِيكُو مَاسْيَاسْ’ ونَاثَانْ بن تَارِّي وألِكْسَنْدْرْ جُودَا النَّقَّاشْ وإِيدْمُونْ عَطْلاَنْ وغيرهم كثيرون.
إعادةُ اكتشاف الكاتب لهذه الأسماء، التي كانت من بين نجوم عهدها، ومساراتِها مغامرةٌ انطلقت قبل نحو عقدين عندما بدأ الكاتب الصحافي الجزائري فوزي سعد الله يتتبع آثار أصحابها في شهادات الفنانين الذين عاصروها والمختصين من اليهود والمسلمين في الغناء الحضري الجزائري وبين صفحات الكتب والدراسات والمقالات التي أُنجزتْ حولهم خلال العقود الأخيرة في الولايات المتحدة وفرنسا والجزائر وحتى في إسرائيل. ولا شك أن شهادات مشايخ الغناء الحضري الجزائري والدارسين له في مدن الجزائر وتلمسان وقسنطينة وعَنَّابَة كانت ثمينة لإنجاز هذا الكتاب على غرار الشيخ أحمد سِرِّي وعالم الاجتماع والأستاذ في جامعة قسنطينة عبد المجيد المَرْدَاسِي والباحث ناصر الدين البغدادي وأستاذ الغناء الأندلسي ابراهيم بن الأجرب وفنان المالوف حمدي بناني وغيرهم. كما ساهمت شهادات بعض الفنانين اليهود من أصل جزائري وتونسي من المقيمين في فرنسا، على غرار يوسف حجّاج المعروف فنِّيا بـ: جُوزِي دِي سُوزَة (Jos’ de Suza) ومغني المالوف بول عَتَّالِي (Paul Aali) ورُونِي بِيرِيزْ (Ren’ Perez) في تقديم لمحة أكثر توازنا وموضوعية عن علاقة اليهود بالغناء الجزائري وعن الأجواء التي مارسوا فيها هذا الغناء.
لم يكن تركيز المؤلِّف على يهود المدن صدفة بل فرضتْه غلبة الانتماء الحضري على الطوائف اليهودية الجزائرية التي سكنت أغلبيتها الساحقة المدن خلال القرون التي أعقبت سقوطَ غرناطة وانضواءَ الجزائر تحت اللواء العثماني في القرن 16 م.
ويبدو من قائمة المصادر البيبلوغرافية التي استعان بها صاحب الكتاب أن التنقيب عن آثار الفنانين اليهود في عالم الطرب الجزائري تم بِلُغاتٍ مختلفة، تتراوح بين العربية والفرنسية من جهة والإنكليزية والإسبانية من جهة أخرى.
يأتي هذا الكتاب في إطار ثلاثية عن يهود الجزائر لنفس المؤلِّف، كان أولُها ‘يهود الجزائر، هؤلاء المجهولون’ وثانيها ‘يهود الجزائر، موعد الرحيل’ اللذان صدرا قبل سنوات عن دار قرطبة للنشر في مدينة الجزائر. وجاء الكتاب الثالث، ‘يهود الجزائر، مجالس الغناء والطرب’، الذي صدر قبل أسابيع فقط في مدينة الجزائر عند نفس الناشر، كآخر حلقات هذه الثلاثية عن يهود الجزائر وتتويجا لبحوث استغرقت أكثر من عشر سنوات.1
‘يهود الجزائر، مجالس الغناء والطرب’ وإن يتناول علاقة اليهود بفن الغناء والموسيقى في الجزائر، إلا أنه قبل كل شيء كتاب عن الغناء والطرب الجزائرييْن إذ يُسلط الأضواء بشكل خاص على تاريخ الفن الأندلسي في الجزائر والفنون المشتقة منه كالحوزي والعروبي والزنداني وغيرها، وعلى رموزه ومشايخه وعلى سيرورة تجذره في الجزائر منذ ساعاته الأولى. فالكِتاب مثلاً باستعراضه مراحل هذا التاريخ الجزائري الفني يُذكِّر، هؤلاء الذين يشعرون بالحرج من نسب هذا الفن إلى الأندلس، النسب الذي يقلل برأيهم من شأن الجزائر ويُظهرها بمظهر المقلد الذي يكتفي بالمحاكاة، يُذكِّرهم بأن الجزائر كانت ولا زالت إحدى دوائر الإنتاج الأساسية لهذا الفن العريق وتعليمه وترويجه انطلاقا من عدة مدن عريقة تطغى عليها الثقافة الأندلسية كبجاية مثلا، وذلك ليس منذ تألق الفنان الراحل الصَّادق البْجَاوِي فحسب، فيما يخص هذه الحاضرة تحديدا الواقعة شرق العاصمة الجزائرية، بل منذ المدرسة البجائية الشهيرة التي أسسها ابوالصلت أمية بن عبد العزيز في القرن 12م وما ألَّفَه هذا المثقف الفنان من أغان ٍ خلال مشواره الثري، وكان ذلك قبل ثمانية قرون من ميلاد جمعيات موسيقية أندلسية حديثة كالجزائرية ـ الموصلية والفَخَّارْجِيَّة والسندسية والوِدادية ونسيم الأندلس والبسطانجية والمزهر البوني وغيرها.
فقدْ ساهمت الجزائر، بعد سقوط الأندلس قبل 5 قرون، في تبلور وازدهار هذا الفن بألحان وأشعار جديدة أصبحت من أمهات أغاني هذا التراث وقِطَعِهِ الثمينة وبأساليب أداء وجماليات زادت في ثرائه وتركت بصمات عميقة في مناهجه التعليمية بعد أن تحولت إلى مدرسة قائمة بذاتها. بل تحول عدد من الأغاني ‘الأندلسية’ الجزائريةِ المولد إلى ما يشبه ‘المعلقات’ الموسيقية في كامل بلدان المغرب العربي الوريثة التاريخية المباشرة للإرث الموسيقي الأندلسي.
وإذا بقيت هذه الموسيقى توصف أو تُنسب إلى الأندلس فهذا طبيعي ولا يُنقص شيئا من قيمة الإسهامات الجزائرية، لأن هذا الغناء مهما يكن يبقى أندلسي الروح والنكهة بِحُكم تبلوره ونضجه بشكل أساسي في الربوع الأندلسية وبِحُكم البصمات العميقة التي تركها في حامضه النووي فنانون قرطبيون وإشبيليون وغرناطيون كزرياب وابن باجة وابن سهل الإسرائيلي وزرقون وعلَّوْن وغُزلان وحتى شخصيات فنية أخرى أندلسية جزائرية النسب كابن مسايب وابن سهلة والمفتي محمد ابن الشاهد والمفتي محمد ابن عمَّار وغيرهم. وهذا فضلا عن كون العنصر الجزائري يُعد أحد المكونات الديمغرافية والثقافية الهامة في بنية المجتمع الأندلسي السابق لسقوط غرناطة سنة 1492م، وزيادةً عن كوْن العنصر الأندلسي شَكَّل ويُشكِّل إلى اليوم جزءا مُعتبرا من المجتمع الجزائري الذي يعيش يوميا في مختلف المدن والحواضر، ودون وعي مِنَّا، حياة أندلسية في الكثير من تفاصيلها حيث يتحدث ببقايا اللهجات الأندلسية، ويتغذى من المأكولات والأطباق والحلويات الموروثة عن فنون الطبخ الأندلسية، ويحزن ويفرح ويحتفل ويغني ويرقص، بل ويلبس ويتزين أيضا، على الطريقة الأندلسية.
فالجاليات الإشبيلية والغرناطية والبلنسية والقرطبية وأحفاد أهالي ألمرية ومالقة وآراغون والجزيرة الخضراء لا زالوا يعمرون إلى اليوم حواضر جزائرية بأكملها على غرار تلمسان والغزوات ونَدْرُومَة وشَرْشَالْ وتْنَسْ والمْدِيَّة والبُليْدة ومَلْيَانَة والقليعة والجزائر ودَلّسْ وآزَفُّونْ وقسنطينة وعنابة وجِيجَلْ والقَالَة وسْكِيكْدَة بل وحتى بعض واحات الجنوب كبَسْكْرَة ومدن المِيزَاب وغيرها. ولا تزال أحياء بكاملها وأضرحة وزوايا وقصور تحمل أسماءهم وتعكس وجودهم كأندلسيين وكموريسكيين من هؤلاء الذين طُردوا نهائيا من الجزيرة الإيبيرية ما بين 1607م و1614م من إسبانيا. وقد لجأ بعضهم حينها إلى الجزائر وهم يحملون أسماء إسبانية بعد أن حُرموا من أسمائهم العربية وبل وجاء بعضهم وهم يُدينون بالديانة النصرانية التي فُرضت عليهم بالقوة. وهكذا، من بين هؤلاء الموريسكيين، حطت الرِّحال في الجزائر عائلة Ruiz التي تحولت إلى ‘رْوِيسْ’ وAragonnais، أي القادم من آراغون شمال إسبانيا، التي أصبحت ‘العَرْجُونِي’ و Castillano، أي القَشْتَالِي، التي أصبحت ‘القَشْطُولِي’ وCardenas (كَارْدِينََاسْ) نسبة إلى البلدة التي تحمل نفس الاسم في إسبانيا لتتحول إلى ‘قَرْضْنَاشْ’. فضلاً عن عائلات أخرى واضحة النسب إلى الأندلس على غرار الشقندي نسبة إلى مدينة شقندة (Segunda) وشاقورة إلى مدينة شاقورة (Segura) والقرطبي إلى قرطبة والأندلسي إلى الأندلس والباجي إلى باجة وغيرها…
هذا البعد الأندلسي العميق البصمات في الثقافة الجزائرية يشكل أيضا أحد ثوابت الكتاب الجديد لفوزي سعد الله، وقد جعل من الموسيقى والغناء العمود الفقري لهذا البُعد على طول صفحات الكتاب المُقدَّرة بأربعمائة وأربعة وستين صفحة.
وفي الأخير، ‘يهود الجزائر، مجالس الغناء والطرب’ أراده صاحبه أن يكون مرآة للجوانب المنسية في بنية المجتمع الجزائري وتاريخه، بل مرآة صافية تظهر عليها الحقائق كما هي وتعكس بإنصاف الأحجام الحقيقية لصانعي هذه الحقائق بعيدا عن المبالغات والإجحافات والتشويهات التي تفرضها السياسة والصراعات الإقليمية والدولية وعلى رأسها الصراع الدائر في الشرق الأوسط منذ أكثر من نصف قرن بسبب احتلال فلسطين. والكتاب في نهاية المطاف إسهام في فهم حاضر الجزائر من خلال الإشارات التي يُرسلها ماضيه والتي يجب أن نُحسن التقاطها وتثمينها إذا رغبنا في مستقبل أفضل، مستقبل أكثر جدية ومتانة، لأن الماضي يبقى دائما مفتاح الحاضر والمستقبل.


*الفوزي سعد الله كتاب حول التاريخ الثقافي الاجتماعي لقصبة الجزائر صدر سنة 2008م عن ‘دار المعرفة’ في مدينة الجزائر. ويحمل عنوان: قصبة الجزائر، الماضي، الحاضر والخواطر.
المصدر:جريدة القدس العربي

تيمورالجزائري
29/09/2012, 10h58
موسيقي المالوف تحظي بمكانة مرموقة في نفوس أهالي شرق الجزائر







اليهود يزعمون أنهم هم من صنع مجدها



الجزائر مصطفي فتحي:
يجمع الخبراء أنّ تراث موسيقي المالوف بشكل عام يشكل قاعدة متينة، إذ أنه يمثل النشاط الفني لما يسميه ابن خلدون العمران الحضري .. وبالتالي فهو ثمرة حضارة عريقة ووليد مجتمع متمدن، نشأ في رحابه ونما وتطور بخطي ثابتة ومتواصلة رغم تقلبات الزمن وأعاصيره. ولايزال إلي اليوم، يتبوأ مكانة مرموقة في نفوس الجزائريين، حتي أنّ الكثير منهم يستشهد، في سياق الكلام والتخاطب، بجمله الأدبية وعباراته الحكيمة.
والمالوف في اللغة العربية هو المالوف، ويعني المالوف من التقاليد، أو الوفي للتقاليد.
ينتمي المالوف إلي الموسيقي الكلاسيكية الجزائرية وريثة الموسيقي العربية، يقوم علي نظام 24 نوبة التي تعتبر القواعد النظرية التي لم تتبدل منذ نهاية القرن الحادي عشر الميلادي.

وقد ترسخت موسيقي المالوف في كبريات المدن بالمغرب العربي كفاس بالمغرب، وقسنطينة وعنابة وسوق أهراس بالشرق الجزائري، بالإضافة إلي تونس وليبيا.
ويمثل رصيد النوبات قاسما مشتركا للتراث الموسيقي الكلاسيكي الخاص بأقطار المغرب العربي (تاريخيا المدرسة المغاربية- الأندلسية) وهو ما يعرف محليا ب المالوف في كل من تونس وليبيا والشرق الجزائري (قسنطينة) الصنعة بالوسط الجزائري (الجزائر العاصمة) الغرناطي في الغرب الجزائري (تلمسان) و الآلة المغرب الأقصي.

لقد كان للغناء بطريقة النوبة شأن كبير في التراث الموسيقي الإسلامي، وخاصة رصيده المتقن الذي عرف منذ الطور العباسي الأول. وهو إلي جانب تأثيره البالغ في تطوير الشعر والموسيقي، ساعد إلي حد كبير في الحفاظ علي مكونات هذا التراث وضمان استمراريته، وذلك بالرغم من الخصوصيات المحلية التي أثرت إلي حد ما في تنوع تراكيب النوبة التقليدية واختلاف تسميتها خاصة ابتداء من القرن السادس عشر الميلادي، حين صارت تعرف بالمشرق تحت مسميات عدة: المقام العراقي، الصوت الخليجي، القومة اليمنية، الوصلة المصرية الشامية.. وكذلك الفاصل التركي، الدست الإيراني الأفغاني المقام الأذربجاني، الشاش مقام الأوزبيكي والطاجيكي، الأنيكي مقام الأيغوري. بينما بقي مصطلح النوبة متداولا في التراث الموسيقي المغاربي في كل من ليبيا وتونس والجزائر والمغرب.

ولاحظ الخبراء، أيضا، أنه في هذه المرحلة بدأت مصادر موسيقية مغاربية تبرز إلي الوجود في شكل كناشات ومجاميع، حاملة معها كما من المعلومات الجديدة مقارنة بالمرحلة السابقة الأندلسية - المغاربية (أي حتي سقوط غرناطة سنة 1492 وإخراج الموريسكوس نهائيا من إسبانيا بين 1609 و1614) وهي تفصح عن تطور هيكل النوبة الغنائية وتوسع أقسامه وتنوع صنائعه الآلية والغنائية وتراكيبه الإيقاعية وسير حركته، مع استعمال مصطلحات لم تكن مالوفة من قبل.
ويعرف خبراء الموسيقي الكلاسيكية النوبة بأنها تأليف موسيقي مركب متكامل يتضمن مجموعة من القوالب الآلية والغنائية تتالي حسب نسق متفق عليه، وهي تعتمد في تراكيبها اللحنية علي وحدة الطبع المقام، الذي تستمد منه النوبة تسميتها.
وتشتمل النوبة، حسب المناطق، علي عدد معين من مراحل غنائية أساسية لكل منها إيقاع خاص تسمي باسمه، وتندرج حركة مقطوعاتها من البطيء الموسع إلي الخفيف السريع.

وتستهل بافتتاحيات الآلية وغنائية، ويمكن إثراؤها بأنماط إضافية متنوعة. كما يستعمل ديوان النوبات منتخبات من الشعر الفصيح الموزون، والموشح بفرعيه الموزون وغير الموزون والزجل، والملحون (البروالة) باللهجة العامية المغاربية.

وقد تأثرت موسيقي المالوف بالمناطق التي تجذرت فيها هذه الموسيقي، حيث برزت ثلاث مدارس بينها اختلاف، منها مدرسة تلمسان بالغرب الجزائري التي تنسب نفسها إلي غرناطة بالاندلس، ومدرسة الجزائر العاصمة التي تنسب نفسها هي الاخري إلي قرطبة، وأخيرا وليس أخرا مدرسة قسنطينة التي تنسب نفسها إلي إشبيلية.
من جهة أخري، يتساءل الكثير من محبي هذا النوع من الموسيقي بالجزائر، عن حقيقة ما يروج له يهود قسنطينة من إشاعات وأفكار مغلوطة مفادها أنّ اصل المالوف يهودي، وأنّ الفنانين اليهود هم من صنعوا مجد هذه الموسيقي داخل الجزائر وخارجها، علي نحو يخدم فكرة أنّ اليهود هم أصل كل ابداع وفن راقٍ.

والسؤال الذي يتبادر إلي الذهن هو ألم تنجب قسنطينة مطربين كبارا صنعوا مجد أغنية المالوف وموسيقاها؟ نطرح هذا السؤال لان بعض اليهود الذين غادروا الجزائر مباشرة بعد الاستقلال في 1962، ونخص بالذكر هنا المطرب الصهيوني الشهير إنريكو ماسياس واسمه الحقيقي غاستون غريناسيا ، يصر في كل الحوارات التي أدلي بها للصحافة العالمية علي القول بأن أستاذه ريمون ليريس الذي اغتالته جبهة التحرير الجزائرية بتاريخ 22 يونيو 1961 بسبب تعاونه مع منظمة الجيش السري OAS المتطرفة، يعد أعظم شيوخ فن المالوف القسنطيني بلا منازع. وكأن الجزائريين لم يكن لهم أي دور في هذا المجال.

وعلي نفس المنوال نسج نجل الشيخ ريمون ليريس الدكتور جاك المقيم بفرنسا، مؤكدا أن والده هو عملاق اغنية المالوف بدون منازع، وذلك راجع، برأيه، إلي أن والده قام بشيء لم يسبقه اليه احد من قبل، ويتمثل في حوصلة لكل التيارات الموسيقية التي شاعت في عصره، ومنحها وحدة متناسقة ومنسجمة ما يكشف عن عبقرية خارقة.
وقد دأب الشيخ ريمون ليريس منذ نعومة أظافره علي حضور المرابع والحلقات الفنية التي كان يعقدها عمالقة المالوف بالمكان المسمي رحبة الجمال وسط مدينة قسنطينة.
وهناك، أيضا، من الجزائريين من روج لمثل هذه الافكار المغلوطة، ونعني به توفيق بسطانجي، الذي كان جده أحد أبرز شيوخ المالوف بفندق المدينة، واستاذ ريمون ليريس الذي علمه اصول المالوف القسنطيني.

وقد قام توفيق بإعداد وإصدار أول تسجيل غنائي بصوت ريمون الأصلي، ولم يكتف بذلك حيث راح يقوم رفقة الفنانين اليهود بعمل دعائي كبير لا يخرج عن اطار فكرة أنّ اليهود هم من صنعوا مجد موسيقي المالوف.
بالإضافة إلي ذلك، يعتبر أندريه الطيب واحدا من أولئك الذين بذلوا جهدا كبيرا في الترويج لمقولة إن أصل المالوف القسنطيني الجزائري من التراتيل المقدسة أو ما يعرف ب(piyyutim)، التي يؤديها اليهود في صلواتهم يوم السبت. والطيب من مواليد قسنطينة، بالإضافة إلي كونه أحد تلامذة الشيخ ريمون، فضلا عن احترافه غناء المالوف رفقة فنانين يهود يتقاسمون نفس الطرح.

ويعتقد هذا اليهودي أنه من الصعب الفصل ما بين الإبداع اليهودي والعربي ضمن غناء المالوف، في إشارة واضحة إلي أنّ اليهود هم أصحاب الفضل في تطوير المالوف والحفاظ علي مقاماته الباقية، والتي لا تتعدي اليوم 12 مقاما (نوبة) بعد ضياع الإثني عشرة نوبة الأخري. كما أن بعض المقامات علي غرار البياتي ، حسب أندريه الطيب، يستحيل أن يؤديها أي مطرب جزائري وفقا للمالوف، باستثناء الشيخ ريمون ليريس باعتبار أن هذا المقام هو مقام الشجن والحنين، مضيفا، أنّ ريمون استطاع أن يرتقي بصوته علي زعم اليهود إلي مستويات صوتية تعتبر ذروة في الإبداع الغنائي.
وحسب عدد من الباحثين المهتمين بتاريخ موسيقي المالوف بالجزائر، لم يكن الشيخ ريمون لوحده قطبا من أقطاب المالوف القسنطيني، مثلما يروج له يهود قسنطينة الذين غادروا الجزائر مباشرة بعد استقلالها، بل كانت هناك العديد من الاسماء الجزائرية اللامعة في سماء هذا الفن، والتي صنعت مجده، وهو ما يعترف به اليهود انفسهم حيث يعترفون بالفضل للقليل منهم علي غرار الحاج محمد الطاهر الفراني، كمال بودا، حمدي بناني، سليم فراني، محمد سقني وتوفيق بسطانجي. في حين لا يشيرون لا من قريب ولا من بعيد للشيوخ المالوف من أمثال الشيخ الدرسوني والشيخ التومي رحمه الله، وحمو الفراني، والمرحوم بن طوبال والمرحوم حسن العنابي، وحتي الذين جاءوا من بعدهم، مثل الشريف زعرور، ذيب العياشي. ويكمن السبب، حسب الباحث رشيد فيلالي، في كون هؤلاء جميعا يعتزون بالبعد العربي والاسلامي للمالوف الجزائري. لكنهم في نفس الوقت لا ينكرون دور اليهود واسهاماتهم في هذا المجال، من دون تضخيم لدورهم.

من جهة أخري، لم يقتصر دور يهود قسنطينة عند حد انكار مساهمات العرب والمسلمين في تطور الموسيقي الكلاسيكية الجزائرية، بل راحوا يلعبون دوراً مشبوها علي الصعيد الدولي، واصبحوا ينجرفون نحو كل ما هو قسنطيني ومحاولة تبنيه بكل الوسائل. ووصل بهم الامر إلي درجة وضع نجمة داوود علي كل المواقع الالكترونية الخاصة بمدينة قسنطينة، وكأنها مدينة يهودية، رغم أنّ هذه الطائفة كانت تمثل أقلية في مدينة العلم والعلماء، مثلها مثل الاقلية المسيحية.
وما تجدر الاشارة اليه، أن يهود قسنطينة اختاروا أن يكونوا في صف الاحتلال الفرنسي عام 1962 الذي منحهم الجنسية الفرنسية وفق مرسوم كريميو (وزير العدل الفرنسي يهودي الاصل) الصادر عام 1870

تيمورالجزائري
29/09/2012, 11h13
أكد الفنان الجزائري حمدي بناني أن يهود الجزائر لم يكن لهم أي دور في فن المالوف التراثي، مشيرا إلى أنهم عشقوه للغاية؛ حيث يقوم بعضهم حتى الآن بإحياء أعراسهم به، بعد ترجمة الأغاني إلى العبرية.
وقال بناني إن ما جاء في كتاب فوزي سعد الله: “مساهمة اليهود في التراث الموسيقي الجزائري” صحيح، مضيفا أن “اليهود الجزائريين لم يقدموا شيئا، ولم يضيفوا شيئا جديدا، فقد أخذوا منا”.
غير أن الفنان الجزائري لم ينف أن يهود الجزائر عشقوا هذا الفن، وأخذوا منه وغنّوه،http://news.nawaret.com/wp-content/uploads/2010/05/h10.jpg (http://news.nawaret.com/wp-content/uploads/2010/05/h10.jpg) وقال: “بل هم اليوم يُحيون به أعراسهم، بترجمة بعض الأغاني إلى العبرية”.
وأضاف أنه “لا يمكن أن يرقى هذا الفن إلى المالوف بلغته الأصلية؛ لأن من أصالته اللغة التي كتبت به قصائده”، مشددا على أن المالوف فن عربي ورد إلى المغرب العربي من الأندلس، وقد حافظ عليه الجزائريون.