ورحل منصور رحبانى آخر العمالقة
منصور رحبانى آخر العمالقة
لم يكن منصور رحبانى ملحناً فقط , ونظلمه لو حسبناه ملحنا فقط , فقد كان أسطورة , موسوعة فنية متكاملة تنقسم إلى قسمين , مرحلة من بدايته إلى 1986 , والمرحلة الثانية من بعد 1986 وإلى قبل وفاته مباشرة , فرغم صراعة الطويل مع المرض لم ينقطع عطائه الفنى لحظة .
وعندما نذكر كلمة الرحبانى لابد ان نذكرها من خلال هرم لبنان الفنانة العملاقة المتفردة فيروز .... ولست ادرى ولا اريد ان اظلم او اتهم احداً كان عندنا فى مصر ( التى تعتبر منارة الفن العربى ) تعتيم على فن فيروز إلى ان ظهرت الفضائيات , وكلمة تعتيم اقصد بها خمس اغانى فقط تتداول فى الإذاعات المصرية لم تبين للشعب المصرى قيمة فيروز الحقيقية , وعندما إنفتح العالم على الفضائيات رأينا فيروز الحقيقية , إنبهار وتعجب ماكل ذلك الكيان الجديد والمختلف ... ماتلك المنظومة الغريبة اروع كلمات , اروع لحن , توزيع شرقى لم يسيق له مثيل , توزيع اوركسترالى غربى فيه المستحيل وهو النكهة الكلاسيكية المطعمة بالنكهة الشرقية تشم فيه رائحة التفاح مختلطة بالأرز , ثم الكوميديا الحارقة , والوطنية الجارفة , والكلام فى السياسة بدون خوف من المسائلة , وتفاعل مع احداث الأوطان فى السراء والضراء , الشعر الحديث والشعر القديم , الحب والعنف والاحتلال والصدق والكذب والخبث والحنان وكل المشاعر الإنسانية فى عدد كبير من المسرحيات اكتشفناها فجأة ومواضيع لم تخطر على بال أحد قبلاً .
وأول ملحوظة عدم وجود مؤلف ولاملحن ولاموزع ولا مخرج انما كانت كل تلك الوظائف تنحصر فى كلمتين الأخوين رحبانى , يعنى نسيج متجانس يفعل كل شىء وكان هذا السلوك غريباً علينا فنحن نعهد مؤلف اغانى او مؤلف مسرحيات , كان المؤلف والملحن شخصيتين مختلفتين كل منهما له لونه وتخصصه , ولكن هنا وجدنا المؤلف هو الملحن , وعهدنا ايضاً الملحن والموزع شخصيتين مختلفتين , وجدناعند الاخوين رحبانى المؤلف والملحن والموزع شخص واحد ثم هو مخرج المسرحية ايضاً , وعند التحليل الحقيقى للعمل , تجد العمل كاملا تأليف وتلحين وتوزيع وإخراج ( واحيانا يشتركون بالتمثيل ) الأخوين رحبانى كانوا ينصهرون فى اللحن كان بيت الشعر يبدأه احدهم والثانى يكمل الشطرة الثانية , يعنى لم استطع ان احدد فى اى مسرحية ( احفظها عن ظهر قلب ) اين عاصى واين منصور ..
ومن اجمل ما احسست به فيهم انهم لم يحتكروا فيروز مع انها كانت زوجة عاصى .. وحتى فى تلك المسرحيات كنت تجد اغنية تلحين إلياس رحبانى او فلمون وهبى او غيرهم , لم يحتكروا المسرحيات لنفسهم ولكن اشركوا معهم كل من يستطيع ان يقدم للناس ومن ثم للتاريخ جملة جميلة , وأول سر وقفت امامه طويلاً حوارات مغناة فى المسرحيات باحلى واجمل الألحان ولكنها ليست اغانى ولكنها كلمات مسترسلة ومواضيع معقدة لاتصلح للتلحين اصلاً ,
اذكر منها مسرحية بياعة البنادورة ( الشخص ) وملخص هذه المسرحية الغريبة الموضوع قرية سيمر عليها مسؤول كبير رمز له بإسم الشخص واقيم فى استقباله احتفال كبير ووليمة فاخرة واجتمع كبار القرية ورئيس البلدية ليحتفوا بالشخص , ووسط الزحام جاءت بنت فقيرة بائعة بنادورة ( طماطم ) وفوجئت بالإحتفال ( إفتكرته فرح ) وعندما وصل الشخص المنتظر فرحت به وغنت له وبعد ان انتهت من الغناء سلم عليهم الشخص ومضى فى طريقه ولم يحضر الوليمة وتم إلغاء الوليمة مما اثار غضب الجميع اللذين كانوا يمنون انفسهم منذ فترة بتلك الوليمة الشهية , وكالعادة كان لابد ان يصبوا جام غضبهم على الفقير , واتهموا البنت الفقيرة انها عندما غنت ضايقت الشخص وجعلته ينصرف مسرعاً ولم يحضر الوليمة وجعلوا الشاويش يقبض عليها وصادروا عربة البنادورة , ثم ساقوها للتحقيق وفى التحقيق غنوا مقطع طويل من احلى واروع الألحان وكيل النيابة يسأل البنت وهى تجاوب ثم الشهود والبنت تستعطفهم ونلاحظ او وكيل النيابة لا يحقق ولكن فى كلامه يتلاعب بالألفاظ محاولا تلفيق تهمة للبنت والشهود ايضاً يريدون الفتك بها تخيلوا من يستطيع ان يلحن كلاماً كهذا ؟
ثم تكرر الإعجاز حولوا البنت للمحاكمة وتخيلوا المشهد الحاجب والقاضى ووكيل النيابة والشهود والجمهور ثم المحامى وحتى المحامى اراد ان يقتنص منها اعلى اجر ليترافع عنها كل ذلك باللحن وكما قلت من اروع الألحان , وحسب خبرتى من الصعب بل من المستحيل تلحين هذا الكلام وبالذات هذا اللحن الرائع الفريد , وحانت الفرضة وإكتشفت السر , كنا سنة 1976 مع الفرقة الماسية فى دمشق فى مهرجان دمشق الدولى والذى كان ملتقى كل الفنانين , كنا مع عبد الحليم ووردة وهناك غنى عبد الحليم آخر حفلتين فى حياته , كنا ننزل فى فندق فى وسط مدينة دمشق وفوجئت ان الرحبانية وفرقتهم ينزلون معنا فى نفس الفندق ومكثنا معهم عشر ايام , وهناك تصادقنا معهم وعشنا معهم اول شىء لاحظته ان عاصى ومنصور لايتركون العود من يدهم إلا ساعة تناول الطعام , وحتى إذا جلست بجواره على مائدة الطعام تجد معه ورقة صغيرة يدون او يؤلف فيها شيئاً إماموسيقى أو كلمات , كانوا يؤلفون طول الوقت ( يعنى لم اراهم يتمسكون بتقاليد ملحنينا الوحى ومتى يهبط ومكان معين لا يستطيع التلحين إلا فيه ) كانوا يؤلفون ويلحنون على السلم وفى الاسانسير وهنا اكتشفت السر الذى حيرنى امسك منصور العود امامى واخرج الكلمات واللحن معاً , يعنى كان يؤلف الكلام واللحن فى نفس الوقت لا يكتب الكلام ثم يلحنه , لأن كلمات مثل مشهد التحقيق والمحكمة لو كتبها من المستحيل تلحينها , ولكن لو خرجت من داخله كلمات ملحنة هذا هو سرهم .
كان عندهم ايضاً مهارة خطيرة فى تغيير شكل اللحن الواحد عدة مرات اذكر اغنية اسمها البوسطة لها ثلاث تسجيلات مختلفة احدها على اوركسترا سيمفونى والثانى لى فرقة متوسطة والثالث على فرقة شرقية وهذا الأسلوب لم يكن حديثا فقد عمله عاصى ومنصور عدة مرات ولذلك سر أيضاً , اى فرقة عندما تسافر إلى الخارج قد لايستطيع المتعهد تحمل مصاريف كثرة العدد فيضطر رئيس الفرقة إلى إختصار العدد وهنا لا يستطيع الإستغناء عن الآلات الاساسية فيحدث العدوان على الكمنجات بدل 14 كمنجة كنا نسافر 8 فقط , اما فرقة فيروز فكانت كاملة 120 عازف لو حسبنا معهم الاوركسترا السيمفونى وعندما تسافر للخارج كان يتم ضغط العدد إلى 30 فكانوا يستغنون عن الاوركسترا السيمفونى بإستثناء الآلات التى لها صولوا ثم يغيرون التوزيع يعملون توزيعاً جديد جميل جدا على حسب الآلات الموجودة وكان ذلك من الإعجازات للرحبانية .
ومن اهم مميزات لبنان ايام الرحبانية الحرية فى الفن يعنى تكلم فى السياسة كما تريد , ونظراً لأن عندهم رئيس جمهورية كانوا يجعلون الحاكم فى المسرحية ملك , لكى يقولوا مايريدون وينتقدوا ولا غبار عليهم لأنهم يظهرون كمن ينتقد الحاكم فى بلد أخرى , يعنى مرة تناولوا موضوع الضرائب الفادحة فى مسرحية اسمها ناطورة المفاتيح , فجاء جابى الضرائب مخاطباً البنت ( فيروز ) ان كل مواطن له اى ممتلكات حصة الملك فى الضرائب النصف مما يملك المواطن فقالت له انا فقيرة ليس عندى سوى عنزة وخمس دجاجات قال لها الملك له فيهم النصف يعنى بنقدر قيمتهم وتدفعى بدلهم فلوس , قالت انا فقيرة ماعندى فلوس فوتوا خدوا دجاجتين ونص ونصف العنزة , تخيلوا كل هذا الحوار بالتهكم الواضح بالغناء ولحن جميل جداً .
ويمضى قطار المسرحيات ليقف فى محطة ميس الريم ( ولا اغفل هنا ان 90% من اغانى فيروز من مسرحيات غنائية و10 % اغانى كأغانى فقط ) وميس الريم قصة رومانسية مختلفة عن قصص الحب المالوفة , فيروز بنت مسافرة من المدينة إلى قريتها كحلون لتحضر عرس ابنة خالتها وتحمل معها فستان العروس وفجاة تعطلت سيارتها عند قرية ميس الريم , وعندما طلبت ميكانيكى لإصلاح السيارة قالوا لها ان بالقرية ميكانيكى واحد فقط اسمه نعمان ولكنه لايستطيع إصلاح السيارة لأنه حزين لأنه يحب بنت اسمها شهيدة والمشكلة ان هناك خلاف وشجار بين عائلته وعائلة شهيدة يحول بين زواجهما لذلك هو حزين ولا يعمل , وهنا جاء دور فيروز ( كان اسمها زيون ) فى الإصلاح بين العائلتين كى يسعد تعمان ويصلح لها السيارة , تلاحظوا ان الفكرة جميلة ولم تستعمل من قبل وفيها غنت فيروز اغنية ستى ياستى من اروع اغانيها ولا اغفل عمل كورالى رائع اسمه ع بكرا بكير .
ثم تأتى مسرحية المحطة وتتميز بوجود شخصيتين غريبتين لم يتطرق اليهما مؤلف من قبل وهما اللص ( الحرامى ) والشحاذ ومنها موقف مناقشة بين الشحاذ والحرامى كل منهما يستعرض ايهما افضل وقالا حواراً لايجروء اى مؤلف على كتابته فى أى دولة اذكره هنا كما قالوه : الحرامى يستعرض على الشحاذ ويقول : انا آخد الفلوس من الناس بالقوة يعنى بطولة
يرد عليه الشحاذ : وانا آخد الفلوس من الناس يعنى سياسة ثم يمسكان يد بعضهما ويقولان ان الوطن لا يستغنى عن البطولة والسياسة , ومرة قابل ظابط كبير الحرامى قال له : انا بشبه عليك مش انت كنت فى المعتقل ؟ قا له نعم . قال الضابط : وكيف خرجت منه هذا المعتقل من يدخله لايخرج منه ابداً . قال الحرامى : هم فى الأول افتكرونى سياسى اعتقلونى لكن لما عرفوا انى حرامى افرجوا عنى .
ومن المسرحيات الجميلة مسرحية يعيش يعيش وفيها يبرز نصرى شمس الدين , وهذا الفنان الكبير يمثل المطرب اللبنانى فى اروع صوره تتخيله جبل لبنان أو عبق اشجار الأرز وهو فريد من نوعه , يمثل فى المسرحية جد فيروز وكان يتميز بالكذب يدعى انه صياد وحوش وهو يخاف من خياله وكل هذا بالغناء الرائع .
عشرات من المسرحيات الرائعة صاغها معا الأخوين رحبانى وكل مسرحية فيها كمية من الموسيقى تكفى عشرين مسرحية مع اى ملحن آخر لكننهم قدموا كل ماعندهم .
لم يتركوا موضوعاً إلا صاغوا فيه مسرحيات التجسس فى مسرحية بيترا , والمقاومة , ولا تأتى سيرة فلسطين أو القدس إلا وذكرنا فيروز والاخوين رحبانى ولأجلك يامدينة الصلاة وسنرجع يوماً .
وكان من اهم نتائج مدرسة الرحبانية ظهور مطربين كبار تربوا فى مدرسة الرحبانية من اهمهم وديع الصافى .
وعندما رحل عاصى رحبانى فى 1986 لم يتوقف عطاء منصور رحبانى بل اكمل المسيرة وكان عندما تراه تجد انساناً متواضعاً , لا تفارق الإبتسامة شفتيه , ودوداً مع الصغار من الفنانين , يخلو من العُقد التى كانت عند البعض , وكان يتميز بميزة العمالقة وهى العمل للذكرى والتاريخ وليس من أجل المادة , يعنى احيانا يتطلب العمل مصاريف باهظة قد لا يقبلها المنتج , ويطلب تخفيضها مثل اعداد الكومبارس او المناظر المكلفة كان العمالقة يتنازلون عن جزء كبير من اجرهم الخاص حتى يظهر العمل فى ابهى صوره .
رحم الله منصور رحبانى واسكنه فسيح جناته واعطاه اجراً مساوياً لما امتعنا به ولما تركه من تراث سيدرس فى المعاهد الموسيقية وسيكون منهجاً مهما عن تطور الموسيقى بدءاً من الاغانى الفلكلورية وتطويرها حتى لاتنضب وتموت ثم الإنتقال الى تطوير الموسيقى بحيث تصبح عالمية وينبهر بها الغرب الذى كان يتخيل انه صاحب الموسيقى .
|