المرجعية في شعر الملا عثمان الموصلي(ت1923م)
أ.م.د أحمد حسين محمد الساداني
كلية التربية الأساسية _ قسم اللغة العربية
من يطالع سيرة الأدباء في العصور المتأخرة ، يجد أن معظمهم لم يمارسوا مهنة واحدة ، كما هو الحال في العصور السابقة ، كالإسلامي والعباسي مثلا ، بل أن أغلبهم مارسوا مهنا عدة ، كان يجمع أحدهم بين التدريس وتأليف الكتب ، ونظم الشعر وكتابة النثر ، ويمارس _ أحيانا _ أعمالا أخرى ، أمثال الشعراء : ابن الدهان _ ابن الحلاوي _ الخبز أرزي _ ابن عصرون _ الكحال .... ، لكي يعتاش من عمله ، إذ أصبحت هذه الظاهرة سمة واضحة لدى الأدباء في هذه الحقبة الطويلة ، عاني فيها الناس من الاحتلال واختلت الأمور وشاع الاضطراب في مناطق عدّة من العالم العربي والإسلامي .
وشاعرنا الملا عثمان الموصلي واحد من هؤلاء الأدباء ، فهو موسيقي ومتصوف ,، وقارئ للقرآن ، ومعلم لأصول القراءة والتجويد والموسيقى ، ومغنٍ بارع ، بل وشاعر وناثر ومؤلف ، وهو في كل واحدة من هذه المهن جيد في اختصاصه بارع في فنه ، فقد أُعجب الناس بحسن قراءته للقرآن ، كما أُعجبوا بموسيقاه , وغنائه ونظمه ، وغير ذلك ... فقد حتّم عليه طبيعة العصر ونبوغه وظروفه الخاصة ، أن يمتهن كل هذه المهن حاله حال أُدباء عصره ...
والذي يهمنا في هذا المجال شعره الذي نظمه في أغراض شتى ، وغلب عليه الطابع الديني ، والمديح والرثاء والغزل الصوفي والتهاني ...
هذا واستمد الملا عثمان الموصلي معاني شعره وألفاظه وصوره من مرجعيات عدة ، أهمها :
المرجعية الدينية : المتمثلة بالقرآن الكريم والحديث النبوي الشريف والتاريخ الإسلامي ، فقد كان الملا عثمان الموصلي حافظا جيدا للقرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة ، وعليه فقد وظف هذا الجانب كثيرا في مُجمل موضوعات شعره ، وبأشكال عدّة ، فكان منه الاقتباس النصي من القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف ثم الاقتباس الإشاري مُتمثلا بالأخذ والنظر في الألفاظ والمعاني المباشرة وغير المباشرة ...
وتُضاف إلى المرجعية الدينية هذه المرجعية الصوفية المتمثلة بالمعاني والألفاظ التي استقاها الشاعر من فكرة التصوف التي آمن بها وترجمها في أشعاره ، نجد فيها ألفاظا ومعاني كثيرة ، تعود إلى التصوف ، منها على سبيل المثال : الوجد _ القطب _ الغوث _ ألباز _ المريد _ الشفيع _ ليلى ، التي تكررت منه كثيرا ، إشارة منه إلى آل الرسول (صلى الله عليه وسلم) مع حنين إلى الديار الحجازية ، وذكر أماكنها ؛ أمثال : سَلْع _ العذيب _ العَلَم _ العقيق _ الصفا ….
أما المرجعية التراثية : فهي متنوعة أيضا استقاها الشاعر من تنوع ثقافته التي شملت اللغة العربية والأدب العربي والتاريخ والحضارة بكل أوصافها ومعانيها …
لذلك فهو ذو خصوصية شعرية صقلها محفوظ شعري متنوع ، يمتد من الجاهلية حتى عصره ، ويبدو لنا أن شعره قد نسج نسجا تتبك فيه خيوط مختلف العصور ، إذ تنوعت هذه المرجعية بين الأخذ والنظر في أشعار الآخرين ، ثم تضمين بعض الأسطر والأبيات مع تشطير بعض القصائد المختارة أو تخميسها ، تلك القصائد التي يرى فيها إشباعا لتوجهه الديني مثال ذلك قصائد البوصيري ، وعبد الباقي العمري ، وابن العربي ، وغيرهم ... ، وفي أحيانٍ أخرى يحذو حذو الآخرين في الوزن والقافية والموضوع في نظم بعض من قصائده الدينية التي تطرق فيها إلى موضوع التصوف ومدح بعض الأولياء الصالحين ....
يُضاف إلى ما ذكرنا المرجعية الشعبية التي سار عليها في قصائده ، التي نظمها للغناء في المجالس والموالد الدينية ، هذه القصائد لها سمات أخرى تختلف كثيرا عن قصائده التي نظمها باللغة الفصحى ... ، ذلك أن هذه القصائد تختلط فيها الألفاظ والمعاني الشعبية مع الفصحى أحيانا ، والتي كانت تنظم لمدح الرسول (صلى الله عليه وسلم) والأولياء الصالحين مع طلب الشفاعة والتوسل ، هذه القصائد كما _ أسلفنا _ تختلف عن غيرها من حيث الصياغة والأسلوب ؛ لأنها كانت تسمى : موشحات دينية _ وتنزيلات شعبية _ ومواويل … ، لا تتوفر فيها كل سمات الشعر من حيث القوة والمتانة والفصاحة ، فلها مرجعيات أخرى سار عليها السلف الصالح من الأتقياء ونظموا أشعارهم على هذه النماذج ، لكي تسهل عليهم القراءة والغناء في المواسم الدينية والموالد ، بحيث أصبحت سمة ظاهرة لهذه الفنون الشعرية المستحدثة ، التي نظم فيها شعراء بارزون سبقوا الملا عثمان الموصلي _ كالمواليا_ والمقامة _ والموشح _ والتنزيلات _ والدوبيت _ والزجل … وغيرها ، ومعظمها تستمد أصولها من مرجعيات في شرقي العالم الإسلامي أو غربه ، لا يلتزم ناظمها _ كثيرا _ بقواعد الإعراب أو الميزان الصرفي ، واستحدثوا لها أوزانا جديدة ، إذ نظمت هذه الأشعار _ كما أسلفنا _ أساسا للغناء ، ثم استخدمت لموضوعات الزهد والتصوف فيما بعد …
وعليه فقد نظم الملا عثمان الموصلي هذه الموضوعات المستحدثة ، وأجاد فيها نظما وغناءً ... وهي لا تعدُّ نقصا أو عيبا في أسلوب الملا عثمان الموصلي ، بل إن معظم أدباء العصر نظموا في هذه الموضوعات وعلى هذه الأشكال الشعرية المستحدثة ، على أنها من سمات ذلك العصر ، فقد نظموا في أموزون المقفى ، ولم يتركوا ما شاع في زمانهم من الظواهر الجديدة ، وهي جميعا لها أصول ومرجعيات ، نحاول دراستها وبيانها ...
ويستفاد من المصادر التي ترجمت لملا عثمان الموصلي ، إطلاعه على علوم الفلك ، وبرز ذلك في شعره أيضا ، فقد وجدنا له ألفاظا ومصطلحات عدّة في هذا المجال ، منها على سبيل المثال : الكوكب ، الفلك ، السُّها ، الرعد ، البرق ، البروج ، المدار ، دوران النجوم ...
هذا ما استطعنا كشفه من مرجعيات شعر الملا عثمان الكوصل ، وقد تكون هناك مرجعيات أخرى للشاعر ، لم نستطع كشفها لن بعضها خفية لا يستطيع أحد كشفها غير الشاعر نفسه .