لأوّلِ مرّةٍ يحدثُ هذا التطابق :
في مثلِ هذا الأسبوع
( الأربعاء 5 مايو ــ الأربعاء 12 مايو )
2004 م ـــ 2010م
ـــــــــــــ
في مساءِ الأربعاءِ ، الخامس من مايو 2004م ، كنتُ ضيفًا على هواءِ إذاعةِ " الشرقِ الأوسط " ، في برنامج " 3 في 3 " ، وكانت فكرتُهُ جيّدةً جدّا ، إذ كانت مدّتُهُ ثلاثَ ساعاتٍ ( من الثالثةِ عصرًا حتّى السادسة مساءً ) ، بثلاثةِ ضيوفٍ ، وثلاثِ مذيعاتٍ ، من ثلاثةِ استوديوهات ، وكانَ معي ضيفانِ هما الرياضي الكبير ، أعظم سبّاح في التاريخ ، عبد اللطيف أبو هيف ـ يرحمُهُ الله ـ والضيفُ الثاني لا يحضرني اسمُهُ الآن ، وكنّا ـ الضيوف ـ نسمعُ بعضنا البعض بدونِ أن يرى أحدُنا الآخرَينِ ، من خلالِ سمّاعاتِ الأذنِ ( الهيدفون ) ، وكانت تحاورني الإذاعيّةُ الكبيرةُ دلال الشاطر ، وأثناءَ اللقاءِ حانَ موعدُ صلاةِ العصرِ ، وبأدبٍ منها سألتني : أيّةُ أغنيةٍ من أعمالكَ الدينيّةِ تودّ أن تسمعَها ويسمعَها جمهورُك ؟؟ قلتُ : أغنية " يا مالِكَ المُلكِ " ، من غناء محمّد ثروت ، ففيها معانٍ كثيرةٌ ، وفيها أخصُّ الأبَ والأمّ بدعاءٍ أراهُ يمسّ كلّ القلوب .
ونحنُ نستمعُ إلى الأغنيةِ ، طفرت الدموعُ من عيني عندَ :
" وارحمْ أبويا وإملا ميزانُه بالحسنات
وكافئْ أمّي ورُدّ لْها الجِمِيل إحسانْ "
إذْ تذكّرتُ اللحظةَ التي كتبتُ فيها هذا الدعاءَ ، إذْ كنتُ أمرّ بصدمةٍ عنيفةٍ من صدماتِ الموتِ المفاجئ ، وكنتُ في حالةِ بكاءٍ مستمرٍ على الملأ ، ونحنُ في ستوديو 45 بالإذاعةِ المِصريّةِ ـ أكتوبر / نوفمبر 2000م ـ نسجّلُ أدعية شهر رمضان المبارك لإذاعةِ " الشرقِ الأوسط " ، وكانت من أشعاري ( الفصحى ) وكلماتي ( العاميّة ) ، وألحان توأمي الموسيقار سامي الحِفناوي ، وغناء الفنان محمّد ثروت ، صاحبِ نصيبِ الأسدِ في غناءِ أعمالي الدينيّة .
كنتُ أجلسُ في ركنِ الاستديو ، متكوّرًا مرتجفًا ، ثمّ أنخرطُ في البكاءِ إلى درجةِ النّحيب ، ولا أظنّ أخي سامي الحفناوي قد عانى في حياتِهِ مثلما عانى معي في هذينِ الشهرينِ ليُخرجني من دوّامةِ الحزنِ والانهيارِ التي كادت تعصفُ بي !!
في الأيّامِ التي لم نكن نسجّلْ فيها ، كان سامي يحرصُ على أنْ يخرجني من المنزلِ ، إذ كنتُ أقيمُ وحدي ، فكانَ يطلبُني بعد صلاةِ العِشاءِ مباشرةً ليطلبَ أنْ أنزلَ لنواصلَ العملَ في الاستوديو الخاصِّ بهِ ، وفي تلكَ الليلةِ ، طلبني قائلاً : هيه ،، سمّعني !! فأُسقِطَ في يدي !!! ما الذي أدراهُ أنني كتبتُ شيئًا جديدًا ؟؟
فقلتُ لهُ : سُداسيّةٌ كتبتُها وأنا أختمُ الصلاة ، ورحتُ أُسمِعُهُ ..... ثمّ .... انخرطتُ في البكاء !! فقال : اهدأ ، وأرجو أنْ تُمْليني الكلماتِ ببطء ، حتّى أنظرَ فيها إلى أنْ تأتي ...،،، ... أمليتُهُ الكلماتِ ، وبعدَ أقلَّ من الساعةِ كنتُ في الطريقِ إليهِ ، وبمجرّدِ وصولي قال : ليتكَ تعيدُ الكتابةَ بخطّكَ ، وتحذفَ البيتَ الـ ... ( كنتُ أذكرُ فيهِ الرّوحَ الراحلة ) ، ففعلتُ ، ولم تنتَهِ السهرةُ إلا بتسجيلِ اللحنِ على العودِ ، وبعدَ يومينِ كنّا بالاستديو لتسجيلِهِ بعدَ إتمامِ التوزيعِ وتسجيلِ الموسيقى .
كانَ ردُّ فعلِ كلّ المشاركينَ في العملِ مُدهشًا ـ بالنسبةِ لي ـ فعندَ وصولِ الفنان محمّد ثروت إلى : " وارحم أبويا .... " ، انخرطَ الجميعُ في البكاءِ ، وكأنّ هناكَ اتفاقًا مسبقًا على ذلك ، وكانت فرصةً لأعاودَ البكاءَ بمؤازرةٍ جماعيّةٍ من فريقِ العملِ كلّه !!
أذيعت الأغنياتُ خلالَ الشهرِ الكريم ، ولَقِيَ معظمُها استحسانًا كبيرًا ، لكنَّ هذا الدّعاءَ بالذاتِ كانَ في المقدّمةِ بسببِ الأبِ والأمّ .
نعودُ إلى الاستديو .. في 5 مايو 2004م ... أثناءَ الإذاعةِ ارتعشتُ وطفرت الدّموعُ من عيني ، وبعدَ نهايةِ اللقاءِ ( ثلاث ساعاتٍ متّصلة ) ، خرجنا من الاستديو ، ولم أكن أشعر أنني في ستوديو 13 في 5 مايو 2004م ، ولكن في ستوديو 45 في العام 2000 م !!!
في سهرةِ الجمعةِ ، 7 مايو 2004م ، كنّا نجلسُ في غرفةِ مكتبي ، نقومُ بإصلاحِ الكومبيوتر ، المهندسُ المختصّ ، وأنا ، وعلى كتفي " نوران " بنتي ، التي لم تكن أكملت شهرَها السادسَ بعدُ ، وكانَ صديقنا المهندس ( الذي أصبحَ من طاقم برنامج " البيت بيتك " فيما بعد ) يقومُ بعمله ويلاعبُ نوران ، وأمامنا الحلويات والشاي ، ومعنا صوتُ أمّ كلثوم ، كالعادة ، و....... في قلبِ هذا الطقسِ الجميل ... دقَّ جرس الموبايل ، قُبيلَ منتصفِ الليل ، وكانَ عبد الخالق عيّاد .. ابن عمّي ، وهو توأمي المولودُ قبلي بساعتينِ فقط ، وكأننا روحٌ واحدةٌ في جسدينِ بالفعل ، وبمجرّدِ أنْ رأيتُ اسمَهُ انخطفَ قلبي ، فمكالمةٌ منه قُبيلَ منتصفِ الليلِ لا يُمكنُ أن تكونَ من أجلِ شيءٍ سعيدٍ أبدًا ، وبدونِ أن يطيلَ قالَ لي : الحاجّة ( يقصد أمّي ) دخلت في غيبوبةٍ مفاجئةٍ بعد صلاةِ الجمعةِ ، وانتظرنا كلَّ هذا الوقتِ ولم نخبرْكَ علّ الأطباءَ يفلحونَ في عمل شيءٍ ، ولكن إلى الآن لم يستطيعوا !!
تجمّدَ دمي في عروقي ، وتحاملتُ وقلتُ له : لسنا صغارًا ، أخبرني بالحقيقة ،، قالَ : واللهِ هذا ما حدثَ ، ولو أنّ هناكَ غيرَ ذلكَ ما أخفيناه !!
اسودَّتْ الدنيا في لحظةٍ ، ودخلتُ مُسرعًا لأتركَ نوران للسيّدةِ والدتِها ، وعُدتُ إلى صديقِنا مهندسِ الكومبيوتر ، شكرتُهُ ، وطلبتُ منهُ أنْ يغلِقَ كلَّ شيءٍ ، وفي دقائقَ معدوداتٍ كانَ يمضي حاملاً همّي ، وعبئًا من القلق والأسئلة .
مع فجر السبت 8 مايو ، كنّا في الشارع ، في طريقنا إلى كفر الدّوّار ( على بُعدِ خمسةٍ وعشرين كيلو مترا من الإسكندريّة ) ، وفي الثامنةِ والنصفِ صباحًا كنتُ إلى جوارِ فراشِ أمّي ، وجدتُها مجرّدَ جسدٍ يخرجُ منه صوتَ التنفّسِ الهامس ، وعلى وجهِها صمتٌ وإغماضٌ وغيابٌ في دُنيا أخرى , فأخرجوني بسرعةٍ من غرفتِها ، وتحوّلَ المنزلُ كلُّهُ إلى سحابةٍ واقفةٍ على الأرض !!! أطبّاء ... حقن ... أدوية على كلّ لون وفي كلّ وقت ..... الدموعُ تطرّزُ الجدران ، والرّعبُ يسري في العروق ، والعجزُ يفرضُ نفسَهُ بقوّةٍ وغطرسةٍ ، فلا الأطبّاءُ قادرونَ على فعِلِ شيءٍ ، ولا نحنُ بيدِنا سوى الدموع ...... وكانَ رأسُ الموتِ يطلّ من كلِّ النوافذِ والأبوابِ في لحظةٍ واحدةٍ ، ويطلقُ قشعريرتَهُ ، ويتركُها ويمضي قليلاً ثمّ يعودُ بسرعةٍ ليبدأ من جديد .
اختطفني أخي الأكبر ـ محمّد ـ ( أبي بعد أبي ) ، وبحكمةٍ وواقعيّةٍ قال لي : خذ زوجتَكَ وابنتَكَ واتركْهما بالإسكندريّة ( في بيت حمايَ ) لأنّهما لن تتحملا الوضعَ المؤلمَ هنا ، وعُدْ إلى القاهرةِ لترتيبِ أوضاعِكَ ، وبيننا التليفون ، فوجودُكَ هنا لن يضيفَ شيئًا ، وأنت لن تتحمّلَ أن ترى أمّكَ بهذا الشكل .
وفيما يُشبِهُ الأمرَ ، نادى وقال :" ياللا " ، وكانَ لابدَّ من الاستجابةِ لهذا الرأي ، وخلالَ نصفَ الساعةِ كنا بالإسكندريّة ، وبعدها بدقائقَ كنتُ في طريقي إلى القاهرة ، وعُدتُ ، لأجدَ البيتَ هنا كأنّهُ متجاوبٌ معَ بيتِنا في كفر الدّوّار !!!
كانت كلّ دقّةٍ على الموبايل تخطِفُ جزءًا من عُمري ، إلى أنْ حانت اللحظَةُ الفاصلةُ : الثلاثاء ، الحادي عشر من مايو 2004 م ، وفي الساعةِ الحادية عشرة وأربعين دقيقة ، قُبيلَ منتصفَ الليل ، كانَ معي ـ على تليفون البيت ـ الكابتن كريم فرج ، ناشئ نادي الزمالك في الكرة الطائرة وقتها ، وأحد لاعبي المنتخب المصري الآن ـ أشرحُ لهُ بعضَ دروسِ النحوِ ، الثانويةِ العامّة ، وجاءت دقّة الموبايل التي لم أكن أريدُها أبدًا ... ،، كان عبد الخالق ابن عمي ، وبدون مقدّمات ، بمجرّدِ أن فتحت ، جاءني صوتُهُ الخاشعُ الرزين : " وقلْ ربّي اغفِرْ وارحمْ وأنتَ خيرُ الرّاحِمِِينْ " , فانهرتُ في نشيجٍ مكتوم ، وقلتُ : " إنّا للهِ وإنّا إليهِ راجعون " ، أدركَ كريم أنّ أمرَ اللهِ كانَ مفعولا ، ووجدتُ السيّدةَ والدته تبكي على الفور ، فاستأذنتُهم وأغلقتُ ، واتّصلتُ بالإسكندريّة لأخبرَ أمّ نوران والأسرة ، ليستعدّوا ، وفي دقائقَ معدودةٍ كنتُ في الشارعِ إلى الإسكندريّة التي وصلتُ إليها مع الفجر ، ترافقني سورة " يوسف " بصوت الشيخ عبد الباسط عبد الصّمد طوالَ الطريق ، ومع شروقِ الشمس كنّا أمامَ منزلِنا بكفرِ الدّوار ... الأربعاء 12 مايو 2004م ، مثلَ اليومِ تمامًا !!
في العاشرةِ صباحًا ، في ساحةٍ تسعُ أربعةَ آلافٍ من المصلّين ، كانت صلاةِ الجنازة ، وقبيلَ الظهرِ كنّا انتهينا من مراسمِ الدّفنِ ، في لحدٍ خاص وسط مقابر الأسرة ، تنفيذًا لوصيّتِها ، وبعدَ صلاةِ الظهرِ بدأتْ مراسم العزاءِ ( بعكس المدينة ) .
في الساعةِ الثالثةِ والنصفِ تذكّرتُ أنني في يومِ الأربعاءِ الفائتِ ( 5 مايو 2004م ) كنتُ على الهواءِ وطلبتُ أغنيةَ " يا مالك الملك " لأنني أدعو فيها بالرحمة لأبي وأمّي ، واليوم ، الأربعاء 12 مايو 2004م وفي التوقيت نفسِهِ ، أقفُ مع أشقّائي وكبارِ العائلةِ في طابورٍ طويلٍ نتلقَّى العزاءَ في أمّي ، يرحمُها الله !!!
يا لها من مفارَقَة !!