رد: كيف تطورت الآلة الإشبيلية والطرب الغرناطي في المهاجرات الأندلسية المغرب
والسماع بصورة عامة سواء عند الهنود البوذيين أو البراهمة وغيرهم قد انطلقت منه تواجدات موسيقية لدى فنانيهم وصوفيتهم. ولعل للسماع الموسيقي العربي ضلعا في إثارة هذا الوجدان الآسيوي الذي وجدنا حتى لمصطلحاته صلة وثيقة لهذا المنبع الإنساني. فالصوفي البوذي كان ولا يزال يغيب عن حسه إذا أطربه السماع فيردد كلمة (هو هو) (الله الله). ويغرق فيما سماه البوذيون اقتباسا من لغة متصوفة الإسلام وهو Nervana، أي نور الفناء.
وقد ترعرعت الآلة بجميع طبوعها إبان بني مرين حتى كان للجيش المريني نفسه في عهد أبي عنان موسيقاه الخاصة به. كما كان للأسطول موسيقاه (راجع "رحلة أبي عنان المريني" المسماة "فيض العباب..." لإبراهيم عبد الله المعروف بابن الحاج)، وهي عادة استمرت إلى اليوم عن طريق الجوق الملكي. وقد بلغ الاعتناء بهذا الفن مبلغا أصبح معه للموسيقار مكانة كبيرة في المجتمع.
وكان المنصور يجلب إلى مراكش أرباب الموسيقى وأصحاب الأغاني من فاس؛ وكانوا قد وفدوا على المنصور على سبيل العادة فأخرج بعضهم والقاضي أبو مالك عبد الواحد الحميدي حاضر بشبابة من الإبريز مرصعة أعطاه إياها المنصور وبعضهم قال أعطاني كذا وكذا.. فقال القاضي: لئن بلغت فاس لأردن أولادي إلى صنعة الموسيقى. فإن صنعة العلم كاسدة. ولولا أن الموسيقى هي العلم العزيز، ما رجعنا مخففين ورجع المغني بشبابة الإبريز ("الاستقصا"، ج3، ص.96؛ "نزهة الحادي" عند الكلام على سيرة المنصور الذهبي).
ولعل المغرب قد نال حظا وافرا من الآلة الأندلسية التي احتضنها دون بقية العالم العربي وإن كان العراق هو الذي أمد الأندلس بأول موسيقار وهو زرياب. على أن الأندلس قد عرفت بعد زرياب موسيقارا أندلسيا صميما عد من طبقات زرياب في الغناء، وهو عباس بن فرناس الذي هو أول من حاول الطيران بآلة صنعها بيده ("نفح الطيب"، ج3، ص.473) واخترع الزجاج من الحجارة.
كما كتب في هذا الموضوع ابن حزم في "الغناء الملهي"، أمباح أم محظور (نسخة من الأسكوريال eb 25).
ومن الموسيقيين الأندلسيين الذين استوطنوا الشرق ابن أبي الحكم محمد بن عبيد الله بن المظفر الباهلي أفضل الدولة (570هـ/1174م).
وكان قد صنع أرغنا وله يد في سائر آلة الطرب وكان طبيب بيمارستان دمشق الذي بناه نور الدين بن الشهيد ("طبقات الأطباء"، ج2، ص.155؛ "الدارس"، ج2، ص.137؛ "الوافي بالوفيات"، ج3، ص.330) وإن كانت هنالك مصادر عربية أصيلة ما زالت تمد هذا الفن مثل:
- "رسالة في الموسيقى" لعمر الخيام (526هـ/1131م)، نادرة جدا لا تكاد توجد نسخة أخرى في ورقتين (مكتبة مغنيسيا العمومية، 5/1705).
- "رسالة الملحون والنغم" للكندي [256هـ]، (مغنيسيا، 8/1705).
- "عنصر الموسيقى" لإسحاق بن حنين [298 أو 299م] (نسخة فريدة 9/1705).
أما الطرب الغرناطي، فهو صنف من الآلة الأندلسية نشأ وترعرع في غرناطة آخر معقل بالأندلس استولى عليه الإسبان عام 897هـ/1481م، فهاجر معظم سكانه إلى فاس وتازة وتطوان وعدوتي أبي رقراق، ثم إلى الجزائر (وهران وتلمسان وبيجة) عبر المغرب الشرقي.
وكانت إشبيلية هي عاصمة الطرب الأندلسي منذ القرن الثالث الهجري. وقد افتتحها موسى بن نصير عام 94هـ/712م، ودخلها المرابطون عام 484هـ أو 490هـ حسب ابن خلدون، وتولى الموحدون بإمارة أبي حفص بن عبد المومن الذي كان له بها كتاب وشعراء وفنانون حوالي منتصف القرن السادس الهجري. وقد انتقل كرسي المملكة الإسلامية منها إلى غرناطة (646هـ/1248م) عندما استولى عليها ملك قشتالة في دولة المرتضى بعد أن حكمها الموحدون نحوا من قرن واستمرت في قبضة المسلمين زهاء خمسة قرون وأصبحت غرناطة منذ ذك صلة الوصل بين فاس والأندلس طوال عهد بني مرين عندما احتضنت الموسيقى الأندلسية مدة قرنين ونصف القرن، فأضافت إلى هذا التراث الإشبيلي عناصر جديدة عرفت بالطرب الغرناطي. وكان لغرناطة منذ العهود الأولى ضلع في بلورة الموسيقي الأندلسية، ولا سيما أن زرياب علي بن نافع العراقي مؤسس الطرب العربي قد عاش وتوفي بغرناطة عام 230هـ/ 844م. وقد برز المعقل الغرناطي بين أخريات العواصم الأندلسية التي ظلت تحت حكم المسلمين، فتجلى ذلك في مقطعات موسيقية كلها شجن وحزن على ما فقده الإسلام من تراث أصيل بالأندلس "الشهيدة". وما لبث هذا التراث الذي تقلصت موازينه وطبوعه أن طعم بنغمات كلها حنين إلى الأندلس عندما هاجر الغرناطيون إلى المغرب الذي احتضن كلا من الآلة الإشبيلية والطرب الغرناطي ساد أحدهما -وهو الموسيقى الأندلسية بكامل نوباتها- بشمال المغرب فاس وتازة وتطوان والرباط وسلا وجنوبه مراكش.
بينما ترعرع الصنف الثاني، وهو الطرب الغرناطي، بالمغرب الشرقي امتدادا من غرب الجزائر (تلمسان ووهران وبيجة) وتونس. وقد احتضن المغرب الشرقي النوعين معا: الأول بتازة، والثاني بوجدة.
وإذا كانت النكبات التي توالت على الأندلس منذ احتلال الإسبان لإشبيلية -عاصمة الطرب الأندلسي- قد حالت دون تطور الموسيقى، فقد تبلورت هذه الأشجان في ألحان المهاجرات الأندلسية بفاس وتطوان وعدوتي أبي رقراق حيث بدأت الهجرة بعد عام 981هـ/1486م ("الاستقصا"، ج3، ص.101)، أي بعد استيلاء الإسبان على غرناطة بست سنوات (897هـ/1491م) وكانت الهجرة الثانية عام 1017هـ على أثر مساكنة في غرناطة دامت عشرين ومائة سنة (120). وكان عبد الواحد الملقب بالرشيد الموحدي الذي بويع أول عام 630هـ/1232م هو الذي منح الأندلسيين -عام 637هـ- حق اللجوء إلى المغرب عامة والرباط خاصة حسب ظهير حرره قاضي الرباط آنذاك أبو المطرف بن عميرة. ولعل ذلك كان بسبب انضمام الإشبيليين إلى المولى الرشيد عام 635هـ/1237م، عندما حاول الأمير بن هود اقتحام ميناء مصب أبي رقراق في أسطول حربي. وقد توفي الرشيد عام 640هـ، وبويع بعده الأمير عمر المرتضى الذي كان واليا على رباط الفتح فامتد نفوذه من أبي رقراق إلى السوس وبه ختم عهد الموحدين وبدأ عهد بني مرين. وكان عرش الخلافة بالأندلس قد انتقل قبل ذلك بسنتين من إشبيلية إلى غرناطة. فهذه الأزمات الغامرة لم تكن لتفسح المجال لازدهار فن الموسيقى، ولاسيما أن الفئات الضخمة التي تواردت على منطقة أبي رقراق لم تتم إلا بعد محنة غرناطة التي استمرت إلى عام 1017هـ بادر الإسبان خلالها بفصل الموريسكيين عن تراثهم الديني والحضاري منذ يناير 1492م، وذلك بإحراق مليون ونصف مليون مخطوط من بينها -دون شك- وثائق حول الموسيقى ونوباتها حسب مصادر إسبانية أهمها: كتاب Francisco Piferrer, Nobiliario de los reinos y seisiorico de Espana, T.XI, Madrid, 1860, p.138.
وخلال هذه الفترة الحالكة لم نكن نسمع في عدوتي أبي رقراق سوى دوي موسيقي المدافع بين طوائف من المهاجرين الأندلسيين اتخذت لنفسها إطارا مجتمعيا خاصا لممارسة الهجوم البحري على الشواطئ الشمالية للبحر المتوسط في أجفانها الجهادية والتي ما لبثت أن تحولت إلى سفن قرصنية. وقد داخل الرعب الإسبان الملكيين، فألصقوا بالمهاجرين -لاستفزاز الملكية المغربية ضدهم، وتبعهم في ذلك مؤرخون غربيون - تهمة تكوين جمهوريات ثلاث حول أبي رقراق([6])، في حين لم يكن يعدو تشكيل دواوين أو مجالس أربعينية على غرار "أيت الأربعين" التقليدية في الأطلس، ولا سيما أن الطابع السياسي للمغرب آنذاك، أي آخر أيام السعديين، اتسم بالاضطراب واحتلال الخصم لجيوب ساحلية لم ينقذ المغرب من ويلاتها إلى ظهور الملوك العلويين، وعلى رأسهم المولى إسماعيل. فعاد الماء إلى مجراه وألغيت الدواوين الأندلسية وتنفس الجميع الصعداء في ظلال وحدة المغرب وتحركت في هذه البحبوحة الوديعة أنفاس الوجدان لتنطلق مزاهر الفن الموسيقي في أروع وأبدع نبراتها([7]).
|