رد: قطرات من مداد قلم الشاعر السمعجي كمال عبد الرحمن
إنطباعات
( لقاء الأحباب )
( 1 )
المَشاهدُ تمرُّ عبر نافذة القطار .. لم يتغير شىء .. نفس البيوت الريفية القديمة .... تخضرُّ الأرض في بقعةٍ ، و تبدو جرداءَ في أخرى .. تنتهي قرى ، و تبدأ مدن .. بيوتٌ باهتة استسلمت للعشوائية و الفقر ..شوارع مزدحمة يعلوها الغبار ..محطاتٌ متهالكة بفعل الزمن و الإهمال تمضي متعاقبة .. و إيقاع عجلات القطار يٌشيعُ رتابة ً لا يكسرها سوى استحلاب لحظات و مواقف تبرق في ذاكرتي .. فكل دقيقة تمر ، تعلن دنو اللحظة ، لحظة الإلتقاء بهم !
مدهشٌ أن يتحولَ عالمُ ( النت ) الإفتراضي ، إلى واقع ، إلى حقيقة ملموسة .. إلى أناس ٍ من لحم و دم .. تجربة لم أمارسها من قبل ..
و برغم إنطفاء حاسة ( الدهشة ) عندي بفعل الخبرات السلبية و الإحباطات المتعاقبة ( كالسوادِ الأعظم في هذه البقعة الجغرافية من العالم ) .. إلا أنني كنت منفعلا ً و متحمسا ً.. و ابتهجت لهذا الشعور الذي أفتقده ( الدهشة و الحماس ) .. هل اصطنعتُ تلك الأحاسيس لكى ( أعيش الحالة ) ، أم إلتبستني مشاعرُ تلقائية ٌ طبيعية لا أملك حيالها دفعا ً؟!
سألقاهم هناك إذن حسب الإتفاق .. ليس عبر شاشة مسطحة ملساء ، أستطيع أن أنشىء أو ألغي عالمها كاملا ً بضغطة زر ..
تـُرى كيف سيكون اللقاء ؟! .. إنني أعرف ملامحهم من خلال صورهم ، و هم سيرونني للمرة الأولى .. تـُرى كيف سيكون انطباعهم عني ، و هل إنطباعي تجاههم سيتغير عندما أرى المشهد كاملا ً ؟! ..الإيماءات ، لكنة الصوت ، الأفكار التي تنطلق مباشرة بدون واسطة ٍ آلية ..
أسئلة أخذت تتنازعني ، و شعرت أن الطريق كان أقصر مما يجب ، بمجرد وصول القطار إلى محطة مصر ..
الواحدة إلا الثلث ظهرا ً .. يفصلني عن اللقاء ( ثمانون دقيقة ) .. أستطيع خلالها أن أفي بوعدي لأصدقاء شاركوني العيش و الملح و امتهان الفن و الصحافة و ليالي القاهرة المضمخة بسحر غامض ..
أشرتُ لأول ( تاكسي ) صادفني خارج المحطة .. خمس دقائق ، ووجدت نفسي أمام مقهى ( المشربية ) القريب من ميدان التحرير .. هاهم أصدقائي القدامَى ، لم يتغيروا ، سوى بعض الشعرات البيضاء التي تسللت ، و العيون التي ارتفع في محاجرها معدل الإرهاق ..
أحضان و قبلات و قفشات إعتدناها ..
لقد نزحوا من ( دمنهور ) ، إيمانا ً بمقولة ( أن تكون الأخير في المدينة ، خيرٌ من أن تكون الأول في القرية ) ! و لا شك أنهم نجحوا في اختراق متاريس العاصمة ..
مجدي ، مدير تصوير في إحدى الفضائيات .. إبراهيم ، صاحب و رئيس تحرير مجلة مرموقة ، و مذيع في فضائية متخصصة .. أسامة ، الذي أدى أدورا ً تمثيلية قيِّمة في مسرح كرم مطاوع و سينما يوسف شاهين ، و يعمل حاليا في الديكور .. رفعت ، معد البرامج التليفزيونية و الصحفي المتألق في روزا و في مجلة أكتوبر .. مجدي ، رئيس أهم قسم في مصر للتأمين .. لم يكن ينقصنا سوى واحد فقط لتكتمل ( شِلة السبعة ) ، و الذي يعمل صحفيا ُ بإحدى دول الخليج ( جمال فتحي ) ..
ساعة سرقناها من عمر الزمن ، حاولنا خلالها استعادة نفحات الماضي ، و تواعدنا على اللقاء في مساء نفس اليوم ، بعد أن أبدوا لي دهشتهم من لقائي المرتقب مع أناس أراهم لأول مرة .. بل لقد حولوا الأمر إلى سخرية لاذعة .. فترددت أقاويلهم الممتزجة بالقهقهة :
عايزينك ترجع لنا صاغ سليم ..
رد: قطرات من مداد قلم الشاعر السمعجي كمال عبد الرحمن
( 2 )
كان أول من وقعت عيني عليه ( غازي ) صاحب الدعوة الكريمة للقاء .. هو ( غازي ) ، بوجهه البشوش ( الواضح ) وسَمْتِه السَموح ، توجهتُ نحوه مباشرة و كأنه صديق قديم ، لمحت الإرتباك الذي بدا في عينيه حين داعبته قائلا : الكرسي دا بتاعي !! .. هَمَّ بالوقوف مندهشا ً،
و تحولت الدهشة في عينيه اللامعتين إلى قبلات و أحضان .. بالأحضان يا غازي ..
و من احضان غازي إلى أحضان ذلك الرجل الذي أحمل له حبا ً و مودة ( مُسبقة ) محمد الآلاتي .. إنه هو نفسه ، كما تصورته تماما ً .. لكنة ُ الصوت المرحة .. الإيماءات الحركية التي تصاحب كلامه .. الحضور الدافىء الحميم ..
و بدأ غازي في تعريفي بالحضور ..
الأستاذ رؤوف المسيري .. الأستاذ عادل السيد .. الدكتور أسامة القفاش ..
كنت أعرفهم من صورهم ، إلا أن الدكتور أسامة بدا مختلفا ً عن صورته
التي يبدو فيها ( متضايقا ً ) من شىء ما ، و الذي أشعرُ كلما طالعت صورته ، أنه يجلس في ( طيَّارة ) !
جاءت جلستي بين غازي و الآلاتي ، و قد انكسرت كل الحواجز بيننا .. و شعرت أن طيور الحب و المودة تحوم في المكان ..
أجمل ( أبو كمال ) سمعتها في حياتي من عم محمد .. و أجمل ( إزيك يا أستااااذ ) سمعتها من غازي .. أهى خاصية مصرية ، تلك التي تذيب النفوس في بوتقةٍ واحدة ، بمجرد أن تقع على أشكالها ؟! ..
ها هو الأستاذ رؤوف .. إبتسامة ٌ هادئة و مطمئنة لا تفارق وجهه ،
و صوت خافت تكاد تسمعه بالكاد ، يدخن سيجارا له رائحة مبهجة ، و لا يتحدث إلا قليلا .. ملامح تنم عن طيبةٍ و تواضع لا يغفل عنهما قلب ..
أما الأستاذ عادل السيد ، فهوشخصية مرحة ، لا يتوقف عن القفشات ، تشعر أنه إبن بلد ، و أرستقراطي في آن !
رد: قطرات من مداد قلم الشاعر السمعجي كمال عبد الرحمن
( 3 )
أخذنا نتحدث معا ً كما لو كنا أصدقاء منذ زمن طويل ..
و كان ( صاحب الكلمة ) هو الدكتور أسامة ..
متحدث لبق ، يتكلم و كأنه يقرأ من كتاب ، تختلط بعض الكلمات الإنجليزية بعاميته ، و ينطقها بلكنتها الصحيحة
كِيان ( محتشد ) بالمعرفة ، ( متخم ) بالمصطلحات ، عيونٌ بدت لامعة ً تحت ( عويناتها ) تمتزج فيها الدهشة بالسخرية ، وإبتسامة مستنكِرة ،
لا تفارق وجهه ، يتحدث كأنما أوشك على اليقين !
تحدث عن الإسلام الثوري ، أسهب في إبن تيمية ، قراقوش ، د. محمود شاكر ، اصول اللغات ، التراث الغنائي ، حتى السينما الثورية في الغرب ، تناولها كمتخصص !
إنه مثقف حقيقي ، و يحمل هموما حقيقية ، لم يتوقف عند حد القراءة ،
بل تأمَّلَ و حَلل و قارن و كاد يوقن ..كنا نصغي إليه منبهرين .. موضوعات مترابطة ، و تاريخ يفضي إلى بعضه البعض ، كل حديث له مدعم بالمعلومات و الأسماء و الوقائع ،
كيف تسنـَّى له الوقت !! .. كيف تحلـَّى بهذه الذاكرة الحديدية !!
حيال هذا الرجل ، ليست لك حيلة إلا الإصغاء ، فهو يدل على الأسرار !!
و جاءني صوت أبو حسام هامسا ً .. ( الناس الجامدة دي الواحد يسمع لها كويس ، و يستفيد منها .. أتعرفُ أنه أحد الذين استعان بهم الدكتور عبد الوهاب المسيري في موسوعته اليهود و اليهودية و الصهيونية ؟! )
لاحظت غياب الأستاذ سيد المشاعلي ، و الدكتور أدهم عثمان ، و اللذين بشرني بمقابلتهما الأستاذ غازي ..
مِلتُ على غازي متسائلا ً.. أين الأستاذ سيد ، و الدكتور أدهم ؟! فأخبرني أنهما مريضان ، و اعتذرا عن عدم الحضور ..
تمنيت لو اكتملت الصحبة بهما .. فالدكتور أدهم كانت لي معه مداعبات تخص ( محذوفاته ) ، و الأستاذ سيد أحمل له تقديرا كبيرا ، من متابعتي لمداخلاته الراقية المثقفة الموضوعية .. و تمنيت لهما الشفاء
في تلك الأثناء ، حضر رجل لا أعرفه ،
عضو معروف ، و ملامح ُ أجهلها ، كان غازي ( كالعادة ) أول من تلقـَّى سلامَهُ الحار ، و تصاعدت الأصوات في فرحة غامرة ..
المهندس محمد علي ..( قناديلي ) ..سَرَت فرحة غامرة في أوصالي ..
فقنديل بالذات ، له موقعه المتسامي في مزاجي السمعي ،و هذا الرجل ، هو المتحدث الرسمي باسم الراحل العظيم ، و المحافظ على تراثه الخالد
محبة تلقائية انطلقت تجاه المهندس محمد علي من الجميع ، رجل دمث الخلق ، جم التأدب .. ، و ابتسامة حميمية و متواضعة تنطلق من وجهه ، كلامه ( بالميزان ).. و إذا تحدث ، فلا يخرج عن سياق الموضوع ..
رد: قطرات من مداد قلم الشاعر السمعجي كمال عبد الرحمن
( 4 )
و حان وقت الانطلاق ، توجهنا صوب الناصرية سيراً على الأقدام ،
الشوارع غير مزدحمة كعهدها في بقية أيام الأسبوع ( اليوم جمعة ) ، و الحوار بيننا لم يتوقف طوال الطريق .. و شعور غامض يعتريني ، كيف سأفارق هذه الكوكبة الرائعة بعد ساعات ؟! ..
مشينا ( دويتو ) كل اثنين معا ، و حظيت بالأستاذ عادل الذي أخذ يتحدث في السياسة و أحوال الواقع العربي الراهن، ثم انضم إلينا غازي ، فتحول الحديث إلى الفن ، و أخذ عادل يعقد مقارنة بين ليلى مراد و فيروز ، فاجأتني المقارنة ، و اندهشت لموقف عادل المتحيز لليلى مراد ، فالتزمت بمبدأي ( لا نقاش في الأذواق )
و تحدثتُ عن مرحلة قدوم فيروز إلى مصر بدعوة من إذاعة صوت العرب ، و اقتران اسمها بكارم محمود ، الذي أدت معه مجموعة ً من الصور الغنائية و الأوبريتات ..
كان أذان ( العصر ) ينطلق من المساجد في محيط المكان بأطياف صوتية متباينة و منسجمة في آن ..
و احتوانا جميعا أحد المساجد ، فأدينا الفرض ، و جاورني ( غازي ) في الصلاة ، .............................حرما .. جمعا ..
و عادت قافلة المودة تتجه إلى حيث ( السمين ) الذي بَشـَّرَ به الأستاذ غازي منذ زمن بعيد ، يحدونا المهندس محمد علي ، الذي بدا أنه يعرف شوارع القاهرة الجانبية ..
لاحت في الأفق حِبال المومبار و السجق ، و رؤوس الأغنام المعلقة ،
يحدها من كل جانب ( الفِشة ) و ( الزور ) و ( التعليقة ) التي تتراوح ألوانها بين الروز و السيمون ، و الكرشة ذات ( الحراشيف ) ..
( إبتـَسِم ..أنت في الناصرية )
و أخذ ( الحَرَاجمة ) جمع ( مُحَرجم ) يحاولون اقتناصنا منذ اللحظة الأولى لدخولنا الناصرية ..
و المحرجم لمن لا يعرف ، هو الذي ( يُحَلـِّق ) على ( البـِشل ) أى الزبون
ليسحبه إلى المطعم !
أخذت أتأمل الجثث الحيوانية الممزقة التي تم التمثيل بها ،و المعلقة على رؤوس الأشهاد ، و لا أدري كيف شطح خيالي ( المريض أحيانا ً) ، فتذكرت رواية أخونا جورج أورويل ( آنيمال فارم ) !
رد: قطرات من مداد قلم الشاعر السمعجي كمال عبد الرحمن
( 5 )
و أخيرا ، طاب لنا ( المُقام ) على مائدة مستطيلة بجوار مسجد الإسماعيلي في حضرة مولانا ( بَحَّة ) الأشهر في عالم السِّمين في شمال أفريقيا و العالم العربي .. و بادر الباشا ( الأستاذ رؤوف ) صاحب العزومة ، بالقول :
إشتهوا ما تشاءون !
دقائق ، و كانت المائدة عامرة ً بما لذ و طاب من ( السمين ) ...
كلاوي ، لسان ، كوارع ، فتة ، نيفة ، طحال ، شوربة ، مومبار، حلويات ،
سلاطات .. و المدهش أن التجربة العملية أثبتت أن الأستاذ غازي ، صاحب
الدعوة ، فاشلٌ في التهام تلك الأصناف ، عِوضا عن جهله بأسماءها..
فكان أبو حسام يطلعنا على مسميات ما نأكل ، و الدكتور أسامة يوضح القيمة الغذائية لكل صنف !!
و جاءت ساعة الحساب ، و تسلل من بيننا ( الباشا ) ليحاسب (المَعلم)
لكن صراعا ً ( حاتميا ً ) نشأ بينه و بين المهندس ( قناديلي ) ، الذي أصر على أن يقوم ( بالليلة ) ، إلا أن الأستاذ رؤوف انتصر على خصمه ..
و قمنا متخمين بلذائذ السمين ، بعد جرعات من ( السِّفن ) ..
و توجهنا ، قاصدين الدكتور محمد الباز ( حسب البروجرام ) ..
تاكس ...........
و انقسمنا إلى مجموعتين ، و جاء حظي مع ( الباشا ) و عادل في نفس
السيارة ..
أصر الأستاذ رؤوف على الجلوس في المقدمة ، و غرضه ( الماكر ) هو منع أى محاولة لسداد الأجرة ، و رغم شوارع العاصمة التي أوحشتني كثيرا ، و لي معها ذكرياتٌ و مواقفُ أخذت تبرق في غياهب ذاكرتي ، إلا أن حديث ( الباشا ) كان أكثر جاذبية .. إنه رجل مخلص و عاشق حقيقي للفنون المسموعة ، و صوته الهادىء الذي كنت أميزه بصعوبة من موقعي ، كان يحمل أفكارا ً مُبهرة ً للحفاظ على التراث الغنائي من العبث ، و أداء رسالة حفظه لعشاقه و مريديه ، و لأجيال قادمة ، لابد و أنها ستعي يوما ما ، قيمة تلك الكنوز و النوادر ..
بينما جلس الأستاذ عادل بجواري مستمعا و مستمتعا بحديث الباشا ..
وصلنا سريعا كأنما كنا نستقل بساط الريح .. لعله إيقاعي الزمني الخاص ،
الذي تمضي فيه اللحظات الخاصة الرائعة مثل البرق .. حديث الباشا الرصين و الموضوعي ، و الذي يخطط بيقين ، لمستقبل أكثر تألقا ، و تعليقات الأستاذ عادل المرحة و الساخرة ، و شوارع تمر من النافذة سائلة ً إياى .. أتذكرني ؟!
رد: قطرات من مداد قلم الشاعر السمعجي كمال عبد الرحمن
( 6 )
شارع واسع و هادىء .. يقع أمام ( بيتزا هت ) في أول الهرم ، لحظات ،
و سأجد نفسي في مغارة علي بابا ، تلك التي حدثني عنها غازي كثيرا ،
فهناك ما هو أغلى و أثمن من الذهب و المرجان و الياقوت .. هناك اسطوانات نادرة بالمئات .. تحمل تراثا لا تعرفه الميديات .. و جرامافونات
( سينييه ) .. و نوادر لم يطلع عليها إنس و لا جان منذ العشرينيات
كان البواب في استقبالنا ، و تقدَمَنا حتى باب المغارة .. طـَرَقات بسيطة على الباب كانت بالنسبة لي بمثابة ( إفتح يا سمسم ) ..
فتحت لنا الخادمة بلباسها الريفي ، و أشارت لنا بالدخول إلى الصومعة ..
بينما وقف الدكتور محمد الباز بهيئته المهيبة ، و ملامحه التي ذكرتني ب ( بيتهوفن ) في البورتريه الشهير الذي أبدعه الألماني جوزيف كارل شتيلر
إستقبلنا الدكتور الباز بترحيب حار و تلقائي .. و خطونا نحو ( الصومعة ) أو البرج النائي في سماوات الفن .. و بدأتُ أتأمل المكان بمجرد جلوسي ،
بينما مستضيفـُنا ، يضع إحدى نوادره ( اسطوانة ل أسما الكمسارية )
في واحد من الجرامافونات التي احتلت الأركان ..
صالة ( هُول ) واسع ، برز أحد أركانه على شكل محراب ، و قد تدلت من منتصفه مشكاة فضية ، بينما استقرالجرامافون الفخيم في الزاوية المقابلة ، يقابله على استقامته جرامافون آخر ، يمنح شعورا بالسيميترية و التوافق الجمالي ..
و أخذنا نتمايل طربا مع كوكبةٍ من مطربي الزمن الجميل .. بينما الأستاذ الآلاتي يتحدث عن جماليات الإيقاعات و المقامات
أما الدكتور الباز ، فقد بدا و هو يغمض عينيه طربا و نشوة ، أنه
تلاشى من المكان ، و انخطف في عوالم أخرى لا ندري عنها شيئا !!
جاءت جلسته على الكرسي المجاور ، و همس لي الرجل المتيم بالاصالة قائلا : أتعرف ..تلك هوايتي الوحيدة ، فأنا عاشق لأصيل الغناء و قديمه ، و ذائقتي توقفت عند الستينات ..
ذائقة صائبة ، نعم .. الستينات ..ألم يتضاءل الإبداع منذ تلك الحقبة ، حتى وصلنا إلى ما نحن فيه من غثاثة !
__________________
رد: قطرات من مداد قلم الشاعر السمعجي كمال عبد الرحمن
(7)
و أسعدني الحظ بالاطلاع على ذلك الألبوم المتخم بما أعرف و ما لا أعرف من أسماء المطربين القدامى ، و الذي يمثل ( ببلوجرافيا ) تحوي أسماء مقتنيات الدكتور الباز من الأسطوانات .. و أخذت أتأمل أسماء الأغاني و المطربين ، أ َذكر :
عبد اللطيف البنا # يوسف المنيلاوي # عبد الحى حلمي # فوزية المسيري # سكينة حسن # أحمد عبد القادر # عباس البليدي # زينب المنصورية # منتهى الوحيدة # نادرة أمين # بدرية سعادة # رتيبة أحمد # سيدالصفطي# أبو العلا محمد # نرجس المهدية # ودودة بدر# ثرياقدورة # أمينة العراقية # خيرية السقا # فاطمة سري# محمود صبح # مديحة عبد الحليم # نجاة علي # الشيخ محمد سليم # زكي مراد # لور داكاش # سليمان أبو داوود # نعيمة المصرية # شافية أحمد # ليلى حلمي # صالح عبد الحى # منيرة المهدية # أسما الكمسارية # فتحية أحمد # سرينا المصرية
أما أباطرة عرش الغناء و سلاطينه فلهم نصيب الأسد في مقتنيات المغارة و في مقدمتهم محمد عبد الوهاب ..
و كانت متعتي بالغناء عبر بوق الجرامافون الذي يشيع صوتا ً له نكهته الخاصة ، و المداخلات الفنية لأستاذنا الآلاتي ، تكتمل بحواري مع الدكتور الباز ، و التدفق المعلوماتي الهائل للدكتور أسامة ..
إستمعنا إلى اسطوانتين ، أثارتا الضحك و الدهشة معا ، الأولى تحتوي على وصلة ( رَدح ٍ ) ساخنة بين امرأتين ، و أعتقد أنها تعود للعشرينيات ،
و الثانية ( زفة الـ.....)، و أخذ كل منا يدلي برأيه في هاتين الاسطوانتين ..
غير أن د. أسامة القفاش ، أخذ يؤكد بحماس على ضرورة تأصيل مثل هذه الأعمال باعتبارها جزءا من تراثنا ، و تحدَّثَ فيما يشبه ( التنظير ) عن وجوب تجاهل الترفع الزائف ، فيما يخص بعض الألفاظ و الإيحاءات ،التي تعودنا أن ضعها في خانة ( خدش الحياء ) ، و أخذ يضرب أمثلة ً بمُغنين غربيين من عدة دول ، و في حقب زمنية مختلفة .. هذا الرجل ( موسوعة ) تمشي على قدمين !!
كان الحضور قد تشرف ب ( مريم ) إبنة الدكتور الباز ، تلك العصفورة الصغيرة التي جاءت تحلق في عالم ( الخشونة ) ، بمعالمه الرجولية من شوارب و سجائر، و صلعاتٍ لامعة .. و هفت نسائم البراءة الطفولية في محيط المكان ، و هى تحيي ضيوفها ، و تقول في خجل أنها تحب غناء
( فايزة أحمد ) ، فابتهج الجميع ، ومن يدري ، لعل جيلا جديدا في عمر مريم (7سنوات تقريبا ً) ينجح في استرداد ذائقة الفن الأصيل !!
__________________
رد: قطرات من مداد قلم الشاعر السمعجي كمال عبد الرحمن
( 8 )
و انطلق جرس باب ( الصومعة ) ، و جاء الدكتور الباز ، ليبشرنا بقدوم الدكتور راضي .. حامل أختام كنوز السلطنة ، و كبير ياوران الغناء ، و ألقاب أخرى عرفته بها ، كبير الظرفاء .. العمدة ..
تذكرتُ ساعتها ، أولَ موقع تحسستُ خطاىَ نحوه في الغناء ( سواري ) ، و الذي كان يقدم الكثير من تـُحَفِهِ الغنائية تحت مسمي ( إهداء خاص من الدكتور راضي حامد ) .. و أذكر أنني راسلت الأستاذ سامر ( المسئول عن سواري ) لأكثر من مرة ، و حملته أمانة تحياتي لهذا الرجل الذي لا أعرفه سوى من إهداءاته لنوادر الغناء ..
الدكتور راضي .. رجلٌ ذو ( كاريزما ) و حضور طاغ ، نبرات صوته واضحة ، و يتحدث في ثقة و قوة ، و يملك خزائنا من الخبرات الفنية الغنائية و الموسيقية ، حتى التفاصيل الصغيرة ( ما وراء كواليس الفن ) يعرفها.. بما فيها الحالة الإجتماعية و الاقتصادية لكثير من أساطين الغناء و نجومه ..
كنا قد نجحنا في إثناء الدكتور أسامة عن الإنصراف لموعد مهم ، و استبقيناه معنا لنصف ساعة ، إلا أن الموبايل ( المُلِحّ) ، لم يترك لنا أو له
فرصة أخرى ، فانصرف بعد وعد بلقاء في أقرب فرصة ، تاركا ً نفحات
ثقافته ( الحادة ) تعبق في المكان ، مدعومة ً بكيس الفستق الكبير الذي
أفرَغه في ( البونبونيرة ) ، و تركنا ( نتفـستق ) أثناء تحليقنا في سماوات الشدو التي تفتح مداها عبر بوق الجرامافون الفخيم ..
و كأن ( ميكروفونا ) خفيا يتنقل بين الحضور ، قد استقر عند الدكتور راضي .. فتعلقت العيون به ، و هو يتحدث عن حفلات الأوبرا ، ورئيس دار الأوبرا الذي يعرفه شخصيا .. حتى الدكتور ناصر الانصارى ، صاحب الكتاب الشهير( حُكام مصر ) ، و رئيس دار الأوبرا السابق ، هو صديق له ..
وتحدث عن غناء جيل الوسط .. و حفلات الغناء التي تنطلق من الجامعة والتي كان و ما زال يرعاها ....
و شاركه الجميع فرحته بالتخلي عن ( العكاز ) الذي أشار به عليه الطبيب المعالج ، إثر حادث عارض ..
و انطلق الحديث بعد ذلك عن ( الإبَر ) المستخدمة في تشغيل الأسطوانات ،
و شارك في حديث ( الإبر ) الدكتور راضي و الدكتور الباز و الأستاذ الآلاتي و المهندس محمد علي.. و بدا أنهم يعرفون ( أرقامها ) و كفاءتها ، و أين تباع ، كنت مندهشا للغاية لخبرتهم في مثل هذه التفاصيل !
و كان حوار د.راضي مع المهندس محمد علي شيقا للغاية ، و هما يتناولان محمد قنديل اجتماعيا ، فهما يعرفان أسرته ، و بيته ، و حفلاته التي غنى فيها داخل مصر و خارجها .. فكنت بمثابة تلميذ ، يتعلم من أساتذة أخلصوا لهوايتهم .. فإذا تحدث ( الآلاتي ) عن الموسيقي و المقامات ، أصغى الجميع ، و إذا تحدث د. راضي عن ( أصحاب الكار ) ، و ملفاتهم النادرة ، و ملابسات حياتهم اجتماعيا و فنيا ً ، أصغى الجميع ،
أما الدكتور الباز ، فقد أخذ يقص مغامراته التي خاضها و يخوضها ، للحصول على الدرر النادرة ، و هناك شخصية تستحق وقفة طويلة و متأملة ، تحدث عنها الدكتور الباز ( الحاج جرجس ) .. و الذي يستحق أن تـُفرد له صفحات تروي تاريخه الطويل مع مقتنيات نوادر الطرب ..
__________________
رد: قطرات من مداد قلم الشاعر السمعجي كمال عبد الرحمن
( 9 )
و أثناء تلك الحوارات الدافئة ، إتصل الدكتور أدهم عثمان ، و أخذنا نتناوبُ موبايل الأستاذ غازي ، الذي يحمل صوت الدكتور أدهم ، و تحدثتُ معه مغمورا بسعادة لا حد لها ، و ليس في ذهني سوى مداخلاته المتميزة بخفة الدم ، و رشاقة العبارات ، و أشعاره المبهجة .. وأطمئننتُ على صحته ، متمنيا ًله عاجل الشفاء ، و أعربت له عن افتقادي لوجوده بيننا ..
و لم تمض دقائق ، حتى حمل الهاتف تحيات الأستاذ سيد المشاعلي ، و أسفه لعدم الحضور ، و لم يسعدني الحظ بالتحدث إليه ..
و يبدو أن مغارة علي بابا ، قد تضاءلت أمام مغارة الدكتور محمد الباز ،
فالمغارة الأسطورية ( على حَد علمي ) ، لم تحو ِ في سراديبها حماما ً محشوا ً ، و لا كبابا و كفته ، و لا دجاجا مشويا على الفحم ، و لا حتى صنوفا من المحاشي و المشهيات .. كل تلك الأطايب من الطعام ( و يزيد ) ، أتت على شكل جبال مرتفعة ، يغطيها ورق ( الفويل ) الفضي اللامع ، و أخذت موقعها المُقـَدَّرَ لها على السُّفرة الرخامية الكبيرة .. و همس الآلاتي : إيه يا جدعان .. دا احنا لسة ضاربين كوارع و لسان و لحمة راس و مومبار من ساعتين تلاتة
لكن ما فيش مانع برضو ....
تحلقنا حول السفرة البيضاوية ، التي كانت بمثابة ( نقلة نوعية ) بين مكانين ، و طعامين ، يفصل بينهما ساعات قليلة .. فكانتا وليمتان متخمتان بالأطايب ، الأولي لها روح شعبية ، و ضاربة بجذورها في عمق التاريخ
، و الثانية لها فخامة القصور ، و حداثة الحاضر ، و أريحية الملوك ..
و لم يتوقف أبو حسام عن دعاباته ، متغزلا ً في ( الحمام ) رمز السلام..
و لما كانت الشوكة و السكينة بمثابة ( معوق ) في مثل تلك المواقف ، فقد نحاها البعض جانبا ، و أخذ يتفاهم مع ( المحمر و المشمر ) على طريقته الخاصة ..
و انتهينا من الطعام .. وجبتان دسمتان في يوم واحد .. و وجبات دسمة فنية و ثقافية متلاحقة ، تـَترىَ على ألسنة رجال ٍمخلصين و محبين لهوايتهم ..
هواة في مقام متخصصين .. و رنوت نحو الأستاذ غازي ، الذي تغمره الفرحة بهذا الحشد ، فهو الذي يربط كل الخيوط ، و يلم شمل الأحباب ..
إنسان نقي و تلقائي و مرح .. كان قد أخذ يشارك عادل في تصفح الصور ( الهائلة ) التي يقتنيها د. الباز ، للأفلام القديمة ، و اتضحت موهبة الأستاذ عادل في التعرف على أسماء ( الكومبارس ) الذين ارتبطنا بهم وجدانيا ً ، دون أن نسعى للتعرف على أسمائهم .. و قد عرفت منه فيما بعد ، أن لديه مكتبة ضخمة ، تحوي أفلاما ً و مسرحيات ( أبيض و أسود ) ، تكفي لتدشين موقع على النت !
رد: قطرات من مداد قلم الشاعر السمعجي كمال عبد الرحمن
(10)
و حانت لحظة الإنصراف ، فهبطنا من علياء برج الهُيام و التبتل ،
تاركين وراءنا محاولات الدكتور الباز الكريمة لاستبقاءنا ساعة أخرى ، و ذكرى ( تاريخية ) بالنسبة للعبد لله ، و تبادلنا عبارات الحب و المودة الصادقة ، و تنافس الجميع على توصيلي إلى حيث أريد ، بل إن الأستاذ الآلاتي أصر على أن أبيت عنده في القناطر ، فأقسمت له مائة يمين ، أن أصدقائي ينتظرونني على ( المشربية ) ..
أما غازي ، فكان إصراره شديدا ً على استبقائي معه ، فذكرته أني ( صايع قديم ) في شوارع القاهرة التي عشت فيها ردحا ً من الزمن ، و لن أتوه !
و كان الأستاذ عادل هو آخر المودعين ، بعد أن أوصلني إلى المقهى ، حيث كان في انتظاري ( الشـِّلة ) القديمة ، و الذين تنافسوا على طرح الأسئلة حول اللقاء ..فشددتُ نفسا ً عميقا ً من مبسم الشيشة ( السالكة ) ، و سحبتُ رشفة ً من فنجان القهوة السادة ، ثم أخذت أقص عليهم نبأ ( الأحباب ) ، و تفاصيل اليوم التاريخي ، بدءا ً من مصافحة عيني لوجه ( غازي ) ، و انتهاءا ًبقبلاتي ل ( عادل ) !