" البـيـنـما "
فانتازيا واقعية !
نصٌ غير معتاد ، نجح في استدراجنا إلى عالمه ( الميتافيزيقي )
، و رغم وضوح المفارقة الأساسية ،
و اتساع المسافة الذهنية ، بين عالمى الروح و الواقع ،
إلا أن هذا ( التلاحم ) المدهش بينهما ،
و الذي جعل من الحدثِ ، نسيجاً واحداً ، تتفاعل فيه ( الروح المُحَلقة ) ،
مع عالم ( الأرضيين ) ،
جعلت للسردِ ، حَبكته المشوقة الجاذبة ،،
و جعلنا نتلذذ بتلك المفارقة ،
و نلتهم سطور القصة في شغف
القاص ، لم يخاتل القاريء ،
فاستهل نصه بالمحتوى الدِلالي لثنائية
( عالم الواقع / عالم الروح )
" تـََحَلـَّقَ بسقف الغرفة يُحملق فى جسده المسجى ،،،،"
و آلياً ، نجد المتلقي ، يرى من خلال
( الروح البرزخية ) ، فيتمتعُ بخاصيتين :
التحليق ، و الرؤية الثاقبة للنفس البشرية ،،
فتتحققُ المعادلة الحلمية المُلِحة ،
و المستقرةُ في ( العقل الباطن ) لكل بَشـَرِيّ :
التخلصُ من كثافة الجسد ،،،
إدراك ما لا يمكن إدراه بالحواس الخمس ( القاصرة ) !
إذن ، كان هذا الولوج ( المُباغِت ) ،
بمثابة ( إبهار و تسامٍ ) ، و انتزاع ( للقاريءِ ذاتِه ) ،
من طينته الخاضعة لقانون الجاذبية ( البغيض ) ،،
و تلقائياً ، يتبنى القاريءُ ( حالة الروح ) ،
بل يتقمصها ، و ينفعلُ مِن خلالها ،
و يستعيرُ ( رؤية ً ) ثاقبة ً ،
تجعله ( يَعي ) ما في عالمِ ( الأحياء ) مِن ترّهاتٍ و خداع ٍ و منظومة علاقاتٍ زائفة
الروح هنا ، تجاوزت ( الطينة ) الإنفعالية للبشر ،،
و صِرنا نتابعُ العملَ من خلال بُعدينِ ِ ( مرئيٌ ، و لامرئي ) ،،
و فيهما ، نجح كاتبنا في تشريح اللحظة ،
و رصد التفاصيل الصغيرة ، المُحَمَّلة بطاقةٍ إيحائيةٍ دالة ،
مثلاً :
ينتفض السرير و لا يهتز الجسد ،،،
....فذابت في جَلبة الواقفين ،،،
....مأكولة الوجه بنظارة ،،،
و كذا : ( تدير محبساً حول إصبعها ) :
هذه الجملة الدلالية الموجزة ذات التكثيف البارع ،
تم بها ، اختزال شخصية الخطيبة ،
و تركت في نفس القاريء انطباعاً قوياً و حاداً ،،
فالخطيبة ( التي من المفترض بداهة أنها الحبيبة المخلصة المتعلقة بالمتوفي ) ،
لا تنشغل سوى بذاتها ،،
و تتوجس من مستقلبها ،، بعد موتِ ( مشروع الزواج )
و ليس الحبيب ، ( تدير محبسا ) :
إنها تدير أفكارها و تـُقـَلـِّبُها ،
و توشك على نزع ( رمز الرِّباط المقدس ) ،
الذي انتقل أحد طرفيه إلى حيث لا عودة ،،
و عليها أن تجدَ من يسد هذا الفراغ ( الدنيوي ) أو المادي !
و لماذا ( ،،،، منديلاً عَطراً ) ،،
و لم يكن ( منديلاً ) و كفى ؟!
( الخطيبة ُ ) لا تهملُ واحدة ً من مفرداتِ زينتها الأنثوية ،
في موقفٍ لا يحتملُ ( تجَمُّلاً ) !،،
هذا المنديل العطر ، الذي برق معناه كالفلاش ،
ترك إيحاء ً بـِسِمات شخصية الخطيبة ،،
بل و أعماقِها النفسية
( ألم تخبرنا تلك اللمحة ، أن تلك الفتاة : أرضية بامتياز ،
منشغلة بذاتها ( أنانية ) ، لا تهملُ استعراضَ أنوثتها ،
رغم فداحة الحَدَث ) !
تذكرني هذه اللمحة العبقرية ، بمقولة شهيرة لبرنارد شو :
( إن أمرأة ً ازدادت شفتاها احمراراً ، لموتِ زوجها ! )
أما دفن وجهها في المنديل ،
فهو طمس لملامِحها النفسية الغير عابئة
بالقدر المناسب للمصاب الأليم !
تلك تركيبة ،، تم رسمها بدقة متناهية ،
و كأنما ( القاص ) حبس دخان التفاصيل ،
في قمقم الإيحاء !
القاص ، تناول الشخوص ، بضمير الغائب ،
و سرَد الأحداث التي تخص الجانب الواقعي ،
من وجهة نظر محايدة ، و بصوتٍ يعادل ( حيادية ) الكاميرا ،،
و فضـَّلَ أن يتحسس ( إنفعالات ) الروح ،
لنتبنى ( نحن ) تلقائياً ، تلك الإنفعالات :
... إستحالت دهشته إعجابا حين جرب ذلك بذراعه،
ثم كتفه ،،،
... كرر ذلك لاهياً كطفله الذى كانه ،،،،
... تمنى لو أن الجنازة تمر من هناك ،،،،
... ساءه أن يراه في جنازته ،،،
بـِنية الجُملة :
لنتأملَّ مستهلات المقاطع الإنتقالية :
( تحلق ،، إنزوت ،، ،، دخل ،، تسلل ،، وجد ،، إحتواه ،، ساءَهُ ،، )
فالفعل الماضي باعتباره أحد عناصر السياق اللغوي ، و يعبر عن حدث + زمن ،، يؤكد على اضطراد المشهد ، في حيز الزمن ، و يصنع نمطاً بنائياً ، يقوم على تعاقب الحدث ، و تحركه ..
بعكس الجملة الإسمية ، التي لا تتحرك في فضاءٍ زمني ، و يَغلب فيها ( الوصفي و التأملي ) على ( الدينامي ) ،، إلا أن كاتبنا ، لم يغفل العنصر ( الوصفي ) ، متجاوزاً شرِكَ ( الأفكار التجريدية )
التي قد تفرضها عليه ، هذه الحالة الميتافيزيقية ،
و اضطرادُ الحَدَث ،، يدفع إلى التشويق ، و التحفز للتعرف على الحدث التالي ، و قد أضاف الكاتب عنصر المتعة ( البصرية ) ، بالإشارة إلى إمكانيات الروح المحلقة ، مستنفراً فينا تهويمات ( الطفولة ) التي لم تغادرنا : فهو ( الروح ) يمرق من دائرة حرف الميم :
( تسلل عبر " ميم " المغسلة )
،، يشطح بنا شطحة ميتافيزيقية ، تستهوي نزعتنا الطفولية و الحلمية ،، فالروح هي عيوننا التي نرى بها ،، و التبستنا حالة من التشويق و الجذب
شرطُ ( المتعة ) يتحقق بجدارة ، فتلك الحالة الحلمية ، تتنفس في عقلنا الباطن :
لكنه رأى إصبعه يخترق الحائط ، إستحالت دهشته إعجابا حين جرب ذلك بذراعه، ثم كتفه ..... )
الكاتب هنا ، يخرق الحائط ( الثالث ) في السرد ( إن جاز التعبير ) ،
و يطلق العنان لخيال لا يخضع لمنطق الرؤية الواقعية ،، فالذات الخالصة ، تحررت من الجسد الثقيل ، و صرنا مُمَهَّدين لتوقعاتٍ لا متناهية ،،
وَمَضــات :
ـ ( بينما ) ظرف زمان ، و يأتي بمعنى ( وقوع الحدث فجأة ً ) ، و دخول ( ال ) التعريف عليه ، بمثابة استيلاد لفظٍ ( دال ) ، يقصد به الكاتب ( تعريف أو توصيف أو رصد حالة بين حالتين ) ،
و ما الحالة ، إلا لحظة الإنعتاق من الجسد ، و بقاء الروح معلقة ً بين أرض ( البغض ) و سماء الخلاص !
ـ القاص ، يرصد حالة ال ( بينما) ، مسكوناً بهاجس الموت ،،، في سرديةٍ لا تخلو من شاعرية :
" راح يتفرس ذلك المشهد من علٍ ولذة ألم الإنعتاق من كثافة بدنه تغمره بهدأة أبدية "
" هام سابحاً فوقهم يتأمل ،،، "
ـ نستطيع أن نلمس المستوى البنائي للزمان والمكان بوضوح ،، فكأنما توزعا بالقسطاس ،، و المهارة و التميز في القصة القصيرة ، هو الحدث الكثيف في حيز زمني قصير ،،
ـ النص من أوله ،، ينتج نفس الأثر الإنفعالي ،، فلا يتقافز بين انفعالاتٍ متفاوتة التأثير
ـ الفاصل بين عقل المتلقي ، و هذا النص ، يكاد ينعدم ، لعدم طرح النص لإشكالية ، تستدعي وجهة نظر القاريء ، فما السرد هنا ، سوى كاميرا ترصد الحَدَث بحيادية باردة
ـ استطاع كاتبنا ، أن يتقمص حالة الروح المنعتقة ،و إشاعة تلك الحالة الطفولية التي تحلم بتجاوز فيزيقا الجسد
ـ لم يسهب القاص ، في تحليل عواطف الشخوص ، بل دلَّ عليها بإشاراتٍ خاطفة ، و ومضات مكثفة ، داخل مواقف تتداعى في لـُحمَةٍ واحدة
توقعي لانحياز ٍ تلقائي من القاريء ، لحالة ( البينما ) ، يعود إلى مهارة القاص الذي يسيطر على الحالة الإبداعية ، و يجعل من قارئه عنصراً حيوياً في العملية الإبداعية ذاتها ،، بمداعبةِ نزعته الحلمية للتحليق و الانعتاق من الجسد ، و التباس حالة ( الكشف ) كما عند المتصوفة ،،
و العملية الإبداعية في إحدى تجلياتِها ، هي خلقُ عالمٍ موازٍ ، يتجاوزُ الإدراكَ الحِسِيَّ المباشر ، و حالة الذهنية الإعتيادية ، إلى ( نَسَق ٍ ) من الإيهامِ الخـَلاَّق ، نتجاوز بها ( ظاهر الأشياء ) ، إلى جوهرها !
و هو ( بالضبط ) ، ما فعله القاص سيد أبو زهدة
__________________
شاء اللي شاء ،، و اللي داء ،، مِـن وَردِة الشـِّفة
نـَـهَـل نـبـيـذ لاِشـْـتِيـاء ،، نهـــرِين ،، و لـَم كـَـفـَّىَ
شـَـهَـقْ شـُعاع خِصرَهَا ،، سَرْسِـب نـَدَى مَصْهـور
وِ فْ كلّ سَـرسوب شُـعاع ،، مَـلايكة مُصْـطـَـفـَّــة
يا تـراب و مخلوط بماء ،، إزاى غـَوِيـت النـُّـــور
يـِفـُــــــــــور علـى سِحــرَها ،، و فِــيها يـِتخـَـفـَّـىَ
كمال