وردة الجزائرية

[عبد القادر رشيد مسلماني]

وردة الجزائرية تربعت على عرش الغناء العربي في السبعينيات
الياس سحاب/مجلة دبي الثقافية/العدد: 85
أغصان الشجرة الذهبية للغناء العربي الكلاسيكي في النصف الثاني من القرن العشرين تتساقط غصناً وراء الآخر، فقد فوجئ الوطن العربي كله بنبأ الرحيل المفاجئ للمطربة الكبيرة وردة الجزائرية في منزلها بالقاهرة مساء الخميس 17-5-2012. لم تظهر في السنوات الأولى من حياة وردة علامات بارزة تشير إلى أنها ستتبوأ، عندما تكبر، موقعاً بارزاً في الأصوات النسائية على عرش الغناء العربي الكلاسيكي، سوى بداية تعلق الطفلة المبكر بأغنيات أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب، وكل ما كان شائعاً من غناء رفيع في نهاية النصف الأول من القرن العشرين وبداية النصف الثاني.

ولدت الفنانة وردة في العاصمة الفرنسية باريس لأب جزائري من أسرة فتوكي وأم لبنانية من أسرة يموت وهي أسرة بيروتية عريقة معروفة بأصوات المشايخ المميزة في تلاوة القرآن الكريم والإنشاد الديني. ويبدو أن والد وردة قد انخرط مبكراً في صفوف جبهة التحرير الجزائرية، لكنه أنشأ غطاء لذلك مقهى عربياً في باريس (حمل اسم تام تام)، في بولفار سان ميشال، بالدائرة الباريسية الخامسة. لكن السلطات الفرنسية ما لبثت في منتصف الخمسينيات أن تنبهت إلى الانتماءات السياسية للوالد فأمرت بطرد الأسرة من الأراضي الفرنسية، فعادت مؤقتاً إلى بيروت.

في بيروت بدأت مواهب وردة الغنائية تظهر فراحت تتردد على إذاعتي بيروت ودمشق، حيث حصلت على بضعة ألحان من أكثر من ملحن لعل أهمهم الفنان محمد محسن. وكان غريباً أن تظهر في تلك الفترة المبكرة أسطوانة صغيرة لوردة (45 لفة) سجلت عليها بصوتها لحن رياض السنباطي العظيم لأم كلثوم «ياظالمني»، بإلقاء يلفت النظر والسمع.

لكن ظروفاً ما، لعلها رغبة الوالد في إفساح المجال الأوسع أمام ابنته الموهوبة غنائياً، قضت بانتقال العائلة إلى القاهرة، مركز هجرة طلاب الشهرة من أصحاب وصاحبات الأصوات الجميلة من المغرب العربي والمشرق العربي. هناك دخلت وردة الشهرة من أوسع أبوابها فاختارها الموسيقار محمد عبد الوهاب (بناء على طلب من الرئيس عبد الناصر كما يقال) في العام 1958 لتشارك عبد الحليم حافظ وفايزة أحمد ونجاة الصغيرة وشادية وصباح وفايدة كامل غناء مقطع في النشيد الجماعي الشهير «الوطن الأكبر»، وهو المقطع الذي يتغنى بالثورة الجزائرية.

جدير بالذكر أن عبدالوهاب عاد فاختارها في نشيدين جماعيين آخرين هما «الجيل الصاعد» و«صوت الجماهير». تنبه للصوت القوي والجميل والحيوي كبار الملحنين في القاهرة فأبدع لها الموسيقار رياض السنباطي لحن أغنيتها الشهيرة والرائعة «يا لعبة الأيام» ثم أتبعها بلحن رائع آخر «حقولك حاجة اسمعها».

فإذا بأبواب الشهرة تنفتح على مصاريعها في عاصمة الفن العربي أمام النجمة الشابة الجديدة، فاختارها المنتج والمخرج حلمي رفلة لدور البطولة النسائية أمام المطرب عادل مأمون في فيلم «ألمظ وعبده الحامولي». في هذا الفيلم حصلت الفنانة الناشئة يومها على ثلاثة ألحان دفعة واحدة من مشاهير التلحين في مصر، فلحن لها عبدالوهاب أغنيتها الشهيرة «اسأل دموع عيني»، ولحن لها فريد الأطرش واحداً من أروع ألحانه «روحي وروحك»، وكانت بدايتها الأولى أيضاً مع بليغ حمدي في لحن «يا نخلتين في العلالي» (المأخوة عن اللحن الفولكلوري الشهير).

غير أن حبل الشهرة العريضة هذا ما لبث أن انقطع في العام 1967، حين سافرت وردة للجزائر للزواج من دبلوماسي جزائري، قرر منعها تماماً من الغناء. لكن ذلك الوضع لم يستمر أكثر من العام 1972، عندما أمر الرئيس هواري بومدين بعودة وردة للغناء في مناسبة وطنية جزائرية، فما كان من زوجها إلا الامتثال للأمر الواقع، لكنه طلق زوجته الفنانة، التي رأت الفرصة سانحة أمامها لمواصلة سيرة النجاح الكبير في القاهرة، شهدت هذه العودة محطة رئيسية وطويلة في الحياة الفنية والشخصية للفنانة الكبيرة وردة، حيث سرعان ما ارتبطت بقصة حب وزواج بالملحن الموهوب بليغ حمدي، الذي كانت هدية الزواج بالنسبة له لحن أغنية وردة الرائع «العيون السود»، الذي كان فاتحة تعاون طويل، زاخر بالألحان التي عرفت كلها شهرة جماهيرية واسعة للمسرح، كما في الأفلام.

لكن الزواج بين وردة وبليغ لم يمنع أياً من الفنانين الكبيرين من التعامل مع فنانين آخرين، وكان في ذلك خدمة كبيرة لتطور الأغنية العربية في النصف الثاني من القرن العشرين. وإذا كان اللقاء الفني بين وردة وبليغ شكل إحدى أهم المحطات في حياة وردة الفنية، فإنها عرفت بعد ذلك أكثر من محطة هامة في حياتها الفنية، مع محمد عبدالوهاب وسيد مكاوي. فبعد أن وضع لها عبدالوهاب في أحد أفلامها لحن أغنيتها الشهيرة والجميلة «لولا الملامة»، عاد فدخل معها في مرحلة «الثلاثية الكبيرة: التي كان يزودها فيها عبد الوهاب بروائع من الألحان الطويلة لحفلاتها المسرحية الحية، فكانت البداية مع إحدى أشهر وأجمل أغنيات وردة «في يوم وليلة»، ثم لحن «أنده عليك» بالغ الروعة، وكان الختام مع اللحن الجميل «بعمري كله حبيتك». وكانت وردة في أحاديثها التلفزيونية تكرر اعتزازاً خاصاً بتعاملها مع الموسيقار الكبير محمد عبدالوهاب، الذي كان يفرض عليها طقوساً في معيشتها اليومية قبل يوم التسجيل. اللقاء الثاني الكبير، خارج محطة بليغ حمدي، كان مع الشيخ سيد مكاوي، الذي ما أن بدأ يقطف حلاوة وصوله إلى صوت أم كلثوم بلحن «يا مسهرني»، فيضع لها لحناً ثانياً «أوقاتي بتحلو»، حتى رحلت أم كلثوم عن الدنيا، وبدأ سيد مكاوي يداوي صدمته بالبحث عن صوت كبير يغني ما كان يفترض أن يكون لحنه الثاني لأم كلثوم.

وبعد محاولة فاشلة مع فيروز، كان لي شرف لعب دور الوسيط فيها، وقع اختيار سيد مكاوي على صوت وردة. ولم تكن «أوقاتي بتحلو» أول لحن التقى فيه بصوت وردة فقط، لكنه كان فاتحة تعاون طويل بينهما، شهد عدداً وافراً من الألحان التي انتشرت جماهيرياً كانتشار النار في الهشيم، مثل شعوري ناحيتك، وقلبي سعيد، والأيام الحلوة وسواها.

ومع أن لقاء صوت وردة الكبير مع ألحان الرائع محمد الموجي كان شحيحاً، إلا أنه تكفي الإشارة هنا إلى الأغنية الجميلة الشهيرة «أكذب عليك» وأغنية «مستحيل» الرائعة. طبعاً، بعد رحيل كل الملحنين الكبار الذين تعاونوا مع وردة كان صوتها الكبير قد دخل، كما تقضي قوانين الطبيعة، مرحلة الاقتراب من الشيخوخة فلم يعد باستطاعتها أداء الألحان الكبيرة التي اشتهرت بها، حتى لو وجدت الملحن الذي يزودها بها.

فما كان من ذكائها الفني، وتمسكها الشديد باستمرار ظهورها على المسرح حتى آخر يوم في حياتها، كما كانت تكرر دائماً، إلا أن هداها لتختار في نهاية المطاف الملحن الموهوب صلاح الشرنوبي، الذي كانت فاتحة تعاونه مع وردة اللحن الشهير «بتونّس بيك»، ثم تلاه بعد ذلك ألحان عديدة من أجملها «حرمت أحبك» و«جرب نار الغيرة». وقد بلغ تشبث وردة وعنادها باستمرار ظهورها على المسرح، رغم تراجع صوتها عن مرحلته الذهبية، أن اختارت مؤخراً لحناً من الملحن اللبناني الشاب مروان خوري، لعله كان آخر ما سجلت في حياتها، إضافة إلى الأغنية الوطنية «مازلنا واقفين» التي كانت تعدها لأعياد الجزائر الوطنية.

تاريخ الغناء العربي في النصف الثاني من القرن العشرين، لا يمكن أن يكتب، إلا ويتبوأ فيه اسم الفنانة الكبيرة وردة موقعاً بارزاً بين أجمل وأشهر الأصوات النسائية الكبيرة.