صبري مدلل

[براء السيد]

صبري مدلل
ولد صبري مدلل في عام 1918، في حي المشارقة العريق بمدينة حلب .. وكان والده متدينا، يأخذه معه الى المساجد ويحضره حفلات الاوراد والاذكار والاناشيد الدينية، وفي مطلع الثلاثينيات، اخذه والده الى الشيخ احمد المصري، ليعلمه امور دينه ويحفظه القرآن الكريم والخط ومسك الدوبيا، واكتشف الشيخ فيه جمال الصوت وهو يرتل سور القرآن، فكرمه بان يؤذن لصلاة الظهر من فوق المئذنة الصغيرة، صعد الولد صبري الى مئذنة الجامع وراح يترنم بالاذان، وهكذا صار يفعل كل يوم .. وكان ينظر الى الاسفل ويرى الناس يجتمعون حول المسجد، ينصتون الى حلاوة صوته، ويقرر الشيخ احمد المصري بعد ذلك ان يعلم القاريء المجود صبري مدلل (الغناء) وهو امر لم يكن بالهين ضمن نطاق مفاهيم تلك الايام،


وكان عمر البطش قد اصاب شهرة كبيرة بين معاصريه من الملحنين والمغنين، ويعطي اهمية كبيرة للتراث، اسمعه صبري مدلل بعض ماحفظ من الليالي، فسر بجمال صوته وقبله طالبا نظاميا في الغناء، وهو موشح «كحل السحر عيوننا» فحفظه وغناه واجاد فيه، ثم راح يعلمه فن اداء الموشحات، وعلوم المقامات والاوزان والضروب، الى ان اتقن كل ذلك، وفي اثناء ذلك تعلم العزف على العود وعلى عدد من الآلات الاخرى، ولكنه آثر الضرب على الات الايقاع المختلفة، وبرع في الدف خاصة، كأستاذه، وبعد سنة من تعليم الغناء لصبري مدلل، قال له عمر البطش: لن آخذ منك (وظيفة) بعد اليوم، وهي اجرة الدرس الخصوصي، ولك مستقبل يا ولدي، سوف آخذك واعلمك، وهكذا صار يأخذه معه الى الحفلات وصار صبري يغني، واستاذه وراده على الرق، ثم صار التلميذ يمسك الحفلات، ويأخذ عليها خمس ليرات وظيفة، ويعطي عمر البطش منها ليرتين، ويأخذ الباقي. واصبحت شهرة المغني الجديد تملأ كل مدينة حلب .. الى ان تم افتتاح الاذاعة .. وبدأت بوادر الحرب العالمية الثانية تلوح بالافق.


اخذ عمر ا لبطش تلميذه النجيب الى مدير الاذاعة في حلب، اسمعه موشحا فسر المدير وطلب منه ان يداوم ابتداء من مساء الغد، وكذلك توظف عمر البطش وكثير من الفنانين الحلبيين، يقدمون وصلة كل اسبوع، يعود ريعها الى الحاج عمر البطش.


وقد عمل جميع الفنانين في تلك الفترة بروح فنية عالية وبعيدة عن الروح التجارية، كان كل واحد منهم ينتظر وصلته الفنية في الاذاعة الحلبية التي انشأها الفرنسيون بروح متوثبة، وتحفز مشوب بالقلق، خوفا من الفشل، وكان الخطأ يعني نهاية الفنان ونهاية الفرقة الموسيقية التي يعمل فيها. وقد عمل عمر البطش وفرقته في حلب على احياء التراث بما فيه من موشحات وقدود ونوبات، وكان مغني الفرقة الشاب صبري مدلل.


وقد احتج صبري مدلل لمدير الاذاعة، فهو لا يأخذ سوى راتبه من الاذاعة، بينما يأخذ غيره اربعون ليرة عن كل حفلة .. فاخبره المدير بأن ذلك يحتاج الى قرار من المدير العام بدمشق، فحمل نفسه الى دمشق، وفحصته لجنة، تتكون من الفنانين: رفيق شكري، ويوسف بتروني، وعمر نقشبندي، وغيرهم، وقد اسمعهم صبري على انغام الرصد، ثم باشر الليالي، واطربهم بموشح (العذارى المائسات) وكان يغير النغمات ويطلع وينزل، فاعجبوا بادائه، وسلمه المدير كتابا رسميا يباشر فيه الحفلات في الاذاعة وغيرها .. وراح اسمه يظهر في اعلانات المجلات.


وقد حضر والده المتدين الورع مرة الى مبنى الاذاعة وشاهده بين الفنانات، فأخبره بانه غير راض عن هذه المهنة لولده .. ومن يومها ترك صبري مدلل الاذاعة ملبيا رغبة والده لينصرف الى تأسيس الفرق الدينية، التي راحت تعمل في البلد مدائح نبوية لا غير، من اجل رضى الوالد، كما يقول صبري مدلل، وكان يتمنى لو انه تابع طريق غناء الاذاعة، ولكن ذلك مسجل بكتاب، واصبحت الفرقة من احسن الفرق بحلب .. وكانت ا لمجلة تسجل له ولفرقته ثلاثين حفلة في الشهر. بعد ذلك سمعه احد الفرنسيين ويدعى كريستيان بوخه، وكان ذلك في مسجد الكلتاوية عند الشيخ النبهاني وطلب منه ان يذهب الى فرنسا مع فرقته.


فذهب واحيا حفلتين او ثلاث (لا يتذكر) وقد سر الفرنسيون من ادائهم وكانوا يطلبون منهم الاعادة في كل مرة ينتهون منها من نشيد «احمد يا حبيبي» وقد سجلت له اسطوانة طبعت باسمه في فرنسا ولم تستخدم الفرقة في هذه الحفلة سوى الدفوف من الآلات الموسيقية.


ثم تأتيه الدعوات من هونج كونج والمانيا والمغرب وتونس ومصر واليونان وقد التقى مع عازف العود الشهير منير بشير مرتين، مرة في اليونان ومرة في القاهرة وقال له في ا لقاهرة: اهلين بالصوت الحلو، بعد ان اخذه بين يديه وقبله ولا تزال الكلمة في اذني، كما يقول الشيخ صبري مدلل وغنى له: « يا عاقدا للحاجبين/ تحت الجيبين كاللجين/ قتلت غيري مرة/ اما لي فمرتين.


اما عن كثرة المغنين والعازفين في حلب، فيقول الشيخ صبري مدلل «هذا يعود الى كثرة الزوايا التي تنشد فيها الاوراد والاذكار والمدائح.


ويلخص صبري مدلل تجربته وشهرته، وبحسرة وتنهيد، ويقول: لقد جاء كل هذا متأخرا، للاسف تأخر كثيرا.


ومن الجدير بالذكر ان المخرج محمد ملص صور فيلما وثائقيا عن الفنان، آخر شيوخ الطرب صبري مدلل لصالح احدى القنوات الفرنسية.

[براء السيد]

ولد صبري مدلل في عام 1918، في حي المشارقة العريق بمدينة حلب .. وكان والده متدينا، يأخذه معه الى المساجد ويحضره حفلات الاوراد والاذكار والاناشيد الدينية، وفي مطلع الثلاثينيات، اخذه والده الى الشيخ احمد المصري، ليعلمه امور دينه ويحفظه القرآن الكريم والخط ومسك الدوبيا، واكتشف الشيخ فيه جمال الصوت وهو يرتل سور القرآن، فكرمه بان يؤذن لصلاة الظهر من فوق المئذنة الصغيرة، صعد الولد صبري الى مئذنة الجامع وراح يترنم بالاذان، وهكذا صار يفعل كل يوم .. وكان ينظر الى الاسفل ويرى الناس يجتمعون حول المسجد، ينصتون الى حلاوة صوته، ويقرر الشيخ احمد المصري بعد ذلك ان يعلم القاريء المجود صبري مدلل (الغناء) وهو امر لم يكن بالهين ضمن نطاق مفاهيم تلك الايام،
وكان عمر البطش قد اصاب شهرة كبيرة بين معاصريه من الملحنين والمغنين، ويعطي اهمية كبيرة للتراث، اسمعه صبري مدلل بعض ماحفظ من الليالي، فسر بجمال صوته وقبله طالبا نظاميا في الغناء، وهو موشح «كحل السحر عيوننا» فحفظه وغناه واجاد فيه، ثم راح يعلمه فن اداء الموشحات، وعلوم المقامات والاوزان والضروب، الى ان اتقن كل ذلك، وفي اثناء ذلك تعلم العزف على العود وعلى عدد من الآلات الاخرى، ولكنه آثر الضرب على الات الايقاع المختلفة، وبرع في الدف خاصة، كأستاذه، وبعد سنة من تعليم الغناء لصبري مدلل، قال له عمر البطش: لن آخذ منك (وظيفة) بعد اليوم، وهي اجرة الدرس الخصوصي، ولك مستقبل يا ولدي، سوف آخذك واعلمك، وهكذا صار يأخذه معه الى الحفلات وصار صبري يغني، واستاذه وراده على الرق، ثم صار التلميذ يمسك الحفلات، ويأخذ عليها خمس ليرات وظيفة، ويعطي عمر البطش منها ليرتين، ويأخذ الباقي. واصبحت شهرة المغني الجديد تملأ كل مدينة حلب .. الى ان تم افتتاح الاذاعة .. وبدأت بوادر الحرب العالمية الثانية تلوح بالافق.
اخذ عمر ا لبطش تلميذه النجيب الى مدير الاذاعة في حلب، اسمعه موشحا فسر المدير وطلب منه ان يداوم ابتداء من مساء الغد، وكذلك توظف عمر البطش وكثير من الفنانين الحلبيين، يقدمون وصلة كل اسبوع، يعود ريعها الى الحاج عمر البطش.
وقد عمل جميع الفنانين في تلك الفترة بروح فنية عالية وبعيدة عن الروح التجارية، كان كل واحد منهم ينتظر وصلته الفنية في الاذاعة الحلبية التي انشأها الفرنسيون بروح متوثبة، وتحفز مشوب بالقلق، خوفا من الفشل، وكان الخطأ يعني نهاية الفنان ونهاية الفرقة الموسيقية التي يعمل فيها. وقد عمل عمر البطش وفرقته في حلب على احياء التراث بما فيه من موشحات وقدود ونوبات، وكان مغني الفرقة الشاب صبري مدلل.
وقد احتج صبري مدلل لمدير الاذاعة، فهو لا يأخذ سوى راتبه من الاذاعة، بينما يأخذ غيره اربعون ليرة عن كل حفلة .. فاخبره المدير بأن ذلك يحتاج الى قرار من المدير العام بدمشق، فحمل نفسه الى دمشق، وفحصته لجنة، تتكون من الفنانين: رفيق شكري، ويوسف بتروني، وعمر نقشبندي، وغيرهم، وقد اسمعهم صبري على انغام الرصد، ثم باشر الليالي، واطربهم بموشح (العذارى المائسات) وكان يغير النغمات ويطلع وينزل، فاعجبوا بادائه، وسلمه المدير كتابا رسميا يباشر فيه الحفلات في الاذاعة وغيرها .. وراح اسمه يظهر في اعلانات المجلات.
وقد حضر والده المتدين الورع مرة الى مبنى الاذاعة وشاهده بين الفنانات، فأخبره بانه غير راض عن هذه المهنة لولده .. ومن يومها ترك صبري مدلل الاذاعة ملبيا رغبة والده لينصرف الى تأسيس الفرق الدينية، التي راحت تعمل في البلد مدائح نبوية لا غير، من اجل رضى الوالد، كما يقول صبري مدلل، وكان يتمنى لو انه تابع طريق غناء الاذاعة، ولكن ذلك مسجل بكتاب، واصبحت الفرقة من احسن الفرق بحلب .. وكانت ا لمجلة تسجل له ولفرقته ثلاثين حفلة في الشهر. بعد ذلك سمعه احد الفرنسيين ويدعى كريستيان بوخه، وكان ذلك في مسجد الكلتاوية عند الشيخ النبهاني وطلب منه ان يذهب الى فرنسا مع فرقته.
فذهب واحيا حفلتين او ثلاث (لا يتذكر) وقد سر الفرنسيون من ادائهم وكانوا يطلبون منهم الاعادة في كل مرة ينتهون منها من نشيد «احمد يا حبيبي» وقد سجلت له اسطوانة طبعت باسمه في فرنسا ولم تستخدم الفرقة في هذه الحفلة سوى الدفوف من الآلات الموسيقية.
ثم تأتيه الدعوات من هونج كونج والمانيا والمغرب وتونس ومصر واليونان وقد التقى مع عازف العود الشهير منير بشير مرتين، مرة في اليونان ومرة في القاهرة وقال له في ا لقاهرة: اهلين بالصوت الحلو، بعد ان اخذه بين يديه وقبله ولا تزال الكلمة في اذني، كما يقول الشيخ صبري مدلل وغنى له: « يا عاقدا للحاجبين/ تحت الجيبين كاللجين/ قتلت غيري مرة/ اما لي فمرتين.
اما عن كثرة المغنين والعازفين في حلب، فيقول الشيخ صبري مدلل «هذا يعود الى كثرة الزوايا التي تنشد فيها الاوراد والاذكار والمدائح.
ويلخص صبري مدلل تجربته وشهرته، وبحسرة وتنهيد، ويقول: لقد جاء كل هذا متأخرا، للاسف تأخر كثيرا.
ومن الجدير بالذكر ان المخرج محمد ملص صور فيلما وثائقيا عن الفنان، آخر شيوخ الطرب صبري مدلل لصالح احدى القنوات الفرنسية.