* : الفنان الراحل صالح الحريبي 1945-2016 (الكاتـب : بو بشار - آخر مشاركة : shokri - - الوقت: 17h28 - التاريخ: 27/04/2024)           »          20 يونيو 1963م دار سينما قصر النيل (( حسيبك للزمن _ حيرت قلبي معاك )) (الكاتـب : مروان ٱشنيوال - آخر مشاركة : ابوملاك - - الوقت: 17h22 - التاريخ: 27/04/2024)           »          الفنان عبدالمجيد حقيق (الكاتـب : abuaseem - - الوقت: 14h29 - التاريخ: 27/04/2024)           »          عبدالمجيد حقيق ملحن و مطرب من ليبيا (الكاتـب : abuaseem - - الوقت: 14h29 - التاريخ: 27/04/2024)           »          فى يوم .. فى شهر .. فى سنة (الكاتـب : د.حسن - آخر مشاركة : حازم فودة - - الوقت: 03h52 - التاريخ: 27/04/2024)           »          جوزيف عازار (الكاتـب : اسامة عبد الحميد - آخر مشاركة : نور عسكر - - الوقت: 00h03 - التاريخ: 27/04/2024)           »          عبد اللطيف حويل (الكاتـب : abuaseem - آخر مشاركة : محمود نديم فتحي - - الوقت: 23h09 - التاريخ: 26/04/2024)           »          مُحيي الدين بعيون (الكاتـب : sol - آخر مشاركة : الكرملي - - الوقت: 21h45 - التاريخ: 26/04/2024)           »          نوت الأستاذ الهائف (الكاتـب : الهائف - - الوقت: 21h36 - التاريخ: 26/04/2024)           »          هدى سلطان- 15 أغسطس 1925 - 5 مايو 2006 (الكاتـب : Talab - آخر مشاركة : ديمتري ميشال مل - - الوقت: 17h36 - التاريخ: 26/04/2024)


العودة   منتدى سماعي للطرب العربي الأصيل > صالون سماعي > ملتقى الشعر و الأدب > نتاج الأعضاء .. القصص والروايات

رد
 
أدوات الموضوع طرق مشاهدة الموضوع
  #41  
قديم 01/12/2008, 11h09
الصورة الرمزية د أنس البن
د أنس البن د أنس البن غير متصل  
نهـر العطاء
رقم العضوية:688
 
تاريخ التسجيل: mars 2006
الجنسية: مصرية
الإقامة: مصر
المشاركات: 8,297
افتراضي رد: عالـم قـريش ـ السـيرة الشافعـيه ـ أنس البن

فتح عينيه ليبصر خاله "على" جالسا على ركبتيه إلى جواره ينظر إليه باسما .. أخذ يحرك عينيه ويهز رأسه حتى يفيق من نعاسه متسائلا فى دهشه .....
ــ من .. خالى على ؟. معذرة . لم أدر ما حدث لى .. شعرت بدوار شديد والأرض تميد بى أسفل منى .. بعدها أخذتنى سنة من النوم .. لكن الحمد لله .. أنا الآن أحسن حالا ..
رد خاله ضاحكا .....
ــ ماذا تقول يا ابن إدريس !. سنة من النوم !. تقول سنة من النوم .. إنك كنت مستغرقا فى سبات عميق .. كأن فراش النوم خاصمك زمنا ..
أجاب وهو يجذب نفسا عميقا .....
ــ آه يا خال .. لعلك على حق .. لكنى رأيت فى تلك النومة ما شرح صدرى .. وأزال عنى هما كان جاثما على صدرى ..
ــ هم ؟!. أية هموم تلك التى تتحدث عنها .. أين أنت منها يا فتى ؟!.
حكى له الشافعى ما كان من أمر الأصمعى معه قبل أن يغلبه النعاس .. ثم أردف قائلا .....
فلما نمت .. رأيت فيما يرى النائم أنى أصلى صلاة الجماعة فى ساحة الحرم .. هناك إلى جوار المقام ......
وأشار إليه بيمناه .. ثم أردف متمما ....
ــ وأنا أنظر تجاه القبله .. رأيت رجلا لم أره من قبل .. لا أعرفه .. لكن يبدو من ملامح وجهه أنه من أهل مكه .. له مهابه .. وعلى صفحة وجهه سمات أهل التقوى والوقار .. تقدم وصلى بالناس إماما .. حتى إذا فرغ المصلون من صلاتهم .. أقبل الشيخ على الناس يعلمهم ....
ــ هيييييه .. وماذا بعد يا فتى ؟.
ــ دنوت منه وقلت له .... هل لك أن علمنى أيها الشيخ مما علمت رشدا .. لكنه حدجنى بنظرة فاحصة ولم يجبنى .. جلست مكانى لا أفتح فمى وأنا فى عجب من أمره .. إلا أنه فاجأنى بشئ عجيب ......
إستحثه خاله فى لهفة .....
ــ ماذا فعل ؟!.
ــ مد يده فى كمه وأخرج ميزانا .. ناوله لى وقال ..... أيها الفتى القرشى .. خذ .. إليك هذا الميزان .. إنه لك .. ثم مسح بيده على رأسى واختفى .. ثم صحوت من نومى لأراك جالسا أمامى تمسح بيدك على جبهتى ..
سأله على بعد أن مرت لحظات من الصمت كان ذهنه فيها شاردا ....
ــ هل تتذكر أوصاف هذا الشيخ الذى صلى بكم إماما وناولك الميزان ؟.
ــ نعم يا خال .. أتذكره جيدا .. مع أنها أول مرة ألقاه .. إن هيئته لم تفارق خيالى مذ وقعت عينى عليه فى المنام .. وكأنها محفورة فى رأسى .. إنه رجل نحيل فى حوالى الخمسين من عمره .. له لحية طويله .. وتحت عينه اليمنى شامة سوداء .. وتحيط بوجهه هالة من النور ..
إنتفض على واقفا كاللديغ وهو يقول .....
ــ أواثق مما تقول ؟!. تلك أوصافه حقا ؟!.. إن هذا شأن عجيب ..
لم يكد الشافعى يجيبه مؤكدا له القول .. حتى قال له فى عجلة وهو يشده من يده ....
ــ إذن .. هيا بنا ..
ــ إذن هيا بنا ..
سأله الشافعى مستغربا ....
ــ إلى أين ؟!.
ــ قلت لك هيا بنا .. بعد قليل تعرف كل شئ ..
وانطلقا ............................

يتبع إن شاء الله ................................
__________________
إذا ما الطائر الصداح قد هدهده اللحن
ورفت نسمة الفجر على أشجانه تحنو
هناك السحر والأحلام والألحان والفن
نجيب سرور
رد مع اقتباس
  #42  
قديم 03/12/2008, 08h29
الصورة الرمزية د أنس البن
د أنس البن د أنس البن غير متصل  
نهـر العطاء
رقم العضوية:688
 
تاريخ التسجيل: mars 2006
الجنسية: مصرية
الإقامة: مصر
المشاركات: 8,297
افتراضي


دار الخلافه


........ فى الوقت الذى كان الشافعى يكابد فى مكة أحداثا وتقلبات .. تدفعه شيئا فشيئا إلى الطريق الذى رسمته الأقدار له .. ليكون أحد الأئمة العظام وعالم قريش المنتظر .. كانت أحداثا أخرى تجرى فى دار الخلافة فى بغداد .. مرت فيها سبع سنوات على أمير المؤمنين محمد المهدى خليفة للمسلمين .. ومذ تولى الخلافة وهو يتخذ نهجا مغايرا لوالده الخليفة الراحل .. فبينما كان المنصور مهموما بتثبيت الدعائم القوية لحكمه ولولده من بعده .. غارقا فى شئون الداخل وما فيه من صراعات داخل بلاط الحكم .. يواجه فى حزم شديد كافة الحركات المناهضة لحكمه .. باحثا عن منابع الفتن والقلاقل سواء فى بلاد العرب أو العجم .. كان أكبر همه وحرصه ألا تخرج الخلافة من أسرة أجداده بنى العباس ..
لكن الخليفة المهدى كان بخلاف أبيه .. يضع فى أولويات حكمه التعرف على الحضارات المختلفه والتواصل معها .. وتوطيد علاقاته مع حكامها .. وتأمين حدود الدولة الإسلاميه على اتساعها .. تميز عهده بنشاط عسكرى كبير .. بعد أن تسلم حكما مستقرا قوى الدعائم شديد الأركان .. إستطاع أن يدير معارك ناجحة خارج البلاد .. متخذا مواقف أكثر حدة وصلابه ضد الفرس وبيزنطه ..
وذات يوم .. بينما هو مستلق على فراشه .. ومن أمامه صحافا فضية ملئت بما اختلف لونه وشكله من ثمرات الفاكهه والحلوى .. إذ دخلت عليه زوجته "الخيزران" ومن ورائها جاريتها تحمل على يديه صينية مستديرة من الفضة الموشاة بالذهب .. فوقها دورق كبير للشراب وعددا من الأكواب والقوارير .. ألقت عليه نظرة عابرة وهى لا تزال لدى الباب .. رأته متكأ على جانبه الأيمن مسندا كتفه وذراعه فوق حاشيتين .. أدركت على الفور من قسمات وجهه العابسة وجمود ملامحه وهيئته .. أن ثم أمورا هامة تشغل باله وتملك عليه فكره .. توقفت مكانها قليلا قبل أن ينتبه لوجودها .. وهى لا تزال ترمقه بعينها الفاحصه تحاول أن تسبر أغواره .. أو تقرأ غوامض مكنونات سطور قلبه .. صرفت جاريتها فى صمت وهى لدى الباب وتناولت منها صينية الشراب ..
عادت خطواتها تدب فى رشاقة مرة .. وصل وقعها إلى مسامع الخليفه .. رفع رأسه قليلا ليراها تخطو نحوه بخطى وئيدة فى خفة ودلال .. حاول اختلاس ابتسامة من بين شفتيه لعلها تستر باطنه المهموم .. إلا أن شفتاه خانتاه لتأتى الإبتسامة باهة فاترة رغما عنه .. بدت كأنها مرآة ظهرت عليها صورة قلبه بكل ملامح الحزن والهم .. رأت الخيزران بما حباها الله من ذكاء وفطنه تلك الصورة القاتمه .. إبتدرته بابتسامة كلها أنوثة ودلال قائلة ....
ــ جئتك بشراب الورد يا أمير المؤمنين .. علمت من إحدى جواريك أنك أمرت به ..
حاول أن يصلح جلسته قائلا وهو يتنحنح قليلا ....
ــ تحضرين الشراب بنفسك يا أم موسى .. أين الجوارى .. أين الخدم .. ليس أكثر منهم فى قصرنا العامر ..
ردت بصوتها العذب .. والإبتسامة الرقيقة لم تغادر شفتيها ....
ــ عامر بك يا أمير المؤمنين .. أنسيت أنى كنت ضمن جواريك قبل أن تتزوجنى يا أبا موسى ..
سكتت برهة واستأنفت قائلة ....
ــ لكن .. مالى أراك على غير عاداتك .. تبدو قلقا .. مهموما ..
لم يأتها منه جوابا على سؤالها فقالت ....
ــ ليتك تقاسمنى همومك .... ثم استدركت وهى تنتقى كلماتها .....
ــ أعلم أنه لا يجوز لى أن أتدخل فى أمور البلاد وخصوصيات الحكم .. لكنى أسأل إن كان ما يشغلك شأنا يخصك أنت ؟..
أجابها وهو يتناول كوب الشراب من يدها .....
ــ لم يعد هناك ما أخفيه عنك يا أم موسى .. لكنه أمر شغلنى منذ زمن .. وصرت أشعر أن أيامى فى هذه الدنيا باتت قليله ..
أشار لها بيده يسكتها لما همت بمقاطعته .....
ــ أرجوك يا أم موسى .. لا تقولى شيئا .. منذ أيام كان عندى ذلك الرجل الداهيه قارئ النجوم .. نوبخت .. كنت أرسلت فى طلبه .. طلبت منه أن يقرأ طالعى .. واستحلفته بالله أن يصدقنى القول وألا يخفى عنى شيئا .. أخذ يعد الجداول ومكث ساعات يحسب حسابات طويله وأخيرا قال لى .... ما بقى لك من عمر فى هذه الدنيا بات قليلا .. لم يتبق لك إلا أياما معدودات .. سألته عما تبقى لى منها .. فأبى أن يخبرنى .. ولما ألححت عليه قال لى .........
ــ ماذا قال لك يا أمير المؤمنين ؟..
ــ أكد لى أنى أموت بالسم .. إيه .. ليتنى ما أرسلت فى طلبه .. ليتنى ما سألته ..
قاطعته وقد بدا عليها الإنزعاج والدهش .....
ــ ماذا دهاك يا أبا موسى .. هذا رجل دعى مخرف مأفون.. أى حديث هذا !. كذب المنجمون يا أمير المؤمنين .. أيزعم هذا المعتوه أنه يعلم الغيب . إن الآجال من أمور الغيب التى لا يعلمها إلا الله وحده ..
ــ ماذا دهاك أنت يا خيزران .. كل ذلك أعلمه .. لكن هذا اللعين حاذق فى صنعته بارع فى تلك العلوم .. إن له مواقف كثيرة مع أبى .. لم تكذب له فيها نبوءة أبدا .. ما علينا .. كلامه هذا حرك عندى ما كان يشغلنى .. وزادنى حيرة على حيره .. وهما على هم ..
ــ ماذا تعنى يا أبا موسى .. أثرت مخاوفى ؟!.
ــ إييييييه .. ماذا أقول لك .. إنها مشكلة المشاكل ..
سألت ونظرة إلحاح وقلق تقفز من عينيها .....
ــ بالله عليك .. أخبرنى ..
ــ أعنى ولاية العهد ..
ــ ولاية العهد !. ماذا جد فيها .. ألم تأخذ البيعة منذ سنوات لولدنا موسى وليا للعهد ؟!. ومن بعده لأخيه الأصغر هارون ؟!.
ــ بلى .. وتلك هى القضية التى أقضت مضجعى .. واستولت على خاطرى وفكرى زمنا .. لا أدرى كيف أعالجها الآن بعد أن قررناه فيما مضى .. إستجابة لوصية والدى الخليفة الراحل أبى جعفر المنصور .. أيامها كانا فى سن الصبا .. لم تتفتح مواهبهما بعد .. ولم تظهر قدرات كل منهما .. لكن الآن .. بعد أن اشتد عودهما وأصبحا شابين فتيين .. بان الفرق واضحا بينهما .. عقلا .. وقوة .. وصلابه .. وكما تعلمين أن ما يهمنا فى المقام الأول .. أن تظل الخلافة بأيدينا .. بنو العباس .. ولا يخفى عليك ما يفعله بنو عمنا الطالبيون .. وكيق ينازعونا فى هذا الأمر .. ويتربصون فرصة مواتية ينقضون فيها ويستولون على دار الخلافه ..
ــ فهمت .. تريد إذن أن تعيد أخذ البيعة لهارون وليا للعهد .. وتقدمه على أخيه موسى ..
ــ تماما .. تماما ذلك ما أبغيه ..
ــ لكن يا أمير ال.....
قاطعها بإشارة من يده وقال .....
ــ إسمعى يا أم موسى .. سأبين لك الأمر .. إن هارون ولدى تربى على يدى يحي بن خالد البرمكى .. ولزمه زمنا تعلم منه الكثير من فنون الحرب والسياسة .. حتى أنه صار لا يناديه إلا بيا .... أبت .. ولن أنس له أنه أثبت بعد المعارك التى قادها والبطولات التى حققها .. أنه هو الأجدر والأحق بولاية العهد .. لقد قاد جيوشنا إلى بلاد الروم وهو دون السابعة عشر من عمره .. وفتح أعتى الحصون فى سمالو وطرسوس .. وفى الشهر الماضى رجع بعد أن أحرز انتصارات رائعه على جيوش الإمبراطوره إيرينى .. بعد اجترائهم وتطاولهم علينا .. تمكن فى أن يتوغل ببسالة داخل أراضيها .. حتى وصل إلى البسفور .. هذه الإنتصارات المتوالية يا أم موسى .. كان لها أكبر الأثر فى تثبيت دعائم دولتنا .. ودعم حدودنا ورجوع هيبتنا من جديد لدى الفرنجه ..
ــ هل تصدقنى إذا قلت لك .. إن هذا الأمر جال بخاطرى أنا الأخرى منذ زمن .. كم وددت لو فاتحتك فى شأنه .. غير أنى تهيبت منك .. وخشيت أن تتصور أنى أنحاز لولدى الأصغر ..
ــ وضعت يدك على لب المسأله .. تلك هى القضية التى شغلت بالى وأهمتنى .. كيف السبيل إلى وسيلة لا تحدث فتنة .. أو تنتهى إلى شقاق وخصومة بين الأخوين .. ما أكثر أعداء المتربصين بنا شرقا وغربا .. فتنة كهذه يمكن أن تجعلهما فريسة سهلة ولقمة سائغة لأعدائنا ..
ــ وعلى أى شئ نويت يا أمير المؤمنين ؟..
ــ ولدى موسى الآن فى جرجان .. وليس أمامى إلا أن أبعث رسالة إليه مع حاجبنا الفضل بن الربيع .. أشرح له فيها ما نويت عليه .. وآمره أن يحضر على الفور إلينا لأخلعه من ولاية العهد أمام القوم .. وأولى مكانه أخاه هارون ..
ــ أوتظنه يفعل ؟!..
ــ ليته لا يخيب فيه ظنى .. أتمنى أن ينصاع لأمرنا .. حتى لا يضطرنى إلى إرغامه على القبول به ..
ــ وإن أبى .. ماذا أنت فاعل ؟..
ــ سأسافر بنفسى إلى جرجان .. ولن أرجع إلا وهو معى .. أو .. أو يقضى الله أمرا كان مفعولا .......

فى دروب مكة وشعابها الضيقه .. كان على الأزدى يرافقه إبن شقيقته الشافعى .. يسيران فى همة بخطى متسارعه .. بينما الأخير يضرب كفا بكف وهو لا يدرى إلى أين ينتهى بهما المسير .. حاول أن يستعلم من خاله عن وجهتهما .. أو يخرجه عن صمته دون جدوى .. لم يظفر منه بكلمة تشفى غليله .. غير قوله له لما زاد إلحاحه عليه .....
ــ إصبر يا فتى .. بعد قليل سترى بنفسك .. وستعرف كل شئ ..
سلم أمره لله .. وكف لسانه عن السؤال .. إلى أن وجد خاله يتوقف عن سيره فى نهاية طريق ضيق .. نظر إليه ثم نظر أمامه فلم ير غير بناية وحيدة متهالكة من الطوب اللبن .. قبل أن يمد يده ليطرق الباب .. إستوقفه الشافعى معترضا طريقه .. يرجوه متوسلا ..........
ــ أستحلفك بالله للمرة الأخيرة يا خال قبل أن تطرق الباب .. أن تخبرنى لماذا أتيت بى إلى هنا .. ومن صاحب هذه الدار التى وقفت بنا أمامها .. إنها أول مرة تقع عينى عليها ؟!..
إبتسم قائلا ....
ــ لم العجله .. لحظات قليله وسترى بنفسك .. لكن على أية حال سأخبرك بإسم صاحب الدار .. كى تهدأ نقسك ويطمئن قلبك .. هذه دار العابد الزاهد الفضيل بن عياض .. ألم تسمع به ؟.
ــ بلى .. سمعت به .. وأعلم أنه من أهل الزهد والصلاح .. لكنى لم أره من قبل ..
إبتسم خاله إبتسامة ذات مغزى قائلا ....
ــ أواثق أنك لم تره من قبل .. بل أظنك رأيته ..
تعجب من سؤاله منكرا عليه قوله .....
ــ قلت لك أنى لم أره من قبل أبدا .. كل ما أرجوه أن تعرفنى عن سبب مجيئنا إليه ..
ــ لا تعجل يا ابن إدريس .. لا تعجل .. عندما تراه ستفهم كل شئ ..
مط الفتى شفتيه وهو ينتحى جانبا وإن لم تفارقه الدهشة والعجب من مسلك خاله .. متمتما فى سره .... أقول له لم أره قبلا .. يؤكد لى فى ثقة . بل رأيته .. كيف .. كيف ذلك ؟!.. لم يخرجه من شروده وظنونه .. إلا صوت صرير الباب وهو ينفتح على جارية سوداء عابسة الوجه جامدة القسمات تطل برأسها من ورائه .. قال لها على من فوره بعد أن ألقى إليها بالسلام ....
ــ هلا سمحت لنا بالدخول .. نريد الشيخ لأمر هام ..
كانت الجارية على معرفة به من قبل .. فكم من مرات أتى للشيخ برفقة والده عبد الله الأزدى .. أشارت لهما بالدخول دون رد أو تعقيب .. لم تمض غير لحظات حتى خرج عليهما الشيخ من خلوته يتوكأ على عصاه .. وما كادت عين الفتى الشافعى تقع عليه .. حتى خرجت منه شهقة كادت تزهق منها روحه .. حاول أن يكتمها مستجمعا شتات نفسه مرددا بصوت خافت ..... يا إلهى .. لا أكاد أصدق ما تراه عيناى .. أحقيقة ما أرى .. غير معقول .. أيمكن أن يكون هو ؟!. أجل .. والله إنه هو .. هو بشحمه ولحمه وثوبه .. حتى الشامة التى رأيتها على خده !...
فى تلك الأثناء كان خاله "على" يرقبه باسما .. لقد صدق حدسه .. هو إذن الشيخ الذى رآه فى منامه .. كان "على" يعلم الكثير عن كرامات الفضيل بن عياض وعلو منزلته .. كم حدثه أبيه الأزدى فى ذلك الشأن .. وروى له بعضا منها ..
بعد أن سلما .. أشار لهما الشيخ بالجلوس .. وبعد لحظات صمت نظر إلى الشافعى وقال له وهو يهز رأسه باسما .....
ــ أهلا بك يا ابن إدريس .. أخيرا أتيت .. تود معرفة تأويل رؤياك .. أليس كذلك ؟!.
هز رأسه فاقدا قدرة النطق بكلمة واحدة بعدما عقدت الدهشة لسانه .. وازداد عجبه وهو لا يزال مصوبا بصره تجاه الشيخ كالمأخوذ .. لا يملك أن يحول وجهه عنه أو تطرف له عين ..
ــ إسمع أيها الفتى القرشى .. قبل أن أجيبك .. أود أن تعى ما سأقوله لك .. إجعل هذه الكلمات نصب عينيك .. أنت تحمل فى صدرك كتاب الله .. وحامل القرآن هو من حملة راية الإسلام .. لا ينبغى له أن يلهو مع اللاهين أو يسهو .. ولا يجوز له اللغو مع أهل اللغو والمراء .. ينبغى لحامل القرآن ألا يكون له إلى الخلق حاجة أبدا .. ولا إلى الخلفاء فمن دونهم .. بل إن حوائج الخلق ينبغى أن تكون إليه .. أفهمت .. يا فتى ؟..
ــ أجل .. فهمت ووعيت .. يا سيدى الشيخ ..
سكت الشيخ ناظرا إلى موضع قدميه .. ولما طال صمته إستحثه الشافعى متسائلا .....
ــ وماذا عن المنام ؟..
ــ سأخبرك .. إن ما شهدته اليوم وأنت نائم بين الحجر والمقام .. بشرى من الله لك .. سوف تبلغ أعلى الدرجات يوما أيها الفتى .. سوف تكون لك الإمامة فى العلم وأنت على السبيل والسنه ..
ــ والميزان ؟!.
ــ علمك حقيقة الشئ كما هو فى نفسه ..
ــ بم تنصحنى يا سيدى ؟..
ــ إشرع يا ولدى من الغد فى تلقى دروس الفقه والحديث .. إلزم حلقة أبا محمد سفيان بن عيينة الهلالى .. أعرف أنه من العلماء العاملين .. واغتنم الوقت فإنه رأس مال العبد .. إياك أن تضيع منك لحظة من عمرك فيما لا ينبغى .. العمر يا ولدى قصير مهما طال .. والزاد قليل مهما كثر .. الدنيا غمها لا يفنى .. وفرحها لا يدوم .. وفكرها لا ينقضى ..
ثم قام ومد يده مسح بها فى حنان على رأس الشافعى وهو يتمتم فى سره كلمات كأنه يدعو له .. قبل أن يستدير صاعدا فى صمت إلى حيث مكانه فى خلوته .....

@ خرج الشافعى من دار الشيخ إنسانا آخر .. كأنما كان سقيما طال به السقم حتى إذا آيس من الشفاء , صحا فجأة من نومة ليجد العافية ردت لبدنه وروحه مرة واحده .. لم يهدأ يوما واحدا بعد هذا اللقاء الروحى الرفيع .. لم يذق للراحة طعما فى نهاره .. ولا للفراش لذة فى ليله .. وهو يرتاد منهوما حلق العلم فى ساحة البيت العتيق .. يجنى من كل رحيق زهرها .. متنقلا بينها كالنحلة العاملة الدؤوب .. يسأل , يحاور , ينصت , وكله نهم وشغف للمعرفة وتحصيل ما فاته من العلوم , ووعاء علمه فى طلب المزيد على الدوام لا يمتلئ أبدا ..
فتارة تلقاه فى درس إمام الحرم ومفتيه الأول الفقيه العابد صوام الدهر مسلم بن خالد الزنجى , وتارة أخرى فى حلقة شيخ المحدثين سفيان بن عيينه , كان يتخذ حلقته عند المقام , والفتى ملازم حلقته كما أوصاه الفضيل , يصغى إليه وهو يقول لمن حوله من طالبى العلم ................
ــ حدثنى إبن أبى نجيح عن مجاهد فى قوله تعالى : "ورفعنا لك ذكرك" .. أى لا أذكر يا محمد إلا ذكرت معى كما فى الشهادتين , أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ..
وفى أمثال هذه الدروس , بعد أن ينتهى الشيخ من رواية الحديث وتوثيق أسانيده , يتابع الشافعى ما يدور من أسئلة ونقاش , بين الحضور وبين الشيخ .......................
ــ شيخنا , هل يجوز السلام على المصلى , وإذا سلم , هل يرد عليه السلام ؟.
ومن نبع السنة النبوية الصافى والشيخ حديث عهد بها يجيب .....
ــ عن عاصم بن أبى النجود عن أبى وائل عن عبد الله قال : كنا نسلم على رسول الله "ص" وهو فى الصلاه قبل أن نأتى أرض الحبشه , فكان يرد علينا , فلما رجعنا منها أتيته لأسلم عليه فوجدته يصلى فسلمت عليه فلم يرد , جلست , حتى إذا قضي صلاته أتيته فقال "صلى الله عليه وسلم " : " إن الله يحدث من أمره ما يشاء , وإن مما أحدث الله عز وجل ألا تتكلموا فى الصلاه" ......
وينصت له وهو يلقى على أسماع تلاميذه حكمه ومأثوراته .............
ــ إعلموا أيها الناس أنه ما أنعم الله على العباد نعمة أفضل من معرفتهم لا إله إلا الله , وأنها فى الآخرة بمنزلة الماء فى الدنيا , قال تعالى " "وجعلنا من الماء كل شئ حى أفلا يؤمنون" , فكما أنه لا حياة لشئ فى الدنيا إلا بالماء , كذلك لا إله إلا الله بمنزلة الماء فى الدنيا , من لم تكن معه لا إله إلا الله فى الدنيا فهو ميت , ومن كانت معه فهو حى .....
ويستمع لمن يسأله ......
ــ يا أبا محمد أخبرنى عن قول أحدهم : لأن أعافى فأشكر أحب إلى من أن أبتلى فأصبر , وقول الآخر : اللهم رضيت لنفسى ما رضيت لى . ما تقول فيهما ؟..
ــ القول الأول أحب إلى ..
عقب السائل مستغربا إجابة الشيخ ....
ــ كيف .. وقد رضى الأخير لنفسه , ما رضيه الله له ؟!..
ــ لا تعجب .. إنى قرأت القرآن فوجدت صفة نبى الله سليمان عليه السلام مع العافية التى كان فيها : "نعم العبد إنه أواب" .. ووجدت صفة أيوب عليه السلام مع البلاء الذى كان فيه : "نعم العبد إنه أواب" .. فاستوت الصفتان حال العافيه وحال البلاء , ولما وجدت الشكر قام مقام الصبر واعتدلا , كانت العافية مع الشكر أحب إلى من من البلاء مع الصبر ..
كم من مرة استمع له الشافعى وهو ينصح تلاميذه ......
ــ أيها الأبناء , إذا كان نهارى نهار سفيه وليلى ليل جاهل , فما أصنع بالعلم الذى كتبت !. ومن رأى أنه خير من غيره فقد استكبر .. كونوا أيها الأبناء كما قال عيسى عليه السلام : "أوعية الكتاب وينابيع العلم" .. واسألوا الله رزق يوم بيوم , واعلموا أن أول العلم الإستماع ثم الإنصات ثم الحفظ ثم العمل ثم النشر ..
كل هذا الفيض من العلوم والنصائح والمعارف , والشافعى متربع فى الحلقة لا ينبس ببنت شفه , منتبها منصتا لكل كلمة فيها , لا يفارقها إلا إذا شق عنان الفضاء صوت مؤذن الحرم مناديا للصلاه ..
إستقر الشافعى فى ساحة البيت الحرام لا يكاد يبرح مكانه فيها إلا فى المساء عائدا إلى داره .. عرف بين الناس بذلك فكانوا فكانوا يشيرون عليه قائلين ... ما أعجب حال هذا الفتى , أقرانه فى اللهو واللعب , وهو كما ترون لا يفارق حلق العلم والدرس , لا يكاد يغادر إحداها إلا ليلحق بغيرها .. وانتشرت سيرته بين الناس حتى أن أحدهم لقبه "عاشق المعرفه" , وعرف بين الناس بذلك اللقب , واستمروا ينادون به عليه .. كان هذا اللقب يسبق إسمه إذا ناداه أحد , أو إذا مر بقوم فى طريقه , أو حتى فى السوق وهو يشترى حاجياته ..
لكن واجهته مشكلة تدوين وحفظ هذا الكم الهائل من الأحاديث والمسائل والفتاوى التى يتلقاها بسمعه , من أين له بالدنانير والدراهم التى يشترى بها القراطيس التى يكتب عليها , وهو لا يزال يعانى من ضيق ذات اليد وقلة المال .. لكنه رغم ذلك لم يعدم الحيله , كان يجمع وهو فى طريقه إلى داره بشعب الخيف , ما يعثر عليه من سعف النخيل وينتقى منها ما يصلح للكتابة عليها .. وعندما يصل إلى داره يظل عاكفا عليها طرفا من الليل , على ضوء المصباح الخافت , يدون فى صبر وأناة ودأب ما اختزنه فى ذاكرته مما سمعه فى يومه من أحاديث وفتاوى ..
وذات ليلة وهو راجع إلى الدار , فتحت أمه الباب لتجده ممسكا فى يمناه بعض اللفافات , وفى الأخرى أشياء بدت لغرابتها مثيرة للدهشه .. لم تتمكن من التعرف عليها للوهلة الأولى .. وهى تتفحصها بعينيها متعجبة ونظرة استنكار فى عينيها .. لم تجد مناصا من سؤاله وهى لا تزال على حالها من الدهشة والتعجب .....
ــ ما هذه الأشياء الغريبة التى أراها معك يا ولدى ؟!..
إبتسم قائلا وهو يضعها بحرص جانبا ....
ــ كما ترين يا أماه .. قطعا من الخزف والجلود وبعضا من عظام أكتاف الإبل العريضه ..
عاودت سؤالها وقد ازدادت دهشتها ....
ــ أمرك عجيب .. خزف وجلود وعظام أكتاف الإبل ؟!. ماذا تصنع بها ؟!.
أجابها مداعبا وقد اتسعت ابتسامته ....
ــ وما تظنين أنى فاعل بها يا أم الشافعى ؟..
هزت كتفيها بامتعاض فأجابها ....
ــ أدون عليها ما أسمعه من أحاديث وفتاوى ..
ــ تدون عليها ؟!. على هذه الأشياء !. وهل أمثالها يصلح للكتابة عليها .. كيف ؟!.
ــ أجل يا أمى .. لا تعجبى .. كنت أكتب على سعف النخيل كما تعلمين .. غير أنى لا أجد أحيانا ما يناسبنى منها .. ظللت أبحث عن أشياء أخرى تصلح للكتابة عليها .. فلم أجد إلا عظام أكتاف الإبل العريضة .. وتلك القطع من الخزف والجلود .. تلك هى المسأله ..
ــ وأى مكان يسع هذه الأشياء لتحفظها فيه ؟!.
ــ سأضعها هناك .. فى تلك الجرار الفارغه ..
إسمع يا ولدى .. ما رأيك فيمن يدلك على وسيلة أيسر وأنفع .. ولن تكلفك شيئا ؟..
ــ دلينى عليه يا أمى .. من هذا الذى يعرف تلك الوسيله ..
ــ أنا يا ولدى ..
ــ أنت يا أماه ؟!.
ــ أجل .. ما عليك إلا أن تذهب إلى أحد دواويين الكتابة .. أو القضاء أو الحسبه .. وتطلب من الكتبة بها أن يعطوك بعضا من الظهور .. لن يبخلوا عليك ببعض منها ..
ــ تقصدين يا أماه تلك الأوراق المكتوب عليها من جهة واحده , لأستفيد من الجهة الأخرى , الخاليه من الكتابه .. الله الله , وسيلة لا بأس بها حقا .. ما أروعك يا أمى .. رأى سديد حقا , ولا أدرى لم تخطر لى هذه الفكرة من قبل .. لكن يا أماه سيطلبون ثمن تلك الأوراق .. وأنا كما تعلمين !!..
ــ لا عليك يا ولدى من هذا .. إذهب أنت إليهم .. سيعطونها لك هبة دون مقابل ..
ــ نعم الرأى يا أمى .. على كل حال أفرغ من الكتابة على هذه الأشياء , ثم أستوهب الظهور .......

@ مرت أياما صار خلالها للشافعى منزلة من شيوخ الحرم , مقربا منهم معروفا لهم جميعا , لما يرونه منه من إقبال ونهم على الدرس وتحصيل العلوم , ومقدرة فذة على استيعاب علومهم وفهمها .. وذات مره بينما هو جالس بجوار شيخه سفيان بن عيينه وهو متصدر حلقته بجوار المقام بفناء زمزم يقول ........
ــ عن الزهرى عن على بن الحسين أن صفية بنت حيى أم المؤمنين قالت له أن النبى "صلى الله عليه وسلم " كان معتكفا بالمسجد , قالت فأتيته فتحدثت عنده , فلما أمسيت انصرفت , فقام رسول الله "صلى الله عليه وسلم " يمشى معى , فمر به رجلان من الأنصار فسلما ثم انصرفا , فناداهما وقال : "إنها صفيه بنت حيى" فقالا يا رسول الله ما نظن بك إلا خيرا , فقال رسول الله "ص" : "إن الشيطان يجرى من ابن آدم مجرى الدم" ........ كيف تفهمون فقه هذا الحديث ؟. أيكم يخبرنى أيها الأبناء ..... قالها وهو يجول بعينيه عليهم ..... رفع أحدهم يده قائلا .....
ــ أراد رسول الله "صلى الله عليه وسلم " رد اتهام الرجلان له .. وأن ينفى ما وقع فى قلبيهما من سوء ظن به ..
أشاح الشيخ بوجهه عنه محركا رأسه يمنة ويسره , دلالة على عدم رضاه عن جوابه , ثم عاد ينظر لمن حوله وعاود سؤاله للمرة الثانيه .... لم يجبه أحد .. إتفت إلى الشافعى قائلا .....
ــ وأنت يا أبا عبد الله .. ألا تجيب ؟.
رد فى أناة الواثق ....
ــ بلى يا سيدى .. لدى جوابا ..
ــ تكلم إذن .. لم لا تجيب ؟!. تكلم ..
ــ إن كان القوم اتهموا النبى "صلى الله عليه وسلم " , أو حاك فى صدورهم منه شئ , لأصبحوا كفارا باتهامهم , لأن رسول الله "صلى الله عليه وسلم " لا يتهم أبدا , إنه أمين الله فى أرضه , فهم بادئ ذى بدء لم يتهموه ..
عاد الشيخ يسأله ...........
ــ فلأى سبب إذن قال لهم رسول الله "صلى الله عليه وسلم " ذلك ؟..
ــ كان هذا من رسول الله "صلى الله عليه وسلم " على الأدب والتعليم لأمته ..
ــ كيف ؟..
ــ أى إذا كنتم هكذا فافعلوا كذلك , أو إذا مر أحد على رجل منكم يكلم امرأة هى منه بنسب , فليقل له إنها فلانه وهى منى بنسب كذا , حتى لا يظن بكم ظن السوء , ولا تكونوا عونا للشيطان عليه ..
إبتسم الشيخ وظهرت البشاشة على وجهه ناظرا بإعجاب إلى الشافعى .. ثم قال لمن حوله ......
ــ أسمعتم .. هكذا يكون الفهم فى أمور الدين .. جزاك الله خيرا يا شافعى .. ما نسمع منك إلا كل ما نحبه ..... سكت برهة وأردف .....
ــ أيها الناس .. إعلموا أنه لم يعط أحد فى الدنيا شيئا أفضل من النبوه .. ولم يعط بعد النبوة أفضل من العلم والفقه .. ولم يعط فى الآخرة أفضل من الرحمه ........

@ حدث أخيرا ما كان أمير المؤمنين يتوقعه ويحسب حسابه .. أبى واستكبر ولده موسى الهادى أن يخلع نفسه من ولاية العهد طواعية .. رفض العودة مع الفضل بن الربيع إلى بغداد .. قرر الخليفة المهدى أن يخرج بنفسه إلى جرجان .. مستصحبا معه يحي بن خالد البرمكى .. ليأتى بولده رغم أنفه إلى قصر الخلد .. ليخلعه من ولاية العهد قسرا .. أمام الأمراء والقادة وكبار رجال البلاط ..
وأثناء رحلته التى دبرتها له الأقدار , بالقرب من بلدة اسمها ماسباذان , أدركه التعب من طول الرحلة واعتلال صحته .. أمر رجاله أن يحطوا رحالهم وينصبوا خيامهم بضعة أيام قبل أن يستأنفوا رحلتهم .. وبينما رجاله قائمون على حراسته خارج خيمته التى قرر أن يستريح بداخلها , إذ فزعوا على صوت استغاثة من داخل الخيمه .. هبوا مرة واحدة مهرولين داخل الخيمة ليجدوا الخليفة يصرخ من شدة الألم طالبا الغوث .. كان أول من أدركه يحي بن خالد البرمكى الذى ارتمى جزعا على فراشه .....
ــ مالك يا مولاى .. أى مكروه أصابك ؟..
أشار ناحية قدمه وهو يتلوى من الألم .....
ــ ثعبان لعين .. لدغنى هنا .. فى قدمى .. وفر من هذه الناحيه .. صدقت نبوءة المنجم نوبخت .. تماما كما أخبرنى .. سأموت بالسم .. أجل إنها النهايه ..
قاطعه يحى وقد خنق البكاء صوته .....
ــ على رسلك يا أمير المؤمنين .. فداؤك نفسى .. إنك بخير ..
ــ لا , لا.. إنها النهاية حتما .. أعدوا القافله .. سنعود إلى بغداد .. وأنت يا يحى أكمل الرحلة إلى جرجان , وأتمم ما قمنا من أجله .. أعلم ولدى موسى أنى قد خلعته من ولاية العهد , والخلافة من بعدى لولدى هارون الرشيد .. أفهمت ؟..
قال وصوته لا يزال باكيا تخنقه العبرات .....
ــ دعنا من هذا الآن يا مولاى .. ننزع السم من قدمك أولا .. وبعدها نفعل كل ما أمرت به ..
وقبل أن يتم كلامه ارتمى على قدمه محاولا امتصاص الدم , والخليفة يقول فى صوت واهن أخذ يخفت شيئا فشيئا , بينما العرق يتساقط غزيرا من جبهته ووجهه .........
ــ يا برمكى لا فائده , قلت لك لا فائده , إنى أشعر بالسم يسرى فى دمى .. قضى الأمر , هيا دعونى وحدنى , ولا تسمحوا لأى أحد يدخل على حتى آذن له ..
ولما صار وحده , وخلت الخيمة إلا منه , حاول أن يغمض عينيه , إلا أنه لم تمض لحظات حتى انتبه مذعورا , على صورة شبح انسان يقف أمامه , وهو لا يدرى من أى مكان دخل عليه خيمته .. إنه نفس الشبح الذى ظهر من قبل للخليفة المنصور .. وهو الذى أتى الشافعى فى منامه .. العابد الزاهد الفضيل بن عياض .. نظر إلى المهدى نظرة ثاقبة ثم قال .....
ــ كأنى بهذا البيت قد باد أهله .. وقد درست أعلامه ومنازله ..
لم يشعر بنفسه إلا وهو يجيبه مرتجلا , بينما جسده يرتعد فرقا وخوفا ....
ــ كذاك أمور الناس يبلى جديدها .. وكل فتى يوما ستبلى فعائله ..
جاوبه الشيخ .....
ــ تزود من الدنيا فإنك ميت .. وأنك مسئول فما أنت قائله ..
رد المهدى .....
ــ أقول بأن الله حق شهدته .. وذلك قول ليس تحصى فضائله ..
حوار دار بينهما , إختفى بعده الشبح فجأة كما جاء , ولم تمض غير أيام قلائل إلا والخليفة المهدى فى ذمة مولاه , وتولى الخلافة من بعده ولده موسى الهادى قبل أن يخلعه أبوه من ولاية العهد , غير أن خلافته لم تدم أكثر من خمسة عشر شهرا , بعد أن وافته المنية وهو فى ريعان الشباب , وانعقدت الخلافة من بعده لأخيه هارون الرشيد أميرا للمؤمنين ..........

@ ظل الشافعى على هذا المنوال مثابرا , منقطعا لدروس العلم والفقه والحديث , يتعلم , يسأل , يدون ما يسمعه فى همة لا تعرف مللا أو كلل , نسى تماما أياما كان فيها ينشد الشعر ويحكى سير الشعوب وأيام العرب , على رواد مجلسه من أهل مكة وزوار الحرم , حتى أن بعضهم من رواد مجلسه القديم لما غلبهم الشوق إلى حكاياته , حاولوا استمالته مرة ثانيه لكن خاب سعيهم وذهبت جميع محاولاتهم أدراج الرياح .. كلما بحثوا عنه لا يجدوه إلا مرابطا فى حلق العلم لا يغادر إحداها إلا ليذهب لأخرى , وأخيرا يئسوا من بلوغ مرادهم , فتركوه مع شيوخه ينعم بما يلقاه عندهم .. ومع الأيام تكونت عنده ملكة ومقدرة على فهم النصوص ومراميها واستنباط الأحكام منها للفتوى , لكنه لم يفعل برغم أن شيخه سفيان بن عيينه حاول أن يدفعه للفتيا , قال له ذات مره .............

ــ شكى لى بعض الناس أنهم جاؤك لتفتيهم , فأبيت , لم يا ولدى ؟!.
ــ يا سيدى , ما يكون لمثلى فى تلك السن المبكرة أن يفتى فى أمور الدين ..
ــ لكنى أرى أنك أهل للفتيا , آن لك أن تفتى يا ولدى ..
ــ عفوا سيدى الشيخ , لا يحل لأحد أن يفتى فى دين الله , إلا من كان عارفا بكتاب الله , بناسخه ومنسوخه , ومحكمه ومتشابهه , وتأويله , وتنزيله , ومكيه ومدنيه , وما أريد به , ويكون بعد ذلك بصيرا بأحاديث رسول الله "صلى الله عليه وسلم " , والناسخ والمنسوخ منها , ويعرف من الحديث مثل ما عرف من القرآن , ويكون بصيرا باللغة , بصيرا بالشعر وما يحتاج إليه للسنة والقرآن , ويستعمل هذا مع الإنصاف , ويكون مشرفا على اختلاف أهل الأمصار , وبعد هذا تكون له قريحة .. فإذا كان له هذا فله أن يفتى فى الحلال والحرام , وإلا سكت عن الفتيا .. وأنا يا سيدى ما حصلت بعد , ذلك كله ..
ــ أجل أجل .. صدقت يا بنى .. صدقت ..
ومع هذا البيان من الشافعى لشيخه , كان إذا سأل أحدهم شيخ مكه سفيان بن عيينه فى مسألة , يشير إلى الشافعى ويقول ..... عليكم بهذا الفتى المطلبى فاسألوه .. .. إنه أفضل فتيان أهل زمانه .. إنه فتى لم تعرف له صبوه ...
واستمر الشافعى يلح فى طلب المزيد من المعرفه , تأبى نفسه إلا أن تجلس فى صفوف التلاميذ وطلاب العلم , رغم إجازة الشيوخ له أن يفتى ويعلم .. قال مرة لواحد من أصحابه كان يحثه ويلح عليه أن يترأس حلقة من حلق العلم ..... إن على أن أتفقه أولا .. ولو ترأست حلقة .. فلا سبيل لى إلى التفقه ..
كان على يقين من أنه إن ترأس حلقة علم قبل أن يستوفيه , فلن تتاح له معرفة ما لم يعرف , لم يحاول قط الجلوس فى مقعد الأستاذ المعلم مفضلا الإبحار فى خضم محيط العلوم والغوص فى أعماقه البعيدة المتراميه , وهذا ما دفعه يوما لسؤال شيخه سفيان بن عيينه ..........
ــ عندى شئ يدفعنى دفعا للتزود من علوم أهل المدينه .. دار الهجره ..
ــ عظيم يا ولدى .. عليك إذن بإمامهم وشيخهم .. مالك بن أنس الأصبحى .. قبل سنوات سافرت إليه , وسمعت منه الكثير ..
ــ إذن لا أضيع وقتا .. أسافر إليه .. وأختلف إلى حلقته ومجلس علمه ..
إبتسم الشيخ قائلا .....
ــ على رسلك يا شافعى .. لا تعجل ..
ــ لم يا سيدى ؟!.
ــ قبل أن تشد الرحال إليه .. يلزم أن تقرأ كتابه أولا ..
ــ تعنى كتابه الموطأ ؟.
ــ أجل .. إنه صفوة علم مالك .. وجماع الحديث الصحيح ..
ــ وأين لى به ؟.
ــ لا تبال بهذا الأمر .. سأدلك على صديق لى يعيره لك بضعة أيام .. عليك خلالها أن تعى كل ما حواه .. وبعد أن تفرغ منه .. لك ما شئت .. تشد الرحال إلى المدينه وتحظى بالجلوس إلى إمامها ..
سكت برهة وأردف ....
ــ ألم تسمع حديث رسول الله "صلى الله عليه وسلم " : "يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل يطلبون العلم , فلا يجدون أحدا أعلم من عالم المدينه" ..
ــ بلى .. سمعت هذا الحديث .. لكن آااااااااه .. تعنى ...
ــ أجل كانت إشارة نبوية من رسول الله "صلى الله عليه وسلم " قبل مائة وسبعين سنه , إلى إمامها مالك بن أنس .. إن أهل المدينة يا ولدى لم يجمعوا على أحد بعد الشيخين أبى بكر وعمر , إلا على إمامهم وشيخهم مالك ..........

@ فى اليوم التالى انطلق الشافعى إلى الحجون , قاصدا دار صديق شيخه سفيان , مستعيرا منه موطأ مالك على وعد أن يرده له بعد أيام يكون قد فرغ فيها من قراءته .. رجع إلى داره والسعادة تغمره , حاملا كتابا بين دفتيه حوالى ألف حديث للنبى "صلى الله عليه وسلم " .. ظل عاكفا على صفحاته يحفظ ما فيها فى نهم مواصلا الليل بالنهار , وفى نهاية اليوم التاسع كان قد أتى على آخر صفحات كتاب , دونه الإمام مالك فى أربعين سنة كامله .. بينما الأم ترقبه بإعجاب به ممزوج بإشفاق عليه لما يكابده من جد وسهر , على ضوء مصباح خافت , تحيطه بحنانها وعطفها , جالسة إلى جواره تعينه وترعاه , تشجعه بابتسامتها الدافئه التى لا تفارقها وهى تنظر إليه ..
وبعد أن أتى على آخر كلمة فى الكتاب وقد وعى كل ما حواه , إلتفت إلى أمه قائلا وهو يطويه .....
ــ الحمد لله , الآن يا أمى انتهيت من قراءة موطأ مالك ..
ــ تنتهى من سفر ضخم كهذا فى تسعة أيام , عجيب والله يا ولدى !..
ــ أجل يا أماه , بل وحفظت فى رأسى كل ما جمعه الإمام من أحاديث رسول الله "ص" ..
صمت برهة وأردف .....
ــ لذلك عزمت على أمر , هل تعينينى عليه ؟!.
ــ تكلم يا ولدى , خيرا إن شاء الله ..
ــ عزمت على مواصلة رحلة العلم ..
ــ مواصلة رحلة العلم ؟!. إلى أين يا قرة عينى ؟.
ــ المدينه .. بى شوق يدفعنى للتعرف على علوم أهلها .. سنرحل إليها سويا إن شاء الله , إن وافقتنى على ذلك ..
إلتفت إليه خاله على , وكان يتابع حوارهما وهو مستلق على ظهره ناظرا إلى سقف الدار , قال مستنكرا .....
ــ لا أفهم إلحاحك فى الرحيل إلى المدينه , أى فائدة تعود عليك وقد نهلت من علوم أكابر شيوخ مكه وعلمائها .. لم التعب والنصب , وفيم الغربة والفراق يا أبا عبد الله ؟!. الناس هنا لا حديث لهم إلا عنك .. أمرك عجيب والله !..
تلقى الشافعى كلامه المحتد بابتسامة , تاركا العنان لبصره منطلقا ولخياله سابحا فى الفضاء الممتد من أمامه عبر نافذة مفتوحة على مصراعيها وهو يقول كأنما يحادث نفسه ......
ما فى المقام لذى عقل وذى أرب
من راحة فدع الأوطان واغترب
سافر تجد عوضا عمن تفارقه
وانصب فإن لذيذ العيش فى النصب
إنى رأيت وقوف الماء يفسده
إن ساح طاب وإن لم يجر لم يطب
الأسد لولا فراق الغاب ما افترست
والسهم لولا فراق القوس لم يصب
والشمس لو وقفت فى الفلك دائمة
لملها الناس من عجم ومن عرب
والتبر كالترب ملقى فى أماكنه
والعود فى أرضه نوع من الحطب
فإن تغرب هذا عز مطلبه
وإن تغرب ذاك عز كالذهب
كانت للشافعى موهبة خصبة نادره فى نظم الشعر , وملكة قادرة حاضره دربها العلم وصقلها دوام تحصيله .. غير أن نفسه أبت أن تنخرط فى سلك الشعراء , ولم ترد له أن يمضى فيه إلى آخر الدرب , وهى تلتمس السمو إلى ما هو أعظم وأرقى , الفقه وعلوم الدين والحديث , كان يعى تماما معنى قول الله تعالى ووصفه لأحوال الشعراء : "والشعراء يتبعهم الغاوون , ألم تر أنهم فى كل واد يهيمون , وأنهم يقولون ما لا يفعلون" .. ذات مرة حاول واحد من أصحابه أن يشجعه على احتراف الشعر , لما أعجبه سلاسة نظمه وسرعة بديهته , فقال له ....
ولولا الشعر بالعظماء يزرى .. لكنت اليوم أشعر من لبيد
بعد أن انتهى من سرد أبياته , نظرت إليه أم حبيبه باسمة وهى تقول ...
ــ حفظك الله يا ابن إدريس .. ما أجمل الشعر منك نظما وإلقاء .. دائما تتحفنا بالحكم ومأثور القول .. قاطعها "على" وهو على حاله من الدهشة من كلام ابن شقيقته ......
ــ أختاه , ألم تري ولدك بعينى رأسك وقد أتى على كتاب مالك شيخ المدينه .. ووعى كل ما حواه !. ألم يقل ذلك بلسانه الآن !.. ما الداعى إذن للسفر ومفارقة البلاد والأهل ؟!.
إنبرى الشافعى قائلا ......
ــ كل هذا صحيح , لكن يا خالى العزيز , إمام كبير وشيخ جليل مثل مالك بن أنس , لا يجوز أبدا أن يفوتنى لقاءه , والتزود من بحر علومه شفاها , آه , ليتنى أدركت فقيه الكوفه , إمام أهل الرأى , أبى حنيفه , والله لو كان فى آخر بلاد الدنيا لرحلت إليه ..
مرت لحظات من الصمت قطعها الشافعى بقوله .....
ــ أتعجب يا خال من كلامى !. سأحكى لك حكاية سمعتها من شيخى سفيان بن عيينه ..
إنتبه خاله معتدلا فى جلسته قائلا .....
ــ ماذا قال شيخك ؟.
ــ حكى لنا ذات يوم ...........
ــ سمع جابر الأنصارى وهو بالمدينه , أن عقبة الجهنى لديه حديث فى القصاص .. خرج على الفور إلى السوق واشترى بعيرا شد عليه رحله , ومضى إليه حيث يقيم فى رحلة استمرت شهرا كاملا , وأخيرا لقى عقبه , سأله عن سبب قدومه إليه فقال له ... جئت لأسمع منك حديثا لم يسبق أن تحدث به أحد غيرك , تحدثت به عن رسول الله "صلى الله عليه وسلم " فى القصاص , ورغبت فى سماعه منك مشافهة قبل أن يموت أحدنا .............
واستأنف الشافعى .........
ــ فهذا رجل قطع تلك الرحلة الشاقة من أجل حديث واحد يعلمه , لكنه أراد أن يستوثق من صحته من راويه .. وأنت يا خال تعجب من سفرى إلى شيخ عنده مائة ألف حديث .. والله لو قضيت عمرى كله أسافر فى طلب العلم , فلن أتوانى عن ذلك أبدا , حتى لو رحلت إلى آخر بلاد الأرض .....
سأضرب فى طول البلاد وعرضها .. أنال مرادى أو أموت غريبا ..
فإن تلفت نفسى فلله درها .. وإن سلمت كان الرجوع قريبا ..
رد خاله ضاحكا وقد انفرجت أساريره .....
ــ من ذا الذى يقدر على أن يجاريك فى حججك , فضلا عن قوافيك يا ابن إدريس .. ليس عندى ما أقوله لك بعدما سمعته منك , إلا أن أدعو الله لك أن يبلغك مرادك .. كنت أعلم منذ البداية أن الغلبة ستكون من نصيبك ..
تضاحك الجميع , بينما أخذت أم حبيبه تربت بيدها على ظهره فى حنان , قائلة ....
ــ أنت وما عزمت عليه .. على بركة الله يا ولدى .. سنرحل إلى المدينة سويا إن شاء الله , بعد أن تعد عدتك للسفر ..
صمتت هنيهة ثم نظرت للفضاء الممتد من أمامها قائلة ........
ــ إيه يا ولدى .. تلك هى المرة الثانية التى أسافر فيها للمدينه .. لم أشاهد أرضها منذ وفاة إدريس ..
ــ متى كانت المرة الأولى يا أماه ؟..
ــ منذ زمن طويل .. بعد أن تزوجت بعام واحد , شددنا الرحال إليها لزيارة الروضة النبوية الشريفه .. ونزلنا أيامها عند عمك يعقوب ...........

يتبع إن شاء الله ................................
__________________
إذا ما الطائر الصداح قد هدهده اللحن
ورفت نسمة الفجر على أشجانه تحنو
هناك السحر والأحلام والألحان والفن
نجيب سرور

التعديل الأخير تم بواسطة : د أنس البن بتاريخ 16/05/2011 الساعة 16h28
رد مع اقتباس
  #43  
قديم 08/12/2008, 18h13
سلمى القمر سلمى القمر غير متصل  
ضيف سماعي
رقم العضوية:352530
 
تاريخ التسجيل: décembre 2008
الجنسية: مصرية
الإقامة: مصر
المشاركات: 7
افتراضي رد: عالـم قـريش ـ السـيرة الشافعـيه ـ أنس البن

د/انس
اتمنى بس من حضرتك لو مش هدايقك انى اعرض اعمالى الشعرية هنا وحضرتك تقولى رايك سواء مدح او نقد لانى اكيد هستفيد من حضرتك مع العلم انى بعرضها على دكاترة لغو عربية بكلية الاداب لكن لى الشرف ان استمتع براى حضرتكم
رد مع اقتباس
  #44  
قديم 16/12/2008, 19h49
الصورة الرمزية عبد الحميد سليمان
عبد الحميد سليمان عبد الحميد سليمان غير متصل  
مواطن من سماعي
رقم العضوية:245929
 
تاريخ التسجيل: juin 2008
الجنسية: مصرية
الإقامة: السعودية
المشاركات: 135
افتراضي الي الأخ الأديب الدكتر أنس تعليقا علي ابداعه عن الامام الشافعي دعبد الحميدسليمان



بسم الله الرحمن الرحيم
أخي الحبيب والأديب الكبير الدكتور أنس00تحية من الله مباركة طيبة اليك والي زوجك وأهلك ومحبيك ومريديك--وبعد أخي الكريم لم يكن من دأبي ان أقرأ متعجلا واحكم متسرعا نزقا, وما كان لمثلي ان يكون كذلك00لقد قرأت بامعان ووعي كبيرين لهذا النص الأدبي التاريخي الرائع ودعني أحييك وأشد علي يديك ذلك انني وجدت ساحة رائعة من الأصالة اللغوية والتأثر الأسلوبي بالقرآن الكريم وتلك عندي من أعظم علامات وحاجات الأديب الحقيقي ودع عنك من تفزعهم تلك الثقافة القرآنية فيرفضونها وقد غلفوا جهلا فاحشا وعجزا فاضحا بكبر زائف وهروب ساذج 00أخي الحبيب 00ارتقيت بالنص بحسن اختيار الموضوع وأهمية الشخصية واحساس سليم مخلص بواجب الأديب ودوره00وسقت لنا من المصادر التاريخية أحداثا صغتها بلغة الأديب ورحابة الأدب فأنقذت النص من غلظة السوق التاريخي الجاف وكأني أراك تنهج نهجا أتعشقه وألوذ اليه دائما ذلك ان اشكالية العلاقة بين الادب والتاريخ والأديب والمؤرخ في تقديري المتواضع قد وجدت فيك عنوانا صحيحا لفهمها والتعبير عن صيغها المطلوبة المقبولة وكأني أراك وقد نظرت الي أديبنا واستاذنا الدكتور طه حسين في روائعه علي هامش السيرة والوعد الحق وعلي وبنوه والفتنة الكبري وسرت في غير تقليد تابع ولا اقتداء هزيل في نفس ذلك السياق الراقي00أخي الحبيب 00دعني أصارحك انني قد عشت دهرا مع أساتذتي في التاريخ وانا بين مطرقة مناهجهم وموضوعيتهم القاسية ,وأنسام روح الأدب والابداع فكنت كقن أثقلته القنانة وذابت نفسه شوقا الي الانعتاق والحرية فلما أمكن له ذلك لم يدخر وسعا ولم يأل جهدا00أديبنا الكبير الراقي 00تهنئة عارف ومقدر ومعجب ورفيق درب وصديق00 وبارك الله فيك ونفع بك وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته00د/عبد الحميد سليمان
رد مع اقتباس
  #45  
قديم 17/12/2008, 09h02
الصورة الرمزية د أنس البن
د أنس البن د أنس البن غير متصل  
نهـر العطاء
رقم العضوية:688
 
تاريخ التسجيل: mars 2006
الجنسية: مصرية
الإقامة: مصر
المشاركات: 8,297
افتراضي رد: الي الأخ الأديب الدكتر أنس تعليقا علي ابداعه عن الامام الشافعي دعبد الحميدسل

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة عبد الحميد سليم مشاهدة المشاركة

بسم الله الرحمن الرحيم
أخي الحبيب والأديب الكبير الدكتور أنس00تحية من الله مباركة طيبة اليك والي زوجك وأهلك ومحبيك ومريديك--وبعد أخي الكريم لم يكن من دأبي ان أقرأ متعجلا واحكم متسرعا نزقا, وما كان لمثلي ان يكون كذلك00لقد قرأت بامعان ووعي كبيرين لهذا النص الأدبي التاريخي الرائع ودعني أحييك وأشد علي يديك ذلك انني وجدت ساحة رائعة من الأصالة اللغوية والتأثر الأسلوبي بالقرآن الكريم وتلك عندي من أعظم علامات وحاجات الأديب الحقيقي ودع عنك من تفزعهم تلك الثقافة القرآنية فيرفضونها وقد غلفوا جهلا فاحشا وعجزا فاضحا بكبر زائف وهروب ساذج 00أخي الحبيب 00ارتقيت بالنص بحسن اختيار الموضوع وأهمية الشخصية واحساس سليم مخلص بواجب الأديب ودوره00وسقت لنا من المصادر التاريخية أحداثا صغتها بلغة الأديب ورحابة الأدب فأنقذت النص من غلظة السوق التاريخي الجاف وكأني أراك تنهج نهجا أتعشقه وألوذ اليه دائما ذلك ان اشكالية العلاقة بين الادب والتاريخ والأديب والمؤرخ في تقديري المتواضع قد وجدت فيك عنوانا صحيحا لفهمها والتعبير عن صيغها المطلوبة المقبولة وكأني أراك وقد نظرت الي أديبنا واستاذنا الدكتور طه حسين في روائعه علي هامش السيرة والوعد الحق وعلي وبنوه والفتنة الكبري وسرت في غير تقليد تابع ولا اقتداء هزيل في نفس ذلك السياق الراقي00أخي الحبيب 00دعني أصارحك انني قد عشت دهرا مع أساتذتي في التاريخ وانا بين مطرقة مناهجهم وموضوعيتهم القاسية ,وأنسام روح الأدب والابداع فكنت كقن أثقلته القنانة وذابت نفسه شوقا الي الانعتاق والحرية فلما أمكن له ذلك لم يدخر وسعا ولم يأل جهدا00أديبنا الكبير الراقي 00تهنئة عارف ومقدر ومعجب ورفيق درب وصديق00 وبارك الله فيك ونفع بك وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته00د/عبد الحميد سليمان
أستاذنا الجليل دكتور عبد الحميد بك سليمان
قرأت بعنايه ما سطره قلمك لى من كلمات غاليه لها شأنها الخاص لأنها تصدر من عالم جليل يزن الكلمات بميزان العلم الذى لا يجامل أبدا
لكن أستاذنا المفضال , هذا كثير والله على , وأدهشنى كثيرا ما قرأته فى سطورك , لأنى لم أكن أتوقع أبدا أن يكون لهذا العمل المتواضع جدا تلك المكانه , وكثيرا ما كنت ألوم نفسى على جرآءتها فى اقتحام عالم المبدعين ولست منهم وإن كنت قارئا نهما لإنتاجهم منذ صباى المبكر
على كل حال تلك الكلمات النيرة أعادت لى ثقتى بنفسى وأخاف أن يصيبها الغرور والعجب , وقد سمعت من قبل ما أسعدنى من آراء أساتذة أفاضل أحمل لهم ولكم كل التقدير والعرفان
دمت لنا ودام لنا قلمك المشبع بعبق الماضى الأصيل
ودامت أقلام أحبابنا جميعا فى يوتوبيا سماعى كما يحلو لصديقنا العزيز إسلام أن يصف به منتدانا الأصيل ..
__________________
إذا ما الطائر الصداح قد هدهده اللحن
ورفت نسمة الفجر على أشجانه تحنو
هناك السحر والأحلام والألحان والفن
نجيب سرور
رد مع اقتباس
  #46  
قديم 17/12/2008, 09h03
الصورة الرمزية د أنس البن
د أنس البن د أنس البن غير متصل  
نهـر العطاء
رقم العضوية:688
 
تاريخ التسجيل: mars 2006
الجنسية: مصرية
الإقامة: مصر
المشاركات: 8,297
افتراضي

أشكرك من قلبى أخى محمد حمدان على كلماتك المشجعه الطيبه للضعفاء من أمثالى وحمد الله على سلامتك ........
شكرا من القلب يا أخت ياسمين ومرحبا بك ...


__________________
إذا ما الطائر الصداح قد هدهده اللحن
ورفت نسمة الفجر على أشجانه تحنو
هناك السحر والأحلام والألحان والفن
نجيب سرور

التعديل الأخير تم بواسطة : د أنس البن بتاريخ 19/05/2011 الساعة 11h27
رد مع اقتباس
  #47  
قديم 17/12/2008, 09h03
الصورة الرمزية د أنس البن
د أنس البن د أنس البن غير متصل  
نهـر العطاء
رقم العضوية:688
 
تاريخ التسجيل: mars 2006
الجنسية: مصرية
الإقامة: مصر
المشاركات: 8,297
افتراضي

@ لم ينتظر الشافعى , قام يسابق الزمن قاصدا دار أمير مكه , وكان يمت له بصلة قرابة من جهة أبيه .. قص عليه حكايته ثم قال فى ختام كلامه ....
ــ وأخيرا فرغت فى الأيام الماضية من قراءة موطأ الإمام مالك ..
ــ عظيم .. وماذا أنت فاعل بعدما فرغت منه ؟..
ــ عقدت العزم إن شاء الله على السفر إلى المدينه , وألتقى بإمامها لأتزود من علومه وعلوم أهلها ..
ــ لكن !. رحلة كهذه يا ابن أخى فيها مشقة كبيرة عليك .. وأنت كما أراك لا زلت فى مقتبل العمر ..
ــ سيدى الأمير .. من فاته التعليم وقت شبابه .. فكبر عليه أربعا لوفاته ..
تبسم قائلا .....
ــ أصبت الرميه .. على كل حال .. هل بوسعى أن أقدم لك أى معونه ؟. مالا مثلا .. لا تستحى منى .. أطلب ما يكفيك .. إن لك حق القرابه والرحم .. وأنت طالب علم .. أحق الناس بالعون والتأييد ..
ــ أشكرك يا سيدى على هذا الكرم والفضل الكبير .. أنا لم آت إليك طالبا للمال .. ما أفلح فى العلم إلا من طلبه بالقله .. كنت أبحث عن القرطاس فيعز على امتلاكه . إنما سعيت إليك لأمر آخر ..
ــ مجاب إن شاء الله ..
ــ أريد منك كتابا لشيخ المدينه .. مالك بن أنس .. أتقوى به على لقائه ..
هز رأسه أسى وأسفا وقال .......
ــ إيه .. طلبت منى ما لا أستطيع فعله .. إنى أتهيب من الكتابة له ..
نظر إليه الشافعى متعجبا فعاجله بقوله .....
ــ يا ولدى أنت لم تر الشيخ .. لكنى سأفعل شيئا آخر .. سأعطيك كتابا لأمير المدينه .. إسحق بن سليمان الهاشمى .. أشرح له المسئله وأوصيه أن يصحبك بنفسه للقاء الشيخ ..
ــ ولم أشق عليه .. يكفى أن آخذ كتابا منه ..
ــ قلت لك يا ابن إدريس إنك لم تر إمام المدينه .. وعندما تراه بإذن الله .. ستفهم كل شئ وتعرف صدق كلامى ..
قال العبارة الأخيره وهو بمسك بريشته ويضعها فى المحبره مسطرا فى عناية كتابا لأمير المدينه .. طواه ووضع الخاتم عليه ثم أعطاه للشافعى قائلا له وهو يودعه .....
ــ فى سلام الله يا ابن أخى .. رحلة مباره ومقاما طيبا فى مدينة رسول الله "صلى الله عليه وسلم " .. ليهنك العلم يا ولدى ..
@ خرج من دار الإمارة والرسالة لا تزال بيده .. راح يدب فى طرقات مكة لا يلوى على شئ .. بعد أن عاودته الهموم وألقت به فى دوامات الفكر .. ظل يحدث نفسه ... ما العمل وأنا لست صاحب حرفة أتكسب من ورائها أو أوفر المال .. ماذا عن رحلة المدينة وما يلزمها من نفقات لشراء دابتين وما أتزود به من قوت وملبس .. وما سوف أحتاجه فى المدينة لكراء دار أقيم فيها مع أمى ..
كانت نهمته وحرفته طلب العلم وتحصيله .. وهى مهنة لا تجلب درهما ولا دينارا .. ويدرك أكثر من غيره ما تعانيه أمه من عسر الحال وضيق المعيشة وإن تظاهرت بخلاف ذلك .. لم يشأ لأن يرهقها من أمرها عسرا أو يشق عليها أو يحملها ما لا تطيق .. لكنه لا يجد حيلة فى مقابل سلطان العلم الذى ملك عليه أمره واستولى على جماع فكره .. ولما انتهى فى المساء إلى داره .. دخل على أمه ومرآة وجهه انطبع عليها بغير حول منه ما كان يكابده فى باطنه من هموم ..
رمقته بعينها لحظة ولوجه من الباب وفى الحال أدركت بفراستها وقرأت مكنون فؤاده وما أهمه وفهمت سر معاناته , قبل أن يسارع بإخفائها وراء ابتسامة باهتة حاول أن يرسمها على شفتيه .. تشاغلت عنه متظاهرة أنها لم تره .. حتى إذا جلس والتقط أنفاسه عاقدا يديه من خلف رأسه .. نظرت إليه متسائلة .....
ــ إيه يا ولدى .. أين كنت .. لم تأخرت هكذا على غير عادتك ؟.
لم تنتظر إجابته وأشارت إلى يده قائلة ....
ــ آه .. يبدو أنك ظفرت ببغيتك ..
ــ تلك الرساله ؟.. إنها توصية من الأمير إلى أمير المدينه ..
ــ الحمد لله .. كل الأمور إذن تجرى وفق مرادك ..
وقبل أن يرد معفبا , إقتربت منه وعلى شفتيها بسمة حانية ودوده بينما تخرج من طيات ردائها صرة , ناولتها له قائلة ...
ــ أمسك هذه يا ولدى ..
تناولها متعجبا .....
ــ ماذا يا أماه , نقود ؟!..
ــ أجل يا ولدى .. عشرون دينارا كامله ..
ــ أجل يا أمى .. لكن كيف .. من أين ؟. أنا أكثر من يعلم أنه لا يتوفر لك درهم واحد تدخرينه ؟!..
حاولت تجاهل سؤاله وهى تبحث عن إجابات مبهمة دون جدوى .. لم يتمكن لها أن تمضى فى مراوغته .. وجدت منه إصرارا على معرفة الحقيقة ....
ــ إسمع يا ولدى .. سأخبرك بكل شئ ..
أرسل إليها نظرة استفسار ملؤها الشفقة , قالت على إثرها ....
ــ يا ولدى .. رحلة المدينه يعوزها دابتين وزادا للسفر .. لهذا رهنت الدار مقابل ستة عشر دينارا , وكان معى أربعه أتممت بها العشرين ..
هم بأن يعقب مستنكرا وفد تغير وجهه .. غير أنها أسكتته بإشارة قاطعة بيدها وهى تقول .....
ــ أصلحك الله يا ابن إدريس .. هذه الدار لا يقيم بها أحد سوانا .. ما الداعى لتركها مغلقة مدة غيابنا .. وفى المدينة سوف نحل فى دار عمك يعقوب , أنت لا تعرفه , آخر مرة زارنا كنت صغيرا فى المهد ..
ــ يا أم .. وبعد رجوعنا من المدينة عن شاء الله , كيف يكون الحال ونحن بلا دار نأوى إليها ..
ــ لا عليك أنت من ذلك .. دع هذا لحينه .. لعل الله يعوضنا دارا خيرا منها .. هيا يا ولدى خذ المال ودبر شئونك .. هيا .. لا تكن عنيدا صلب الرأس مثل أبيك ..
أكب على يد أمه يقبلها وعيناه ترتعشان بالدمع , بينما اخذت تمسح على رأسه بحنان الأم الطيبة الصامده , وهى تضمه باكية إلى صدرها .......

@ فى نفس العام الذى كان الشافعى يعد العدة للرحيل إلى المدينه , إعتلى هارون الرشيد كرسى الخلافة بعد وفاة أخيه موسى الهادى وهو فى ريعان الشباب , فى ظروف غامضة تضاربت فيها الأقاويل واختلفت الآراء وتباينت الروايات .. كان الخليفة الراحل على وشك خلع أخيه هارون من ولاية العهد وأخذ البيعة لولده جعفر وليا للعهد وهو دون السابعه .. بينما كانت أمه الخيزران تتمنى تقديم أخيه هارون عليه فى الخلافة فى حياة أبيهما المهدى كما أسلفنا .. لكن جرت المقادير على غير ما أرادا , لتكون بداية الجفوة والخلاف بين الأم وولدها , والتى كانت تزداد يوما عن يوم , حتى انتهت إلى القطيعة الكامله بعدما وصل الجفاء إلى ذروته , وحدث ما كان متوقعا حدوثه بين يوم وآخر , وكانت المواجهه والصدام الأكبر بين الأم وولدها الخليفة موسى الهادى فى لقاء عاصف , حيث بلغ به الغضب مداه من تدخلها فى شئون الحكم , وجاءته الفرصة يوما ليصب عليها جام غضبه , وما كان يضمره من كراهية لها , لما جاءته لتكلمه فى حاجة ضمنتها لأحد أتباعها , إنفجر بركان عضبه وهو يقول لها .....
ــ ألم يأن لك أن تكفى عن هذه الأمور .. لقد صبرت عليك كثيرا .. إنتظرت أن تغيرى من مسلكك هذا .. لن أسمح لك بعد اليوم بالتدخل فى شئون الحكم .. وأن تفعلى ما كنت تفعلينه فى الماضى أيام أبى .. مالك أنت وأمور البلاد .. سبق وأرسلت لك رسالة أحذرك فيها .. أن تخرجى من خفر الكفاية إلى بذاءة التبذل .. ليس من قدر النساء الإعتراض فى أمور الملك ...
أخذ صوته يعلو ويزداد حدة وهو يصرخ فيها ....
ــ ما هذه المواكب التى أراها تغدو وتروح إلى بابك !. أليس لك مغزل يشغلك أو مصحف يذكرك أو بيت يصونك .. أحذرك من فتح بابك بعد اليوم لمسلم أو ذمى .. والله لئن بلغنى أنه وقف ببابك أحدا من قوادى أو خاصة رجالى لأضربن عنقه ولأقبضن ماله .. متى أفلح خليفة له أم !!..
كان لقاء عنيفا فاصلا إستمعت فيه الخيزران الأم إلى ما لم يطرق سمعها من قبل .. وانتشر أمر هذا اللقاء بين الناس وكان قرينة كبرى ومدعاة لأن تشير أصابع الشك والإتهام إلى الأم لما مات ولدها الخليفة فجأة وهو فى السادسة والعشرين من عمره , قيل أنها دست له السم فى طعامه عن طريق واحدة من جواريه , لكن الحقيقة التى لم يكن على علم بها إلا القليل من خاصته لقلة شكايته , أنه كان يعانى قرحة فى معدته ..
وفى نفس الليلة التى مات فيها , تمت البيعة لأخيه هارون أميرا للمؤمنين .. ومن عجائب الأقدار أنه قبل وفاته بيت النية وعقد العزم على قتل أخيه الرشيد ويحي البرمكى الأب الروحى له وأقرب المقربين إليه .. لم ينس له أنه سافر إلى حيث يقيم فى جرجان ليخلعه من ولاية العهد , وألقاه فى السجن أسفل القصر ينتظر مصيره , لكن يد القدر سبقت إليه ..
لذلك لما تولى الرشيد وجلس على كرسى الخلافة , كان أول قرار له شفاهة إلى حاجبه الفضل بن الربيع .........
ــ إذهب فى التو إلى السجن أسفل القصر , وأخرج منه "أبى" يحي , وأحضره إلى هنا , لا تتأخر ..
إستدار الفضل خارجا على مضض منه , لما كان يحمله فى قلبه ميراثا أبويا من كراهية دفينة للبرامكة جميعا , ونفوذهم يزداد يوما عن يوم ..
وفى طريقه أخذ يحدث نفسه وعلامات الغضب والكراهية على وجهه .... تبا لهم أولئك الدخلاء الغرباء الذين أتوا ديارنا قادمين من بلخ , إن كان هذا حالهم ونفوذهم أيام الخليفة الراحل , فماذا هم صانعون بعد تولى الرشيد أمور الخلافه , وهو الذى شرب لبانهم وتربى فى أحضانهم وتعلم منهم أكثر من عشرين عاما , إنه لا يحاطب يحى إلا بيا "أبت" ..
أخيرا وصل إلى باب السجن وأخرج منه يحى متظاهرا بالفرحة مقدما له التهانى وظل يلاطفه حتى وصلا ديوان الرشيد .. ما إن لمحه قادما حتى نزل من على كرسيه مقبلا عليه مسلما مهنئا ثم قال له ....
ــ لا تحزن يا أبت على ما أصابك .. قلدتك منذ الساعة أمر الرعيه , تحكم فيهم بما ترى من صواب , إعزل من شئت واستعمل من تراه صالحا , وهذا خاتمى معك ..
قال ذلك وهو يلبسه خاتمه بنفسه , ثم نظر إلى يساره نظرة ذات مغزى حيث كان إبراهيم الموصلى جالسا وقال له مبتسما .....
ــ إيه يا موصلى .. ألن تطرب أسماعنا .. إنه يوم بهجة وسرور ..
إنحنى إبراهيم ممتثلا وهو يحتضن عوده الذى لا يفارقه واعتدل فى جلسته , وبدأت نغمات عوده الشجية تملأ أرجاء المكان على صوته الرخيم العذب وهو يقول ...
ألم تر أن الشمس كانت سقيمة .. فلما تولى هارون أشرق نورها
بيمن أمين الله هارون ذى الندى .. فهارون واليها ويحي وزيرها

يتبع
إن شاء الله ................................



@ إتخذ الشافعى وأمه طريقهما قاصدين المدينه .. وعلى راحلتيهما مضيا يسلكان طريق الهجرة الذى مشى على حبات رماله قبل مائة وسبعين عاما , جده رسول الله "صلى الله عليه وسلم" ومعه صاحبه الصديق الأكبر فى رحلة المجد والخلود .. أشار لشافعى لأمه وهو يحدثها على غار ثور الذى اختبأ فيه رسول الله "صلى الله عليه وسلم" وصاحبه عن عيون طالبيه من مشركى مكه .. أخذت تمر على خاطره فى تتابع سريع أحداث التاريخ القريب وذكرياته العطره التى رواها له الأجداد بلسان المقال وتحكيها فى صمت جليل بلسان الحال جبال مكة ووديانها , وسهولها وحبات الرمال المترامية أمام عينيه , التى ارتوت وتعطرت بدماء الشهداء الأبرار .. رأى من خلالها الفرسان الأوائل من جيل الصحابة العظام وهم قادمون صوب مكة يقودهم رسول الله "صلى الله عليه وسلم" لنصر الله المبين وللفتح الأكبر .. رأى الناس وهم يدخلون فى دين الله أفواجا مرددا معهم ... لا إله إلا الله وحده .. صدق وعده ونصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده .. سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم .. لا حول ولا قوة إلا بالله ..
أفاق من من ذكريات رحلة عطرة بقيت آثارها تروى أحداثها وإن طواها الزمن .. إلتفت إلى أمه قائلا .....
ــ إذا أذنت لى يا أم ؟.
ــ نعم يا ولدى ..
ــ أن أمضى وقت السفر فى قراءة القرآن , كنت قد عقدت العزم على ذلك قبل أن نتهيأ للرحيل , أريد أن يكون زادنا فيها آيات الذكر الحكيم , وأن أتقوى بها على لقاء شيخ المدينة وإمامها الأعظم ..
ــ أنت وما عزمت يا أبا عبد الله ..
مرت أيام ثمان , ختم القرآن خلالها ست عشرة مره .. ختمة فى الليل ومثلها فى النهار .. إلى أن بدأت تلوح فى الأفق من بعيد شيئا فشيئا أشجار المدينة الوارفة الظلال وباسقات النخيل .. أخذت تداعب وجوههما نسماتها الرقيقة التى تعطرت بأنفاس رسول الله "صلى الله عليه وسلم" وأصحابه الأعلام .. لبثا ساعة فى ضيافة رسول الله "صلى الله عليه وسلم" فى روضته الشريفة .. مفتتحين بها قبل أن يتوجها إلى دار عمه يعقوب بن العباس الشقيق الأكبر لأبيه إدريس والذى استقر فى المدينة بعد زواجه من إحدى بناتها وله منها ولد وحيد اسمه يوسف , يقارب عمره ابن عمه الشافعى .. شاب عاقل رصين متدين .. تلقى هو الآخر نصيبا من العلم ويعمل مع أبيه فى تجارته ..

يتبع إن شاء الله ............

لامست نسمات الصباح الباردة فى رفق وجه الفتى المكى من نافذة إلى جواره .. نهض على إثرها من فراشه سعيدا متفائلا تنطق أساريره بالبشر والبهجة .. شاعرا بنشاط وحيوية تسرى فى جسده الضامر .. وأنه أصبح أكثر قوة مما كان عليه قبل أن يلقى جسده المنهك من طول الرحلة على الفراش .. لم يشعر إلا وفراشه يبتلع جسده المكدود مستغرقا ليلته فى نوم عميق .. كما يقول العرب فى أمثالهم ... "طعام الجائع هنئ وفراش المتعب وطئ" ..
أمضى طرفا من الليل قبل أن يروح فى سباته العميق , فى حديث هامس مع إبن عمه يوسف , شريكه فى الفراش .. كانت تلك أول مرة يلتقى فيها أبناء العم ويرى كل منهما الآخر .. سأله عن رحلته الشاقة المضنيه , وما لقيه خلالها عبر ممرات الصحراء الوعرة ودروبها الشائكه , ظل يحكى له
عما لقيه أثناءها من متاعب وعذابات , زاد منها أنه لم يضع جنبيه على فراش لين خلالها , لم يهنأ بدنه ولم تقر عينه برقدة تريحه من مشاق السفر ومعاناته .. روى لابن عمه كيف كان يختلس لحظات من الزمن اختلاسا كأنه يستعيرها , يغفو خلالها كالمغشى عليه لا يلبث بعدها حتى يهب مستيقظا , راجعا لما كان عليه من مواصلة الرحلة وقراءة القرآن .. حكى له عن سبب قدومه وأمه إلى المدينه , وأنه عزم على مواصلة رحلة العلم التى بدأها فى مكه , مرورا برحلته الى الباديه ثم جلوسه بعد ذلك إلى شيوخ الحرم .. أفصح له عن وجهته فى المدينه وعزمه على لقاء إمامها أولا واخذ العلم عنه قبل أن يختلف إلى علماء المدينة الآخرين والأخذ عنهم , والتعرف على أحوال أهلها وكيف علمهم وعملهم بالكتاب والسنه .. وأثناء حديثه الممتد الهامس لم يشعر بنفسه إلا وهو بتثائب رغما عنه وراح يغط فى نوم عميق , وابن عمه يرقبه بنظرة ملؤها الشفقة والإعجاب بأحوال هذا الفتى المثابر الدؤوب ..*

يتبع إن شاء الله ............
*
@ فرغ من صلاته وأخذ يرتدى ملابسه على عجل وعيناه على باب الدار لا تبرحان كأنه يتعجل الخروج إلى ما هو قادم إليه , بدا وكأنه عاشق متيم يتلهف لقاء الحبيبة بعد طول غياب ونوى .. أجل , ها هو يتقدم خطوة أخرى فى سبيل تحقيق حلمه وهدفه الأسمى , بعد أن أخذ على نفسه العهد ألا يذيقها طعم الراحة حتى تتحقق رغبة أمه وأمنية أبيه الراحل , كان ذلك بعد لقائه الروحى البرزخى فى مكه مع الشيخ العارف الفضيل بن عياض ..
إنتهى من ارتداء ملابسه وسوى هندامه وتطيب , بينما عينى أم حبيبه تتابعه فى صمت وهو يتحرك جيئة وذهابا فى الغرفه , وهى فى عجب من أمر هذا الفتى الذى يحاول أن يسابق الزمان ويطوى الأيام .. أخذت تضرب كفا بكف محدثة نفسها ....... ما بال الفتى فى عجلة من أمره هكذا , إنه لم ينفض عن جسده غبار السفر بعد , لم تمض عليه فى المدينة إلا ساعات معدودات , وها هو يستعد للخروج ومواصلة الجهد والعمل , أى فتى هذا ..
تركت حديث النفس جانبا وارتفع صوتها بالسؤال مبدية عجبها ودهشتها , بينما يداها مشغولتان فى إعداد طعام الإفطار وهى تساعد زوجة عمه التى جلست قبالتها ......
ــ إيه .. أراك وقد تهيأت للخروج ؟..
ــ أجل يا أماه ..
ــ هكذا مبكرا . إلى أين ؟..
إلتفت إليها باسما بينما يداه تبحثان فى طيات ثيابه عن المكان الذى دس فيه كتاب التوصيه .......
ــ أنسيت يا أم الشافعى , أخرج لما جئنا من أجله ..
ــ ماذا تقول يا ولدى . تخرج الآن . فى هذه الساعة المبكرة تذهب لشيخ المدينة مالك ؟..
ــ لا يا أم , لم يحن بعد ميعاد اللقاء ..
عاودت سؤالها وقد توقفت يدها عن تقليب العصيدة على النار ....
ــ مادام الأمر هكذا, فيم العجلة إذن يا ولدى؟..
ــ أماه , على أولا أن أتوجه إلى دار أمير المدينه محمد بن إسحق الهاشمى ..
ــ أمير المدينه . لم ؟..
ــ كى أسلمه هذا الكتاب , كتاب التوصية الذى تحصلت عليه من أمير مكه ..
ــ آه , وبعد أن تسلمه كتاب التوصيه , ماذا أنت فاعل ؟..
ــ والله لا أدرى يا أماه , هذا يتوقف على ما يقرره الأمير , قد أذهب وحدى للقاء الشيخ , وقد نذهب سويا , لا أدرى .. إيه , كم انا فى شوق للقاء شيخ المدينة ونجمها الثاقب مالك بن أنس ..
ردت وهى تعاود تقليب العصيدة على النار فى حركات متتابعه ....
ـــ هكذا أنت يا ولدى , تستبق الزمان ..
رد فى الحال مرتجلا ......
ومن رام العلا من غير كد .. أضاع العمر فى طلب المحال
أروم العز ثم أنام ليلا .. يغوص البحر من طلب اللآلى .....
ــ أعلم مدى لهفتك وحرصك يا ولدى على لقاء الشيخ , لكن لن يضيرك أن تنتظر قليلا , نحن لا نزال فى أول النهار , اليوم كله بطوله أمامك تفعل فيه ما تشاء على راحتك ..
قاطعها فى الحال قائلا .....
ــ لم أنتظر يا أعظم الأمهات ؟..
ــ كى تتناول طعام إفطارك , او بعضا منه , إنك لم تذق للزاد طعما منذ البارحه , وأعلم أنك بت الليل على الطوى , تمهل يا ولدى , لحظات قليله وأرفع العصيدة من على النار , ألست تحبها وتشتهيها ؟..
رفع رأسه ناظرا لأمه وقد فرغ من تسوية هندامه , ثم انطلق قائلا بعد لحظات صمت وتأمل ....
العلم يا أماه ليس يناله .. من همه فى مطعم أو ملبس
إلا أخو العلم الذى يعنى به .. فى حالتيه .. عاريا أو مكتسى
فلعل يوما إن حضرت بمجلس .. كنت الرئيس وفخر ذاك المجلس
إلتفت إليها عمه يعقوب قائلا وهو فى مكانه حيث كان ينتقى وغلامه بعض أثواب القماش والعباءات ويرتبها ويحصى عددها قبل نقلها لمتجره .....
ــ أم حبيبه , أريحى نفسك , الولد سر أبيه , دعى الفتى وما يهوى , يبدو عنيدا صلب الرأس مثل أخى إدريس , كان رحمه الله إذا عقد العزم على أمر , لا يهدأ ولا يستريح حتى ينتهى منه .. تلك كانت خصلة فيه , ويبدو أن ولدك ورثها عنه ..
شاركته ابتسامته قائلة ......
صدقت والله يا أبا يوسف , كان أبو كما قلت , لكن ما حيلتى أمام فتى كهذا , لسان ينطق بالحكمة وعزيمة أمضى من الحسام المهند , على كل حال أنت وشأنك يا ولدى , على بركة الله , أنار الله لك طريقك ..
إستدار ناحية باب الدار وقبل أن يبلغه إستوقفه صوت ابن عمه يوسف من داخل غرقته مناديا عليه بصوت عال .......
ــ مهلا يا ابن العم , مهلا , إنتظر لحظة واحده , بالله عليك لا تخرج حتى أفرغ من ملابسى أنا الآخر , كى آتى معك , لأدلك على دار الأمير قبل أن أذهب للسوق ..

يتبع إن شاء الله ............
*
@ مكثا يقطعان الطريق إلى دار الإمارة فى حديث متواصل , وفى منتصف الطريق ساد الصمت بينهما , بدا الشافعى ساهما شاردا كعادته عندما يكون مقدما على أمر مهم , أخذ يرتب أفكاره ويهئ نفسه لهذا اللقاء المرتقب مع الأمير وهو لم يره من قبل , أخيرا وصلا دار الإماره وأمكنه بعد جهد جهيد أن يدخل عليه مجلسه رغم كثرة مشاغله .. لم يبد حارس الباب فى البداية أى استجابة لتوسلات ابن عمه أن يسمح لهما بمقابلة الأمير , كان الحارس فظا متعنتا معهما بحجة انشغال الأمير , ولم يسمح لهما إلا بعد أن لوح له الشافعى غاضبا برسالة أمير مكة وعليها خاتمه قائلا له .......
ــ إسمع أيها الحارس , كف عن الجدال , لابد لى من لقاء الأمير اليوم , إن معى رسالة مهمة له من أمير مكة واليمن ..
تراجع الحارس عن عناده وتغيرت لهجته فبدا أكثر تأدبا وهو يرد قائلا ....
ــ لم تخبرنى أن معك رسالة من مولاى أمير مكه .. حسنا .. على أية حال , إنتظر هنا ريثما يفرغ الأمير من لقائه مع رجال الدواوين وشيوخ القبائل ..
ثم استدرك قائلا وهو يراه يستعد للجلوس مكانه .....
ــ لكن اعلم أنه ربما يطول انتظارك ..
ــ لا بأس .. سأنتظر ..
إقترح عليه ابن عمه أن يذهب معه حيث دكان تجارته فى السوق يتبادلان أطراف الحديث , حتى لا يتسرب الملل إليه من طول الإنتظار وحيدا , لكنه شكره قائلا ........
ــ أفضل انتظاره هنا , حتى لا تفوتنى فرصة لقائه اليوم .. إذهب أنت على بركة الله إلى تجارتك ودعنى , وعندما أنتهى من المقابلة سأمر عليك فى السوق ..
شد على يديه مودعا وهو يقول له .....
ــ كما تحب .. سأذهب الآن إلى أبى فى سوق الثياب .. إنه قريب من هنا , سل أى إنسان على دكان يعقوب وسيدلك على مكانه فى التو ..
@ فرغ الأمير من قراءة الرسالة على مهل وهو يمر بعينيه على سطورها , طواها والتفت ناحية الشافعى قائلا وهو يحدق فيه بعين فاحصة مدققة يحاول سبر أغواره ومعرفة دخيلة نفسه .....
ــ نعم .. تريد إذن مقابلة الشيخ فى لقاء خاص ؟..
ــ أجل سيدى الأمير ..
ــ لكى تقرأ عليه الموطأ وتتعلم منه ؟..
ــ أجل .. ما رحلت من مكة إلى هنا إلا من أجل تحقيق تلك الغايه ..
ــ لكن .. لكن يا ولدى هذا كثير على فتى غض مثلك .. ألا تعلم أنه لا يختلف إلى إمام دار الهجره ولا يجالسه إلا من هم أكبر منك كثيرا ..
سكت برهة ثم واصل تساؤلاته .....
ــ وتريد منى أن أصحبك إلى داره ؟..
ــ تفضلا وتكرما منك ..
ــ إسمع إلى أيها الفتى المكى وافهم ما أقول .. هذا الأمر ليس هينا كما تظن .. إنه لأمر عسير بلوغه حتى على أمثالنا من رجال الحكم والأمر والنهى .. إيه يا ولدى ماذا أقول لك .. هل لك مطلب آخر ؟.
فغر فاه دهشة وقد تبدل حاله وبدا مهموما وهو يجيب ....
ــ أبدا يا سيدى .. لآ أبغى إلا ما جئت من أجله .. تلك هى أمنيتى الوحيده التى قدمت لأجلها ..
ــ هون عليك يا ولدى .. هل لك دار بالمدينه ؟..
ــ أقيم فى دار عمى يعقوب بن العباس الشافعى ..
رجع برأسه إلى الوراء , وأخذ يردد إسمه هامسا كمن يحاول أن يتذكره ثم قال ......
ــ آه تذكرته .. أليس هو تاجر الثياب والأردية الموشاه ؟..
ــ بلى هو يا سيدى ..
ــ أجل أجل .. وهل تحترف حرفة أو تجيد صنعة تتكسب منها ؟.
ــ حرفتى وصنعتى ونهمتى يا سيدى هى طلب العلم والتفقه فى الدين .. لقد تعلمت على يدى شيوخ مكه ونهلت الكثير من علومهم .. وكل ما أتمناه أن آخذ العلم على يدى شيوخ المدينه وأهلها ما استطعت إلى ذلك سبيلا ..
ــ تريد إذن جمع علوم أهل الحجاز جميعا .. لا بأس ..
أطرق برهة , ثم رفع رأسه لتلمع فى عينيه نظرة إعجاب بالفتى وهو يقول له ......
ــ يا لك من فتى مثابر دؤوب , أدركت من فحوى كلامك مدى قوة إرادتك وعزيمتك , وشدة ولعك بالمعرفة وتحصيل العلوم , لكن يا ولد شافع , أهون على أن أمشى على قدمى حافيا من جوف المدينة إلى جوف مكه , من المشى إلى باب شيخنا مالك .. ليتنا إذا رحنا إليه وأصابنا تراب العقيق ثم وقفنا على بابه يفتح لنا , لا تعجب , يا بنى أنت لم تره ولم تقف على بابه من قبل ..
صمت بهة ثم قال فى نبرة أسى .....
ــ هيهات هيهات , أتعلم أنه لم يغادر داره مذ أعوام طويله بعد أن اجترأ عليه أحد ولاة الخليفة المنصور بالضرب الموجع , ثم أمر رجاله أن يدوروا به فى الأسواق , لما أحل القوم من بيعتهم له قاشلا حديثه المعروف ..... ليس على مستكره يمين وليس على مستكره بيعه , فما وهنت عزيمته ولا لانت له قناه , بل أخذ ينادى بأعلى صوته وهم يدورون به فى الأسواق ..............
.... ألا من عرفنى فقد عرفنى ومن لم يعرفنى فأنا مالك بن أنس الأصبحى , أول لكم طلاق المكره ليس بشئ وليس على مستكره يمين ولا بيعه .....
ــ فلما علم المنصور بما جرى له صرخ فى رجاله ............. أدركوه وعودوا به إلى داره , وبعد سنوات جاءه فى موسم الحج وألح فى الإعتذار له بعد أن شعر بالذنب تجاهه من جراء تلك الفعلة الشنعاء .. إيه كانت أياما عصيبة قاسيه ..
ــ أجل يا سيدى .. أمير مكة قال لى شيئا كهذا , حتى أنه تهيب أن يخط رسالة توصية إليه , ولما سألته فى ذلك قال لى مثلما قلت ..
ــ على أية حال يا بنى لن أخذلك , إذهب الآن لشئونك وارجع إلى بعد صلاة العصر , سوف أكون بانتظارك هنا إن شاء الله , لكى نذهب سويا إلى دار الشيخ ..

راح الشافعى يقطع الساعات الطويلة فى جولة تعرف خلالها على معالم مدينة رسول الله "صلى الله عليه وسلم" وآثارها الطيبه .. بدأ بزيارة البقيع الذى يضم ثراه الطيب رفات آل البيت والصحابة والتابعين الأبرار , ومن بينهم رفات أجداده القرشيين العظام , قرأ الفاتحة على أرواحهم ودعا لهم , ثم يمم وجهه شطر المسجد النبوى , لبث ساعات فى العبادة والصلاة وقراءة القرآن فى الروضة الشريفه .. إبتهل إلى الله فى تلك البقعة المباركة من الأرض أن يوفق فى لقاء مالك وأن يكتب له القبول عنده .. بعد ذلك اتخذ طريقه إلى دكان عمه يعقوب فى سوق الثياب بالقرب من الحرم , ظل فى حديث مع عمه وابن عمه يوسف إلى أن رفع المؤذن النداء لصلاة العصر , وبعد أن ختم صلاته توجه إلى دار الأمير الذى كان ينتظره , إنطلقا وحدهما بعد أن أشار الأمير إلى حراسه ان يلزموا أماكنهم وألا يتبعه أحد ..................
*
يتبع إن شاء الله ............

@ على مهل وفى خطوات متأنية أخذا يشقان طرقات المدينة وأزقتها الضيقة يلفهما صمت عميق , إلى أن توقفا أمام إحدى الدور القديمه .. كانت رغم قدمها دارا رحبة أمام بابها فناء واسع تتناثر على جانبيه أشجار الصفصاف العتيقة العاليه وهى تظلل بأغصانها الوارفة فناء الدار.. وفى الركن الأيمن كانت ثلاث نخلات متوسطات الطول تخرج من أصل واحد فى منظر بديع فريد , لم تقع عينى الفتى على مثله من قبل .. مال الأمير على الفتى هامسا ......
ــ وصلنا أخيرا .. هذه دار إمامنا وشيخنا مالك ..
ــ ما أجملها من دار وما أطيب ريحها ..
ــ هل تعلم لمن كانت قبل أن تؤول لشيخنا ؟. كانت للصحابى الجليل عبد الله بن مسعود رضى الله عنه ..
قرع الباب برفق والفتى من خلفه ينتظر مترقبا أن يفتح الباب ويطل الشيخ منه عليهما .. إبتسم متفائلا وهو يقرأ عبارة منقوشة على باب الدار "ما شاء الله لا قوة إلا بالله" وكأنها إشارة إلى باب الجنه ..
لم يطل انتظارهما , خرجت إليهما فى الحال الجارية السوداء التى تقوم على خدمة سيدهامنذ عشرات السنين لم تفارقه يوما .. نظرت إليهما صامتة نظرة تساؤل , بادرها الأمير وكانت تعرفه .......
ــ أخبرى مولاك أنى بالباب ..
إستدارت دون أن تجيبهما أو تسمح لهما بتخطى عتبة الدار , عادت بعد لحظات انتظار مرت كأنها دهر ......
ــ يقول الشيخ إن كانت لك مسألة أو فتوى فارفعها فى رقعة وسيأتيك جوابها , وإن كان شأنا آخر فيوم المجلس معلوم , فانصرف يرحمك الله ..
ــ أيتها الجاريه , إنى أريده لشأن آخر ..
ــ ماذا تعنى ؟..
ــ قولى له إن معى كتابا من امير مكة فى أمر مهم ..
إنطلقت منه زفرة حرى مع آخر كلمة قالها وهو ينظر للشافعى نظرة يقول له من خلالها بعين الحال ..... أرأيت يا فتى ؟. ألم أقل لك ؟..
عادت الجارية بعد برهة وفى يدها كرسى لسيدها الذى خرج أخيرا كأنه ملك متوج تعلوه المهابة والوقار .. كان رجلا طوالا جسيما أشقر , أزرق العينين , يرتدى عباءة خضراء من فوق ثياب تبدو بيضاء ناصعة البياض , وعلى رأسه عمامة ينسدل طرفيها على كتفيه , وله لحية كثيفة وشارب مفتول لا يحفه .. ناوله الأمير وهو لا يزال لدى الباب , الرسالة بعد أن حياه وسلم عليه , ثم ظل مكانه واقفا ريثما يفرغ الشيخ منها ..
أخذ يردد النظر إليهما فى دهشة وهو يقرأ الرساله , يقرأ بضع كلمات ثم ينظر للأمير تارة وللفتى أخرى , وعلامات الغضب والحنق ترتسم على وجهه شيئا فشيئا , حتى بلغ منه الضيق مداه , فانطلق صائحا فى وجه الأمير محتدا ..........
ــ ما هذا .. ماذا تعنى كلمات تلك الرساله .. كيف طوعت لأمير مكة نفسه أن يخط كلاما كهذا ؟.. سبحان الله .. لا حول ولا قوة إلا بالله .. منذ متى وعلم رسول الله "صلى الله عليه وسلم" يطلب بالوسائل والوسائط ..
*
إستمر الشيخ فى إطلاق سهامه الغاضبة والأمير منكمش مكانه مطرقا فى حياء لاينبس ببنت شفه .. أدرك الشافعى أن المقابلة ستنتهى إلى طريق مسدود , وأنه عائد من هذا اللقاء صفر اليدين لا محاله , ماذا يفعل والأمير واقف إلى جواره ساكنا لا يقدر على النطق بكلمة واحده .. قرر فى لحظة فاصلة أن يفعل شيئا , إستخار الله تعالى , وتمتم فى سره كلمات ثم تنحنح قائلا ........
ــ أكرمك الله وعافاك سيدى الشيخ ..
ــ نعم أيها الفتى المكى ..
ــ إنى فتى مطلبى من بنى المطلب جد شافع بن السائب , حفظت القرآن مبكرا وأنا فى الرابعه على يد شيخ مكة وقارئها الأكبر إسماعيل بن قسطنطين , ثم خرجت إلى الباديه , مكثت مع أهلها بضعة أعوام , ثم بعد ذلك تلمذت على يد محدث مكه سفيان بن عيينه , ومفتيها مسلم بن خالد الزنجى , وختمت رحلتى بكتابكم الموطأ , قرأته بل وحفظته عن ظهر قلب قبل أن آتى إلى هنا , واليوم يا سيدى أنا هنا جئتك من مكة لأتعلم وأتفقه من علومكم وأتعرف على فقه أهل المدينة منكم .. ليتك تأذن لى ..
كان الشيخ شديد الذكاء ذو فراسه , لم يضع عينيه من على وجه الفتى , ظل يحدجه أثناء حديثه بنظرات فاحصة ثاقبة متأنيه , إلى أن انتهى من بيانه سأله وقد سكت عنه الغضب وسكنت نفسه ......
ــ ما اسمك أيها الفتى القرشى ؟..
ــ محمد بن إدريس الشافعى ..
ــ قلت أنك من ولد شافع بن السائب .. أليس كذلك ؟..
ــ بلى يا سيدى ..
ــ يا محمد إتق الله , واجتنب المعاصى , فسيكون لك يوما شأن ومكانة .. إن الله تعالى قد ألقى على قلبك نورا , فلا تطفئه بالمعصيه ..
ــ نعم وكرامة يا سيدى ..
ــ إسمع يا ولدى .. فى الغد تمضى إلى دار حبيب الكاتبى ..
ــ لم يا سيدى ؟..
ــ هو الذى يتولى أمر القراءة لى .. أبلغه أن يأتى كى يقرأ علينا الموطأ ..
ــ عفوا سيدى الشيخ , إن شئت تسمع عنى صفحا منه , فإن استحسنت منى أكملت وإلا تركت .. إنى أقرأه من الحفظ ..
ــ على بركة الله .. فى الغد تأتينى فى نفس الموعد ..

يتبع إن شاء الله ............

@ جلس بمفرده ينتظر الشيخ فى قاعة رحبة واسع , خصها للقراءة والدرس .. أخذ يجول ببصره يتأمل أرجاء المكان , وقد أخذته الدهشة من روعته وفخامته وحسن تنسيقه , أول مرة تقع عيناه على مكان كهذا .. شاهد أعواد البخور الهندى والغلام يضعها فى مجمرة من النحاس ,وخيوط دخانها الأبيض تلتف حول نفسها وهى ترتفع لأعلى , ناشرة عرفها , تملأ المكان سحرا وغموضا وروعه .. لاحظ الوسائد المريحة والنمارق المتناثرة يمنة ويسه , فى كافة زوايا المجلس , وقد أعدت لراحلة تلاميذ الشيخ ورواده وهم جلوس بين يديه ..
وبينما هو على تلك الحال من الدهشة سابحا بعينيه فى جنبات القاعة الفسيحة مأخوذا من روعتها وبهائها , إذ خرج عليه الشيخ كهيئة الملوك , مرتديا ثوبه الأبيض النقى ومن فوقه طيلسان أخضر , وعلى رأسه قلنسوة متركة , ورائحة الطيب تسبقه وقد بان عليه أنه اغتسل وتطيب ومشط لحيته , هكذا دأبه وحاله كلما يكون فى لقاء مع أحاديث رسول الله "صلى الله عليه وسلم" ..
لم ينتبه الشافعى لوجوده وهو واقف مكانه يرقبه وهو مأخوذ من روعة المكان مستغرق فى دهشته , ألقى عليه التحية واتخذ مجلسه قائلا ....
ــ أعجبتك القاعه ؟..
ــ لم أر يا سيدى فى مثل أبهة وروعة هذا المكان , وحسن تنسيقه وطيب ريحه ..
ــ إعلم يا ولدى أن الله ما أنعم على أحد إلا أحب أن يرى أثر نعمته عليه , وبالخصوص أهل العلم , ينبغى لهم أن يظهروا مرؤاتهم فى ثيابهم , إجلالا للعلم ومنزلته الكبرى .. لقد بلغنى يا بنى أن العلماء يسألون يوم القيامة عما يسأل عنه الأتبياء .. التواضع يا بنى فى التقى لا فى الثياب , وعلى هذا كان السلف الصالح .....
صمت برهة أردف بعدها ......
ــ لكم عانيت فى سنوات عمرى الأولى من ضيق الحال وشظف العيش .. حتى أنى بعت سقف دارى لأتعلم .. مرات كنت لا أجد ثمن الطعام , فأبيع من متاع دارى لأطعم أبنائى ..
كان الشافعى يستمع لحديث شيخه وعلامات الدهشة على وجهه .. نظر الشيخ إليه قائلا .....
ــ لا تعجب يا فتى من قولى .. سأحكى لك واقعة حدثت معى أيام الخليفة المنصور , منذ أعوام طويله .. جاءنى ذات يوم أبو جعفر المنصور أمير البلاد وقتئذ , وجلسنا نتحدث ونتحاور ساعات .. وفى نهاية حديثنا قلت له أذكره وأوصيه .....................
ــ يا أمير المؤمنين تفقد أحوال الرعية , ولتكن لك أسوة فى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ..
ــ أتظن يا شيخ المدينة أنى لا أفعل . ألست إذا بكت طفلتك من الجوع , أمرت أهلك أن يحركوا حجر الرحى لئلا يسمع الجيران بكاءها ؟.
ــ والله لا يعلم بهذا الأمر أحد إلا الله عز وجل .. كيف علمت به يا أمير المؤمنين ؟.
ــ قد علمته يا أبا يحى .. قد علمته .. أفمن يعلم هذا , لا يعلم أحوال رعيته .................
لم يشأ أن يقاطع الشيخ فى حديثه وهو ينصت متعجبا .. ثم بدأ يعتدل فى جلسته إستعدادا لقراءة أول صفحات الموطأ , بعد أن أذن له الشيخ مشيرا بيده .. وفى صوت رخيم خفيض بدأ يقرأ .......
ـــ بسم الله الرحمن الرحيم .. حدثنى العلاء بن عبد الرحمن , أنه سمع أبا السائب مولى هشام بن زهره يقول , سمعت أبا هريره يقول , سمعت رسول الله "صلى الله عليه وسلم" يقول " من صلى صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهى خداج غير تمام " .. قال قلت يا أبا هريره إنى أحيانا أكون وراء الإمام , قال فغمز ذراعى وقال : يا فارسى إقرأ بها فى نفسك , إنى سمعت رسول الله "صلى الله عليه وسلم" يقول "قال الله عز وجل .. قسمت الصلاة بينى وبين عبدى نصفين فنصفها لى ونصفها لعبدى ولعبدى ما سأل " ...........
إستمر الشافعى فى قراءته , بينما نظرات الشيخ تتابعه وهو يهز رأسه إعجابا بلسانه الفصيح ونطقه الصحيح وصوته الرخيم الخفيض .. كان الإمام يكره الصوت العالى فى القراءه وكذلك الشافعى .. حانت منه التفاتة إلى أصابعه وهو يقلب الصفحات بعد أن ينتهى من قراءة ما فيها .. لاحظ حرصه على أن يتصفحها صفحا رقيقا بين أصابعه , حتى لا يؤذيه أو يجرح خاطره سماع حفيفها .. إبتسم الشيخ ونادرا ما يفعل , وهز رأسه إعجابا وسرورا من فطنة الفتى وأدبه ..
رفع رأسه من فوق الكتاب ناظرا إلى الشيخ ليرى إن كان قد مل السماع او أصابه التعب من طول زمن القراءة , إلا أنه أشار إليه قائلا ......
ــ زدنا يا فتى قريش , ما أجمل قراءتك وما أعذب وقعها على الآذان .. أكمل فلا يزال أمامنا فسحة من الوقت ..
قال ذلك ثم نادى على غلامه ليحضر الطعام .. ما لبث غير بعيد حتى أقبل حاملا فى يمناه طبقا عليه صفحتان , فى إحداهما لبن وفى الأخرى تمر , وفى يده اليسرى إبريق ماء .. قال له الشيخ آمرا .....
ــ هيا اغسل علينا يا غلام .. ولا تنسى ما أمرتك به من قبل , فى أول الطعام لرب البيت , وفى آخره للضيف ..
لمح فى عينى الشافعى نظرة استفسار فقال له .....
ــ رب البيت يدعو الناس إلى طعامه , فحكمه أن يبتدئ بالغسل , وأن يتأخر فى آخر الطعام ترقبا لمن يدخل , ليأكل معه ........

يتبع إن شاء الله ............

@ مكث الشافعى أياما , مواظبا على مواعيده التى خصه بها الشيخ , خلافا للأوقات التى يلتقى فيها تلاميذه ومريدوه وطلاب علمه , كان يقرأ كل يوم صفحات من الموطأ والشيخ يسمع له , شارحا بعض الأحكام مبينا له مقاصد الشرع فيها .. ويوما بعد يوم كان يزداد إعجاب الشيخ به , طالبا منه أن يقرأ المزيد , وهو يقلب صفحات الكتاب الضخم واحدة بعد الأخرى .. وذات مرة بينما الشافعى مسترسلا فى قراءة أحد الأحاديث , إستوقفه الشيخ قبل أن ينتقل إلى الحديث الذى يليه .......
ــ مهلا أبا محمد , إنتظر ..
ــ نعم يا سيدى ..
ــ أعد قراءة هذا الحديث مرة أخرى ..
ــ لم يا سيدى .. هل أخطأت فى شئ ؟..
ــ لا .. لا .. لكنى أود أن تسمعنيه مرة ثانيه ..
ــ سمعا وطاعه ..
فوجئ الشيخ به يطوى الكتاب ويعيد نص الحديث من ذاكرته كما قرأه .......
ــ حدثنا عبد الله بن أبى بكر عن عمرو بن سليم قال , أخبرنى أبو حميد الساعدى قال , قالوا يا رسول الله كيف نصلى عليك ؟.. قال "قولوا اللهم صلى على محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم , وبارك على محمد وعلى أزواجه وذريته كما باركت على إبراهيم , إنك حميد مجيد" ..

ما كاد يفرغ من تلاوة الحديث حتى بادره الشيخ متعجبا .....
ــ أخبرنى يا ولدى , كيف اتفق لك أن تقرأ الحديث بنصه من الحفظ ؟.
أطرق حياء وهو يجيبه ............
ــ من نعم الله على يا سيدى , أنى أسمع الشئ أو أقرأه مرة واحده , فأحفظه فى الحال , ولا أنساه بعد ذلك ..
ــ منذ متى ؟..
ــ منذ صباى وأنا فى كتاب الشيخ إسماعيل .. كنت أستمع إليه وهو يلقن أحدهم الآية فأحفظها , وأنصت إلى ما يمليه عليهم , فأعيد كل ما سمعته نصا بعد أن يفرغ الشيخ ..
هز رأسه سرورا متمتما فى نفسه .... ما أعجب ما أراه منك أيها الفتى القرشى .. لقد صدق ظنى فيك مذ وقعت عينى عليك أول مره .......
*
يتبع إن شاء الله ............

@ إلى أن كان يوم , ومع آخر صفحات السفر الضخم .......
ــ عن الوليد بن عبد الله أن المطلب المخزومى أخبره أن رجلا سأل رسول الله "صلى الله عليه وسلم" ما الغيبه ؟. فقال "صلى الله عليه وسلم" "أن تذكر من المرء ما يكره أن يسمع" قال يا رسول الله , وإن كان حقا ؟. فقال "صلى الله عليه وسلم" "إذا قلت باطلا فذلك البهتان" …
طوى الكتاب ثم نظر للشيخ …..
ــ إيه يا ولدى .. كتاب جمعته فى أربعين سنه .. قرأته على فى بضع أيام ..
ــ أربعين سنه ؟.
ــ أجل يا ولدى .. أربعين سنه وأنا عاكف عليه .. تريد ان تقول شيئا .. لديك سؤال ألمحه فى عينيك ..
أجاب متلعثما …..
ــ أجل .. غير أنى ……..
ــ آه .. فهمت .. تود معرفة حكاية الموطأ معى , متى بدأت فيه , وكيف جمعت أحاديثه .. أليس كذلك ؟..
تعجب من شدة فراسة الشيخ وحدة بصيرته , كأنه كتاب مفتوح أمامه …
ــ بلى .. هذا ما أردت معرفته ..
ــ قبل أن أجيبك أود أن تجيبنى أنت .. كم حديثا قرأت فيه ؟..
ــ نيفا وألف حديث ..
ــ الذى لا تعلمه أنى كتبت بيمنى تلك , ومن هذه المحبره أكثر من مائة ألف حديث .. وأننى أدركت سبعين ممن يقول قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم" .. وأدركت أقواما لو استسقى بهم الناس لسقوا ببركتهم وقد سمعوا من العلم والحديث شيئا كثيرا .. ومع كل هذا , لم آخذ عن واحد منهم كلمة واحده ..
ــ عفوا يا سيدى .. كيف تدع أقوالهم وتترك رواياتهم وما يحدثون به , ولماذا قلت أنهم ليسوا من أهل هذا الشأن , وهم على ما هم عليه من التقى والورع ؟..
ــ ما أخبرتك بهذا إلا لكى أعطيك قاعدة تضعها دوما أمام عينيك , وإياك أن تنساها .. إحفظها فى خزانة ذاكرتك .. لا تأخذ العلم من أربعه .. أتسمعنى ؟.
ــ أجل .. زدنى بيانا ..
ــ لا تأخذه من سفيه ولا من صاحب هوى يدعو إلى بدعه , ولا من كذاب يكذب فى أحاديث الناس وإن كان لا يتهم على حديث رسول الله "صلى الله عليه وسلم" , وأخيرا وهو الأهم .. لا تأخذه من شيخ له فضل وصلاح وعبادة , إن كان لا يعرف ما يحمل ولا ما يحدث به .. أفهمت ؟..
ــ أجل أجل .. فهمت قصدك يا سيدى الشيخ ..
ــ نعود لحكاية الموطأ .. أخذت أنتقى من هذه الأحاديث , أنقص منها وأراجع مرة بعد أخرى , ولا أعتمد إلا المجمع عليه , والذى يتوافق مع عمل أهل المدينه , حتى وصلت إلى عشرة آلاف حديث من مائة ألف .. ومرت أيام بعدها أتانى أمير المؤمنين أبو جعفر المنصور ..
ــ متى كان ذلك ؟..
ــ منذ حوالى ثلاثين سنه .. فى موسم الحج .. يومها زارنى فى دارى القديم .. كانت دارا متواضعة الحال .. ليست ميسورة رحبة كهذه الدار ..
المهم , أخذ يحدثنى فيمن مضى من السلف والعلماء .. فوجدته أعلم الناس بالناس .. ثم تكلمنا فى الفقه كذلك , فوجدته أعلم الناس كذلك بما اجتمعوا عليه وأعرفهم بما اختلفوا فيه .. حافظا لما روى , واعيا لما سمع .. وفى زيارة ثانية له , عرضت عليه الموطأ , وبعد أن قرأ ما دونته فيه قراءة متأنية قال لى .............
ــ يا أبا يحى .. ليتك تعيد كتابته , واجتنب شواذ ابن مسعود , وشدائد ابن عمر , ورخص ابن عباس , واقصد أوسط الأمور وما أجمع عليه الصحابة والأئمه .......
ــ وماذا وجدت فى كلامه ؟..
ــ علمت أنه قد أصدقنى النصيحه .. فعكفت عليه مرة أخرى بضع سنين .. وظللت أنتقى منه .. ثم بوبته أبوابا حتى صار كما تراه ..
ــ وهل عاود أمير المؤمنين قراءته ؟..
ــ أجل .. فى العام الثامن والأربعين بعد المائه , أتفق أن جاء للحج أيضا , بعد أن اطلع على الموطأ فى صورته الأخيره , قام بزيارتى وقتها ليعتذر عما فعله معى أمير المدينه أيامها .. لقد ضربت حتى انخلع كتفى , حتى أنى لم أعد أستطيع تحريك يدى اليسرى ولا زلت .. لا زلت أذكر ما دار من حديث بينى وبين الخليفة المنصور .. قال لى معتقدا أنه يرضينى ويرد الإعتبار لى .............
ــ قرأت كتابك قراءة متأنية .. وعزمت على أمر , ليتك توافقتنى عليه ..
ــ أصلح الله الخليفه .. ما هو ؟..
ــ عزمت إن شاء الله تعالى على أن آمر بكتابك , فينسخه الكتبة نسخا كثيرة , أبعث بها إلى أمصار المسلمين , نسخة لكل مصر , فما قولك يا إمام ؟..
ــ أجبنى أولا عن سبب ذلك , لم تريد أن ترسل به إلى الأمصار ؟..
ــ قصدت من وراء ذلك أن آمرهم بالعمل بما فيه .. وألا يتعدونه إلى غيره .. وأن يتركوا ما سواه من العلم المحدث ..
أطرق برهة مستغرقا فى تفكير عميق ثم قال ........
ــ لا تفعل يا أمير المؤمنين .. لا تفعل ..
ــ ما الذى يمنعنى ؟..
ــ الناس قد سبقت إليهم أقاويل .. وسمعوا احاديث .. وسردوا روايات .. وأخذوا بما سبق إليهم .. فعملوا به ودانوا له ..
ــ وماذا عليهم أن يعملوا بما فى كتابك من أحكام .. إن فيه العلم الصحيح الناسخ لكل ما لديهم ؟..
ــ يا أمير المؤمنين .. إن ردهم عما اعتقدوه لشديد .. وأشد منه أن تفرض عليهم رأيا يخالف ما عندهم .. دع الناس وما هم عليه .. وما اختاره أهل كل بلد منهم لأنفسهم .. إن ذلك أصلح لهم ..
ــ إذن أجلسك فى البيت الحرام بمكه .. وأحمل الناس على علمك .. وأعهد إلى الأمصار يوفدون إليك وفدهم .. ويرسلون إليك رسلهم فى أيام الحج .. تعلمهم علم أهل المدينه .. وتحملهم على الصواب فى أمور دينهم ..
ــ يا أمير المؤمنين .. لا تنس أن لكل قوم سلفا وأئمه .. فإن رأيت إقرارهم على حالتهم , فدعهم وشأنهم .. إن هذا هو الأصوب لهم ..
ــ ليتك توافقنى يا إمام ؟..
ــ إعفنى يعف الله عنا وعنك .. ويغفر لنا ولك ..
ــ لعمرى لو طاوعتنى على ذلك .. لأمرت به من اليوم ..
*
يتبع إن شاء الله ............*
@ تعلق سمعه بالشيخ وهو يواصل سرد حكاية الموطأ قائلا ......
ــ إيه .. يرحم الله الخليفة المنصور ويغفر له ما سلف من أمره ..
ــ معذرة شيخى .. يتلجلج فى صدرى سؤال غير أنى أجد حرجا منه .. فهل تأذن لى ؟.
ــ سل ما بدا لك يا ولدى .. ولا حرج إن شاء الله
ــ قلت يا سيدى أنك رفضت طلب المنصور إلزام أهل الأمصار بالعمل بما جاء من أحكام فى الموطأ وألا يتعدونه إلى سواه ؟..
ــ أجل أجل .. هذا ما قلته ..
ــ كيف يتفق هذا وأنت تقدم عمل أهل المدينة .. بل تقول إن الناس تبع لهم باعتبار دارهم دار الهجره وبها نزل القرآن ..
ــ وأزيدك أكثر من ذلك أنى جعلت بعض عمل أهل المدينة مقدم على الحديث الصحيح .. وبعضه مقدم على خبر الآحاد .. وبعضه مقدم على الرأى .. ومع ذلك لم أقل أبدا أن عملهم حجة لازمة لجميع الأمه .. وإنما هو منى على الإختيار لما رأيت العمل عليه .. ولم أدع قط أنه لا يجوز العمل بغيره .. بل هو مجرد إخبار منى بعمل أهل بلدى .. ولم يجمع أهلها إلا على نيف وأربعين مسئله ..
ــ أطمع أن تعلمنيها ..
ــ فى عجالة أقول لك أنى قسمت تلك المسائل إلى ثلاثة أقسام .. كل قسم منها له حكمه .. فيما بعد سوف أفصلها لك .. أفهمت يا ولدى ..
ــ بارك الله فيك يا شيخى .. نعود إلى حكاياة الموطأ ..
ــ أين توقفنا ؟.
ــ عند آخر لقاء لك مع الخليفة أبى جعفر المنصور ..
ــ تذكرت .. مرت سنوات ورحل المنصور إلى جوار ربه .. وتولى الأمر من بعده ولده محمد المهدى .. جاءنى هو الآخر فى هذه الدار وفى نفس هذا المكان .. كان ذلك فى موسم الحج منذ عشرة أعوام .. قال لى ....................................
ــ أبا عبد الله .. إن القضاة فى سائر الأمصار يرفعون إلى أقضياتهم فأجد فيها اختلافا كثيرا وتباينا فى الأحكام .. ورأيت أن تعرض عليك بحججها , لتمضى فى كل قضية منها برأى أو بحكم قاطع , يمنع بعده العمل بخلافه ..
ــ أطال الله عمر أمير المؤمنين .. أما هذا الصقع من بلاد المغرب (وأشار بيده ) قد كفيتك إياه , فإن أهله يمضون أحكامى .. وأهل الشام فيهم الرجل الذى تعرفه
ــ الأوزاعى .. أجل أعرفه جيدا ..
ــ أما عن أهل العراق , فإنهم أهل ناحية , قالوا قولا تعدوا فيه طورهم , فاتركهم على حالهم ..
ــ لم أقصد من وراء ذلك يا أبا عبد الله إلا أجعل حتى آخر الدهر حكما واحدا صوابا فى كل قضيه , بدلا من تلك الأحكام الكثيرة المتناقضة التى اختلط الصواب فيها بالخطأ .. ليتك توافقنى وأنا آمر به من الغد .........
واستمر الشيخ يحكى ................
ــ وانتقل المهدى إلى جوار ربه العام قبل الماضى .. وتولى من بعده ولده موسى الهادى , غير أنى لم أره مذ كان يأتينى مع أخيه هارون وهما صبيان صغيران , يجلسان فى حلقة العلم .. يرحمه الله لم تدم خلافته أكثر من عام وبعض عام , إلى أن تولى أمر المسلمين من بعده منذ بضعة أشهر هارون الرشيد ..
ــ أظنه كان يحج بالناس هذا العام ؟.
ــ أجل , وزارنى هنا بعد أن أتم مناسك الحج وقبل أن تأتينى أنت هنا بأيام .. ليتك كنت حاضرا هذا اللقاء .. سأحكى لك جانبا مما دار بيننا من حديث .. كان الرشيد ودودا متلطفا معى وهو يقول ..................
ــ يا إمام دار الهجرة وشيخها , حاجبنا الربيع بن يونس حكى لى أخبار المحنة التى عرضت لك أيام جدى المنصور , ومن قبل أخبرنى أبى أن ما فعله معك بكار الزبيرى أمير المدينة وقتئذ , وما ألحقه بك من إهانة وتعذيب وأذى كان بغير علم الخليفه , إعتقد هذا الأبله بحماقته أنه يرضى بذلك الخليفة ويزيده بتلك الفعلة الشنعاء قربا منه ..
ــ لتعلم يا أمير المؤمنين أنى أخرجت من ذاكرتى كل هذه الأحداث وإن كانت آثارها لا تزال باقية على جسدى .. أما جدكم الخليفة المنصور فإنى قد نزهته عن الأمر بذلك أو الرضا به ..
ــ الحمد لله .. أرحت قلبى يا إمام ..
ــ ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان .. ولا تجعل فى قلوبنا غلا للذين آمنوا .. ربنا إنك رؤوف رحيم ..
ــ صدق الله العظيم .. إسمع يا إمام .. أود منك الرأى والمشورة فى أربعة أمور ..
ــ تفضل يا أمير المؤمنين ..
ــ الأولى أن تأذن لى فى تعليق الموطأ بالكعبه .. والثانيه أن أحمل الناس على العمل بما فيه من أحكام ..
ــ أما عن هاتين المسئلتين تعليق الموطأ بالكعبه وحمل الناس على أحكامه .. فإن هذا كله لا يجوز فعله , لأن أصحاب رسول الله "صلى الله عليه وسلم" وإن لم يختلقوا فى الأصول , إلا أنهم اختلفوا فى الفروع وتفرقوا فى البلدان , وكل واحد منهم مصيب عند نفسه ..
ــ لندع هاتين المسألتين جانبا .. ما تقول فى إعادة بناء منبر رسول الله "صلى الله عليه وسلم" وجعله من الذهب الخالص والفضه ؟.
ــ دعه على حاله يا أمير المؤنين .. إنه أثر من آثار رسول الله "صلى الله عليه وسلم" , أرى ألا تحرم الناس منه ..
ــ لم تبق إلا المسئلة الرابعه , ليتك توافقنى عليها يا أبا يحى .. ما قولك أن يقوم نافع بن نعيم إماما يصلى بالناس فى مسجد رسول الله "صلى الله عليه وسلم" ؟.
ــ أصلح الله الخليفه .. إن نافع إمام فى القراءه , ولا يؤمن أن تبدر منه فى المحراب بادرة فتحفظ عليه .. إتركه فى مقامه وعلى مكانته ..
ــ أنت وما تشاء يا إمام .. هل من وصية قبل أن أغادر إلى بغداد ؟.
ــ بلغنى يا أمير المؤمنين أن الخليفة عمر بن الخطاب كان على فضله وتقدمه , ينفخ للناس عام الرمادة تحت القدور حتى يخرج الدخان من بين لحيته .. والله تعالى رضى منكم بأقل من ذلك .. فاتق الله فى رعيتك ............
إمتد حديث الإمام مع الشافعى حتى دخل الليل وفى نهايته قال له ..........
ــ تلك هى قصة الموطأ مع الخلفاء الثلاثه المنصور والمهدى والرشيد .. ليتنى أكون بهذا قد أجبت سؤالك ؟.
وقبل أن يهم بالنهوض من مجلسه ليستريح إلتفت إليه قائلا ......
ــ نصيحتى لك يا ولدى ألا تسكن الريف فيضيع علمك , واكتسب الدراهم من عملك ولا تكن عالة على أحد , واتخذ لك ذا جاه ظهرا لئلا تستخف بك العامه , ولا تدخل على ذى السلطنة إلا وعنده من يعرفك , وإذا جلست عند كبير فليكن بينك وبينه فسحة , لئلا يأتى إليه من هو أقرب منك فيدنيه ويبعدك , فيحصل فى نفسك شئ .. داوم يا ولدى على حضور حلق العلم والدرس بالمدينه فما أكثرها , وزاحم بمنكبيك ولا تدخر فى هذا أى جهد .. أخيرا أذكرك ألا تبرح المدينة عائدا إلى مكه حتى آذن لك أو يدركنى الموت .. أنت ولدى الذى رزقت به فى أخريات أيامى ..

يتبع إن شاء الله ............

@ بعد أن بات ليلته فى ضيافة شيخه , رجع فى الصباح المبكر إلى دار عمه يعقوب وهو يسحب وراءه ثلاثة أفراس خرسانيه أهداها له مالك .. قص على أهل الدار ما كان من أمره مع الشيخ إلى أن ختم الموطأ , وفى ختام كلامه قال والكل يرهف السمع له فى شوق وفضول ..............
ــ يا عم إنه إمام حجه , ما أعلم إلى الآن شيئا أصح بعد كتاب الله من موطأ مالك ..
ردت أم حبيبه ونبرة عتاب فى صوتها ........
ــ شغلتنا عليك كثيرا بالأمس يا ولدى .. وازدادت مخاوفنا لما أقبل الليل ولم تأت من درس الشيخ كعادتك .. لم تأخرت هكذا ؟.
إبتسم وهو يقول فى حياء ............
ــ لقد امتد الحديث بنا ولم نشعر إلا والليل يزحف علينا , ولما حاولت القيام مستأذنا فى الرجوع إلى الدار , منعنى الشيخ وأصر على أن أبيت معه وألا أخرج فى هذا الوقت المتأخر , وفى الثلث الأخير من الليل وقبل انفجار نور الصباح قرع على الباب قائلا ........
ــ الصلاة يرحمك الله ..
ثم دخل على مرة ثانية وهو يحمل بنفسه إناء الماء لأتوضأ منه ..
قاطعه ابن عمه يوسف وقد بدا كأنه غير مصدق ........
ــ الإمام يحمل لك بنفسه إناء الماء .. عجيب والله ..
ــ هذا ما حدث والله يا ابن العم , لقد راعنى ذلك أيضا وأثار دهشتى مثلك , ولما رأى الشيخ ذلك منى قال ...........
ــ يا ولدى لا يرعك ما ترى , فخدمة الضيف فرض ..
واستمر الشافعى ......
ــ المهم تجهزت للصلاه وصليت الفجر معه فى مسجد رسول الله "صلى الله عليه وسلم" وجلس كل منا فى مصلاه إلى أن طلعت الشمس على رؤوس الجبال كالعمائم على رؤوس الرجال , ثم رجعنا إلى الدار ثانية ..
سأله عمه .......
ــ وبعد أن ختمت الموطأ , ماذا أنت فاعل يا ابن إدريس ؟.
ــ من الغد إن شاء الله سأتحرى دروس العلم فى المدينه وأداوم عليها .. علمت أن هناك حلقة إبراهيم بن سعد الأنصارى وحلقة عبد العزيز بن محمد الدراوردى وعبد الله بن نافع الصائغ وغيرهم .. ليتنى أتمكن من جمع ما فى حوزتهم من علوم كما فعلت مع شيوخ مكه ..
ــ وما تلك الأفراس الخرسانيه .. لمن تكون ؟. والله ما رأيت كراعا مثلها , لو قدمت المصابيح إلى جلودهن لأوقدت ..
إبتسم الشافعى قائلا ...........
ــ إنها لى يا عماه ..
شهق الجميع وهم يقولون فى نفس واحد.......
ــ ماذا تقول ؟. لك ؟.
رد ضاحكا .........
ــ طبعا لم أشتريها .. إنها هدية الشيخ يا عماه ..
ــ هدية من الشيخ . كل هذه الأفراس ؟.
ــ والله يا عم ما إن رأيتها واقفة لدى الباب وأنا خارج من داره , لم أزد على أن قلت ....................
ــ الله .. ما أحسن تلك الأفراس .. وما أجملها ..
ــ إنها هديتى لك يا أبا عبد الله ..
ــ يا سيدى .. ما يكون لى ذلك .. إنه لكثير ..
ــ قلت هى كلها لك ..
ــ إذن دع لنفسك واحده ..
ــ لم ؟.
ــ كى تركبها .. أتكون لديك كل هذه الكراع من مهارى خراسان , وتسير على قدميك ؟.
ــ يا شافعى إنى لأستحيي من الله تعالى ومن رسوله "صلى الله عليه وسلم" أن أطأ أرضا فيها رسول الله "صلى الله عليه وسلم" بحافر دابه ..

يتبع إن شاء الله ............
__________________
إذا ما الطائر الصداح قد هدهده اللحن
ورفت نسمة الفجر على أشجانه تحنو
هناك السحر والأحلام والألحان والفن
نجيب سرور

التعديل الأخير تم بواسطة : د أنس البن بتاريخ 03/08/2012 الساعة 14h48
رد مع اقتباس
  #48  
قديم 17/12/2008, 09h03
الصورة الرمزية د أنس البن
د أنس البن د أنس البن غير متصل  
نهـر العطاء
رقم العضوية:688
 
تاريخ التسجيل: mars 2006
الجنسية: مصرية
الإقامة: مصر
المشاركات: 8,297
افتراضي

176 هجريه ــ على ضفاف دجله
@ على الشاطئ الغربى لنهر دجله , يقع قصر الخلد , المكان المحبب الأثير إلى قلب الرشيد .. فيه يجد راحته وتصفو نفسه عندما يكون متعب البدن أو مكدود النفس .. وإلى جواره من جهة الجنوب قصر يعرف بدار القرار لزوجته زبيده إبنة عمه جعفر إبن أبى جعفر المنصور الخليفة العباسى الراحل .. كانت زبيده تفاخر دوما على سائر نساء الرشيد بهذا النسب الهاشمى , وبه نالت درجة القرب والمنزلة الأولى عند الرشيد .. وبين هذين القصرين يقع قصر الأميرة العباسه , شقيقته وأحب أهله إلى قلبه ..
وعلى الجهة الشرقية المقابلة لضفاف دجله , إتخذ البرامكة قصورهم التى كانت آية فى الأبهة والفخامة والروعه , ولهم قصور فى اماكن أخرى غيرها لا تقل فخامة أو أبهة عن قصور الرشيد , يقيم فيها يحى بن خالد البرمكى وأولاده جعفر والفضل ومحمد وخالد , وهم الأربعة الذين كانت لهم اليد العليا فى شئون دولة الرشيد , بل كانوا هم الحكام الحقيقيين الذين يديرون أمور الخلافة , حتى أن محمد الأمين ولد الرشيد وولى العهد , إتخذ قصرا له خلف قصر جعفر البرمكى , وفيه كانا يقضيان سويا سهرات السكر واللهو وسماع المغنيات ورقص الجوارى ..
أما الفضل بن يحى البرمكى فإنه كان على النقيض من أخيه جعفر , لا يرى إلا مكتئبا عابسا , مقطب الجبين قليل التبسم . تغلب عليه الجهامة وملامح الكبر الشديد , غير أنه كان سخى اليد أكثر كرما وبذلا للمال من جعفر , ولهذه الخصلة وحدها أحبه الناس ومالوا إليه رغم جهامته وتكبره , بينما كانوا يحبون فى الوزير جعفر مرحه وتواضعه وميله للفكاهة والدعابة , وحضور مجالس الشراب والسماع والأنس .........

@ وفى إحدى القاعات المنعزلة فى إحدى هذه القصور , إتخذها الفضل البرمكى خصيصا ليختلى فيها عندما تكون لديه بعض الأمور المهمة فى إدارة الحكم .. جلس وحيدا على إحدى الوسائد مستغرقا فى كتابة بعض أوراق أمامه على طاولة خشبية لم يضع عليها سوى المحبرة والريشة وبعض الرسائل .. وبينما هو مستغرق فى عمله ما بين قراءة وكتابه , لا يشعر بشئ حوله , إذا بالباب ينفتح فى رفق ليدلف منه أحد غلمانه على مهل .. تقدم بضع خطوات وهو يمشى وجلا على استحياء ثم توقف مكانه يضع قدما ويرفعها , مترددا فى السير خطوة أخرى , إنه يعرف طبائع مولاه وأنه لا يحب أن يقطع عليه أحد خلوته فى تلك القاعه , إلا فى أهم وأحرج الأمور التى لا تحتمل الإنتظار , بل لا يحسن فيها ..

وقف الغلام ساكنا لئلا يقطع عليه استغراقه , منتظرا أن يتحول سيده بوجهه ناحيته أو يستشعر وجوده .. طال انتظاره أن يلتفت إليه فاضطر إلى أن يتنحنح قليلا كى ينتبه له فالأمر لا يحتمل .. شرع الفضل برأسه مستفسرا بعينين غاضبتين , بادره الغلام قائلا قبل أن يصب عليه جام غضبه ......

ــ بالباب رسول معه رسالة من قبل مولاى أمير المؤمنين ..

أخذ يتمتم فى سره متأففا وقد زاد ضيقه وضجره .....

ــ أية رسالة تلك فى جوف الليل , وفى ذلك الجو المطير العاصف .. ما الأمر يا ترى ؟.

قالها وهو يومئ إليه برأسه أن يدخله , ولم تمض غير لحظات إلا والرسالة بين يديه , نظر إلى غلافها فوجد عليها الخاتم السرى الخاص , ما إن فضه وفتحها وقرأ ما فيها حتى هب واقفا كاللديغ وهو يطوى أوراقه على عجل ويضعها فى خزانة خاصه ثم نظر إلى غلامه نظرة فهم منها ما يريده , سبقه مسرعا إلى خارج القصر ليعد له قاربا من قواربه يعبر به إلى الشاطئ الآخر من دجله للقاء أمير المؤمنين ..

@ أخذ يحث النوتى بإشارات من عينيه الحادتين أن يسرع من حركة مجدافه .. أمير المؤمنين يطلبه فى هذه الساعة على عجل , الخطب جلل ولابد والأمر هام وخطير .. مكث يضرب أخماسا فى أسداس محدثا نفسه بينما يقلب فى رأسه كلمات الرساله .... أجل , أمير المؤمنين لا يخط رسالة غامضة بتلك الكلمات الحاده , ولا يدعونى للقائه فى هذا الوقت المتأخر إلا لأمر خطير .. أجل , لابد أن مصيبة وقعت .. ما الأمر يا ترى ؟!.
كانت ضربات المجداف مع قطرات المطر فى تتابعها وتلاحقها كأنها مطارق من حديد تنزل على رأسه الذى يموج بالخواطر والهواجس كباطن هذا النهر الذى تبدو صفحته هادئة وادعه , بينما القارب يشق عباب ماء دجلة فى نعومة وانسياب ..
وبعد دقائق مضت كأنها دهر كانت حافة القارب تلامس الشاطئ فى مكان ترسو فيه أمام حديقة القصر التى بانت أشجارها الوارفة , وزهورها تنشر عبقها فى الأفق أريجا عطرا , مختلطا برائحة البخور المتصاعد فى تموجاته من نوافذ القصر , وقد أضئ بالمصابيح والشموع , فأضفى عليه ألوانا من السحر والغموض مع انتصاف ساعات الليل ..
نزل مهرولا على عجل بعد أن مد له حارسه خشبة يعبر عليها , لم تكد قدماه تطأ الشاطئ حتى أخذ يشق طريقه على عجل فى خطوات متلاحقة مجتازا أسوار القصر الأربعة وأبوابه العالية الضخمة , وقف الحراس أمامها فى ثبات كأن على رؤوسهم الطير .. أخذ يمر من قاعة لأخرى ومن باب إلى غيره , حتى انتهت به قدماه إلى حيث يجلس الرشيد فى قاعته .. كان جالسا وحده ممسكا بيده قضيبا من الأبنوس المرصع بالذهب , ومن تحته الزرابى الثمينة التى تناثرت من فوقها جلود النمور تلمع فى كل ناحيه , تعلوه قبة عظيمة تزينت بزخارف من النقوش العربيه , بينما أرخيت على مجلسه ستارة من المخمل والحرير الدمشقى , وأمامها وقف حارس خاص يدعى صاحب الستاره , ومن حول الرشيد انتشر حراسه ورجاله وخاصته فى مشهد مهيب جليل ..
لمحه صاحب الستارة قادما من بعيد فسبقه للداخل ليخبر الرشيد الذى أمره أن يدخله فى الحال , بعد أن أشار لمن حوله من رجاله وحراسه أن يغادروا القاعة ويتركوهما وحدهما .. وقبل أن يتقدم الفضل صوب الرشيد ألقى عليه نظرة سريعة فاحصة , سبر خلالها أغواره وقرأ سطور مكنون فؤاده وأدرك أنه يخفى فى باطنه كآبة وهما ثقيلا , من وراء قناع زائف من السرور والبهجة , تلك كانت سمته وطبيعته أمام زواره وحراسه مفضلا أن يدارى همومه وأحزانه أمام الناس , كارها أن يراه أحد كذلك إلا نفر قليل من خاصة رجاله وخلصائه .. والفضل شأنه ككل البرامكه , يتفرد بذكاء حاد وبصيرة نافذة , خاصة مع الرشيد وهو الذى تربى معهم ورضع لبانهم ..

بعد أن خلت القاعة إلا منهما , نظر إليه الرشيد شاردا ثم بادره قائلا بعد أن مرت لحظات من الصمت , لم يكن يسمع خلالها إلا صوت القضيب يدق به على الأرض وهو يقبض عليه بيمناه دقات رتيبة متتالية تبعث على الملل وتثير الخوف .........
ــ إقترب منى يا أخى الفضل .. تعال هنا , إجلس بجانبى ..
ــ لبيك أمير المؤمنين ..
ــ أعلم أن الوقت متأخر .. لكنى أرسلت إليك فى شأن هام ..
ــ طوع أمرك يا مولاى ..
ــ هل تذكر ذلك الطالبى الذى خرج عن طوعنا , معلنا تمرده علينا ..
ــ أيهم تعنى يا أمير المؤمنين ؟.
ــ يحى بن عبد الله بن الحسن ..
أطرق برهة ثم رفع رأسه قائلا ............
ــ أليس هو شقيق محمد وإبراهيم أبناء عبد الله بن الحسن , اللذان قتلا بعد أن أعلنا تمردهما على جدك الخليفة المنصور ؟.
ــ بلى , هو بعينه , غير أنه تمكن أيامها من الفرار مع أخيه إدريس وهما صبيان صغيران .. ومنذ سبعة أعوام ظهرا فى موقعة "فخ" التى هزم فيها ابن عمهما الحسين بن على بن الحسن (المثلث) , ثم نجحا فى الفرار للمرة الثانيه , وتوجه إدريس ناحية بلاد المغرب , وفيها جمع البربر من حوله وأسس دولته كما تعلم .. لكن أمر هذا الفتى لا يشغلنى الآن , سوف يكون لى معه شأن آخر بعد أن أفرغ له , فلا قبل لى بمحاربته لبعد المسافة من ناحيه , ومن ناحية أخرى لشدة مراس أولئك البربر فى القتال ..
ــ ما الذى يشغل بال أمير المؤمنين إذن ؟.
ــ الذى يشغلنى يا أخى الفضل , أمر يحي بن عبد الله ..
ــ هل بلغك عنه شئ يا مولاى؟.
ــ أجل .. منذ قليل علمت من بعض عيوننا أنه ظهر فى بلاد الديلم الجبلية جنوب بحر الخزر , وأن له زمنا يدعو لنفسه سرا فى مبتدأ الأمر , وعلمت انه تمكن هناك وقويت شوكته , وبايعته جموع كثيرة من سائر الأمصار من البلدان المجاوره .. ولا يخفى عليك ما يشكله ذلك من خطر جسيم على دولتنا وتهديد لهيبتها ..
ــ تماما يا مولاى .. وماذا قررت ؟.
ــ أسمع منك أولا ..
ــ إن رأيت أن نحاربه فنحن جاهزون للحرب تماما , ومستعدون لملاقاته بجند وعتاد لا قبل له ولا لغيره بها .. وإن رأيت خلاف ذلك فالأمر إليك ..
ــ أعطنى رأيك أيها الوزير .. نفاوضه أم نأخذه بالقوه ؟.
ــ أرى يا مولاى , أنا لو بدأنا حوارا معه وسمع منا وسمعنا منه , فلربما يظن بنا ضعفا وربما يتشدد أو يبالغ فى شروطه ومطالبه ..
ــ ترى إذن أن نأخذه بالقوه ؟.
ــ لا يا مولاى .. لم أقل ذلك .. بل على العكس أرى أن نبدأ بمحاورته أولا ..
ــ ماذا تعنى بالله عليك , أفصح يا أبا محمد , فإنى لم أعد أفهمك ..
ــ ما أعنيه يا مولاى , أن نفاوضه وفى الوقت نفسه نلوح أمامه بالقوة والبأس ..
أطرق قليلا دون تعقيب ثم رفع رأسه قائلا ...........
ــ آه .. فهمت .. نعم الرأى والمشوره ..
مرت لحظات صمت قال بعدها فى حده ...........
ــ إبدأ من غد إن شاء الله فى إعداد جيش كبير قوامه خمسون ألفا أو يزيد , القتال فى تلك البلاد البعيدة ليس بالأمر الهين , وخذ معك ماتشاء من أموال وهدايا وتحف إلى أصحاب الرى وجرجان وطبرستان وقومس وغيرها , وسأعطيك كتابا ومائة ألف درهم تعطيها لصاحب الديلم حتى يأتى لك بهذا الطالبى كى تفاوضه ..
ــ يتبقى أمر واحد يا مولاى ..
أومأ برأسه مستسفسر فقال ............
ــ ليتك تكتب له كتابا بالأمان , ربما أحتاجه وأنا أفاوضه , أبذل قصارى جهدى معه لإقناعه بالتخلى عن طموحاته وأطماعه فى الحكم , وأن يعود معى ليعيش بيننا معززا مكرما ..
ــ لا بأس نعم المشوره .. رأى سديد يا أبا محمد , سأكتب فى التو كتابا بالأمان أشهد عليه القضاة والفقهاء ومشيخة بنى هاشم .. وطمئنه حالة تخليه عن تمرده وعصيانه أنى سوف أستقبله هنا ضيفا عزيزا مكرما ..
أطرق برهة وقال ..........
ــ ليته يفعل .. أما إن عاند كأسلافه .......
عاجله الفضل قائلا ..............
ــ إن ركبه العناد يا مولاى , فسنعرف كيف نؤدبه , سيرى رجاله وأنصاره منا ما لا يتصورنه من هول وجحيم , سوف أرميهم بنيران من جهنم وأدك بلادهم على من فيها وما فيها حتى تصبح قاعا صفصفا , وأعدك ألا أرجع إلا ورأسه تسبقنى إليك يا مولاى ..
نظر الرشيد إليه نظرة فخار ورضا , ثم أمسك الريشة بينما بدأت أساريره تنفرج قليلا , أخذ يخط على منضدة أمامه رسالة الأمان ثم طواها وهو ينظر لأحد حراسه آمرا .........
ــ حاجبنا الفضل بن الربيع ..
لم تمض سوى لحظات حتى كان بين يديه فى انتظار أوامره , وهو يحاول إخفاء ما اعتراه من وجوم وضيق وغل دفين لدى رؤيته لغريمه وعدوه اللدود الفضل بن يحي البرمكى .. كان يكن له ولسائر البرامكة كراهية شديده .. وفى أقل من طرفة عين أخفى كل ذلك خلف ابتسامة مصطنعة رسمها بمهارة على شفتيه , لقد تعلم الكثير من طرق الخداع واستعمال الحيلة من أبيه الوزير الداهيه الربيع بن يونس الذى عمل فى بلاط المنصور والمهدى والهادى وظل مع الرشيد بضع سنوات قبل أن يفارق الدنيا ..
عاجله الرشيد .........
ــ أدن منى يا ابن الربيع , خذ هذا الكتاب واذهب به إلى كل الأمراء والفقهاء ومشايخ بنى هاشم كى يوقعون عليه , وبعد أن تنتهى سلمه للفضل بن يحي , وافعل كل ما يأمرك به وكن رهن إشارته , داوم الإتصال به وبلغنى بكل ما يجرى أولا بأول إلى ينتهى من مهمته , أفهمت ؟.
ــ أية مهمة يا مولاى ؟.
ــ وزيرنا البرمكى سيعلمك بكل شئ ..
ــ أمر مولاى ..
قالها وهو ينحنى متقهقرا خطوات قبل أن يستدير خارجا , وقد ارتسمت على شفتيه نفس الإبتسامة العريضة الزائفه , تلك الإبتسامة التى تخفى فى باطنها بركانا يفور بالغضب والحنق ولسان حاله يقول ..... أنا الفضل بن الربيع , إبن الحاجب الأول , أكون تحت إمرة هذا الفارسى سليل المجوس عبدة النار , ألم تكفهم المكانة والمنزلة التى وصلوا إليها بالحيلة والدهاء .. والله لن يغمض لى جفن أو يهدأ خاطرى حتى أضع بيدى نهايتهم ..

يتبع إن شاء الله ................................

@ تعلق الشافعى بأستاذه مالك تعلق الولد بأبيه , وهو يلازمه كظله لا يفارقه إلا بعد ان ينتهى من درسه , أول من يجئ إلى حلقته متخذا مكانه إلى جوار شيخه , وآخر من يغادرها ..
وحلقة الإمام كانت تنعقد إما فى روضة مسجد رسول الله "صلى الله عليه وسلم" , وإما فى داره وهو الأكثر التى لم تكن تبعد كثيرا عن مسجد رسول الله "صلى الله عليه وسلم" , حلقة عامرة بحق تعج بالمريدين وطلاب العلم الوافدين إليه من شتى بقاع المعموره على اختلاف ألوانهم وأجناسهم وأعمارهم , حتى أن البعض منهم من كثرة الزحام لا يجد مكانا يجلس فيه إلا حيث دخل على بب الدار , بينما أحد مريديه وهو معن بن عيسى , يتخذ مجلسه كل يوم على عتبة الدار , يدون فى أوراق معه كل كلمة يسمعها من الشيخ ..
شاهد الشافعى فى تلك الأيام الأمين والمأمون , ولدى الرشيد وهما صبيان صغيران يجلسان فى أدب وحياء أمام الشيخ , ينصتان إلى حديثه وقد عق كل منهما ذراعيه على صدره , وبرفقتهما مؤدبهما المرافق لهما فى رحلة العلم , كان الرشيد قبل أن يرسل ولديه إلى المدينه أوصى مؤدبهما قائلا .......
ــ إنى دفعت إليك مهجة نفسى وثمرة قلبى , فاجعل يدك عليهما مبسوطة وطاعتهما لك واجبه , كن لهما بحيث وضعك أمير المؤمنين , أقرئهما القرآن وعرفهما الأخبار والأشعار , وعلمهما السنن وبصرهما بمواقع الكلام , وامنعهما من الضحك إلا فى أوقاته , وخذهما بتعظيم بنى هاشم إذا دخلوا عليهما , وقومهما ما استطعت بالقرب والملاينه , وإلا فالشدة والغلظه ..
ومن خلال تلك الحلقة المالكيه توطدت علاقة الشافعى ببعض روادها وصارت له معهم صداقة وألفه , منهم شاب مصرى رزين حليم , يصغر الشافعى ببضع سنين إسمه عبد الله بن عبد الحكم , ينتمى لواحدة من العائلات المصرية العريقة ذات الجاه والمنزلة الكبيرة فى أرض الكنانه , قدم من مصر بعد أن نال قسطا من العلوم على يد فقيهها الكبير الليث بن سعد .. توطدت علاقة الشافعى به وصارت تربطهما مع الأيام صداقة متينة تزداد يوما عن يوم , لهذا كثيرا ما كانا يشاهدان وهما معا حلقة الدرس , حيث يجلسان متجاورين فى مكان واحد , حتى إذا انتهى الشيخ من درسه يقومان معا ولا يفترقان إلا فى المساء على باب دار أحدهما ..
ومع تعاقب الأيام صارت للشافعى منزلة خاصة فى وجدان شيخه , يؤثره بها على بقية أقرانه , بل كثيرا ما كان يدنيه منه ويقربه من مجلسه , مغتنما كل مناسبة ليثنى عليه وعلى نباهته وقدراته الفذة فى حفظ النصوص وفهمها , وتمكنه من استنباط الأحكام والفتاوى منها بأسلوب فريد وفهم , جعله يتفوق به على سائر أقرانه ويسبقهم ..
هذا الأمر لقى قبولا وارتيحا فى نفوس أصحاب الشافعى ومحبيه وأولهم صديقه المصرى , وفى المقابل أثار حفيظة وغيرة آخرين من ذوى النفوس المريضه , حتى أن أحدهم وصل به الغل إلى أن يتدنى من الغيرة التى تفرضها المنافسة بين الزملاء إلى الحقد البغيض المدمر , كان شابا ثريا من العاملين فى بلاط الرشيد بالعراق إسمه حماد البربرى , أرسله الخليفة الراحل موسى الهادى قبل أشهر من وفاته مع جماعة آخرين ليأخذوا الفقه عن مالك , وبعد تولى الرشيد طلب منهم أن يستمروا فى تحصيل علومهم والتزود من علوم الدين , حتى يكونوا مؤهلين بعد ذلك لتولى مناصا فى القضاء والإماره ..
كان حماد البربرى هذا أكثرهم غيرة من الشافعى وحسدا له لدرجة تمنى الضرر له , لنبوغه وتفوقه ولمنزلته عند شيوخ المدينة جميعا وعند مالك على الأخص , تصور أن ثراءه وقربه من رجال الحكم والبلاط سوف يعطيه تميزا ومنزلة لدى الشيخ على حساب أقرانه , أما أن يأتى هذا الشاب المغمور الفقير وتكون له كل تلك المنزله والقرب من شيوخه , فهذا مما لم تقدر نفسه الضعيفة على تحمله , وامتلئ قلبه بالحقد عليه حتى أنه كان يتحين فرصة تواتيه ليوقع بينه وبين الشيخ أو بين زملائه , شفاء لغليله وإخمادا لنيران الحقد والكراهية المتأججة فى صدره .. حتى جاء يوم وقعت حادثة عابره , إلا أنها رغم طرافتها , كان لها أثر كبير بعد سنوات فى تغيير مجريات الأمور فى حياة الشافعى , وتعيين مسار حياته بقية سنوات عمره ....................

@ كان لحماد البربرى زميل فى الحلقه ورفيق يأنس به هو محمد بن الحسن الشيبانى الذى كان يغار هو الآخر من الشافعى ولا يبادله الود , لكن غيرته لم تمنعه من أن يقدر له علمه وفهمه لقضايا الفقه ومسائله واستنباط الفتاوى والأحكام .. ومحمد بن الحسن يكبر صديقه حماد قليلا فى السن وفيه بدانة ظاهره وهو عراقى أيضا ولد بالكوفه ونشأ بها غير أنه ينتمى لأصول شاميه , تأثر بمدرسة أبى حنيفه ومنهجه فى استنباط أحكام الشرع وإن لم يجالسه كثيرا , فقد توفى الإمام وهو لا يزال حدثا فى الثانية عشرة من عمره , لكنه تلقى العلم على يدى أبى يوسف أكبر تلاميذ أبى حنيفه وأفضل معين لمذهبه الكبير ..
وبينما الصاحبان يتجاذبان أطراف الحديث , وهما يتناولان عشاءهما فى الدار التى يقيمان فيها معا , منذ قدومهما من العراق إلى المدينه , إذ قال لصاحبه ...........
ــ أعلمت بما حدث اليوم للرجل الحضرمى ؟.
ــ أى حضرمى تعنى يا حماد ؟.
ــ الذى أتى الشيخ فى الصباح يسأله عن يمين الطلاق الذى وقع منه ..
ــ آه .. تقصد تاجر الطيور صاحب حكاية القمرى ؟. ماذا جد فى أمره , ألم تره يمضى لحاله بعد أن أجابه الشيخ ؟.
ــ بلى رأيته , لكن اسمع واعجب معى , بعد أن أفتاه الشيخ بصحة وقوع اليمين وأن امرأته طالق , خرج الرجل مهموما كسيف البال , كما رأيناه جميعا ..
قاطعه صاحبه محتدا وقد انفتحت شهيته لمعرفة الحكايه ........
ــ لم تأت بجديد , كل ما قلته أعلمه , هل جد فى الأمر شئ ؟.
ــ صبرا , صبرا , سأخبرك بكل شئ ..
ــ وأنا كلى آذان مصغيه ..
ــ الفتى المكى , المغرور , الذى يزعم أنه مطلبى قرشى وأن جده شافع من ولد عبد مناف , وهم فى الحقيقة من موالى أبى لهب !.
ــ من تقصد يا رجل الذى لم يسلم من لسانك اللاذع ؟.
أردف ضاحكا بعد أن اتسعت ابتسامته ................
ــ آه , تقصد محمد بن إدريس ؟. يا صديقى , هلا كففت عنه شر لسانك !.
ــ نعم إنه ذلك المكى المخادع الذى تمكن بدهاء ولؤم أن يكون الأقرب منا جميعا فى حلقة العلم إلى قلب الشيخ الإمام , حتى أنه صار يؤثره علينا جميعا ويدنيه من مجلسه ..
ــ دعك من كل هذا الآن , أكل حكايتك , ما خطبه ؟.
ــ لمحته بركن عينى وهو يتسلل خارجا من الحلقة وراء ذلك الحضرمى , فأدركت أن فى الأمر شئ , لم أنتظر لحظة واحده , قمت أنا الآخر دون أن يشعر بى أحد حتى أنت , وسرت من خلفهما وظللت أتبعهما حتى رأيته يستوقف الرجل بعد أن صارا بعيدين عن دار الشيخ , إختبأت خلف جدار لما سمعته ينادى عليه قائلا ......................
ــ أخا الإسلام .. يا أخا الإسلام ..

إلتفت الرجل خلفه ونظر إليه نظرة ضيق واستياء فقال له الشافعى ....
ــ أجل , أنادى عليك , هلا أعدت على مسألتك يرحمك الله ؟.
ــ ماذا تعنى , لا أفهمك ؟.
ــ التى كنت تسأل الشيخ فيها قبل الآن , منذ لحظات ؟.
ــ ولم أعيدها عليك , لقد سألت شيخك وأستاذك عنها وأجابنى بما سمعت . ألم تكن حاضرا , ألم تسمع ما قلت وما قال ؟.
ــ بلى سمعت .. لكنى أود سماع مسألتك بنصها منك كما حدثت , وأعدك أنك لن تأسف على ما أضعته من وقتك ..
قال وقد بدا ضجرا نافذ الصبر ...............
ــ حكايتى كما حدثت وكما رويتها للشيخ أنى أعمل بائعا للطيور النادره , وبالأمس بعت قمريا لواحد من زبائنى , فلما كان العشية عاد ورده على قائلا ........ قمريك هذا لا يصلح .. فلما سألته عن السبب , قال إنه لا يصيح , حلفت له يمين طلاق أنه لا يهدأ من الصياح , ثم عدت فندمت على هذا اليمين , ولما أتيت الشيخ فى حلقة العلم وسألته أجابنى بما سمعت ..
ــ أجل سمعته لما قال لك إن يمينك قد وقع وامرأتك طالق , ولا سبيل لك عليها بعد اليوم ..
ــ ما دمت قد سمعت الحديث كله , فدعنى وشأنى ولا تزد على همى ..
ــ سؤال أخير لن أسألك شيئا بعده ..
ــ أنت سألتنى من قبل وأجبتك , فدعنى لشأنى واذهب لحالك عافاك الله ..
ــ يا رجل , سؤال واحد فحسب ..
لم ينتظر جوابه فعاجله على الفور .....
ــ قل بالله عليك , أيهما أكثر , سكوت القمرى أم صياحه ؟.
نظر إليه وقد تبدل سخطه وضجره دهشة واستغرابا وقال ....
ــ سكوته أم صياحه ؟. ما الذى يعنيك فى أيهما أكثر أو أقل ؟. ما دخل ذلك الأمر فى يمين الطلاق والمصيبة التى جلبتها لنفسى . عجيب أمرك أيها المكى ؟!.
ــ أرجوك تكلم ..
ــ مع أنى فى عجب من سؤالك ولا أجد له محلا , إلا أن صياحه أكثر من سكوته ..
إبتسم الشافعى وربت على كتف الرجل قائلا .........
ــ إرجع إلى بيتك وامرأتك , يمينك لم يقع وامرأتك غير طالق ..
ــ ماذا تقول !. يمينى .. إمرأتى ..
ــ قلت لك يمينك لم يقع وامرأتك غير طالق ....................
عاد حماد البربرى يقول لصاحبه .............
ــ ما كاد هذا الدعى ينتهى من قوله وفتواه ويستدير عائد إلى حلقة العلم كأن لم يفعل شيئا , إلا وأبرصت الحضرمى وقد تسمر فى مكانه فاغرا فاه فى ذهول وهو يضرب كفا بكف وقد ملكه الدهش .. والله لا أدرى كيف طوعت له نفسه أن يجترئ على الفتوى , بل وأكثر من ذلك يتطاول على مقام شيخه ومعلمه ويخطئ فتواه للحضرمى ويهدمها من أساسها .. أسمعت يا ابن الحسن بشئ كهذا من قبل , والله إن هذا لشئ عجاب ..
ــ أجل .. شئ عجيب حقا .. لكن أرى يا صاحبى أن نحسن الظن به إلى أن نلقاه , من يدرى ربما يملك دليلا على صحة فتواه ..
رد ساخرا
ــ نحسن الظن .. دليل !. أى دليل هذا الذى تنتظره منه .. أخبرنى أنت , علمنى ربما أكون غافلا عنه , ما علاقة سكوت القمرى أم صياحه بيمين طلاق وقع من الرجل , أخبرنى ..
ــ والله لا علم لدى ..
ــ أرأيت .. ألم أقل لك .. لقد تعدى هذا الفتى كل الحدود , لكنى سأضع اليوم حدا لاجتراءاته وغروره ..
ــ أرجوك يا صديقى أن تتمهل , ولا تتعجل الحكم على صاحبنا ..
ــ دعنى يا ابن الحسن .. سأبلغ الشيخ الآن بكل ما جرى , إنها ليست المرة الأولى ..
ــ أوقد فعل مثلها من قبل ؟.
ــ كثير , كم من مرة سمعته بأذنى وهو يفتى لبعض الناس بخلاف ما يقول الشيخ .. بل فعل ما هو أدهى وأمر .. لقد بلغ من صلفه وغروره أن جرؤ على استنكار وهدم كثير من آراء أستاذنا وشيخنا أبى حنيفه .. ومع كل أفعاله تلك , يقدمه الشيخ علينا ويقربه منه !..
ــ وماذا أنت فاعل الآن ؟.
ــ كما قلت لك , سنذهب سويا لملاقاة الشيخ , وسأخبره بكل ما رأيت وسمعت .........................

@ وفى الحال اتخذا طريقهما إلى دار مالك , وهناك انبرى حماد يخوض فى حديثه للشيخ ويحكى له ما رآه وما سمعه , بل وزاد من عنده زورا وبهتانا ما لم يقله الشافعى أو يفعله , ظنا منه أنه بذلك يثير حمية الشيخ وغضبه على تلميذه الأحب إلى قلبه , وختم افتراءاته بقوله ...............
ــ ليس هذا فحسب يا سيدى , بل سمعته بأذنى هاتين وهو يقدح فى فتواك ويسفه للحضرمى كلامك . و .........
قاطعه فى حزم ويده تسبق بالإشارة إليه .........
ــ حسبك ما قلت .. لا تزد كلمة واحده .. إياك ..
ثم التفت إلى عبد الله بن الحكم المصرى طالبا منه أن يبحث عن صديقه ويأتيه به فى التو .. كان يعلم أنهما صديقان حميمان وأنه أعرف الناس بمكان الشافعى .. إنطلق من فوره وهو مملوء بمشاعر متشابكه من الأسى والخوف على صاحبه , وقبل أن يغادر القاعة كاد أن يفقد حلمه المعروف عنه وهو يلتفت إلى الخلف محدجا حماد بنظرة نارية غاضبة , كم كان يتمنى لو ينقض عليه ويوسعه ضربا قصاصا لصاحبه منه بما اغتابه بل بهته به ..
لم يكد يبتعد خطوات عن دار الشيخ حتى لقى الشافعى وهو قادم ناحيته من الجهة المقابله , أقبل عليه ملهوفا وأخبره بالأمر وهو مشفق عليه مما سمعه , محاولا أن يستعلم منه عن حقيقة المسئله ودليله على صحة فتواه , ومدى يقينه من صحة استنباطه للحكم واستناده لقاعدة أصوليه , أو هو حض اجتهاد منه بغير سند قوى , بدت لهفته فى سؤال صاحبه رغم يقينه من رجاحة عقله , مبديا خوفه عليه مما ينتظره , غير أنه فوجئ بصاحبه يقول له بابتسامة حانيه وفى لهجة الواثق ...........
ــ هون عليك يا صاحبى , لا تخف على أخيك , إن هى إلا لحظات وندرك شيخنا , وسترى وتسمع كل شئ , كن مطمئنا .......................

يتبع إن شاء الله ................................

إبتدره الشيخ بعد أن أذن له بالجلوس مكانه ........
ــ بلغنى عنك اليوم حديث , لعل صاحبك أبلغك به ..
رد الشافعى فى ثقة وقد بدا هادئا ....
ــ بسم الله الرحمن الرحيم .. يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ..
ــ صدق الله العظيم .. لذلك أرسلت فى طلبك لأسمع منك ..
ــ طوع أمرك ..
ــ ماذا قلت بالأمس لصاحب مسئلة القمارى ؟.
ــ أفتيته أن لاشئ عليه ..
ــ ويمين الطلاق ؟.
ــ لم يقع ..
ــ ألم تك حاضرا بالأمس , وسمعتنى وأنا أجيبه بخلاف ذلك ؟.
ــ بلى .. سمعت ..
ــ كيف إذن أجبته بما تقول ؟.
ــ لقد سألته سؤالا واحدا .. أيهما أكثر صياح القمرى أم سكوته ..
ــ وماذا قال لك ؟.
ــ أجابنى أن صياحه أكثر ..
ــ وهذا أعظم , أى شئ فى صياح القمرى وسكوته ؟.
صرخ البربرى ساخرا متشفيا وقد انفرجت أساريره , ظنا منه أنه نال من غريمه .....................
ــ أرأيت .. ألم أقل لك أنه تجرأ عليك , وأفتى بغير علم ولا هدى ..
حدجه الشيخ بنظرة غاضبة آمرا إياه ألا يتدخل فى النقاش وألا يقاطع الشافعى , ثم أشار للأخير أن يستمر فى حديثه .........
ــ أجبته بما قلت يا سيدى , لأنك حدثتنى عن عن عبد الله بن يزيد , عن أبى سلمه , عن فاطمه بنت قيس , أنها جاءت رسول الله "صلى الله عليه وسلم" فقالت : يا رسول الله , إن أبا جهم ومعاويه خطبانى , فأيهما أتزوج ؟. فقال رسول الله "صلى الله عليه وسلم" .. [ أما معاويه فصعلوك لا مال له , وأما أبو جهم , فلا يضع عصاه ] ..
ومع تحذير الشيخ , نسى البربرى لشدة غيظه , وقال مقاطعا فى نبرة ساخره ...........
ــ أمرك عجيب , تراوغ ولا تعترف بأنك أخطأت , ما دخل حديث فاطمه بنت قيس بيمين الطلاق وما ............
أسكته الشيخ بنظرة نارية غاضبه , ثم التفت للشافعى قائلا وهو يهز رأسه إعجابا وسرورا , وبدأت ملامح البشر تهل على صفحة وجهه بعد أن أدرك مراده وفطن لإجابته وعلم القاعدة الأصولية التى استند إليها فى فتواه ......
ــ أكمل يا بنى .. أكمل ..
ــ رسول الله "صلى الله عليه وسلم" يعلم أن أبا جهم يأكل وينام ويستريح , فلما قال لها إنه ى يضع عصاه , كان ذلك على المجاز , والعرب تجعل أغلب الفعلين كمداومته .. ورسول الله "صلى الله عليه وسلم" يخاطب العرب بكلامهم وعلى قدر عقولهم , لذلك لما سألت بائع الطيور عن صياح القمرى وسكوته وقال إن صياحه أكثر , علمت أنه لما حلف بالطلاق للرجل أنه لا يكف عن الصياح , كان ذلك على المجاز ..
ــ لذلك أفتيته أن يمينه لم يقع وأن امرأته ليست طالق .. فتح الله عليك يا ولدى وزادك علما ومعرفه ..
ثم أعطى وجهه لتلاميذه الذين جلسوا كأن على رؤوسهم الطير , وهو يهز رأسه طربا ........
ــ أسمعتم .. كيف استنبط الحكم ؟. ألم أكن منصفا عندما قدمته عليكم وجعلته أقربكم مجلسا منى ؟. ألا يستحق أمثاله أكثر من ذلك ؟.
ثم استدار عن شماله إلى حماد البربرى الذى بدا عابسا مقطب الجبين ونظر إليه نظرة ذات مغزى وهو يشير بسبابته جهة الباب .........
ــ ألم يأن لك أن تكف عن أفعالك تلك ؟. وعن وشاياتك بغير حق , كف لسانك وإلا فلا مكان لك ولأمثالك عندى ..
مرت لحظات من صمت جليل هدأ فيها غضب الشيخ قال بعدها لمن حوله وهو يشير إلى الشافعى ........
ــ أيها الأبناء , هذا ولدى , وأنى أجيز له الفتيا من اليوم ..
ثم أردف وهو يملأ منه عينين حانيتين ........
ــ بارك الله فيك يا أبا عبد الله , الحمد لله الذى مد فى أجلى لأرى مثلك , أمثالك يا ولدى هم الذين يتوجب إسناد القضاء والفتيا إليهم ..
ثم أخذ يتمتم فى سره بصوت خفيض ......
ــ والله لم يأتنى قرشى أفهم منه , إنه أجدر الرجال بأن يكون عالم قريش , أجل عالم قريش الذى أخبر به رسول الله "صلى الله عليه وسلم" ..
ثم علا صوته ........
ــ أيها الأبناء إحفظوا عنى ما أقول : من أحب أن يجيب عن مسئلة أو يفتى برأى منكم , فليعرض نفسه على الجنة والنار , ثم يجيب بعد ذلك ........


إنفض مجلس الإمام ومضى كل إلى سبيله إلا ذلك العراقى البدين محمد بن الحسن , تقدم تجاه الشافعى نادما حزينا وقد طوعت له نفسه مجاراة صديقه فى وشايته , وأخ يعتذر فى حياء ...........
ــ إن لم تصفح عنى , لن تسامحنى نفسى على سوء ظنى بك , وعدم تقديرى لعلمك وفهمك , ويشفع لى أنى كنت أنظر إليك بعين السخط لا بعين الرضا ..
إبتسم الشافعى وهو يقول مرتجلا بينما يدره تربت على كتفه ملاطفا وهدئا من روعه ...........
ــ وعين الرضا عن كل عيب كليلة .. ولكن عين السخط تبدى المساويا
فإن تدن منى تدن منك مودتى .. وإن تنأ عنى تلقنى عنك نائيا
كلانا غنى عن أخيه حياته .. ونحن إذا متنا أشد تفانيا
ــ أفهم أنك سامحتنى , وغفرت لى سوء ظنى ؟.
ــ عافاك الله يا ابن الحسن وغفر لى ولك , الله وحده يعلم أنى لا أحمل ضغينة لأحد , ولم تحدثنى نفسى أبدا بأى مساءة من أحد ولا تجاه أحد , حتى أخى حماد فإن يدى ممدودة إليه , ليته يقبل دعوتى ويساعدنى فى إزالة ما بنفسه مما يحمله على , وأن يتخذنى صديقا وأخا له , إن ما جمعنا إنما هو مجلس علم واحد , ليتك تأخذنى إلى داره ..
ــ الحمد لله , أزحت عن قلبى هما ثقيلا بصفحك عنى , أما عن صاحبى سأعمل إن شاء الله على أن أجمعكما معا فى القريب كى تصفو النفوس والضمائر ..
ــ ليتك تفعل فى التو ..
ــ إن شاء الله رب العالمين .. إسمع يا صديقى , لقد عزمت على العودة بعد أيام إلى العراق , فإن حملتك قدماك لبلادنا يوما , عاهدنى أن تزورنى , إن لى دارا فى بغداد وأخرى بالكوفه , سل من تلقاه عن دارى سيدلك على الفور ..
ــ عهد على إن شاء الله أن أزورك , إذا جئت بلادكم , ليتنى أتعرف على علمائكم وأتزود من علومهم ..
ــ بهذه المناسبه أحيطك علما بأنى سأشرع فور عودتى فى تصنيف أحاديث شيخنا مالك , لقد جمعت الكثير من علومه وفتاواه , وكذلك فعلت من قبل وأنا فى بغداد فيما وعيته من مسائل إمام أهل الرأى أبى حنيفة النعمان , شيخنا فى العراق ..
ــ هل أدركته ؟.
ــ أجل أدركته وأنا صبى دون العاشره , لا أزال أتذكر مجلسه العامر وما سمعته منه , حضرته مرات ورأيته وأنا بصحبة والدى ..
ــ فى مجلس علمه ؟.
ــ أحيانا فى مجلس علمه بالمسجد , وأخرى فى متجره بالكوفه , يرحمه الله رحل وأنا فى الثانية عشره ..
ــ إيه .. أبى حنيفة النعمان .. من أراد أن يتبحر فى العلم فهو عيال على أبى حنيفه .. لم يسعدنى زمانى بلقائه والجلوس بين يديه , لقد ولدت فى نفس العام بل فى نفس اليوم الذى رحل فيه إلى جوار مولاه , هكذا علمت من جدى الأزدى ..
ما كاد يستدير وهو يشد على يدى صاحبه مودعا , حتى وجد غريمه يسدد إليه نظرات نارية غاضبه ملؤها الحقد والكراهيه , بان فى أساريره أنه تأبط شرا ونوى أمرا ولسان حاله يقول ..... أنا , حماد البربرى , سليل أكبر عائلات الكوفه وأعرقها , أصبح أضحوكة أقرانى , الأيام بيننا أيها المكى , سأعرف كيف أؤدبك وأقتص منك , لن تفلت من يدى مهما طال الزمن ..
لم يأبه الشافعى لنظراته النارية , بل كان يرثى لحاله متمتما فى سره دعاء إلى الله له أن يصرف عنه وأن ينقى سريرته من الغل والحقد وأن يغفر له , ثم مضى فى طريقه يرافقه صاحبه وصديقه الحميم عبد الله بن عبد الحكم , الذى بدا مسرورا مستبشرا وهو يحيطه بنظرات الزهو والفخار ..


@ مكثا يقطعان طريقهما فى أحاديث شتى , آثرا إمضاء بعض الوقت معا قبل أن يعودا إلى الدار ليصيبا عشاءهما , أخذا يسيران معا فى طرقات المدينة وأزقتها , يمشيان خطوات إذا توافقا فى الرأى ويتوقفان لحظات إن اختلفا , يستأنفان السير بعدها , كأن خطواتهما إيقاعات تصور كلامهما وتحاكيه , مستأنسين بحديثهما الودود بعد يوم حافل بالمواقف , قال له صاحبه ........

ــ الحمد لله الذى نصرك على رؤوس الأشهاد , ونصرك على هذا الوغد وكشف سوء نيته , كاد يوقع العداوة بين الشيخ وبينك ويوغر أصحاب إخوانك عليك ..

ــ أسأل الله أن يهدينا وإياه سواء السبيل ..

ــ كنت موفقا فى جوابك على الشيخ وفى اسستنباطك للحكم , حتى ان الشيخ أجاز لك الإفتاء , هنيئا لك ..

ــ أما عن الفتوى , لم يحن أوانها بعد , لقد جمعت فقه مكه على يد فقهائها الخمسه يتقدمهم سفيان بن عيينه , كذلك فقه المدينة كله , لكن ما زال أمامى بلاد لا حد فيها للعلم ..

ــ أى بلد هذا يا أبا عبد الله ؟.

ــ العراق , عالم مترامى الأطراف , عالم زاخر يموج بالعلوم والمعارف , هناك وبعد أن أرتوى من علوم أهلها , وأتعرف على ما خلفه شيخهم الأكبر أبو حنيفه من علوم جمه , ربما أجلس يوما للدرس والفتيا , لن تغيب عنى أبدا كلمات شيخنا مالك .. "من أحب أن يجيب عن مسئلة أو يفتى برأى, فليعرض نفسه على الجنة والنار ثم يجيب بعد ذلك" .. وقال لى قبل ذلك , "لقد أدركت أقواما إذا سئل أحدهم مسئلة , تراه كأن الموت أصبح قاب قوسين أو أدنى منه" ......

ــ أفهم أنك عقدت العزم على الرحيل إلى العراق ؟.

ــ ليس بعد يا صاحبى , أمامى أمران ضروريان , أنتهى منهما قبل أن أخطو تلك الخطوة الكبيره ..

ــ أمران ضروريان , ماذا تعنى ؟.

ــ أنت صديقى الوفى الذى أهداه الله لى فى المدينه , سأقول لك , أولهما أن أستن بسنة رسول الله "صلى الله عليه وسلم" ..

عاجله مبتسما ......

ــ أن تتزوج , صحيح ؟.

ــ أجل يا صديقى .. قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم" "ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله عز وجل خيرا له من زوجة صالحه" .. أسأل الله تعالى أن ييسر لى الزوجة الصالحه , إنها خير متاع الدنيا ..

ــ والأمر الثانى ؟.

ــ أن أجد عملا أتكسب منه , سأحاول البحث عند أى من الولاة عن عمل يعيننى على أعباء المعيشه ..

أردف قائلا وهو يراه متعجبا من قوله كأنه يستنكر أن يبحث مثله عن مصدر رزق , وهو حامل لعلوم شريفة تغنيه عن التكسب ........

ــ لا تعجب يا صاحبى , صاحب العلم إن لم يكن فى بيته دقيق لا يصح أن يستشار فى شئ , وأنا لا أحب أن أعيش كلا على أحد أو عالة عليه ..

ــ معك حق , اما عن الزوجه الصالحه , فدع هذا الأمر لى , أنا أعرف لك زوجة فيها كل الصفات التى عينها رسول الله "صلى الله عليه وسلم" إذا أمرتها أطاعتك وإذا نظرت إليها سرتك وإن أقسمت عليها أبرتك وإن غبت عنها حفظتك فى نفسها ومالك ..

ــ بارك الله فيك يا ابن عبد الحكم .. من تكون ؟.

ــ إبنة خالى , إسمها حميده وأبوها نافع بن عيينه بن عمرو , وهى عثمانية الأصل , جدها الأكبر عثمان بن عفان وهو جد أمى .. لن أجد لها خيرا منك ولن أجد لك خيرا منها ..

ــ على بركة الله , متى نلتقى بأبيها ؟.

ــ أبوها توفى منذ زمن بعيد , كان يسكن هنا بالمدينه وترك ابنته وهى لم تكمل الخامسة من عمرها وحيدة فى حجر أمها ..

تمتم فى نفسه .......

ــ وحيدة فى حجر أمها , يا لها من مصادفة عجيبه ..

عاد يسأل صاحبه .......

ــ ومن يكفلها إذن ؟.

ــ عمها , ليس لها قريب غيره , يسكن فى دار ملاصقة لدارهم , هنا فى المدينه , وهو من سنلتقى به إن شاء الله .. أما الأمر الثانى وهو العمل , فلا تحمل له هما دعنى أرتبه لك مع الوالى .. ها قد وصلنا إلى الدار , تفضل نكمل كلامنا بالداخل ..

شكره الشافعى وودعه على أن يلتقى به فى الغد فى حلقة مالك ..
يتب ....@ إستدار بعد أن ودع صاحبه راجعا إلى دار عمه , مضى فى طريقه يقطع طرقات المدينة وأزقتها الضيقه فى جنح الليل والظلام يلفه من كل جانب , وبينما هو ماض فى طريقه بخطى رتيبة متأنيه , تناهى إلى سمعه وقع أقدام من خلفه , لاحظ أنها تتعقبه حيث يسير , حاول أن يبطئ فى خطاه فلاحظ من خلفه يبطئون كذلك , أسرع فأسرعوا , أبطأ فعادوا لما كانوا عليه , حينئذ أدرك دون أن يلتفت وراءه أنه مطلوب وأن من خلفه ليس واحدا بل أكثر , وقف مكانه لحظة يفكر فيما يفعله , فوجئ بجماعة أخرى تقطع الطريق عليه من أمامه , حاول أن يدقق النظر بعد أن اعتادت عينه ظلمة الليل , لمح عيونا غادرة كئيبة تنطق بالشر , أدرك أنه قد أحيط به , حاول أن يستدير كى يعود أدراجه لكنه تسمر مكانه وهو يرى الثلاثة الذين كانوا يقتفون أثره يسدون عليه الطريق , أخذ يعمل فكره فى عجل يتدبر الأمر وعواقبه ..... ماذا أفعل , إنهم كثر وأنا وحدى , والمكان قفر موحش لا حس فيه لمخلوق إلا نباح متقطع لبعض كلاب ضالة آت من بعيد , زاد من وحشة المكان وكآبته ..*

فى تلك اللحظة وقبل أن يستقر على وسيلة يتخلص بها من براثنهم , هجم عليه واحد منهم تصورا منهم انه يكفيهم مؤنته , رأوه ضامر العود فظنوا به ضعفا واستكثروا أن يهجموا عليه جميعا أو ينقضوا عليه بجملتهم مرة واحده , فوجئت عصابة الشر بصاحبهم ينطرح أرضا بضربة واحدة من الشافعى , لم يكن لديهم دراية بما اكتسبه من فنون القتال والنزال لما رحل إلى البادية فى صباه , وتعلم مهارات كثيره فى الكر والفر , لكن منع ضمور بدنه ونحافة عوده من ظهور قوته المكنونة فى جسده ..*

تقدم آخر ظنا منه أنه أشد بأسا من صاحبه غير أنه لقى نفس المصير وانطرح أرضا , تبادلوا معا نظرات ذات مغزى , وفى الحال هجموا عليه جميعا هجمة واحده وهم يحكمون الدائرة من حوله, ويضيقون منها شيئا فشيئا حتى صارت كأنها قبضة يد , بعد أن أيقنوا أنهم لن ينالوا منه فرادى .. تكاثروا عليه وظلوا يكيلون له ضربات وركلات ولكمات متلاحقة فى كل مكان تطوله أيديهم وأرجلهم , حاول عبثا أن يتفلت منهم أو يقاومهم , لم يتركوه إلا بعد أن أوسعوه ضربا حتى غاب عن الوعى لا يستطيع حراكا , والدماء تنزف بغزارة من جرح غائر فى جبهته .. أفاق الشافعى وهو ملقى مكانه على يد حانية تمسح على رأسه , حاول وهو يتأوه بصوت خافت فتح عينيه فى الظلمة الحالكة ليستبين ملامحه , ظل يدقق النظر إليه حتى تمكن أخيرا أن يتعرف عليه , إنه صديقه المصرى الذى قفل راجعا به إلى داره حيث اغتسل وبدل ملابس بعد أن حاول تضميد جراحه , ولما أفاق تماما وأمكنه الكلام سأل صاحبه متعجبا من وجوده إلى جواره وقد افترقا عند داره . فقال ...........*

يتبع إن شاء الله ............*

الصفحه * * * * *92*

ــ أبدا يا صاحبى . كل ما فى الأمر أنه بعد أن تركتنى ومضيت وحدك , حاك فى نفسى وخطر لى أنه ربما يصيبك مكروه , لا أدرى كيف هجم على ذلك الخاطر وما الذى جعلنى أتوقع ذلك !. ربما نظرة الغل والغضب التى لمحتها فى عينى حماد , كان يحدجك بها وأنت خارج من دار الشيخ , إرتبت لحظتها فى أمره وخشيت أن يلحق بك أذى منه , وحدث ما توقعته , لهذا قفلت راجعا خلفك لأجدك على الحال التى كنت عليها والدماء تغطى وجهك وملابسك ..*

سأله بنبرات صوت حزين .........*

ــ أتظن أنه من دبر تلك المكيده ؟.*

ــ ومن يكون سواه !. ليس ظنا بل أنا على يقين من هذا , لقد قرأت الشر مسطورا فى عينيه فى نظرته النارية لك ..*

عقب مرتجلا فى نبرات صوته تلبست باللوعه وهو يبث أناته وآهاته ........*

ــ دع الأيام تفعل ما تشاء .. وطب نفسا إذا حكم القضاء*

ولا تجزع لحادثة الليالى .. فما لحوادث الدنيا بقاء*

وكن رجلا على الأهوال جلدا .. وشيمتك السماحة والوفاء ..

إنتهى من كلامه ثم نظر لصاحبه نظرة فهم منها أنه يريد الرجوع إلى داره ثانية*

ـــ هيا يا صاحبى خذ بيدى ..

ــ إلى أين فى تلك الساعه ؟.*

ــ إلى دار عمى يعقوب , إنهم فى قلق الآن من تأخرى على وبالأخص أمى , لم يسبق لى أن تأخرت خارج الدار إلى هذا الوقت المتأخر فى الليل ..*

ــ ماذا تقول يا رجل , أجننت , كيف أطاوعك على ذلك وأنت بهذه الحال , أرح جسدك الآن على الفراش فما أحوجه للراحه , وتناول هذا الشراب الدافئ ريثما أرجع إليك , سأذهب أنا الآن إلى داركم وأطمئنهم جميعا عليك ..*

رآه يحاول الكلام فبادره قائلا ..........*

ــ أعرف ما تريد قوله , كن مطمئنا لن أخبرهم بما حدث , إسترح أنت الآن ..*

هز رأسا متعبا ولم يعقب ..*

يتبع إن شاء الله ..........*

الصفحه * * * * *93*

@ لم تمض إلا أيام قليله وكانت المدينة كلها تناقل نبأ الإعتداء الآثم على الشاب المكى الذى أحبه أهلها , لقربه من شيخهم فى مجلسه وأحب تلاميذه إلى قلبه , عرفوا أن وراء تلك الفعلة الشنعاء حماد البربرى زميله العراقى فى حلقة الشيخ .. راح الخبر ينتشر ويشيع حنى وصل إلى مسامع مالك , لاحظ تغيب الشافعى أياما عن حلقته على غير عادته , نادى على صاحبه المصرى بن عبد الحكم ليستجلى منه حقيقة الأمر , فأخبره بالقصة كلها كما وقعت , ثارت ثائرة الشيخ واستولى عليه غضب عارم , أرسل فى طلب حماد الذى اختفى هو الآخر من الحلقة بعد تلك الحادثه , ولما مثل أمامه قال له محتدا غاضبا .........*

ــ أفى مدينة رسول الله "صلى الله عليه وسلم" وفى حرمه الآمن تفعل فعلتك الشنعاء تلك؟. كيف طوعت لك نفسك ذلك أيها الأحمق , هل أعمتك الغيرة وسود الحقد قلبك إلى أن تسلط من يتحرش بزميل لك فى العلم , ألم أحذرك مرات من قبل ألا تتعرض للشافعى بالقول وأن تكف عنه لسانك , فتفعل ما هو أدهى وأمر , أذى وضرب وإهانة ؟!. إسمع يا هذا , من الساعة لا مكان لك فى مجلسى , بل لا مكان لك فى المدينة كلها , هيا احزم متاعك وارحل إلى بلادك وإلا أرسلت إلى أمير المؤمنين فى شأنك وأعلمته بحقيقة أمرك , هيا اغرب عن وجهى وإياك أن تقع عينى عليك بعد اليوم ................*

يتبع إن شاء الله ......................................


__________________
إذا ما الطائر الصداح قد هدهده اللحن
ورفت نسمة الفجر على أشجانه تحنو
هناك السحر والأحلام والألحان والفن
نجيب سرور

التعديل الأخير تم بواسطة : د أنس البن بتاريخ 05/08/2012 الساعة 13h40
رد مع اقتباس
  #49  
قديم 21/12/2008, 12h26
الصورة الرمزية رزق المصرى
رزق المصرى رزق المصرى غير متصل  
عضو سماعي
رقم العضوية:60040
 
تاريخ التسجيل: août 2007
الجنسية: مصرية
الإقامة: مصر
المشاركات: 38
افتراضي رد: عالـم قـريش ـ السـيرة الشافعـيه ـ أنس البن

سيدى
على بركة الله
ربنا يعينك
__________________
أنت القتيل بيد من أحببته
فأختر لنفسك في الهوى من تصطفي

محمد عبد الرازق
المحامى
رد مع اقتباس
  #50  
قديم 26/12/2008, 04h38
الصورة الرمزية abuzahda
abuzahda abuzahda غير متصل  
مواطن من سماعي
رقم العضوية:102176
 
تاريخ التسجيل: novembre 2007
الجنسية: مصرية
الإقامة: كندا - تورونتو
المشاركات: 1,212
افتراضي إستفتاء (عام) على تثبيت درّة أدبية بركن الأدباتية

الأخوة عموم شعب يوتوبيا سماعي

على بعد "كليك" هنا ، يوجد عمل أدبي عبقري يقترب من التمام

لم يكف مبدعه عن التواضع ، بينما على مقربة منه أعمالي "المتواضعة حقاً" بالقياس عليه ، مثبتة
و لأنني لازلت أجهل هرمية الإدارة بسماعي . فلا أعرف على وجه الدقة من له حق تثبيت الأعمال (لتيسير الإستمتاع بها)
فقد فكرت في مراسلة الدكتور أنس البن لأرجوه تثبيت ذلك الذي أنا بصدد الحديث عنه
ثم تداركت أن الدكتور أنس البن هو نفسه مبدعه الذي ما كفّ عن "التقليل" من قدر نفائسه
و لظروف الوقت فإني أتشرف بالمرور على تلك الدرة التأريخية لسيرة سيدنا الإمام الشافعي ، كلما يسر الله ، لنسخ ما أُنجز
ثم طباعته ، فيتيسر لي قراءته أينما شاء الله
فهل تساعدوني في المناداة بالتثبيت؟ (ثبتكم الله)
__________________
أستغفِرُ الله العظيم وهو التوّاب الرحيم
رد مع اقتباس
رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
You may not post new threads
You may not post replies
You may not post attachments
You may not edit your posts

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع إلى


جميع الأوقات بتوقيت GMT. الساعة الآن 17h43.


 
Powered by vBulletin - Copyright © 2000 - 2010, Jelsoft Enterprises Ltd