@ مكث الشافعى زمنا عقيب رجوعه من الباديه .. معايشا لأحوال أهلها ولوعا بما كان يلقاه سمعه منهم ليل نهار .. مرددا ما يحفظه من أشعارهم وحكاياتهم وآدابهم .. وأخبار العرب وبطولاتهم .. وما وعاه واكتسبه فيما مضى من أعوام مع أهلها .. وبين قبائلهم وعشائرهم من طباع وعادات ..
حاول غير مرة أن يتردد على حلق العلم والدرس فى ساحة الحرم ليكمل مسيرة العلم التى بدأها فى نفس المكان .. فى كتاب الشيخ إسماعيل .. إرضاء لأمه .. وتحقيقا لحلمها ورغبتها وأمنية عمرها .. التى كانت تلقيها الى مسامعه وتذكره بها بين الحين والحين .. أن ترى ولدها يوما من الأيام .. ليس واحدا من علماء مكة المعروفين فحسب .. بل كبيرهم .. الذى يقصده الناس كافة .. وتشرئب اليه أعناقهم .. وهم يشيرون عليه قائلين :: هذا هو عالم قريش الذى ملأ الأرض علما ...
ساقته قدماه الى حلقة شيخ المحدثين سفيان بن عيينه .. أكثر حلق العلم شهرة وأكبرها .. لبث بين يديه أياما لم يجن خلالها إلا الملل مما يسمع .. تحول الى حلقة مسلم بن خالد الزنجى .. ظنا منه أنه سيجد فيها لونا آخر من العلم والحديث .. أبدا لم يعثر على بغيته .. كانت كسابقتها .. راح الى غيرها وغيرها .. وفى كل مرة كان يضيق صدره .. ولا يجد فى نفسه صدى لما يلقى الى مسامعه .. ولا فى وجدانه قبولا ..
حاول أن يرهف حواسه ويجمع قواه الى ما يقوله فقهاء الحرم من علوم الحديث والفتوى .. لكن هيهات .. لم يصادف كلامهم ولا مضمون حديثهم هوى فى نفسه أو ميلا إليه .. لم يجد همة أو رغبة تدفعه أو تشجعه على استمرار الدرس .. أو متابعة تحصيل هذه الألوان من العلوم ..
كان قلبا وقالبا يشعر بفتور لا يدرى له سببا , إزاء مجالسة علماء وفقهاء الحرم وارتياد حلقهم والتزود منهم والأخذ عنهم .. لكنها حداثة عهده بالباديه وتأثره بما سمعه وتلقاه وشاهده عند الهذيليين .. متخما بأشعارهم غارقا فى آدابهم وفنونهم ولوعا مفتونا بها ..
حاول أن يبوح لأمه بما يعتمل فى نفسه .. إلا أن لسانه لم يقو على الشكوى .. وجد فى نفسه حرجا شديدا فى بثها حقيقة مشاعره .. عالما بمدى حرصها على مواصلته رحلة العلم .. تذكر خاله "على" أصغر أخواله سنا وأقربهم إلى قلبه .. ليعرض عليه الأمر ويحدثه بما يعتمل فى نفسه من صراع .. بين هوى نفسه وأمنية أمه التى تلح عليه فى خاطره دوما .. أيرضى أمه ويجلس مرغما فى حلق الدرس التى لم يجن منها شيئا .. متظاهرا أمامها بالقناعة والرضا .. أم يكون صادقا مع نفسه ويمضى فيما يرضيه ويحقق ما تميل إليه نوازع نفسه .. غير أنه لم يجد أى جرأة على البوح بمكنون فؤاده حتى لأقرب أخواله إلى قلبه وأحبهم إليه ..
لم يعد أمامه بعد أن أعيته الحيل وعدم الوسيلة فى خلع ثوب الشعر والأدب عن نفسه .. وتحرير شغاف قلبه من أسر هذا الأطار المحكم الذى أحاط به وملك عليه نفسه واستهواه .. لم يعد أمامه إلا أن يجالس الناس .. يحدثهم بما وعاه من أخبار العرب وآدابهم .. وسير البطولات والمغازى .. أو ينشدهم ما حفظه من أشعار الحماسة والفضائل والحكم .. إستمر على تلك الحال زمنا لم ينقطع فيه يوما عن مجالسة القوم منتظرا ما يقضى به الله فيه ..
وكما توقع الفتى وحسب حسابه .. أثار هذا النهج منه امتعاض أمه وقلقها لما علمت به .. وهى التى لم تكن ترضى لولدها بديلا عن علوم القرآن ودروس الفقه والحديث .. لم تيأس أبدا رغم كل هذا من تحقيق أمنيتها .. فى أن يجالس وحيدها شيوخ الحرم .. يتضلع من علومهم .. يحلق معهم فى تلك الآفاق السامقة مع علوم القرآن والسنة والحديث .. إنها تعده منذ نعومة أظفاره لحمل أمانة العلم وإعداده ليكون عالم قريش .. الذى يملأ الدنيا علما .. تصديقا لوصية أبيه لها وهو على فراش الموت .. ومحققا صدق رؤياها التى أتحفها الله بها وهى فى أرض غزه .. بينما هو لم يزل جنينا فى أحشائها ..
وذات يوم عند عودته للدار راجعا من حلقته تلك .. فوجئ بها وهى تلقاه بوجه عابس متجهم على غير عادتها معه .. كانت تتحرى دوما ألا تقع عينه عليها وهى غاضبة أو حزينه .. وألا يرى منها دوما إلا مشاعر ومظاهر الرضا والبهجة والسرور .. لم يحدث أبدا أن دخل عليها يوما إلا وتلقاه بوجه باسم مشرق .. حتى لو كانت تتحلقها من كل الجهات هموم الدنيا ومشكلاتها ..
كانت ترد على أسئلته باقتضاب وهى تشيح بوجهها عنه .. حاول أن يلاطفها .. يمازحها .. عله يسبر أغوارها .. يعرف سر تغير مشاعرها تجاهه .. إنها أمه البارة الطيبه .. وهبت له سنى عمرها .. صباها .. عصارة حياتها .. فتح عينيه عليها طفلا .. تضمه دوما إلى صدرها .. تحيطه بحنانها وعطفها .. لم تفارقه لحظة واحدة منذ مولده .. إلى أن صار غلاما فتيا فى الخامسة عشر من عمره ..
ترددت .. لم تفاتحه بما يختلج فى نفسها .. أو تخبره باستنكارها من عزوفه عن حلق العلم ومجالسة العلماء .. عن امتعاضها من جلوسه على رأس حلقة .. يحكى للناس الأساطير والسير والأشعار .. كانت ترى كل ذلك ضرب من ضروب الهزل ومضيعة للوقت والجهد .. كل مرة تحاول فيها مفاتحته لمسئله لترده عن ذلك .. تجد شيئا خفيا يمنعها .. يمسك عليها لسانها رغما عنها .. أخيرا خرجت عن صمتها وتحفظها بعد أن طف الصاع وفاض الكيل .. لم تطق صبرا وهى تراه يلح عليها لمعرفة ما بها .. أجابته متسائلة فى حدة وجفاء لم يعهده منها .....
ــ تريد أن تعرف ما بى حقا ؟!. قل لى أنت .. أخبرنى .. ما هذا الذى يتداوله الناس من حديث عنك هذه الأيام .. يا ابن إدريس ؟!.
كانت تسأله متظاهرة بانشغالها فى إعداد الطعام .. متحاشية النظر تجاهه .. كى لا تقع العين على العين أو تلتقى نظراتهما .. حتى وهى غاضبة منه .. لا تحب له أن يتأذى برؤية ملامح الغضب والحزن على وجهها ..
حاول بذكائه أن يمتص فورة غضبها بعد أن أدرك بلماحيته قصدها .. وهو الفتى النابه اللبيب ابن آبائه .. رد عليها مبتسما متظاهرا هو الآخر بعدم معرفته سبب تساؤلها .. بينما تختلس عينيه النظر إليها حياء .....
ــ خيرا يا أم الشافعى .. ماذا سمعت عن ولدك ؟..
ردت والنظرة اللوامة الغاضبة لم تفارق عينيها .. ولا نبرات صوتها العاتبه .....
ــ لا أدرى .. ما الذى أقول لك يا ابن إدريس .. إيه .. لم يكن هذا أملى فيك ولا رجائى منك ..
ــ أماه .. ماذا بلغك عن ولدك ؟..
ــ يقولون .. أنك تتصدر كل يوم .. حلقة .. كبيرة .. فى الحرم .. يجتمع الناس فيها من حولك .. ألم تفعل ذلك ؟.
ــ أى بأس فى ذلك يا أماه ؟!.
ــ أجب على سؤالى .. ألا تفعل ؟.
ــ بلى يا أمى .. أجلس فى الحرم والناس مجتمعون من حولى يستمعون ..
ــ يستمعون ؟!. أى شئ يسمعونه منك .. أو يتعلمونه منك ؟..
ــ أعلمهم حكم العرب .. وأحدثهم عن سير البطولات والمغازى .. ونوادر الشعوب .. وأنشد عليهم أفضل ما قالته العرب .. من أشعار الحماسة والفضائل .. و ..
ــ كفى .. كفى .. أنت من يقول ذلك .. أنت !. ولد إدريس .. حفيد المطلب بن عبد مناف الهاشمى .. لا أكاد أصدق ما أسمعه منك .. لا أكاد أصدق .. هل تعلمت القرآن وحفظته تلاوة وأحكاما فى صباك .. ثم رحلت إلى البادية ومثت فيها عدد سنين .. من أجل إضاعة عمرك فى هذا العبث ولغو الكلام ..
ــ أماه .. ما حيلتى يا أم .. وقد رجعت من البادية بتلك البضاعه .. التى أعرض منها على القوم كل ليلة .. ما ينفعهم ويفيدهم .. و ..
قاطعته فى الحال محتدة غاضبة وقد علا صوتها .....
ــ بضاعة مزجاه .. لا قيمة لها .. ولا وزن ..
إستأنفت قائلة وقد انطفأت قليلا جذوة غضبها .. ناظرة إليه مشفقة .. وفى صوتها نبرة لين وحنان ....
ــ يا ولدى .. يا نور عينى ومهجة قلبى .. لما ذهبنا بك إلى الباديه .. لم يكن ذلك إلا بقصد تقويم لسانك .. ولتتعلم اللغة العربية الصحيحة من منابعها وجذورها الأصيله .. كانت البادية وسيلة إلى هدف أسمى .. لا غاية كما ظننت .. مثلك يا ولدى لم يخلق لهذا العبث .. إن ما تعكف عليه عبث وهزل لا يليقان بمثلك يا ولدى .. أليس كذلك .. تكلم ..
أطرق الفتى برهة لا يجد ما يرد به .. وقد تندى جبينه خجلا .. وأخيرا نطق بما لم يكن يريد ذكره .....
ــ أمى .. صدقينى .. سأقول لك الحقيقة التى لم أكن أحب البوح بها .. بعد عودتى من الباديه .. حاولت مرارا أن أستقر فى إحدى حلق الدرس بالحرم .. ذهبت إلى حلقة شيخ المحدثين سفيان بن عيينه .. وذهبت إلى حلقة مفتى مكة الأكبر مسلم بن خالد الزنجى .. ثم إلى حلقة سعيد بن سالم .. وحلقة داود العطار .. وغيرهم وغيرهم .. صدقينى يا أمى .. كم جلست إلى هؤلاء الصفوة الخيار من علماء مكة وشيوخها .. لكن .. لكن .....
قاطعته متسائلة ....
ــ لكن ماذا يا ولدى .. تكلم ..
ــ كانت تنتابنى يا أماه آنذاك .. أمورا ومشاعر .. لا أدرى كيف أعبر عنها ..
واصلت سؤالها مشفقة لهفه ....
ــ ماذا يا قرة عينى .. صارحنى بدخيلة نفسك ..
ـ أجل يا أمى .. حاولت أن ألقى إليهم سمعى .. أن أعى ما يقولون .. دون فائده .. هم فى واد وأنا ... لكن .....
ــ استحثته ملهوفة ....
ــ لكن ماذا يا ولدى ..
ــ إطمئنى يا أماه .. قرى عينا .. حتما سيأتى بإذن الله .. ذلك اليوم الذى أنتهى فيه عن هذا .. وأعود لمجالسة العلماء والفقهاء .. وأنهل من علومهم ..
رفعت كفيها إلى السماء داعية متوسلة .. وعادت الأبتسامة الصافية تزين شفتيها .. ولسانها يلهج بالدعاء .. أن يعجل الله تعالى بهذا اليوم .. وأن يسبب الأسباب التى تدفع عن ولدها تلك الأهواء ..........
إلى أن كان يوم .....................
@ لم يطل انتظار الأم الصابره .. ولا الشافعى .. لهذا اليوم المنتظر المرتقب من كليهما .. كأنما كانت السماء فاتحة أبوابها جميعا لاستقبال دعوات الأم وتوسلاتها .. وكأنما الأقدار لولدها بالمرصاد .. تدفعه دفعا إلى طريقه المرسوم الذى خطه القلم الأعلى فى كتاب الأزل .. وجاءت لحظة التحول الفاصله ......
بينما هو ذات مرة يتصدر مجلسه بالقرب من ساحة الحرم .. فى مكان اعتاد الناس على الجلوس اليه فيه .. ومن حوله التف نفر غير قليل من رواد حلقته .. على اختلاف ألوانهم وأعمارهم .. مابين جالس أو واقف .. يدفعهم الشغف والغرام بالإنصات لهذا النوع من الحكايات والأساطير المشوقه ..
كانوا يرهفون السمع لكل كلمة ينطق بها .. كعادتهم كل يوم .. متحفزون لمعرفة المزيد من حكاياته المليئة بالأحاجى والمعانى والعبر.. منتبهون مترقبون لما تسفر عنه الأحداث المتلاحقه .. أبصارهم مثبتة عليه لا تتحول عنه .. وهم جميعا مأخوذون بأسلوبه البديع فى عرض فصوول رواياته وبراعته فى جمال سردها .. أخذ أحدهم يستحثه على مواصلة الحديث قائلا فى لهجة ملؤها الشغف والنهم لسماع المزيد ......
ــ حكاية عجيبة حقا مثل كل حكاياتك يا ابن شافع .. رائع .. كلنا فى شوق لمعرفة ما حدث بعد ذلك .. إلى أين توجه نبى الله سليمان بن داود .. قى رحلته بعد ذلك ؟.
قى تلك الأثناء .. بينما السائل يطرح تساؤله .. وقبل أن يجيبه الشافعى ملبيا رغبته .. كان أحدهم يتقدم من أحد الأركان ناحية الحلقه .. كان رجلا فى حوالى الأربعين من عمره أو يزيد قليلا .. يظهر من ملامحه ولباسه أنه غريب عن مكه .. وتبدو على سيماه علامات الحشمة والوقار .. بدا أنه مأخوذ بطريقة الشافعى وأسلوبه فى الإلقاء .. ونبرة صوته وفصاحته ولغته التى تنساب من ذاته المنطلقة كجدول الماء العذب الرقراق .. المتدفق فى سلاسة ونعومة بوقعها البديع على الآذان ..
إستطاع هذا الوافد الغريب بعد جهد وهو يزاحم بين الصفوف .. أن يجد مكانا يقف فيه على مقربة منه .. حتى يتمكن من سماع ما يقول .. رمقه الشافعى بركن عينه وهو يتقدم ناحيته .. إلا أنه تجاوزه وعاد لما كان عليه مستأنفا حكايته ......
ــ ثم أمر سليمان الريح أن تحمله ذات مره ليتفقد البلاد والأمصار .. مضت به من بلد الى بلد .. وهو يرقب ما تقع عينه عليه من تحته .. من مشاهد عجيبة وغرائب تأخذ باللباب .. ظل على تلك الحال فى تجواله .. إلى أن لمح نسرا كبيرا هائل الحجم .. يقف ساكنا أعلى قبة قصر عتيق .. تنطق أحجاره بقدمه .. حينئذ أمر سليمان الريح أن تقف به قبالة هذا النسر ..
قاطعه أحدهم ......
ــ يقينا أراد التحدث إليه ومحاورته .. كعادته .. أليس كذلك ؟!
أعقبه آخر ......
ــ ولم لا يفعل .. وقد علمه ربه منطق الطير ..
أجالهما الشافعى ......
ــ هذا ما حدث .. ظل يسأله ويحاوره .. سأله فيما سأل .. عن الزمن الذى مضى عليه وهو على تلك الحال .. ساكنا أعلى القصر ..
ــ هل يا ترى أجابه النسر ؟.
ــ أجل .. قال له .... لى يا نبى الله سبعمائة سنه .. أقف مكانى لا أبرحه .. هكذا كما ترانى ..
تعجب سليمان من قوله .. ثم عاد وسأله عمن بنى هذا القصر .. فأجاب النسر ..... لا علم عندى يا نبى الله .. هكذا وجدته .. لكن انظر لما هو محفور على بابه .. فإن فيه الفائدة والحكمه .. خذها وعلمها للناس ..
إنبرى أحد الجالسين مقاطعا ....
ــ ماذا وجد سيدنا سليمان الحكيم ؟!
ــ إصبر يا رجل .. لا تعجل .. لما قال له النسر ذلك .. أمر الريح أن تنزله أمام باب القصر .. فلما صار قبالته تماما .. دقق النظر فرأى أبياتا من الشعر مكتوبة عليه ..
همهم الحضور بصوت خافت قائلين .... أبياتا من الشعر ؟!. أبياتا من الشعر ؟!.
قاطعهم الشافعى بإشارة من يده قائلا .....
ــ لا تعجلوا يا إخوانى .. فيم العجب يا قوم .. كانت أبياتا من أشعار المواعظ والحكمه ..
إنبرى أحدهم قائلا فى لهفة ....
ــ ليتك تسمعنا تلك الأبيات .. فما أعذب إلقائك للقوافى ..
ــ تقول الأبيات .................
خرجنا من قرى اصطخر .. إلى القصر فقلناه
فمن يسأل عن القصر .. فمبنيا وجدناه
فلا تصحب أخا السوء .. وإياك وإياه
فكم من جاهل أردى .. حكيما حين آخاه
يقاس المرء بالمرء .. إذا ما المرء ماشاه
وفى الناس من الناس .. مقاييس وأشباه
وفى العين غنى للعين .. أن تنطق أفواه
أخذ السامعون يتسابقون فى إظهار عبارات استحسان وسرور .. اختلطت ببعضها طالبة منه المزيد من حكاياته المشوقه .. وكلامه السائغ العذب الذى هو لذة للشاربين .. لم يقطع لغط القوم إلا مؤذن الحرم .. وهو يشق عنان السماء بصوته العذب مناديا الله أكبر الله أكبر .. إنفض المجلس فى لحظات وتفرق الجمع .. كل فى ناحية تاركين الشافعى وحده كدأبهم كل مره .. إلا ذلك الرجل الغريب الذى شد انتباهه أسلوب الشافعى العذب فى الحكى .. وطريقة نطقه للكلمات وجرسها على الأذن وسرده المشوف للأحداث .. ظل واقفا متسمرا مكانه .. مسددا بصره إلى الفتى الشافعى لا يحيده عنه ..
وبينما الشافعى يجمع شتات نفسه متأهبا للقيام إلى الصلاه .. إذ وقعت عيناه للمرة الثانية على ذلك الغريب عن البلاد وهو يرمقه فى إعجاب .. كان باديا من زيه وهيئته وسمته .. أنه من أهل العراق الوافدين لزيارة البيت العتيق .. تقدم نحوه وحياه قائلا .....
ــ أهلا بك وسهلا يا سيدى .. هل من خدمة أستطيع تأديتها لك ؟.
أجاب وعلى شفتيه ابتسامة ودودة صافيه .........
ــ ما اسمك أيها الفتى المكى ؟.
ــ أنا .. محمد بن إدريس الشافعى .. من ولد شافع بن السائب .. وجدى المطلب بن عبد مناف القرشى .. وأنت ؟.
هز رأسه باسما وقال ......
ــ عبد الملك بن قريب الأصمعى .. حضرت من البصرة لآداء مناسك العمرة وأعتكف بضعة أيام فى تلك الرحاب الطاهره ..
ما كاد ينطق إسمه حتى هب الشافعى واقفا فى إجلال .. وقد تملكته دهشة وعمه السرور .. ثم راح يقول والكلمات تتسابق على شفتيه .. بعد لحظات من صمت عقدت الدهشة فيها لسانه من وقع المفاجأة عليه .....
ــ من ؟. الأصمعى ؟. عالم اللغة وراويتها الأكبر .. حللت أهلا ونزلت سهلا .. ليتك تقبل معذرتى على جهلى بك .. كم سمعت عنك كثيرا يا سيدى .. وعن علمك الغير .. لكن لسوء حظى لم يسعدنى زمانى بلقائك إلا اللحظه .. كم تشوقت يا سيدى لرؤياك والجلوس بين يديك .. إنك علم كبير من أعلام اللغة العظام ..
إبتسم الشيخ قائلا دون أن يعقب على كلامه .....
ــ هيا بنا نصلى أولا فريضة العصر .. ثم يكون لنا حديث أيها الفتى القرشى الشريف ..
@ بعد أن فرغ الناس من صلاتهم قام وأخذ بيد الشافعى وأخذا يشقان طريقهما وسط الزحام .. إلى أن جلسا فى ركن وحدهما بعيدا عن الضوضاء .. بادره الأصمعى .....
ــ هذه أول مرة أستمع إليك يا ابن شافع .. بالأمس تناهى صوتك إلى مسامعى وأنا فى طريقى إلى الحرم .. سمعتك تحكى للناس السير والأخبار وفصيح شعر العرب .. أيضا سمعتك تردد من أشعار أبى ذؤيب الهذيلى قصيدته التى يقول فيها .... وعيرها الواشون أنى أحبها ..
ــ وتلك شكاة ظاهر عنك عارها .. أجل يا سيدى الشيخ .. ما أفصح شعر هؤلاء القوم وما أعذبه ..
ــ صدقت يا فتى .. واليوم سمعتك تروى من الحكايات وأيام الناس .. من علمك كل هذا يا فتى قريش .. وكيف تأتى لك أن كل هذه المعارف .. بل تعيد سردها من الحفظ .. وأنت الفتى الغض لم تبلغ عامك السادس عشر بعد .. كما علمت منك ؟..
ــ لا شئ يا سيدى .. غير أنى بعد أن حفظت ما بين دفتى المصحف .. خرجت إلى البادية فى صباى .. وأخذت عن أهلها كل أشعار الهذيليين .. وكذلك شعر الشنفرى ..
إعتدل الأصمعى مدهوشا ثم قال ......
ــ لعلك تقصد بعض أشعارهم ؟!.
ــ لا يا شيخنا .. حفظت كل أشعار الهذيليين وشعر الشنفرى كله .. لم أترك نظما لهم إلا وعيته عن ظهر قلب ..
عاود سؤاله وهو يضغط على كل حرف من حروف كلامه ....
ــ ماذا تقول ؟! إن هذا لشئ عجاب .. تحفظ كل أشعار بنى هذيل .. وشعر الشنفرى .. وأنت فى هذه السن ؟!. لا أكاد أصدق ..
ــ لقد أصدقتك القول يا سيدى .. إننى أعى هنا أكثر من عشرة آلاف بيت من الشعر بألفاظها وإعرابها ومعانيها ..
لم يتمالك نفسه فتحول عن مجلسه وأحاط كتفى الشافعى بيديه .. يربت عليهما إعجابا وحبورا .. ونظرة تقدير وسرور فى عينيه قائلا له ....
ــ إسمع يا بنى .. بعد الذى سمعته منك .. أتمنى أن تسدى لى معروفا .. إن قبلت ..
ــ على الرحب والسعه .. حبا وكرامة يا سيدى ..
ــ أمنيتى أن أقرأ عليك ديوان الهذيليين .. على أن تصحح لى ما أقرأ .. فتكون معلمى .. وأنا تلميذك ..
أطرق الشافعى رأسه خجلا وتواضعا .. ثم رد على استحياء ....
أيها الشيخ الجليل .. من أكون حتى أكون معلما لأستاذ اللغة العرية وراويها الأكبر .................
لم يدعه يكمل فقال مقاطعا وهو يربت على كتفيه للمرة الثانيه .....
ــ لا عليك يا ولدى .. دعك من هذا .. فالعلم لا يؤخذ بالسن .. سأزيدك بيانا ... أشعار البادية عامة .. وهذيل خاصة .. من أهم مفاتيح اللغة العربيه .. والجهل بها وبأمثالها قد يؤدى بالمرء إلى لحن القول وعدم فهم النصوص فهما سديدا .. لذلك لما سمعتك يا ولدى تجيد كلامهم ونطق عباراتهم .. إنتابتنى سعادة غامره وسررت أيما سرور .. فى تلك اللحظة تمنيت أن أقرأ عليك أشعارهم لتصححها لى .. ولعلى لا أفشيك سرا إذا قلت لك أنها كانت أمنيتى منذ سنوات .. إلى أن لقيتك اليوم .. إيه يا ولدى .. لعلها بركة زيارة البيت العتيق والطواف به ..
سكت الشيخ هنيهة ثم استدرك قائلا .....
ــ لكن .. تبقى مسئلة مهمه ..
ــ تفضل يا سيدى الشيخ ..
ــ خيرا إن شاء الله .. إنها نصيحتى إليك .. رأيت لزاما على أن أسديها لك يا ابن أخى ..
نظر إليه متسائلا فقال له ......
ــ إسمع يا بنى .. علمت منك لما أخبرتنى بنسبك .. أنك سليل أشراف ذوى رفعه .. ويعز على ألا يكون فى علوم الدين والفقه .. هذا النسب الشريف وكل ما أنعم الله عليك به من البلاغة والفصاحه .. ليتك تجعل فهمك هذا فى مسائل الدين وقضاياه .. إن فعلت .. وأمكنك أن تجمع مع فصاحتك وذكائك .. علوم الفقه والحديث .. أقول لك ستكون سيد أهل زمانك .. أجل يا ولدى .. تسد أهل زمانك .. ومن يدرى .. ربما تكون أنت .. عالم قريش المنتظر ...
لمح الدهشة فى عينيه فاستأنف قائلا ......
ــ لا تعجب من كلامى يا بنى .. مثلك لم يخلق لرواية الحكايات والسير وأيام الناس وأخبار البوادى .. مثلك لم يخلق لمثل هذا أبدا ..
ــ الحقيقة يا سيدى .. أننى لما عدت من الباديه .. كانت تلك وجهتى .. حاولت مرات كثيره مجالسة العلماء .. هنا .. فى ساحة الحرم .. غير أنى لم أجد همة لذلك أبدا .. كان الفشل حليفى كل مره .. لكنى أعدك أن أعيد الكره وأستجمع الهمه .. لعل الله تعالى يعيننى يوما .. على تحقيق تلك الأمنية الغاليه ..
إنتهى من كلامه فشد الأصمعى على يديه مودعا إلى لقاء فى الغد .. يبدأ معه فيه دروس الأدب والشعر .. تبعه الشافعى بعينيه إلى أن صار بعيدا عن ساحة الحرم .. ولما صار وحده قام تجاه حجر إسماعيل وجلس فى ركن وحده بعد أن استبدت به الأفكار .. واستولت عليه الهواجس .. وهو يقلب فى خاطره ما سمعه قبل قليل من الأصمعى .. أخذ يستعيد كلامه مرات ومرات بينه وبين نفسه .. ورجع صدى صوته يملأ أذنيه فى موجات متتابعة وهو يقول له ..... مثلك لم يخلق لهذا .. ربما تكون أنت عالم قريش المنتظر .....
أخذ يحدث نفسه .... ما الأمر ؟! هذه الكلمات كم سمعتها بنصها من أمى .. وهى تلح على بها .. ومن قبل كم قال لى جدى ذلك الكلام .. ظل ماكثا فى حيرته .. إلى أن رأى نفسه كأنه واقف فى مفترق طرق .. وهو حائر لا يدرى فى أيها يسير .. تزاحمت عليه الهواجس والأفكار والظنون .. حتى شعر أن الأرض تميد تحت قدميه .. وأنه يهوى إلى واد سحيق .. وضع رأسه بين يديه .. وأسند ظهره إلى حجر إسماعيل حيث كان يجلس .. وراح يغط فى نوم عميق .. لم يشعر بعده إلا ويدا حانية تمسح ما تراكم من عرق غزير على جبهته وخديه ................
يتبع إن شاء الله ................................
__________________
إذا ما الطائر الصداح قد هدهده اللحن
ورفت نسمة الفجر على أشجانه تحنو
هناك السحر والأحلام والألحان والفن
نجيب سرور