تحليل جديد ورائع للأديب والناقد الموسيقي عاطف صقر لأغنية يا واد يا تقيل للراحلة سعاد حسني
نقلاً عن جريدة الوحدة السورية، وفيه مزج الكاتب السلوب الأدبي بالتحليل الموسيقي بأسلوب رشيق جداً أرجو أن تعجبكم
اغــانٍ عـلـى الـبـال .. يا واد يا تقيل
الوحدة
الاثنين30/8/2010
عاطف إبراهيم صقر
قد يبدو الأمر مجرد استعراض مرح من فيلم غنائي راقص، لكن لو تأملنا قليلاً في بعض قصص الحب لوجدنا فيها شبهاً كبيراً بحالة (الواد التقيل)!
كتب الأغنية الشاعر الغنائي المصري صلاح جاهين (1930-1986) شاعر ورسام (كاريكاتير) وممثل ومنتج أنتج العديد من الأفلام السينمائية (أميرة حبي أنا، عودة الابن الضال) وكتب سيناريوهات العديد من الأفلام مثل (خلي بالك من
زوزو، شفيقة ومتولي، المتوحشة) كما عمل محرراً في الصحافة من أعماله الشعرية رباعياته الشهيرة التي لحنها سيد مكاوي هي وأوبريت الليلة الكبيرة، وقد غنى له كبار مطربي عصره (أم كلثوم، عبد الحليم حافظ، سعاد محمد، سيد مكاوي، فهد بلان، ماجدة الرومي، نجاة الصغيرة ..).
وفي أغنية (يا واد يا تقيل) نلاحظ أنه لجأ إلى تقديم فكرته بشكل مرح مستخدماً كلمات وتشبيهات متداولة في الأوساط الشعبية، وجاءت الكلمات على لسان عاشقة تشكو من استعلاء حبيبها وتجاهله لمشاعرها لكنها تتوعد ذلك الحبيب بأنها هي من سينتصر في النهاية، ثم تستعرض مفاصل المشكلة بكلمات وجمل طريفة خفيفة الدم مثل (ولا جرّاح بريطاني، تمثال رمسيس التاني، يردّ بالقطّارة، متخفي بنظارة، أمين شرطة، دبلوماسي ..) وكل ذلك لغرض فني هو إضفاء ذلك النفَس الضاحك والمزج بين الكوميديا الخفيفة والاستعراض بما يخدم النص السينمائي المكتوب لفيلم "خلّي بالك من زوزو" وعليه فإنه لا يمكننا أن نقارن كلمات كهذه مع أشعار رفيعة المستوى لأغان أخرى فالسياق مختلف والهدف مختلف والموضع مختلف، فإذا نظرنا إلى هذه الكلمات في سياقها وفكرتها فإنها تبدو مناسبة جداً!
ولحن الأغنية الموسيقار كمال الطويل ( 1932-2003) الذي تتلمذ في بدايته على يد المطرب عبده السروجي، وعباس البليدي، ثم زامل أحمد فؤاد حسن وعبد الحليم حافظ في معهد الموسيقى، فلاحظ موهبة عبد الحليم الغنائية ودفعه للغناء، فيما لاحظ عبد الحليم موهبته في التلحين وشجعه عليه، فلحن أول لحن لفايدة كامل (إلهي ليس لي إلاك عوناً)، ثم اشتهر بأغنيته الرائعة (على قد الشوق)، وكرت السبحة لتغني له أم كلثوم (والله زمان يا سلاحي)، ويستمر مع عبد الحليم في (أحلف بسماها، ابنك يقلك يا بطل، خلّي السلاح صاحي أسمر يا اسمراني، هيّه دي هيّه، أبو عيون جريئة، بتلوموني ليه؟ بلاش عتاب)، كما لحن لنجاة ووردة وفايزة أحمد، وعفاف راضي.. فما الذي فعله الطويل في تلحين استعراض (يا واد يا تقيل) ؟
بدأ اللحن بدخول موسيقي تحريضي تساؤلي (بدون إيقاع) يعقبه دخول صوت المغنية بدلع (يا واد يا تقيل) ثم تعاد الموسيقى على دفعتين (سؤال وجواب) بين الفرقة وآلة الأورغ لتستقر على مقام النهوند، ثم تكمل بمرح مع الإيقاع (المقسوم) ممهدة لدخول الغناء على الإيقاع ذاته والمقام ذاته (ياه ياه ياواد ياتقيل)، ونلاحظ امتداد الـ (ياااه) في الإعادة عند (ياااه ده انا بالي طويل) للدلالة على طول بالها! ثم تأتي القفلة المرحة السريعة (ياه ياود يا تقيل). بعدها تتدفق الموسيقى على جنس الكورد ممهدة لدخول الغناء (قلبي يقول) وهنا نلاحظ تكرار (ياني ياني) لإبراز الدلع والإغواء، ثم ينقل نقلة بديعة إلى البيات يرتفع فيها النبض الإيقاعي (عندو برود أعصاب اسم الله)، ونلاحظ التعبيرية العالية مع (ويبص ازاي كده كده هو)، ثم ذلك التوقف الرائع بعد (والضحكة ازاي) ثم (كده كده هو)، وذلك لإفساح المجال لتقليد الضحكة، بعدها يمر مروراً جميلاً على (الكورد) ينتهي مع (تمثال رمسيس التاني)، ثم العودة إلى (النهوند) مع (يايايايه يا واد يا تقيل). بعدها يعيد الكورس غناء المذهب. ثم تمر الموسيقى على (الحجاز) الشجي لتستقر على مقام الهزام السردي للدخول إلى رواية الأحداث مع ملاحظة الحركة الرائعة الراقصة للإيقاع، ثم يدخل الغناء بحنين (أنا من حبّه بقاسي)، ونلاحظ هنا أن الملحن أفرد كلمة (أنا) ثم أتبعها بعبارة (من حبه) للفصل بين الطرفين (أنا، هو)، ثم عودة إلى المرح (متقلش أمين شرطة اسم الله)، بعدها وكما في الكوبليه الأول يمر على الكورد مع (وإيديه ازاي؟) ليقفل على النهوند (يا واد يا تقيل)، ثم إعادة المذهب.
بعدها تمهد الموسيقى للدخول إلى الكوبليه الثالث على النهوند لكن بجمل لحنية ذات مذاق جديد، ليدخل الغناء برقة (أكلمه بحرارة)، ثم نقلة بيات تعود بنا إلى المرح والدعابة (الرجل الغامض بسلامتو)، بعدها يمر على الكورد (ويحيي ازاي كده كده هو) لينتهي إلى القفلة على النهوند (يا يا ياه يا واد يا تقيل)، ثم يعاد المذهب من الكورس فالمطربة لتقفل الموسيقى قفلة الختام. الله!
نلاحظ أم الملحن اتبع أسلوباً خاصاً لتلحين الأغنية الاستعراضية المرحة الكوميدية، فبدأ بذلك التدفق الموسيقي الفاتن، كما وظف التعبير الموسيقي- الإيقاعي لإبراز الدلع وخفة الدم، وللمساعدة على تنفيذ الرقصة - الاستعراض بأفضل ما يمكن، كما نلاحظ تنقّله السلس بين المقامات إضافة إلى فهمه العميق لطبيعة صوت المؤدية، كما نلاحظ القدرة على المحافظة على السوية اللحنية العالية - النابضة على امتداد الأغنية ذات الكوبليهات الثلاثة، كما استطاع بنقلات انسيابية الانتقال بين حالات درامية مختلفة كالشكوى والتحدي والألم والدلع والمرح ..
وأدت الأغنية الفنانة السورية الأصل سعاد حسني (1943-2001) التي لقبت بسندريلا الشاشة العربية، وهي شقيقة الفنانة نجاة الصغيرة، وقد اشتهرت بأدوارها السينمائية الكثيرة، وباستعراضاتها وغنائها، لها 91 فيلماً أذكر منها: حسن ونعيمة، وصغيرة على الحب، غروب وشروق، الزوجة الثانية، وأين عقلي، شفيقة ومتولي، الكرنك، خلّي بالك من زوزو ....
وفي أغنية (يا واد يا تقيل) قدمت سعاد حسني نموذجاً رائعاً في فن الأداء، فهي غير معدودة من المطربات لكنها استطاعت أن توصل أقصى التعبيرات الغنائية - الدرامية بفضل حسن توظيفها لأنوثة صوتها واستغلالها لمساحات الدلع والمرح فيه وبراعتها أصلاً كممثلة تجيد السيطرة على نبرات الصوت وطبقاته ومستويات شدته، كما تجيد استخدام حركات الجسد والوجه مع قدرتها على التنفيذ المتقن للاستعراض، كل هذه الموصفات إضافة إلى اللحن الرائع، ورشاقة وخفة دم الكلمات جعلت من (يا واد يا تقيل) عملاً فنياً مميزاً حفر مكانة مهمة في أرشيف الأغنية الاستعراضية العربية ..
ختاماً أودعكم مع هذا المقطع الدافئ: أنا..من حبّه..بقاااسي، وده كده هادي هادي وراسي..